الحركات الدينية
تعلم الشرقيون من أوروبا ليقاوموها بسلاحها.
ويُقال هذا عن الشرق الأقصى كما يُقال عن الشرق الأدنى، مع اختلاف العقائد والبيئات والأحوال الاجتماعية؛ فإن اليابانيين لم يتحركوا لمحاكاة أوروبا في حضارتها وعلومها وصناعاتها إلا بعد أن اصطدموا بها وعجزوا عن مقاومتها.
وكان الفضل الأكبر لأوروبا على الشرق كله هو الفضل الذي جاء على الرغم منها، وهو تنبيه أذهان الشرقيين إلى حقائق الحياة، وتفتيح أنظارهم على الأسباب الصحيحة التي تقترن بها نهضات الشعوب.
وكان الشرقيون قبل ذلك يعلمون أنهم متأخرون متخلفون، ولكنهم يفهمون العلل التي أخرتهم وقضت عليهم بالتخلف في سباق الأمم كما يفهم الجاهل علة مرضه وعجزه، فيرجع إلى الشعوذة ولا يرجع إلى الطب الصحيح، ويسأل الدجالين والممخرقين ولا يسأل الأطباء والعارفين، وقد جهلوا دينهم كما جهلوا دنياهم؛ لأنهم خلطوا بين عاداتهم وعقائدهم، وبين خرافات الجمود وحقائق العبادات، فإذا قيل لهم: إنهم تأخروا لمخالفة دينهم ونسيان وصاياه وآدابه؛ عادوا إلى الخرافة الفاشية ولم يعودوا إلى الدين المهجور.
فلما قهرتهم أوروبا مرة بعد مرة في عدوانها عليهم ومقاومتهم لعدوانها؛ فهموا مضطرين أسباب هذه الغلبة، ورجعوا بعد حين إلى علومها وصناعاتها ونظم السياسة والحكم فيها، فرجعوا إلى الأسباب الطبيعية، وفهموا علل الوقائع أمامهم على وجهها المعقول، فكان ذلك أول تدريب للذهن على حسن التعليل وفهم طبائع الأشياء، وكادت الآراء أن تتفق على منهج واحد للإصلاح: وهو اقتباس العلم الحديث، ومجاراة العصر في المعيشة والتفكير.
وأقبل المسيحيون من أبناء الشرق على المدارس العصرية يتعلمون ما تلقيه عليهم من دروس التعليم الحديث غير متحرجين من موضوعاتها، ولا من نيات التعليم فيها، وأحجم المسلمون عن المدارس التي فُتحت في بلادهم؛ لأنها كانت في أيدي المبشرين وأعوان التبشير، ولكنهم لم يحجموا عن إرسال أبنائهم إلى أوروبا نفسها حيث تنفصل المدارس عن الهيئات الدينية، فجمعت حكومة مصر في عهد محمد علي الكبير مئات من نخبة الطلبة لإرسالهم إلى العواصم الأوروبية، وتعليمهم الطب والهندسة والآداب والفنون العسكرية على أساتذتها، أو لتزويدهم في مصر بما يُستطاع تدريسه بها من تلك العلوم على أساتذة من الأوروبيين.
ولم ينقضِ جيل أو جيلان بعد احتكاك أوروبا بالشرق حتى اتفقت كلمة المسلمين على نظرة جديدة إلى الدين، وأجمعوا في أنحاء الأرض على أن البدع والخلافات التي شقي بها أسلافها، وشقوا بها في زمانهم ليست من الدين الإسلامي في شيء، ولكنهم سلكوا في علاج الداء مسلكين مفترقين على حسب نصيبهم من العلوم العصرية؛ فجنحت الأمم التي أخذت بنصيبها منها إلى التوفيق بين الدين والعلم الحديث، وجنحت الأمم الأخرى إلى نبذ جميع المستحدثات والرجوع بالدين إلى بساطته الأولى كما فهموها، ونشأت هنا وهناك حركات دينية شتى بعضها على هدى، وبعضها على ضلال، ولكنها كلها كانت من قبيل الحركات الطبيعية التي تتصل بطبائع الأمم، وبواعث البيئة في حاضرها وماضيها، ولم تكن محض اختراع منقطع عن الدنيا، محصور في النزعات الأخروية التي يفرغ لها من خرجوا بنسكهم وعبادتهم من معترك الحياة.
ولهذا أخذت هذه الحركات من طبائع الأمم التي ظهرت فيها، سواء منها ما اهتدى أو ضل عن السواء.
فظهر في الهند «غلام أحمد القادياني»، فزعم أنه هو عيسى ابن مريم، وأنه هو المهدي وهو الإمام المنتظر في مذهب الشيعيين؛ ليوفق بين الإسلام والمسيحية، وبين الشيعيين والسنيين، وادعى فيما ادعى أنه تلبس بروح مريم العذراء، ثم تلبس بروح المسيح على النحو الذي يمثل به البراهمة صورة برهما وهو يجمع بين الذكورة والأنوثة في جسد واحد. وصدَّق نفسه وصدقه أناس من مريديه حين خُيِّل إليه أنه روح الله حلت في جثمان إنسان؛ لإنقاذ المسلمين والمسيحيين والبراهمة بدينه الجديد.
ومن اليسير جدًّا أن يلمس المرء في هذه الحركة بقية من بقايا البيئة الهندية التي نشأت فيها عقيدة تقمص الأرواح، وتجدد الروح في جثمان بعد جثمان، تارة جثمان ذكر، وتارة جثمان أنثى، ومرة رسم حيوان، ومرة رسم إنسان.
وظهر في إيران ميرزا علي محمد الشيرازي، وزعم أنه الإمام المنتظر، ثم انتحل عقيدة الإسماعيلية، وبث فيها عقيدة وحدة الوجود، ثم وثب من ذلك إلى القول ببطلان الشريعة الظاهرة، والأخذ بالحقيقة الباطنة التي تبيح أصحاب الحلول — حلول الإله في الإنسان — أن يتصرفوا في الأحكام والقواعد الدينية تصرف الوحي الجديد؛ لأنهم يستوحون مشيئة الله فيما يقولون ويعملون، ثم جهر بإلغاء بعض الشعائر المقدسة التي اتفق عليها المسلمون بنصوص القرآن.
ومن اليسير جدًّا أن نلمس في هذه الحركة نزعة البيئة التي نشأت فيها طلائع الباطنية والإسماعيلية، بل نزعة البيئة التي نشأ فيها الإيمان بحلول أورمزد في جسد «مترا» رسوله الأمين في حربه الأبدية لإله الشر أهرمان.
وظهرت في الجزيرة العربية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي تنكر الترف في الكساء والبناء، وتبطل معاني الرموز والإشارات والتوسل بشيء من الأشياء يقع عليه الحس، من جماد أو ذي حياة.
ومن اليسير جدًّا أن نلمس فطرة الصحراء في هذه الصرامة الخلقية، وهذا الفصل الحاسم بين عالم الحس وعالم الغيب، خلافًا لتلك الأقاليم الهندية والفارسية التي امتزج فيها الحس بالتخيل، واتصل فيها عالم الأرض وعالم السماء.
وظهرت في السودان دعوة المهدية لتحريم الترف والتبلغ بالطعام اليسير، والاكتفاء بالمرقعات التي يلبسها الدراويش، وتحريك الشعب لجهاد «الترك» وإخراجهم من البلاد، وهم عند أصحاب هذه الدعوة كل جنس غير الجنس العربي، ولا سيما الأجناس البيضاء.
ومن اليسير جدًّا أن نلمس في هذه الدعوة ثورة السوداني على مستغليه بالوسيلة التي في وسعه أن يثير بها إخوانه للجهاد، ومحاولته أن يعالج الفساد بالعلاج الذي يجدي في معيشة السودان البدائية، التي كانت يومذاك خُلُوًّا من عقد الحياة العصرية ومشكلات المجتمع الحديث.
وظهرت في مصر دعوة الإصلاح التي وجدت إمامها الأكبر في الشيخ محمد عبده — رحمه الله — فكانت تعليمًا جديدًا في مدرسة قديمة، أو كانت تفسيرًا للقوانين الإلهية لا يخرج بها عن نصوصها، ولكنه يحفظها في تلك النصوص، ويقتبس منها المعنى الذي يوافق معارف العصر الحديث.
ومن اليسير جدًّا أن نلمس في هذه الدعوة روح مصر التي عرفت نظام الحكم منذ ألوف السنين، وتعودت أن تدين بنصوص الأمر والنهي من ملك بعد ملك، وأسرة بعد أسرة، فليس فيما تعمله أو تدين به إلا ما هو نص محفوظ، أو مستمد من النص المحفوظ، بالمعنى الذي لا يخرج عليه … أو هي روح مصر التي عرفتها منذ قام فيها بالنبوءة فرعونها أخناتون … وهي الأمة الوحيدة التي تلقت نبوتها من عرش وصولجان.
وليست الحركات الجامحة بين هذه الحركات هي الأثر الباقي أو الأثر الشامل الذي أحاط بالعالم الإسلامي في حركة الاضطراب التي جاشت بين أرجائه من جراء الصدام بينه وبين الحضارة الأوروبية، ولكنها هي العجاجات التي دلت على قوة الرجة واختلاف مهابِّ الرياح. أما الأثر الباقي أو الأثر الشامل، فهو خلوص الأذهان من أوشاب الخرافات والأباطيل التي كانت تعوقها عن فهم الحقائق، وإدراك العلل والأسباب، والاستواء على نهج التفكير الصحيح، والإيمان بالدين إيمانًا لا يمنع التقدم، ولا يعرقل جهود المصلحين، وتمكين المسلم من أن يُرضي عقله، ويُرضي ضميره، ويزيل الفوارق ما استطاع بين رضى العقل ورضى الضمير.
وقد صمد الإسلام للرجة الأولى وانتظمت المصالحة بينه وبين الحضارة العلمية، فلم تعد المشكلة اليوم بينه وبين العلم الحديث أو التفكير المستقيم، وإنما المشكلة اليوم أن يؤدي رسالته ورسالة الأديان عامة في مكافحة اللوثة المادية التي تلغي مطامح الروح، وتود لو جعلت الإنسان حيوانًا بغير دين غير دين المعدات والأجسام.