صناعات السلم والحرب
وقد كان للإرميين بطون في العراق وبطون في سيناء وفلسطين، فكانوا ينشرون ما اقتبسوه من وادي النهرين ووادي النيل على السواء، وكان الإغريق على اتصالات بهم في الموانئ الشرقية من آسيا الصغرى إلى تخوم سيناء، فنقلوا عنهم وسائل الحضارة والتجارة قبل أن يهتدي إليها أبناء القارة الأوروبية بزمن طويل.
والإغريق ملاحون قدماء في صناعة الملاحة، ولكنهم لم يسبقوا الكنعانيين إلى هذه الصناعة؛ لأن هؤلاء قد عكفوا على نقل التجارة البحرية وأوشكوا أن يحتكروها في شرق البحر الأبيض إلى ما بعد أيام الإسكندر ونشأة الإسكندرية، وأعانهم على تجويد الملاحة كثرة الأخشاب الصالحة لبناء السفن في أرض كنعان، وكثرة المحاصيل التي يحتاجون إلى بيعها والمبادلة عليها في الموانئ القريبة أو البعيدة، ووقوع بلادهم على شواطئ بحر تفضي إليه التجارة الآسيوية في أبعد الأقطار.
وربما تعلَّم الإغريق صناعة السفن من الكنعانيين أو من البابليين، وقد تفيدنا هنا قصة نوح وسفينته؛ لأنها سفينة ورد لها ذكر في التاريخ، ولا شك أنها لم تُبنَ في بلاد الإغريق، بل بُنيت في بلاد قريبة من بلاد التوراة، أو قريبة مما بين العراق وفلسطين، وقد وجدت آثار السفن الفينيقية القديمة الجنوبية. وقد ذكر هيرودوت رحلات الفينيقيين والمصريين في عهد الفرعون نيخاوس، وكانوا أول من عرف الأمم في ساحل أفريقيا الشرقية معرفة يقين. إنما كان الإغريق يعرفونهم على أيام هوميروس معرفة سماع.
فإذا كان تحقيق السبق عسيرًا اليوم، فالأمر الذي لا يعسُر تحقيقه أن الكنعانيين — أو الفينيقيين كما سمَّاهم الإغريق — توسَّعوا في الملاحة وإقامة المستعمرات البحرية البعيدة توسعًا لم يبلغه الإغريق في الزمن القديم، وأنهم إذا كانوا قد اقتبسوا الموازين والنقود والكتابة وأرصاد النجوم وخصائص الأيام الفلكية عن الساميين، فليس بالبعيد أنهم تلقوا عنهم دروسًا في الملاحة والتجارة، وبناء السفن وتوجيهها في البحر على حسب الطوالع والنجوم.
ومما يُلاحظ في سياق الكلام على مقتبسات الإغريق من الدول السابقة في شئون الحياة اليومية وشئون الحضارة عامة، أن أبقراط الملقب بأبي الطب قد نشأ في جزيرة كوس، وأن جالينوس أشهر الأطباء اليونان بعده قد نشأ في آسيا الصغرى، وأنهما قد ساحا في أرض كنعان وإرم كما ساحا في الديار المصرية، ولا خلاف في اقتباس أبقراط وجالينوس من طب الفراعنة القديم، ولكن المعارف التي اقتبسها أهل آسيا الصغرى من كنعان وبابل لا بد أن تشمل المعارف الطبية التي تلازم الحضارات العريقة، ولا يمكن أن تُستثنى منها بفرض من الفروض.
•••
وتلك هي خلاصة الحضارة القديمة في كلمات معدودات، فلم تكن هناك صناعة من صناعات السلم لم يتتلمذ فيها الإغريق على أمة من سلالة الجزيرة العربية، أو لم يكونوا فيها لاحقين على إثر سابقين.
ولو شاء المؤرخ أن يعد هنيبال عربيًّا بحتًا — ولا يجعله من السلالة العربية وحسب — لكانت له قرينة من اسمه واسم وطنه وتاريخ ظهوره … فإنه ظهر في القرن الثالث قبل الميلاد حين كانت الأمة العربية قد شارفت طورها الحديث الذي بقيت عليه إليه اليوم، وكانت في اسمه لهجة العربية كما كانت تلفظ في ذلك الزمان، أو على نحو مقترب منها غاية الاقتراب؛ لأنه سُمِّي «حنى بعل»، وهو اسم يرادف نعمة بعل أو نعمة الله. وسميت بلدته «قرية حداش» أو القرية الحديثة، فصُحِّفت إلى قرتاش فقرطاج — بتعطيش الجيم — كما نطق بها الرومان. وكان اسم أبيه حامي القرية أو «هاملكار» بعد التصحيف والتحريف.
•••
وخلاصة ما تقدم أن الأوروبيين تتلمذوا على أبناء الجزيرة العربية في مسائل العقيدة ومسائل الحضارة والمعيشة اليومية، قبل أن تبلغ أوروبا مبلغ المعلم لغيره في أمر من الأمور.
ولا يقدح في هذا أن السمريين — سكان ما بين النهرين الأولين — كانوا شعبًا من شعوب العنصر الآري، كما جاء في بعض التقديرات التي تستحق النظر والترجيح.
فإن المحقق الذي لا تختلف فيه الظنون أن المعارف الفلكية التي وصلت إلى الأوروبيين، وبنوا عليها عقائدهم في الكواكب والأيام مصبوغةً بالصبغة البابلية، سواء في الأسماء أو الصفات، وأن الكتابة قد وصلت إلى الأوروبيين والهنود من طريق أبناء الجزيرة العربية في أقصى الشمال أو أقصى الجنوب، وأنه مهما يكن الظن بالابتكار في أطواره الأولى، فالطابع السامي ظاهر على أول ما اقتبسه الأوروبيون من دروس الفلك والكتابة والحكمة الرواقية، وبعض أسباب التجارة والملاحة والعمارة، وليس في شيء من ذلك، لا في غيره، طابع ظاهر للسمريين.