الحكومة البرلمانية
حرم القرآن الكريم الحكم المطلق، وأنكر سلطان «الجبارين» في الأرض، وفرض الشورى على النبي وخلفائه فقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، وقرر المساواة في العدل بين جميع الناس وإن قضى بينهم بتفاوت الدرجات.
ويقرأ المسلم القرآن فيحس إحساسًا «شوريًّا»، ويتعلم فريضة الشورى بالإيحاء والتلقين، فضلًا عما فيه من الأمر الصريح بالمشاورة، وسؤال أهل الذكر، واجتناب الطغيان في السلطان والاستبداد بالحكومة؛ لأنه يرى أن أول عمل من أعمال الخليقة الإنسانية كان حقيقًا أن يسمى بلغة العصر الحاضر عملًا «دستوريًّا» من جانب الخالق جل جلاله، ويقوم على الإقناع ولا يقوم على الإكراه والإخضاع.
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ …
فلم يكن الاستخلاف في الأرض بالإخضاع بل بالإقناع، ولم يصبح الخليفة الموعود أهلًا لهذه الأمانة إلا بعلم يعلمه، ويجهله سائرُ الخلائق ممن فضله عليهم الخالقُ بهذا الاستخلاف.
ووحي هذه المعاني المستفادة بالإيحاء والاستكانة يلقن المؤمن بالقرآن «حس» الشورى، والنفرة من الاستبداد؛ لأن الإيحاء والاستكناه أقرب إلى التلقين من الأمر الصريح.
فالأمر «بالحكم الدستوري» قديم في الحياة العربية، أصيل في الدولة الإسلامية، ولكنه المبدأ الذي سبق الأطوار الشعبية بعدة قرون، فلم تتهيأ له الجماعات الإنسانية إلا بعد الدعوة المحمدية بألف سنة أو تزيد؛ لأن الأمر بالشورى ينفذ نفاذه حين يوجد معه صاحب الحق الذي يطالب به من ينساه، ويرد إليه من يحيد عنه.
وليس صاحب الحق هنا غير «الشعب» الذي يتعلم ذلك الحق، ثم يشعر بالحاجة إليه، ثم يملك الوسيلة التي تخرجه من حيز «المبدأ» الواجب إلى حيز «العمل» النافذ، ولم يكن تمام هذه الأطوار ميسورًا قبل أجيال تعقبها أجيال، وأهوال تتلوها أهوال. ويومئذ تصبح الشورى «نظامًا» يأتمر به الحاكمون والمحكومون، ويوشك أن يجري في الأمم مجرى الحوادث الطبيعية التي تتقرر بالضرورة الغالبة قبل أن تتقرر بالاختيار والاستحسان.
فلما بلغت هذه الأطوار تمامها كانت الحكومة الشورية أو الحكومة الدستورية نظامًا أوروبيًّا يتلقاه الشرقيون عن الأوروبيين، ولا يتلقونه مذهبًا غريبًا يحتاج إلى إقناع، ولا عقيدة جديدة تحتاج إلى تبشير.
•••
نعم إن القارة الأوروبية عرفت النظام البرلماني على صورة من صوره الأولى قبل الميلاد بعدة قرون، فنشأ مجلس الشيوخ في رومة، ونشأت المجالس التي تمثله في أثينا وإسبرطة وبعض الأقاليم الإغريقية، ثم نشأت بعدها مجالس أخرى أدنى إلى نظام المجالس التمثيلية الحديثة، وأقرب إلى الحكم الديمقراطي الذي تشترك فيه جميع الطبقات.
ولكنه كان هنا «نظامًا» من النظم الخاصة، ولم يكن الأمر فيه أمر المبدأ العقلي والحقوق الإنسانية، فلم يعمل اللاتين والإغريق بهذه النظم تقريرًا لحق الإنسان في الحرية، أو تعميمًا «لمبدأ عقلي» يجوز تطبيقه أو يجب تطبيقه في جميع المدن وبين جميع الشعوب، ولكنهم عملوا به لأنه حيلة صالحة لسياسة أمة بعينها على أقدار من فيها من رؤساء العشائر، ومن يتنافسون على الحكم والسيادة.
ولما تطور الحكم الشعبي في أثينا على عهد كليستين الديمقراطي حتى أصبح حق النيابة حقًّا عامًّا لمن بلغ الثلاثين في الدوائر الانتخابية المختلفة، لم يكن هذا «التطور» عقيدة إنسانية قابلة للتعميم، ولا تسليمًا بالمبدأ الذي يقوم على الحرية وتقضي به الأصول الأخلاقية، ولكنه كان تدبيرًا موضعيًّا يناهض به تدبير الطغاة الذين كانوا ينافسون ذلك الزعيم الديمقراطي بقوة القبيلة أو قوة العصبية. ولعله قد خطر له الاستنجاد بجماهير السواد لإشراكها في الحكم كما خطر له الاستنجاد بالفرس لانتزاع الحكومة من طغاة القبائل والعصبيات.
فالحضارة العربية قد سبقت الغرب بمبدأ الحكومة الشورية في مجال العقيدة والأخلاق.
والغرب قد سبق الحضارة العربية بحكومة الشورى في مجال النظم الواقعية التي تتمخض عنها حوادث التاريخ.
ولا نظن أن الحكم الدستوري كان ينتقل إلى بلاد الشرقين الأدنى والأوسط بهذه السهولة لو لم يكن له أساس قائم من عقائد الناس، واعتراف الحاكمين والمحكومين بمبادئه وأصوله؛ فإن الأمم الغربية قد ضيعت جهودها الأولى في إكراه الحكام المطلقين على النزول لها عن دعوى الولاية «بالحق الإلهي»، ودعوى السيادة عليها بتفويض السماء، فكان عليها أن تجتاز نصف الطريق — بل نصفه الأوعر الأطول — في تقرير المبدأ الذي سلمه العرب حكامًا ومحكومين قبل نشأة الحياة النيابية الحديثة بألف سنة، وهو مبدأ الشورى، والمبالغة الحرة، والرجوع بالحكومة إلى مصلحة الرعية، واتفاق الكلمة بين ذوي الرأي فيها.
والحاكم المطلق — في الشرق أو الغرب — يأبى أن يُشارك في أمره، ولا يُذعن للحكم الشوري باختياره، ولكن الفرق العظيم بين حاكم يستطيع أن ينكر أساس الحكومة النيابية، وحاكم لا يستطيع إنكاره، ولا يجسر على الجهر بذلك الإنكار مخافةَ اتهامه بالخروج على أحكام الدين وعصيان رب العالمين، بل الفرق عظيم بين حاكم يُنكر الحكم النيابي وهو يعتصم بالحق الإلهي وتفويض السماء، وحاكم يخاف من إنكاره لأنه يخالف الحق الإلهي كما يخالف تفويض السماء بذلك الإنكار.
لذلك كانت معارضة السلاطين والأمراء الشرقيين في الحكومة الدستورية معارضة تقوم على الأعذار الموقوتة، ولم تكن معارضة قائمة على الأسس والأصول، وكان معظم هذه الأعذار مما يرجع إلى السياسة الأوروبية والعلاقات الأجنبية التي كانت تُعوِّق النظام النيابي في بلاد المشرق، وتمهد العذر للسلاطين والأمراء في المعارضة أو التسويف.
فكان سلطان الدولة العثمانية يؤمن بواجب الشورى، ويُسمِّي الرتبة الكبرى عنده رتبة «المشير»؛ لأنه يخشى أن يُصارح رعيته بأنه يستأثر بالرأي، ويتولى شئونها على سُنَّة الاستبداد، ولكنه كان يمانع في تعميم الحكم النيابي بين رعاياه؛ لأن فريقًا من هؤلاء الرعايا يخالفونه في الجنس والدين واللغة، ويُمالئون الدول الأوروبية عليه، ولا يخلصون في خدمة الدولة إذا تسنَّموا مناصبها العليا، واطلعوا على موضع الأسرار من سياستها الخارجية أو سياستها الداخلية.
وكانت المناظرة بين روسيا وبريطانيا العظمى في البلاد الإيرانية تحول دون استقرار الأمر، وانتظام السعي في توطيد الحكومة النيابية؛ لأنهما تبلغان من بطانة الحكم المطلق ما لا تبلغانه من حكومة نيابية تخضع لرقابة الشعب، وتكشف له عن تصرفاتها في مسائل الشركات والامتيازات.
وقد نزل المحتلون الإنجليز بمصر في أواخر القرن التاسع عشر وفيها حكومة نيابية تطورت بها التجارب المتوالية من عهد محمد علي الكبير، فعطَّلوها لأنهم لا يستطيعون أن يجمعوا بين إشرافهم على الإدارة المصرية وإشراف المجلس النيابي عليها، ثم اقترن طلب الدستور بطلب الاستقلال، فأصبحت الحكومة النيابية مرادفة للحكومة الوطنية في برامج الأحزاب المصرية، وأصبح الحكم الأجنبي هو الحائل الأكبر دون قيام الحكم النيابي الذي ينشده أحرار المصريين.
وعلى هذا تعتبر الحياة النيابية كما رسمتها الأوضاع الحديثة ثمرة أوروبية انتقلت إلى الشرق من حضارة الغرب في العصر الحديث، ولكن الشرقيين عرفوها فاقتبسوها، ولم يعرفهم بها الغربيون فيفرضوها عليهم فرض المعلمين دروسهم على التلميذ الذي يكره ما يفرضونه عليه؛ لأن مطامع الغرب كثيرًا ما عرقلت خطوات الشرق كما رأينا في حركاته الدستورية، والفضل في تهيؤ الشرق لقبول هذه الثمرة الأوروبية راجع إلى عقيدة الحرية والشورى التي بثتها حضارة العرب بعد ظهور الإسلام، ولم تكن غريبة عن الحياة العربية الأولى قبل ظهور الإسلام.