العقائد السماوية
والأديان الكتابية هي أول ما يخطر على البال حين يجري الكلام على العقائد السماوية التي تلقاها الأوروبيون من تراث الجزيرة العربية، أو من تراث الأمم السماوية؛ لأن الأديان الكتابية الثلاثة — وهي الموسوية والمسيحية والإسلام — ظهرت وانتشرت بين سلالات الجزيرة العربية، على اختلاف موعدهم من الهجرة منها إلى الأقطار التي تليها.
ولكننا لا نعني هذه الأديان حين نتكلم في هذا الفصل عن العقائد السماوية؛ لأنها من وقائع العيان التي لا تزال قائمة في وقتنا الحاضر بغير حاجة إلى استقراء التواريخ، ومضاهاة الأخبار والروايات.
وإنما عنينا بالعقائد السماوية كل ما عرفه الأوروبيون الأقدمون عن السماء وأفلاكها ومداراتها، وسلطانها المزعوم على الأرضين، وطوالعها النافذة في جميع الأحياء، سواء ما انطوى منها تحت عنوان «علم الفلك»، أو ما انطوى تحت عنوان الكهانة والتنجيم.
فمما لا خلاف عليه أن العرب نشئوا في بلاد أصحى سماء، وأسطع فضاء من البلاد الأوروبية، وأنهم سبقوا أبناء البلاد الغائمة والآفاق المحجبة إلى رصد النجوم، ومراقبة المطالع والمغارب في القبة الزرقاء؛ لأنهم على سهولة الرصد عندهم كانوا في حاجة دائمة إلى توسم المطر، وترقب الأنواء، والخبرة بمواقيت الإدلاج والإسراء في رحلاتهم الطويلة بالصحراء.
ووافق علمهم هذا علم المدائن والأمصار التي قامت بين النهرين؛ إذ من المحقق أن تقسيم الأشهر والأيام كما شاع في بلاد الكلدانيين والساميين قد كان عليه طابع اللغة العربية القديمة، وأن النسيء في حساب الأشهر، والأسبوع في حساب الأيام كانا من المخلفات السامية في تلك البلاد، وظلت بقاياه بين العرب في الصحراء إلى ما بعد الإسلام.
وكائنًا ما كان الرأي في الاقتباس من الحضارات السمريَّة بين النهرين، فليس «الأسبوع» من عمل السمريين، ولم يظهر بينهم قبل ظهور البابليين.
وعن هذه الأقوام العربية الأولى تلقى الأوروبيون عقائدهم عن الأسبوع، وأرباب الأيام وسلطانها على الأحياء أو على الأحداث والزروع والضروع.
ولا تزال أسماء الأيام الإفرنجية تحمل طابع العقائد «السماوية» كما كان يعتقدها أسلاف العرب المعرقون في القدم، وتتداولها لغات الغربيين إلى هذه الساعة التي نحن فيها.
جاء في الجزء الأول من إخوان الصفاء عن أوائل ساعات الأيام: «اعلم أن الليل والنهار وساعاتهما مقسومة بين الكواكب السيارة؛ فأول ساعة من يوم الأحد للشمس، وأول ساعة من يوم الاثنين للقمر، وأول ساعة من يوم الثلاثاء للمريخ، وأول ساعة من يوم الأربعاء لعطارد، وأول ساعة من يوم الخميس للمُشترَى، وأول ساعة من يوم الجمعة للزهرة، وأول ساعة من يوم السبت لزحل …»
•••
ويتبين من معاني أيام الأسبوع عندهم أن عقائد التنجيم التي أخذوها عن السلالات العربية قد تغلغلت في شعوبهم الأوروبية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وهي العقائد التي ترتبط بالمعيشة اليومية، وطوالع الأوقات، وسلطان الأفلاك العليا على الأحياء وحوادث الأيام.
فهي على هذا أكبر شأنًا وأشد إيغالًا في الحياة من تسمية مقتبسة من تقويم منقول.
وقد اصطبغت حياتهم العاطفية بما تلقوه من أسماء تلك الأرباب وخصائصها، فشملت الشعور بالقداسة، والشعور بالغضب، والشعور بالحب والغرام والجمال.
وربة الحب أو العذراء الفاتنة «فينس» هي تصحيف كلمة «بنت» السامية، وكانت تكتب عندهم بالباء ثم صُحِّفت إلى الفاء كما يقع ذلك في كثير من الأسماء، وهكذا فعلوا بأسماء الزهرة الأخرى، فصحَّفوا عشتار إلى «استار»؛ أي النجمة، وهي عثتار في اللغة العربية اليمانية القديمة، ثم عرفها الساميون في شمال الجزيرة العربية باسم عشتار وعشتروت.
فهم قد مزجوا معيشتهم اليومية وحياتهم العاطفية بعقائد السماء التي تلقوها عن السلالة العربية، ولم يقصروا النقل على علم الفلك ولا أزياج النجوم؛ فإنهم — كما سيلي في بعض فصول هذا الكتاب — قد ظلوا ينقلون عن العرب في هذا العلم إلى ما بعد الإسلام بزمن طويل، وقد بقيت في لغاتهم عشرات الأسماء العربية للكواكب والمصطلحات الفلكية بتحريف قليل أو بغير تحريف.