الأخلاق والعادات
من العسير أن يُقال: إن الأخلاق الأوروبية انتقلت إلى الشرق بمحاسنها أو مساوئها بعد احتكاك الشرقيين بالحضارة الغربية؛ لأن العوامل التي تتولد منها الأخلاق — بين وراثية وإقليمية واجتماعية — لا تنقل من أمة إلى أمة في فترة قصيرة كالفترة التي مرت بالشرق الحديث بالقياس إلى تاريخه الطويل.
لكن التشبه بالأمم الغالبة في عاداتها ومظاهر معيشتها هو نفسه عادة من العادات الأصيلة في طبائع الناس، وقد تعودها الشرقيون كما تعودتها من قبلهم سائر الأمم، فتشبهوا بالأوروبيين في هذه المظاهر منذ شعروا بالافتقار إلى مصنوعاتهم، واستكانوا إلى الضعف أمام قوتهم، فلبسوا ملابسهم، وأكلوا مأكلهم، وسلكوا في أوقات فراغهم ولهوهم مسلكهم، وكثر ذلك في المدن الكبرى والموانئ المطروقة لضرورة الاتصال بين أهلها وبين الأوروبيين في المعاملات والمرافق التجارية، ثم تسرَّب قليلًا قليلًا إلى داخل البلاد جريًا على سُنَّة أهل الريف في محاكاة أهل الحضر، والتمثل بهم في سَمْت الوجاهة، وشارات الترف والحضارة، فتجاوزت المحاكاة حدود الضرورة ومقتضيات المعاملة.
وكان من تلك العادات ما هو خير وما هو شر؛ فمن الخير الإقبال على الألعاب الرياضية والنزهة الخلوية، ومن الشر الإقبال على المراقصة والمخاصرة بين الجنسين، ومع وجود الرقصات الوطنية البريئة التي يتلاقى فيها الجنسان على نحو لا يخالف آداب المروءة والفروسية، ولا يصعب تهذيبه وتحسينه حتى يصبح رياضة من الرياضيات التي تحيي النفس والجسد، ولا تخل بالأدب والحياء.
وليس من الحق أن الحضارة الأوروبية خلقت الفساد في الشرق خلقًا من حيث لم يكن له وجود قبل تمرس الشرقيين بأسباب تلك الحضارة؛ فإن الشرق قد مُنِيَ في أيام جموده واضمحلاله بضروب شتى من الفساد كانت تنخر في عزائمه وتضنيه، ولكن الحق أن الحضارة الأوروبية زودت الفساد بمسحة من الطرافة تستهوي النظر، وتنفي عنه الشين الذميم الذي كان يصد عنه أصحاب المروءات، فاستباحه من لم يستبحه قبل ذلك.
ولم تسلم أصول الأخلاق من صدمة عنيفة أو مساس رفيق من جراء الالتقاء بين الشرق القديم والحضارة العصرية؛ فإن أصول الأخلاق تقوم على العرف أو سلطان الجماعة على الأفراد، وقد صُدمت هذه الأصول في الصميم، عن قصد وعن غير قصد، من الأوروبيين أو الشرقيين على السواء، وكانت صدمتها من جهتين مختلفتين، وقد يبدو للنظرة الأولى أنهما متناقضتان.
فالمظاهر الأوروبية قد خامرت قلوب الشرقيين بالشك القوي في حقائق العرف الاجتماعي الذي درجوا عليه، فرجعوا إلى أنفسهم يتساءلون عن قواعد ذلك العرف ومبلغها من الحقيقة والسداد، واعتراهم هذا الشك في عرفهم القديم قبل أن يخلفوه بعرف جديد يناسبهم، ويصلح لهم، ويتأتى لهم أن يتواضعوا عليه. وهذه إحدى الصدمتين.
أما الصدمة الأخرى، فكانت من قِبَل الحرية الفردية التي أباحت للفرد فجأة أن يستقل بأهوائه ونزواته وآرائه، وإن خرج بها عن آداب الجماعة المتفق عليها؛ فأصبحت الحرية مرادفة لطلب التغيير والتبديل، أو مرادفة للجرأة على النقد والمعابة، واقترنت قلة الحياء بقلة المبالاة، كما اقترنت الشجاعة الأدبية أحيانًا بالإقدام على المعايب والشهوات.
وإذا كان في هذا التحول مدعاة للتشاؤم والتطير من المستقبل، فهو لا يخلو في بعض دلالاته من دواعي التفاؤل والرجاء؛ لأن عصر الجمود في البلاد الشرقية قد خلف وراءه كثيرًا من الأنقاض المعطلة والأركان المتداعية، ولا بد من هدم قبل كل بناء، ولا بد من غبار وسقوط حول كل مهدوم، ولا بد من تعثر قبل كل استقامة على السواء، فإذا تكشف الغبار واتضحت القواعد الباقية، والقواعد التي يرتفع البناء الجديد على أساسها؛ فقد يهون التشاؤم، ويبطل التطير، وتتراءى للبصائر والأبصار معالم الثقة والاطمئنان.
والحكم للغد فيما يقر عليه القرار؛ فليس على الغيب بعزيز أن تنبعث من جانب الشرق رسالة روحية تتجدد بها أخلاق الشرقيين وأخلاق الغربيين، فكلها في حاجة إلى التجدد في هذا الزمان.