سداد الديون
مضى زمن كانت أوروبا فيه — كما رأينا في بعض فصول هذا الكتاب — تتلقى الحضارة العربية وهي نافرة متبرمة، أو حائرة مستسلمة؛ إذ كان شيوخها وأصحاب زمامها ينعون الزمان، ويسخطون على الدنيا ومن فيها؛ لأن وجوه الناشئين قد تحولت عن القبلة التي كانوا يأتمون بها، وعقول المتعلمين قد انصرفت عن المطالب التي كانوا يعكفون عليها، فأصبحوا ولا همَّ لهم إلا الإقبال على كل ما هو عربي غريب، والإعراض عن كل ما هو أوروبي أصيل.
ثم دارت الأفلاك دوراتها التي تدورها كأنما هي مستقرة في مكانها، فإذا بصيحة كهذه الصيحة تُسمع من جانب الشرق العربي كأنها منقولة من أفواه أولئك الأوروبيين الذين رددوها قبل ألف سنة؛ لأن أبناء الشرق أصبحوا ولا همَّ لهم إلا الإقبال على كل ما هو أوروبي غريب، والإعراض عن كلما هو شرقي أو عربي أصيل!
ذلك سداد الديون!
وكثيرًا ما يكون سداد الديون غير مقصود وغير مشكور، ولا سيما ديون الحضارات الإنسانية التي تتوارثها الأمم دواليك بين الأخذ والإعطاء.
وتعلم الشرق الحديث من أوروبا كما تعلمت أوروبا من الشرق القديم.
ولا ضير في التعليم، ولولا أنه كان تعليم قصور.
فإن الولع لكل جديد كالوالع بكل قديم، دليل على نقص في التمييز، وعلى اتِّباع يخلو من الابتداع.
وقد عشنا زمنًا في الشرق ومقياس الحرية عندنا أن نُقْبِل على كل جديد لأنه جديد، وأن نثور على كل قديم لأنه قديم.
فكان ذلك عهد تعليم، وكان كذلك عصر قصور.
ثم بلغ هذا العصر مداه فبرزت في صفوف الشرقيين طائفة تملك حريتها في وجه الجديد كما تملكها في وجه القديم، فلا يفقد الإنسان صفة الحرية لأنه يُفضِّل بعض القديم على بعض الجديد، ولا يكسب الإنسان صفة الحرية لأنه يُفضِّل كل جديد على كل قديم، بل يكون مقياس الحرية هو مقايس التمييز لكل ممتاز، والاختيار لكل ما يستحق أن يُختار.
نقلةٌ من عصر القصور إلى عصر الرشد والاستقلال.
تعلمنا مكرهين متبعين، ثم نتعلم مختارين مبتدعين.
ولم يقتصر ما تعلمناه من قبل أو ما نتعلمه اليوم على باب دون باب، أو فريق دون فريق، بل شمل المدرسة والبيت والسوق، وعمَّ الجامدين والمتوسطين والمتطرفين، ولا يزال علينا أن نتعلم الكثير في كل باب، وأن نترقب التقدم من كل فريق، ولكن على سُنَّة الرشد لا على سُنَّة القصور.
وسيبلغ هذا العصر مداه بعد حين، وستدور الأفلاك دوراتها التي يتشابه فيها المدار بالقرار، فغير بعيد أن تسمع الصيحة مرة أخرى في جانب من جوانب الكرة الأرضية … وغير بعيد أن يمليها الشرق في هذه المرة على نحو جديد … فقد يتسع لها عالم الروح إن لم يتسع لها عالم الفكر والعلم، أو عالم الحكم والسلطان.