الوطنية
حب الوطن غريزة معروفة في الإنسان من أقدم عصوره الاجتماعية، عُرفت في البدو الرحل كما عُرفت في سكان المدن وأصحاب الأرض الزراعية، وبقيت لنا من دلائلها في اللغة العربية هذه القصائد التي يتغنى بها إلى اليوم من يذكرون الديار، ويحنون إلى المرابع والأطلال، ولو طال بهم عهد فراقها، وانقطعت عليهم سبيل الرجعة إليها.
لكن الوطنية بمعناها الحديث شيء غير هذه الغريزة؛ لأنها مجموعة من الحقوق أو الصلات الروحية والثقافية قد انفرد بها الإنسان في عصره الحديث، بعد القرن الثامن عشر على وجه التقريب، واختلف فهم الناس إياها عن ذلك الشعور الغريزي الذي يتفق فيه الإنسان وكثير من الأحياء الأنيسة، بل يتفق فيه الإنسان وبعض الضواري التي تأوي إلى عرائنها وأوجارها وآجامها، ولا تستبدل بها غيرها ما استطاعت المقام فيها.
ولم يكن من الميسور أن تنشأ الوطنية بمعناها الحديث قبل القرن الثامن عشر، أو قبل الأطوار الاجتماعية التي تقدمتها وكانت ممهدة لظهورها وانتقالها من حيز الغرائز المشتركة إلى حيز الصلات الروحية والثقافية التي ينفرد بها الإنسان في مجتمعاته؛ لأن هذه الأطوار كانت تناقض الوطنية في بعض الأحوال، وكانت تخيفها في أحوال أخرى، وكانت على الجملة خطوات سابقة لا بد منها قبل التطرق إلى الخطوات التي تليها.
فكان لا بد من تطور عهد الإقطاع قبل شعور الإنسان بوطنه في نطاقه الواسع، ومصالحه المتشابكة؛ لأن انتماء الناس إلى «إقطاعات» متعددة في قطر واحد يربطهم بضروب شتى من الولاء للسادة المتعددين الذين يسيطرون عليها، ويُعوِّدهم ضروبًا من المخالفات والمخاصمات تتغلب فيها الزمرة والطائفة على الأمة أو الدولة نفسها في بعض الأمور.
وكان لا بد من تطور الجامعات الدينية قبل الشعور بمعنى هذه الوطنية؛ لأن الإنسان يرضى في الجامعات الدينية أن يحكمه من ليس من أبناء وطنه لاتفاق الحاكم والمحكوم في العقيدة والمراسم الروحية، ويكره أن يحكمه من لا يدين بدينه ولو كان من بلده وجواره، ولا يزال كذلك حتى يتعذر حكم الأوطان المختلفة بحكومة واحدة قائمة في مراكزها البعيدة عنها؛ لاختلاف المرافق، واختلاف النظر إلى الحقوق والتبعات، ونشوء الطبقات الاجتماعية التي تتنافس في الأوطان المتعددة، وإن جمعتها علاقة وثيقة واحدة.
ولما تطور عصر الإقطاع وعصر الجامعات الدينية معًا، أو على التعاقب بين جيل وجيل، قام من بعدهما سلطان الملوك المطلقين الذين ساعدتهم قوتهم المطلقة على قهر أمراء الإقطاعات، والاستئثار بسلطان العرش وما يرتبط به من الدعاوى والحقوق، وكانت قوتهم كفيلة لهم ببسط كلمتهم على رعاياهم، وحصر فرائض الولاء في أشخاصهم أو في أسرتهم، وكانت «المملكة» سابقة للأمة، أو سابقة — بطبيعة الحال — للحقوق التي تنشأ من الاعتراف للأمة بالسيادة على بلادها، ولا يفهم الوطن على أنه بلاد «الأمة» ومناط سيادتها قبل أن تصبح الأمة مصدرًا للسلطان كله، ويصبح الملك خادمًا للوطن ينوب عن الأمة في تدبير مصالحها، وقبل أن تنبغ الطبقة الوسطى التي تضطلع بالحكم مع تقييد الملوك وزوال السادة الإقطاعيين.
وهذه هي العقيدة التي تمخضت عنها أطوار كثير من عصر النهضة إلى عصر الثورة الفرنسية، ولم يكن قد توطد لها الأساس الذي تعلو عليه قبل تمام تلك الأطوار.
ولقد كانت الأمة العربية أولى الأمم أن تنشأ فيها الوطنية بهذا المعنى الحديث قبل نشأتها في أعقاب الثورة الفرنسية؛ لأنها كانت تدين بأن الأرض لله، وأن الملك خادم الشعب يحكمه باختياره قبل أن تتقرر هذه الآراء في أمم الحضارة الغربية، ولكن التاريخ لا يسبق أوانه، ولا بد للجامعة الدينية من دور تجري فيه وتبلغ مداه.
وقد كانت في أوجها وكانت معالم الوطنية في غيبها تنتظر أسبابها ومواقيتها، فلما حان الميقات المقدور كان من عجائب أطوار التاريخ أن يأخذها الشرقيون عن الغربيين، وأن يأخذوها تارة كارهين وتارة مختارين.
نعم أخذوها تارة كارهين وتارة مختارين؛ لأنهم أخذوها بالتعليم والمحاكاة، وأخذوها بكفاح الثورة على الاستعمار، فكانت المناداة بحقوق الإنسان هي فاتحة الاعتراف بحقوق الأوطان، وكانت غارة الأوروبيين على أوطان الشرقيين مُحرِّضًا لأبناء تلك الأوطان على المطالبة بتلك الحقوق، وأشعل فيهم نار الغيرة الوطنية أن الاستعمار يمسهم في كرامتهم وعقائدهم ومصالحهم، ولا يرضيهم بحالة واحدة من الحالات التي تسوغ للمرء باختياره أن يحتمل الخضوع لمن يخالفه في الموطن واللغة والدين، وينازعه الرزق، ويُنكر عليه الحقوق التي ينادي بها في بلاده ويسميها بحقوق الإنسان.
نعم إن المغلوبين كانوا يثورون على الغالبين في جميع العصور قبل المناداة بحقوق الإنسان، ولكنهم كانوا يثورون للأنفة من الغلبة، والألم من الغصب والمشاركة في الأرزاق، وهي ثورة لا ترجع إلى الإيمان بالحقوق الوطنية، ولا إلى إنكار حق الغالبين في تسخير المغلوبين، بل ترجع إلى كراهة الضيم، ومقابلة العدوان بالعدوان.
ويختلف الصراع على الغلبة جد الاختلاف من هذا الصراع بين غاصب الحق والمطالب به، وهما متفقان معًا على حق صاحب الوطن في وطنه؛ فإن الثائر القديم إنما كان يثور لأن حالة السيد المطاع خير من حالة العبد المطيع، ولأن الأمر لا ينزل عن رزقه وكرامته وهو قادر على أن يحتفظ بهما لنفسه. أما الثائر الحديث فهو في موقف «المقاضي» الذي يطالب بتراثه وماله، ويرد الأقوياء إلى شريعة غير شريعة الغلبة المرفوضة في ضمائر الناس.
وظلت العاطفة الوطنية ممزوجة بالعاطفة الدينية في شئون السياسة العامة ردحًا من الزمن بعد الاعتراف بسيادة الأمة، وقيام «فكرة الوطن» على هذه السيادة، وكان شأن أوروبا في ذلك كشأن الأمم الشرقية بغير اختلاف كبير، فثارت إيطاليا واليونان في طلب الاستقلال، وكلتاهما أمة ذات تاريخ عريق في الثقافة والفن وأصول الحضارة الأوروبية، ولكن حماسة أوروبا لنصرة القضية الإيطالية لم تبلغ قط الحماسة الشعبية لنصرة القضية اليونانية؛ لأن اليونان كانت تثور على الترك إذ كان الإيطاليون يثورون على النمسا أو على الكنيسة البابوية.
وفي الوقت الذي كانت فيه أمم كأمم البلقان تظفر من العطف الأوروبي بأوفى نصيب في قضايا المطالبة بالاستقلال، كانت أوروبا تنظر بعين الموافقة أو قلة الاكتراث إلى تقسيم الوطن البولوني بين روسيا والنمسا وألمانيا، وعلى بعضها حكومات تغلغلت فيها جراثيم الفساد والاستبداد، وأنكرت حقوق الإنسان ومبادئ الاعتراف بالأوطان.
وظهرت نزعة الاستقلال عن دعوى الخلافة الدينية بين الشرقيين المسلمين في أوائل القرن الثامن عشر مقترنة بظهور هذه النزعة في القارة الأوروبية، فكان السلطان العثماني الذي يُلَّقب بلقب الخلافة يولي على مصر واليًا من قبله، ويختار المصريون المسلمون واليًا غيره كما حدث على عهد محمد علي الكبير.
ونادى طلاب الاستقلال «بأن مصر للمصريين» في أواسط القرن التاسع عشر، وجعلوا هذا المبدأ شعارًا لهم في حركة التحرير مع قيام السيادة العثمانية التي زالت بعد ذلك بخمسين سنة … ثم ظلت هذه السيادة تتردد في بيئات الأحزاب السياسية إما بفعل الشعور الديني، أو بدافع من الرغبة في مقاومة الاحتلال البريطاني بحجة شرعية لا ينكرها.
فلم يكن هذا الامتزاج بين عواطف الوطن وعواطف الدين غريبًا في عالم الواقع أو عالم التفكير؛ لأن العواطف الجديدة في تطور الأمم لا تولد دفعة واحدة خالصةً من آثار سوابقها وملابستها، وكان على العالم كله — بين شرقيه وغربيه — أن يقضي زمنًا ما قبل أن يفهم أبناء الوطن أن حرمانهم نعمة الحرية والاستقلال هو اعتداء عليهم وعلى كرامتهم، ولو جاءهم هذا الاعتداء ممن يماثلهم في النحلة أو اللغة أو العقيدة الدينية.
وربما كان الأصح — أو الأوضح — في تفسير الحقائق أن يُقال: إن معنى الوطنية الحديث وليد الحضارة العصرية لا وليد الذهن الأوروبي أو الطبائع الغربية؛ لأن قارة أوروبا وجدت منذ القدم ولم توجد فيها الوطنية بمعناها الحديث، فلما انتهت أطوار الاجتماع إلى حضارة العصر الحاضر كانت أوروبا هي مسرح التاريخ الذي تمثلت فيه هذه الأطوار، وكان فضل الأمم الشرقية في فهم هذا المعنى الحديث أنها نقلته بشيء من الاختيار والتمييز، ولم تنتظر به تسلسل الوقائع التي مرت تباعًا بالأوروبيين قبل أن تفرضه عليهم الضرورات.