الطب والعلوم
أشاد هوميروس في الأوديسا بمهارة الأطباء المصريين، وقال هيرودوت غير مرةٍ: إنهم كانوا يعالجون أنواعًا شتى من الأمراض يختص كل منهم بمرض يبرع في علاجه، وروى أن قورش أرسل إلى مصر في طلب طبيب للعيون، وأن دارا كان عظيم الإعجاب بهم، كثير الثناء عليهم. وكان الإغريق يعرفون اسم «أمحوتب» رب الحكمة في مصر القديمة، ويسمونه بلغتهم أموثيس، وقد نقلوا عن الطب المصري كثيرًا من العقاقير، كما نقلوا آلات الجراحة بغير تبديل.
وتلقى الإغريق شيئًا من الطب الكلداني كما كان في عصوره القديمة مزيجًا من السحر والتعويذ والعلاج.
ثم دارت دورة الثقافة الإنسانية على أتمها في هذه الصناعة التي يحتاج إليها جميع الناس، فأعاد الإغريق ما أخذوه وما زادوه إلى المصريين في عهد مدرسة الإسكندرية، وإلى الكلدان والسريان في أواخر الدولة الرومانية الشرقية، وكان في ذلك الحين حصة من تراث الأديرة وكهانها يتدارسه من يتدارسون العلوم باليونانية أو اللاتينية، وكان معظمهم يومئذ من رجال الدين.
واستعان الفرس بأطباء السريان والروم، فأنشئوا المدرسة الطبية والمستشفى المشهور بجنديسابور، وكان عليه معول الشعوب القريبة كلها في إتمام معارفهم الطبية، والتوسع في الاطلاع على فنون العلاج عن سائر الأمم، ومن تلاميذه النابهين بين أطباء العرب الحارث بن كلدة الذي تعلَّم الطب في الجاهلية وأدرك الإسلام.
وقد عرف العرب التطبيب في أقدم عصور الجاهلية على طريقة البداوة في مزج الطب والكهانة، وعلاج الأمراض بالوسائل البدائية، فكان لكل قبيلة عرَّافها الذي يُستشار في كل ما حزبها من الأمور، ومنها العلل والشكايات.
وكان طلب هؤلاء العرافين يخلط بين الرُّقَى والتبخير وتعاطي الأدوية التي تقترن بالعزائم والتعاويذ، ومع العرافين أطباء مختصون بالعلاج لا يزاولون الكهانة، ولا يُموِّهون على المرضى باسم الجن أو الأصنام، ويعالجونهم بالفصد والكي والحجامة والحمية، وبعض العقاقير والأعشاب التي تنبت في بلاد العرب، أو تُجلب من الهند والصين.
ووصايا هؤلاء الأطباء تدل على خبرة حسنة بتصحيح الأجسام كما قال الحارث بن كلدة: «من سره البقاء ولا بقاء؛ فليباكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقلل غشيان النساء.»
وسأله معاوية: ما الطب يا حارث؟ فقال: الأزم يا معاوية! يعني الجوع. وكان ينهى عن الاستحمام بعد الطعام، ويوصي بالتخفيف من الديون والهموم. وكانت لهم طريقة عملية ناجعة في التماس الدواء لما استعصى عليهم دواؤه، وهي أن يخرجوا المريض إلى طريق القوافل ليراه من أصيب بمثل مرضه، ويصف له الدواء الذي شفاه.
ويبدر لنا أن اشتغال العرب الطويل برعي الماشية قد باعد بينهم وبين طب الكهانة والخرافة، وقارب بينهم وبين طب التجارب العملية؛ لأنهم راقبوا الحمل والولادة والنمو وما يتصل به من الأطوار الحيوية، وشرَّحوا الأجسام فعرفوا مواقع الأعضاء منها، وعرفوا عمل هذه الأعضاء في بنية الحيوان نحوًا من المعرفة السليمة، فافتربوا من الإصابة في تعليل المرض والشفاء.
وجاء الإسلام فقضى على الكهانة، وفتح الباب للطب الطبيعي على مصراعيه؛ لأنه أبطل المداواة بالسحر والشعوذة، ولم يُحدث في مكان الكُهَّان طبقة جديدة تتولى العلاج باسم الدين، بل سمح النبي — عليه السلام — باستشارة الأطباء ولو من غير المسلمين، فلما مرض سعد بن أبي وقاص في حجة الوداع عاده النبي وقال له: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يُضرَّ بك قومٌ وينتفع آخرون، ثم قال للحارث بن كلدة: «عالج سعدًا مما به» والحارث على غير دين الإسلام. وذكر القرآن لقمان الحكيم: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلهِ، ومنها: التطبيب، أو هي الطب قبل سائر ضروب الحكمة، فجعل الإسلام هذه الصناعة نعمة يشكرها مَن أسبغها الله عليه، واتخذها وظيفة معترفًا بها ولو لم تكن من أعمال المتدينين.
لهذا كثر اشتغال المسيحيين بالطب في ظل الدولة الإسلامية، ونبغ الأطباء بين نصارى المشرق، في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الغربية تُحرِّم صناعة الطب؛ لأن المرض عقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمَّن استحقه، وظل الطب محجورًا عليه بهذه الحجة إلى ما بعد انقضاء العهد المسمى بعهد الإيمان، عند استهلال القرن الثاني عشر للميلاد، وهو إبان الحضارة الأندلسية.
وقد دُعِي إلى الامتحان في بغداد نحو تسعمائة طبيب على عهد المقتدر بالله، وهم غير الأساتذة الثقات الذين تجاوزوا مرتبة الامتحان، وهي عناية بالطب والصحة لم تشهدها قط حاضرة من حواضر التاريخ القديم.
ومن هذه الكثرة في عدد الأطباء ومعلمي الطب يتبين لنا أن الحاجة إلى دراسة الطب والعلوم كانت حاجة عمران كامل، ولم تكن حاجة أفراد أو طوائف محددة.
فمن الجائز في بداية الأمر أن الملوك احتاجوا إلى الأطباء البارعين، فاستقدموا إليهم من ترامت إليهم سمعتهم بالقدرة والدراية، ومن الجائز كذلك أن بعض الرهبان أو العلماء في طوائف السريان والروم كانوا ينقطعون لدراسة العلم فيما انقطعوا له من صنوف الدراسات، ولكن العاصمة لا تتسع لأكثر من ألف طبيب في وقت واحد ما لم تكن الحاجة إلى الطب والعلم حاجة عمران واسع الأطراف.
وقد كان السريان والروم في أماكنهم، وكان معهم أقوامهم وذووهم وكتبهم وودائعهم في ظل القياصرة والأكاسرة، فلم يتسع نطاق المعرفة هذا الاتساع، ولم يبلغ ارتقاء المعيشة في عهد الحضارة الرومانية أو الفارسية هذا المبلغ، وإنما الجديد في الأمر هو التفاعل الطيب في بنية المجتمع مع قيام الدولة الصالحة التي نهضت بها العبقرية الإسلامية، وتكفلت بها سماحة الدين الجديد.
ولم تكن مزاولة الصناعة وحدها هي الغرض المقصود من هذه النهضة الواسعة، وهذا التعليم المستفيض؛ لأن أشهر الأطباء كانوا يضيفون إلى علم الطب علمًا آخر كالفلسفة أو الهندسة أو الفلك أو الكيمياء، وكانوا يؤلفون الموسوعات ويطلبون البحث في أُمَّهات هذا العلم حيث كان.
وقد كان بعض الدراسة كافيًا لمزاولة الصناعة في تلك العصور، ولكنهم طلبوا العلم للعلم؛ فلم يقنعوا بما وجدوه من كُتب الإغريق الأقدمين أو كتب الفرس والهنود، ورجعوا إلى كل مظنة من مظان التوسع في هذه البحوث، فتساوى بحثهم عن كتب الطب، وبحثهم عن كتب الهندسة والنجوم وسائر المعلومات، ووضعوا الكتب فيما قرءوه وترجموه؛ فإذا هو موسوعات تشمل «الوصفة» الهندية إلى جانب الوصفة العربية أو الفارسية أو اليونانية، وإذا هي مباحث تهذيب واستقصاء، وليست متاجر أرباح.
ومن موسوعات الطب الإسلامية ما لم يوضع له نظير في الضخامة والتمحيص على قدر أسباب التمحيص في زمانه، وقد تُرجمت كلها إلى اللاتينية، فنقلت هذه الصناعة بين أطباء أوروبا من حال إلى حال، ولم يُضارع مؤلفي العربية فيها أحدٌ من علماء الأوروبيين إلى مطلع العصور الحديثة مع شغف الأوروبيين أخيرًا بادعاء ملكة العلم، واتهام الشرقيين بأنهم لا يطلبون العلم إلا للصناعة وأرباحها، فعُكست الآية هنا، وأصبح أطباء أوروبا يقرءون كتب العربية ليستفيدوا منها في مزاولة الصناعة وكسب الأموال، وتشابهوا في ذلك جميعًا ما لم يكونوا من الرهبان والقسوس الذين انقطعوا عن الدنيا، فلا يجهرون بطلب المال من صناعة الطب ولا غيرها من الصناعات.
فتُرجم كتاب القانون لابن سينا في القرن الثاني عشر — وهو موسوعة جمعت خلاصة ما وصل إليه الطب عند العرب والإغريق والهنود والسريان والأنباط — وتُرجم كتاب الحاوي للرازي سنة ١٢٧٩، وهو أكبر تلاميذ الرازي بعد موته، لأنه عمل لا يضطلع به الأفراد.
وتُرجمت كتب ابن الهيثم في ذلك العصر، فكان عليها معول الأوروبيين اللاحقين جميعًا في البصريات.
وظهر من برامج جامعة لوفان المحفوظة أن كُتب الرازي وابن سينا كانت هي المرجع المعول عليه عند أساتذة تلك الجامعة إلى أوائل القرن السابع عشر، وجاء المدد من الأندلس العربية، فأمد أوروبا بمرجعها الأكبر في الجراحة وتجبير العظام، وهو كتاب «التعريف لمن عجز عن التصريف»، لأبي القاسم خلف بن العباس، وقد طُبع باللغة اللاتينية في القرن الخامس عشر، وكان قبل طبعه دروسًا متداولة بين أبناء الصناعة يعتمدون عليها في الأعمال الجراحية، ولا سيما فتح المثانة وإخراج الحصاة، وقال العالم الطبيعي الكبير هاللر في رواية جُوستاف لوبون: إن كُتب أبي القاسم كانت مرجع الجراحين جميعًا بعد القرن الرابع عشر للميلاد، وقد ترك كتيبًا صغيرًا عن الآلات الجراحية التي تُستخدم في العمليات على اختلافها، مع توضيحها بالأشكال وطرائق الاستخدام.
وتكاثرت المستشفيات باسم المارستانات في أنحاء الدولة الإسلامية بعد القرن الثالث الهجري، وكانت لهم طريقة لطيفة للتحقق من جودة الهواء وصلاح الموقع لبناء المستشفيات تغني عن الأساليب العلمية التي اتُّبِعت في العصر الحاضر، بعد كشف الجراثيم والإحاطة بوسائل التحليل، فكانوا يُعلِّقون اللحوم في مواضع مختلفة من المدينة في وقت واحد، فأيها أسرع إليه العفن اجتنبوا مكانه، واختاروا المكان الذي تتأخر فيه عوارض الفساد.
وقد تسلم العرب الطب في مرحلة من مراحله الطويلة بين النظريات القديمة والنظريات الحديثة، فكانت نظرية بقراط أن الأخلاط أربعة: دم وبلغم وصفراء وسوداء، وأن المرض هو اختلال النسبة بين هذه الأخلاط، والعلاج هو ردها إلى نسبتها الأولى، وكانت نظرية جالينوس أن الأمزجة أربعة؛ وهي: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، فمن أصيب من قِبل الحرارة فعلاجه البرودة، ومن أصيب من قِبل الرطوبة فعلاجه اليبوسة، وعلاج كل عرض من هذه الأعراض يقتصر على هذا القياس.
فلما تناول العربُ الطبَّ كانت هذه الصناعة في المرحلة بين تناسي النظريات القديمة ونشأة النظريات الحديثة، ولم تكن العلوم في جملتها قد وصلت إلى الطور الذي يسمح بابتكار هذه النظريات، فاعتمدوا الملاحظة والتجربة، ولم يعولوا كل التعويل على التزام النظريات أو ابتكار الجديد منها، وتصرفوا في العلاج فلم يتقيدوا برأي جالينوس في علاج البرودة بالحرارة، أو الحرارة بالبرودة، بل كان منهم من يعالج البرد بالبرد في بعض الحالات، أو يجمع بين الحمية والتبريد والترطيب كما كان يفعل صاعد بن بشر، رئيس المستشفى العضدي ببغداد، وقد عرفوا العلاج بالعوض كما يُؤخذ من كلامهم عن خصائص أعضاء الحيوان، فإن الدميري، صاحب كتاب الحيوان، يذكر منافع رئة الثعلب مثلًا أنها تداوي الصدر؛ لأن هذا الحيوان لا يلهث إذا عدا، ويذكر غير ذلك من خصائص أعضاء الحيوان.
وسبقوا الإفرنج إلى وصف الجذام، وشرح مرَضَي الجدري والحصبة، وعلاج أمراض العين، وحاموا حول مذهب فرويد في الطب النفساني وعلاقته بالمسائل الجنسية على نحو تجريبي خليق بأن يُحتذى في تقرير المعارف والمشاهدات، فمن ذلك أن حظيَّةً للرشيد تمطَّت في بعض الأيام ورفعت يدها فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها، وعولجت بالتمريخ والدهن فلم تنتفع بهما، فلما سُئل جبرائيل بن بختيشوع قال للرشيد: «إن لم يسخط عليَّ أمير المؤمنين فلها عندي حيلة، قال له الرشيد: ما هي؟ قال: تخرج الجارية إلى ها هنا بحضرة الجميع حتى أعمل ما أريده، وتمهَّل عليَّ ولا تعجل بالسخط. فأمر الرشيد بإحضار الجارية فخرجت، فأسرع إليها جبرائيل ونكَّس رأسه وأمسك ذيلها كأنه يريد أن يكشفها، فانزعجت الجارية وبسطت يدها إلى أسفل ذيلها» … فقال جبرائيل: قد برئت يا أمير المؤمنين. ولما سُئل في تعليل ذلك قال: «هذه الجارية انصب إلى أعضائها وقت المجامعة خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة، ولأجل أن سكون حركة الجماع يكون بغتة جمدت الفضلة في بطون الأعصاب، وما كان يحلها إلا حركة مثلها، فاحتلتُ حتى انبسطت حرارتها وحلت الفضلة فبرئت».
ويروى عن ابن سينا أنه دُعي لعيادة فتًى مريض لم يهتدِ الأطباء إلى علته، فأمر باستدعاء رجل من عرفاء المدينة، وتناول يد الفتى يجس نبضها ويرقب وجهه، وطلب من العريف أن يسرد أسماء الأحياء في المدينة، فسردها حتى جاء ذكر حي منها فازداد نبض الفتى، ثم سأله أن يذكر بيوت الحي، فازداد نبض الفتى عند واحد منها؛ فسأله عمن في البيت من الفتيات، وقال لأهل الفتى: زوجوه تلك الفتاة؛ فهذا هو الدواء.
وعالج أطباء العرب الجنون علاج الأمراض الطبيعية، وقد كان يُسمَّى عند الإفرنج بالمرض الإلهي أو المرض الشيطاني؛ لأنهم كانوا يحسبونه من إصابات الأرواح أو الشياطين.
•••
واقترنت بحوث العرب في الطب ببحوثهم في الكيمياء؛ فاستفاد الأوروبيون منهم كثيرًا في هذا العلم المستحدث، وربما كانت فائدتهم من دروس العرب الكيمية أعظم مما استفادوه من دروسهم الطبية.
وقد تُرجم له كتابه السبعون وكتاب تركيب الكيمياء إلى اللغة اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر، وظلت كتبه عمدة في هذا العلم بين الأوروبيين إلى أواخر القرن السابع عشر، فتُرجم كتابه الاستتمام إلى اللغة الفرنسية سنة ١٦٧٢.
ونُقلت كُتُب الرازي كما نُقلت كُتُب جابر بن حيان، ومنها تلقى الأوروبيون تقسيم المواد الكيمية إلى نباتية وحيوانية ومعدنية، وتقسيم المواد المعدنية أدق تقسيم عُرف في العصور الوسطى، ولعل التاريخ الأوروبي لم يتأثر بشيء من كشوف العرب في المعدنيات كما تأثر بكشف البارود واستخدامه في قذائف الحصار وأسلحة القتال.
وفي الطبيعيات أخرج العرب الثقل النوعي لكثير من العناصر والجواهر النفيسة، ونقلوا رأي الإغريق في الجاذبية وتعليل الثقل، وفحواه أن الأجسام الثقيلة مجذوبة إلى أصلها في السماء، ولكن البيروني شك في ذلك، ووجه إلى ابن سينا سؤاله الذي يدل على ميله إلى القول بأن الأجسام كلها مجذوبة إلى مركز الكرة الأرضية، وذلك حيث يقول: «ما الصحيح من قول القائلين: أحدهما يقول: إن الماء والأرض يتحركان إلى المركز، والهواء والنار يتحركان من المركز، والآخر يقول: إن جميعها يتحرك نحو المركز، ولكن الأثقل منها يسبق الأخف في الحركة إليه؟»
وقد مهدت هذه الآراء سبيل نيوتن إلى كشف قانون الجاذبية وتعليل الثقل على أساس العلم الحديث.
وللبيروني أيضًا فضل السبق إلى درس السوائل في عيون الأرض ومرتفعات الجبال، وما تحكم به حركاتها في حالي التوازن والارتفاع، ومن رواد هذه المباحث في اللغة العربية أبناء موسى بن شاكر أصحاب كتاب الحيل، الذي يعد أصلًا من أصول «الميكانيكا» قبل تطورها الأخير في عصر الآلات.
وعلى سذاجة البحوث التي انتهى إليها علم التاريخ الطبيعي قبل القرن الثامن عشر كانت مؤلفات العرب خير المراجع في هذه العلوم للأوروبيين وغير الأوروبيين؛ فإنهم جمعوا المتفرق من المعلومات القديمة عن الحيوان والنبات، وزادوا عليه، وتوسعوا فيه. فنقلوا عن الهند والكلدان واليونان والأنباط، واعتمدوا على المشاهدة في بلادهم وغير بلادهم، كما فعل ضياء الدين المالقي المعروف بابن البيطار، فقد وُلد بمالقة وساح في أنحاء العالم الإسلامي، ووصل إلى أقصى بلاد الروم للبحث عن الأعشاب وأصناف النبات، وعيَّنه الكامل الأيوبي رئيسًا للعشابين بالديار المصرية، وهم يقابلون في عصرنا هذا علماء النبات وعلماء الصيدلة في وقت واحد، وألَّف كتاب «الأدوية المفردة»، فاستوعب فيه صفوة المعلومات التي أدركها علم زمانه في هذه البحوث.
جاء في كتاب «الحضارة الأوروبية سياسية واجتماعية وثقافية» لمؤلفيه أساتذة الفلسفة؛ جيمس وستفال توسون وفرانكلن شارلز بام وفان نوستراند: «في خلال قرنين نُقل إلى العربية كل ما خلفه الإغريق من التراث العلمي على التقريب، وأصبحت بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة مراكز لامعة لدراسة العلم وتلقينه … وأخذت المعرفة بهذه الثقافة الإغريقية العربية تتسرب إلى أوروبا الغربية في أواخر القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر.
وعلى هذا النحو كانت أوروبا قد استولت في مستهل القرن الثالث عشر على محصول العلم الإغريقي والعربي بحذافيره، وأصبح تدريس العلم في الجامعات الحديثة من الأمور المقررة المتفق عليها، وكان أعظم علماء ذلك العصر الإنجليزي الفرنسيسكاني روجر باكون (١٢١٤–١٢٩٢)، وهو لا يقصر في عظمته عن شأن البرنس الكبير، وكلاهما قد تولى التدريس في جامعة باريس، ولم ينتصف القرن الثالث عشر حتى ظهرت مجموعة هذه المعارف في سفر ضخم من تصنيف فنسنت أوف بوفيس سمَّاه مرآة الطبيعة، وحوى فيه كل ما وسعته المعرفة البشرية في ذلك الحبل من طب وظواهر كونية وفلك وجغرافية وظواهر جوية، وكلام عن طبقات الأرض والمعادن والنبات والأحياء والتشريح … إلخ».
•••
على أن الجانب المهم من أثر هذه الموسوعات الثقافية في أوروبا لا يتوقف على تعديد المعلومات: كم «معلومة» بلغت، وكم معلومة أخذها العرب أو أخذها منهم الأوروبيون؟ وإنما المهم أن الأوروبيين تناولوا مشعل العلم من أيدي العرب فاستضاءوا به بعد ظلمة، وبلغوا به بعد ذلك ما بلغوه من هذا الضياء العميم الذي انكشفت به أحدث العلوم، ولو لم يحمل العرب ذلك المشعل شرقًا وغربًا لكان من أَعْسر الأمور أن يقدح الأوروبيون نوره من جديد، وإذا أفلحوا في قدحه فقُصاراه في ثلاثة قرون أن يقف دون الشأو الذي انتهى إليه جهد الإنسان في عشرات القرون.