الدولة والنظام
من المفارقات في ظاهر الأمر أن يُقال: إن الحضارة الإسلامية كان لها أثر في فصل الدولة عن الكنيسة، وفيما تلا ذلك من حركات التحرير أو دعوات التغيير في معنى الدولة والملك، وعلاقة الرعايا والملوك.
وإنما يبدو هذا القول كأنه من قبيل المفارقات؛ لأن المعلوم الشائع عن الإسلام أنه وحَّد الملك والخلافة الدينية، وجمع بينهما في كثير من الدول الإسلامية شرقيها وغربيها، وقديمها وحديثها، فكان لقب أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين من ألقاب الملوك المسلمين إلى زمن غير بعيد، ولا يزال من هؤلاء الملوك من يتسمَّى به في مملكته إلى الآن.
ولكن الواقع — كما أسلفنا — أن المفارقة في الظاهر لا في الحقيقة؛ لأن حركة التحرير في هذا الاتجاه بين الأوروبيين إنما أتت على خطوات متلاحقات منذ القرن الحادي عشر للميلاد إلى عصر الثورة الفرنسية. وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي ثورة الملوك على سلطان الكنيسة، ونزع بعضهم كما حصل في إنجلترا إلى الجمع بين الرياسة الدنيوية والرياسة الدينية.
وكان استقلال الملك المسلم عن سلطان رجال الدين في الشرق والغرب من أقوى الحوافز التي جالت في خواطر الملوك الأوروبيين زمنًا بعد مقاربتهم للدول الإسلامية في الأندلس تارة، وفي البلاد التي تناولتها الحروب الصليبية تارة أخرى، فنزعوا بدافع من الغيرة والقدوة الماثلة أمام أعينهم إلى محاكاة أندادهم وأقرانهم، والتمرد على ذلك السلطان الشامل الذي فرضته الكنيسة عليهم وعلى رعاياهم.
فقد كان للأحبار الرومانيين حق الحرمان والغفران يسلطونه تارة على الملوك والأمراء، وتارة على آحاد الناس، وربما أعلنوا حرمان الملك وأحلوا رعاياه من الطاعة له؛ فتذرع الأتباع الناقمون عليه بهذا الإعلان لنقض طاعته، وتمزيق ملكه، وربما ألفى الملوك أنفسهم مضطرين في كثير من الأحيان إلى تملق الأحبار في رومة، والسعي إليهم لاستغفارهم وطلب المعونة منهم على أتباعهم ومنافسيهم.
ونظروا بأعينهم إلى ملوك مثلهم في أوروبا نفسها، وفي البلاد الشرقية التي عرفوها، فوجدوهم أحرارًا من هذه الربقة، آمنين على عروشهم من ذلك السيف المصلت على الرقاب، فلا جرم تحيك في صدورهم نازعة من الغيرة وطلب المحاكاة، ويغتنمون الفرصة الأولى لإدراك ما تمنوه وفكروا فيه.
ومهما يكن من تعدد الأسباب التي تقدمت ثورة الملوك على الكنيسة، فمن أسبابها التي تُذكر ولا تُنسى هذه القدوة الملكية الماثلة في الأندلس ومصر وبلاد الشرق الأدنى. ولم يتفق عبثًا على ما نرى أن تبدأ الثورة في ألمانيا وإنجلترا، وهي البلاد التي كان لها ملوك وأمراء أقاموا بالشرق في خلال الحروب الصليبية، فإن هؤلاء الملوك جربوا إنشاء الدول بأسمائهم في البلاد الشرقية، بعد أن غلب على الظن أن هذه الدول ستقام باسم السلطة البابوية، والحرب حرب صليبية، والمرجع فيها إلى رجال الدين وأحبار الكنيسة … فلمَّا استقامت لهم التجربة، ومثلت أمامهم القدوة، وأتيحت لهم أو لخلفائهم الفرصة المواتية؛ خرجوا على سلطان الكنيسة، فكانت هذه هي الخطوة الأولى في سبيل الفصل بين الدين والدولة، أو في سبيل عزل الكنيسة عن تدبير الشئون السياسية في البلاد الأجنبية عنها.
وقد كانت هذه الثورة الملكية ضرورية قبل الثورة الشعبية التي تلتها، وكانت حرية الشعوب مع ملوكهم على قدر حرية الملوك مع رجال الكنيسة.
ولولا أن ثورة الملوك كانت لازمة قبل ثورة الشعوب لاستفاد الأوروبيون من مقاربة الدول الإسلامية معنًى آخر أجلَّ وأسمى من هذا المعنى، في فهم حقيقة الدولة، وحقيقة الرعاية أو العلاقة بين الراعي والرعية؛ لأن أوروبا ظلت إلى القرن السابع عشر تعتبر الدولة سيادة للحاكمين على المحكومين، وظل علماؤها ينكرون حق الشعب في الإشراف على الحكومة، ويعتبرون أن هذا الحق طريق إلى الفوضى والفساد، كما قرر جروسيوس في كلامه عن حقوق الحرب والسلام.
وقبلَ جروسيوس — إمام القانون الدولي عندهم في زمانه — كان المعري يقول في أوائل القرن الحادي عشر للميلاد؛ أي قبل جروسيوس بستة قرون:
وقبل المعري بأربعة قرون كان القرآن يُعلِّم الناس أن أمر الرعية شورى بينها، وكان الرسول — عليه السلام — يُعلِّمهم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وكان الفاروق يُعلِّمهم أنهم وُلِدوا أحرارًا لا يستعبدهم خليفة ولا أمير.
على أن الأوروبيين إذا كان قد فاتهم أن يتلقوا عن الدول الإسلامية هذا الدرس الرفيع في معنى الدولة، والعلاقة بين الحاكمين والمحكومين فيها، فإنهم قد عرفوا من تلك الدول الإسلامية شيئًا جديدًا في العلاقات الدولية، ومعاهدات السلم والصلح والمتاركة بين الأعداء والمختلفين بالعقائد والعناصر واللغات؛ فإن الإسلام قد أباح لأتباعه معاهدة المشركين والذميين وأهل الكتاب، كما أباح لهم معاهدة إخوانهم في الدين.
وقد كانت نشأة الدول الإسلامية على الأرض الأوروبية مناسبة حية لتطبيق هذه المعاملات مع المحاربين والمسالمين، ومع الحكومات وآحاد الناس، وكان الأمير المسلم لا ينقض عهد أمانة لمن أمَّنهم على أنفسهم وأموالهم ولو كانوا من أعدى أعدائه، فكان الفرسان المسيحيون يترددون على العواصم الأندلسية لينازلوا أبطال المسلمين ذوي الصيت الذائع في حلبات الفروسية والرياضة البدنية، فلا يُعتَدَى عليهم غالبين ولا مغلوبين، وكانت الحكومات المسيحية التي ترتبط بعهود المسالمة أو المتاركة مع المسلمين على ثقة من الوفاء بهذه العهود في أحرج الأوقات وأحفلها بالمخاوف والأخطار.
وشاهد الصليبيون في المشرق مثلًا آخر من أمثلة هذه القداسة المرعية للمعاهدات الدولية، وهذه السنة الجديدة في معاملات الحكومات والشعوب، فتغنَّى الروائيون والشعراء الإنجليز بصدق صلاح الدين وشممه وأريحيته في معاملاته لخصومه، وسجَّلوا له بالثناء والإعجاب صدقه الذي لازمه في كل وعد من وعوده، فلم ينقض كلمة قط، ولم يحنث مرة بيمين.
ومن أعجب ما يُحدَّث به أن الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان منهم، ويقعُ المصافُّ بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت، الذي هو شهر جمادى الأولى، من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عساكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك — وهو من أعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز، والمانع لسبيل المسلمين على البر: بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشق قليلًا، وهو سرارة أرض فلسطين، وله منظر عظيم الاتساع، متصل العمارة. يُذكر أنه ينتهي إلى أربعمائة قرية — فنازله هذا السلطان وضيَّق عليه، وطال حصاره، واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك.
وتجار النصارى أيضًا لا يُمنعُ أحدٌ منهم ولا يُعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم وهي من الأمنة على غاية. وتجار النصارى أيضًا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم على الاعتدال في جميع الأحوال وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب. هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك، ولا تعترض الرعايا ولا التجار؛ فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلمًا أو حربًا، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يُستوفى الحديث عنه …
وقد كان لفهم الدولة على معناه الصحيح أثره النافع في العلاقات السلمية والحربية بين الحكومات، فلم يحدث قط في العالم العربي أن دولة حاربت أخرى للمطالبة بحصة أميرة في العرش، أو للخلاف على ميراث الأصهار وتركات البيوت الملكية؛ لأن الحضارة العربية رفعت معنى الدولة من مرتبة الحطام الذي يورث أو ينتقل بالنسب والمصاهرة، إلى المرتبة الإنسانية التي ارتقت إليها الحضارة الحديثة بعد ذلك ببضعة قرون؛ وهي قيام الدولة على علاقة حرة بين الراعي المسئول والرعايا الطلقاء من أسر العبودية والاسترقاق، فلا جرم يُقال بحق: إن الحضارة العربية سبقت أوروبا زمنًا طويلًا في مجال التربية الدولية، وسلكت المنهج الوحيد الذي يؤدي إلى انتظام المعاملات العالمية على الوجهة القديمة التي يممها دعاة الإصلاح في عهد عصبة الأمم المتحدة، وما يشبهها من الجامعات.