التدوين
ولا تُستطاع المبالغة فيما استفاده البشر من اختراع طريقة لإثبات المعاني بالحروف، وإثبات الأعداد بالأرقام؛ فإن تدوين المعارف البشرية كلها راجع إلى هذا الاختراع النفيس.
ومما يقل فيه الخلاف بين المؤرخين والمنقبين أن حروف الكتابة العربية والكتابة الإفرنجية ترجع إلى مصدر واحد، وأن الأوروبيين اعتمدوا على الكنعانيين أو الإرميين في اقتباس حروفهم الأولى، وهي مشابهة في لفظها ورسمها لبعض الحروف السامية، ولا سيما الألف والباء والجيم والدال، وكلها ذات معانٍ معروفة في لغات الساميين.
ومعظم الباحثين في هذا الموضوع يُرجحون أن الحروف الكنعانية أو الإرمية تدرجت من حروف مصرية مأخوذة عن الصور الهيروغليفية القديمة، وأن اللوحة التي عثر بها سير فلندرس بتري، في شبه جزيرة سيناء (سنة ١٩٠٦)، تشتمل على النموذج الوسط بين الصور القديمة والحروف الأبجدية كما نشرها الكنعانيون والإرميون. ويقدرون أن هذه اللوحة ترجع إلى أقدم من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. وقد كان الإرميون في ذلك العهد يعيشون في شبه جزيرة سيناء.
ولعل الصور الهيروغليفية في مصر سبقت مثيلاتها في بلدان العالم لتوافر ورق البردي ومداد الكتابة الثابت في وادي النيل. ولكن الأوروبيين لم يقتبسوا مباشرة من وادي النيل لحرص الكهنة على إخفاء هذه الأسرار … فلما بلغت من الزمن طور الحروف الشائعة أمكن أن تنتقل إلى جوار مصر في سيناء وتخومها الشرقية، حيث أقام الإرميون والكنعانيون.
ومما لا شك فيه أن فضل النشر والتعميم لأبناء الجزيرة العربية في هذا الاختراع النفيس؛ لأنهم نقلوه إلى الأقطار الآسيوية كما نقلوه إلى الأقطار الأوروبية، فأخذ الهنود حروفهم من اليمن كما أخذ الإغريق حروفهم من عرب الشمال بفلسطين.