الجغرافيا والفلك والرياضة
يعتبر بطليموس، صاحب «المجسطي»، معلم الجغرافية الأول في العصور القديمة؛ لأن اسمه كان أشهر الأسماء التي أذاعها العرب في أوروبا بعد مولده بعدة قرون.
ومن الخطأ أن يُظن أن علم الجغرافية علم يوناني في أصوله ومبتكراته لاشتهاره باسم مؤلف من كلمتين يونانيتين؛ لأن بطليموس نفسه قد اقتبس كثيرًا من المصريين كما اقتبس كثيرًا من الكنعانيين، وقد سبقه من اليونان جغرافيون وسياح اعتمدوا على أهل مصر وبابل فيما أثبتوه من الأصول الجغرافية التقليدية، ومنها الكلام عن النيل وإثيوبيا، وتقسيم الدنيا إلى سبعة أقاليم، ويبدو على هذا التسبيع طابع البابليين الذين تحدثوا قديمًا عن الكواكب السبعة، والأيام السبعة، وجعلوا التسبيع سمة من سمات الخليقة الإلهية.
فبطليموس نشأ في الإسكندرية، واقتبس فيها ما توارثه المصريون من الأرصاد والتقاويم، وأخبار الرحلات، وقصص السياح على عهد الفراعنة عما طرقوه من البرور والبحور، وقد بلغ من شيوع هذه الرحلات بين الإغريق الأقدمين أنها تطرقت إلى الإلياذة والأوديسا من شعر هومر، كما تطرقت إلى شعر غيره من فحول الشعراء.
ولصلة لا شك فيها بين علم المصريين الأقدمين وعلم الإسكندريين راجت المدرسة الجغرافية في الإسكندرية رواجًا لم تبلغه في أرض الرومان ولا اليونان، فاشتهر فيها بولبيوس وبسدونيوس وثيوفان ومتلين، كما وفد إليها استرابون قبل بطليموس بنحو مائة سنة، وهذا عدا الفلكيين الذين كان لهم من البحث الجغرافي نصيب.
ويعزو بطليموس فضلًا كبيرًا إلى كتاب مارنيوس الصوري الذي دوَّن في كتابه خبرة الكنعانيين وخبرة المصريين، واعتمد عليه بطليموس كثيرًا من تقسيم خطوط العرض وخطوط الطول.
والواقع الذي تتفق عليه آراء المؤرخين أن أوروبا لم تطلع على جغرافية بطليموس قبل انتقالها إليها من طريق الثقافة العربية، وأنها وصلت إلى الأوروبيين مزيدة منقحة بما أضافه إليها الجغرافيون المسلمون، ولا سيما البيروني في رحلاته إلى آسيا الشرقية.
واخترع ابن يونس المصري في القرن التاسع للميلاد الرقاص، ثم توالى بعده من ضبط حركاته، وانتظام ذبذباته.
وليس أرجح من الأقوال التي ترجع بتاريخ الإبرة المغناطيسية إلى الملاحين العرب والمسلمين؛ لأن الأقوال التي ترجع بهم إلى مخترعات الصين يشوبها كثير من الشك، ومثلها الأقوال التي ترددها بين الرومان واليونان، ولم يكن باب الاقتباس مغلقًا بين الصين والعرب في فنون الملاحة؛ إذ كانت السفن تغدو وتروح زمنًا طويلًا قبل الإسلام بين الحيرة العربية وموانئ الصين. وقد أثبت العلامة جوستاف لوبون نسبة الإبرة إلى العرب في كتابه عن الحضارة العربية، وهو إثبات له قيمته في بابه، فإن أعوزته أدلة الجزم القاطع لم تعوزه أدلة الترجيح.
وقد اشتهر في المشرق الإسلامي جغرافيون مبرزون أضافوا إلى العلم أحسن التحقيقات من طريق الأرصاد الفلكية، ومشاهد الرحلات، وتمحيص الروايات، ولكن الأندلس هي التي جعلت صفوة هذه المعلومات، وأشاعتها في الأقطار الأوروبية التي تجاورها، وكان للشريف الإدريسي خاصة أعظم الفضل في جمعِ هذا العمل وتجديده، وإحياء العناية به بين ذوي الشأن في زمانه.
فلما أراد روجر الثاني، ملك صقلية النورماني في القرن الثاني عشر، أن يستوفي معلومات عصره الجغرافية لم يجد من يعتمد عليه في ذلك غير الشريف الإدريسي، الذي وُلِد في سبتة، ودرس في قرطبة، وتطايرت شهرته في بلاد الحضارة الإسلامية والمسيحية. فوضع كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وصنع له الملك كرة فضية — تمثل كرة الأرض — زنتها أربعمائة رطل رومي؛ ليتخذها مثالًا لما يثبته من معالم الكرة الأرضية.
ولا يُعرف أن أحدًا سبق الإدريسي إلى بيان الحقيقة عن منابع النيل العليا، كما حُفظت في الخرائط التي بقيت في بعض المتاحف الأوروبية، ومنها خريطة محفوظة بمتحف سان مرتين الفرنسي ترسم النيل آتيًا من بحيرات إلى جنوب خط الاستواء، بعد أن تخبط الجغرافيون في وصف منابعه وتعليل فيضانه منذ أيام هيرودوت الملقب بأبي التاريخ.
ولقد كانت آراء البيروني ومروياته في علمي الجغرافية والفلك شائعة بين الأوروبيين المهذبين، ومما نقله البيروني عن أهل الهند «أن على ترابيع خط الاستواء أربعة مواضع هي جمكوت الشرقي والروم الغربي، وكنك الذي هو القبة والمقاطر لها، فلزم من كلامهم أن العمارة في النصف الشمالي بأسره»، ثم قال: «وأما اليونان فقد انقطع العمران من جانبهم ببحر أوقيانوس، فلما لم يأتهم خبر إلا من جزائر فيه غير بعيدة عن الساحل، ولم يتجاوز المخبرون عن الشرق ما يقارب نصف الدور جعلوا العمارة في أحد الربعين الشماليين، لا أن ذلك موجب أمر طبيعي؛ فمزاج الهواء الواحد لا يتباين، ولكن أمثاله من المعارف موكول إلى الخبر من جانب الثقة، فكان الربع دون النصف هو ظاهر الأمر، والأولى أن يؤخذ به إلى أن يرد دليل لغيره …»
ومعنى هذا الكلام الواضح أن موجب العقل يقضي بوجود جانب مغمور في الجانب الغربي من الكرة الأرضية، ولكن لا يقطع بوجوده إلا بعد المشاهدة وتواتر الخبر من الثقات. وهذه هي الحقيقة التي اعتمد عليها كولمبس فاقتحم بحر الظلمات على رجاء تحقيق الفكرة المنطقية برؤية العيان.
ولو بقي الرأي الغالب على أهل أوروبا عن تسطيح الأرض كما كان قبل شيوع كتب الجغرافيين من العرب — مع إنكار الكنيسة للقول باستدارتها ودورانها — لكان من المتعذر جدًّا أن يسنح في ذهن كولمبس خاطر السفر إلى الغرب للوصول إلى الأقطار الآسيوية، ولكن العرب أشاعوا هذه الحقيقة في أهم الكتب الجغرافية التي ألَّفوها، فكتب ابن خرداذبة — المتوفى سنة ٨٨٥ للميلاد — «أن الأرض مدورة كتدويرة الكرة موضوعة في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة»، وقال ابن رستة — المتوفى سنة ٩٠٣: «إن الله جل وعز وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة أجوف دوارًا، والأرض مستديرة أيضًا كالكرة مصمتة في جوف الفلك»، وأتى بالبراهين على ذلك فقال: «والدليل على ذلك أن الشمس والقمر وسائر الكواكب لا يوجد طلوعها ولا غروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل يُرى طلوعُها على المواضع المشرقية قبل غيبوبتها عن المغربية، ويتبين ذلك من الأحداث التي تعرض في العلو؛ فإنه يرى وقت الحدث الواحد مختلفًا في نواحي الأرض، مثل كسوف القمر، فإنه إذا رُصد في بلدين متباعدين بين المشرق والمغرب، فوجد وقت كسوفه في البلد الشرقي منهما على ثلاث ساعات من الليل مثلًا، أقول: وجد ذلك الوقت في البلد الغربي على أقل من ثلاث ساعات بقدر المسافة بين البلدين … إلخ»، وقال المسعودي — المتوفى سنة ٩٥٦: «جعل الله عز وجل الفلك الأعلى وهو فلك الاستواء وما يشتمل عليه من طبائع التدوير، فأولها كرة الأرض يحيط بها فلك القمر، ويحيط بفلك القمر فلك عطارد إلخ.» وقال المسعودي في مروج الذهب: إن الشمس «إذا غابت في هذه الجزائر — أي جزائر الأقيانوس — كان طلوعها في أقصى الصين، وذلك نصف دائرة الأرض.»
وقد تولى العلماء غير الجغرافيين تقرير هذه الحقيقة بالأدلة الفلسفية، كما فعل ابن سينا في جوابه عن سؤال أبي حسين أحمد السهلي عن علة قيام الأرض في الفضاء وثبات الأجسام عليها؛ حيث قال: «… ينبغي حينئذ ضرورة أن تكون جميع الأجسام الثقال، حيوانًا كانت أو غير حيوان، تميل بطبعها وتنجذب من جميع الجوانب كلها إلى وسط العالم.» وألمَّ في ختام الرسالة بأقوال الأقدمين فقال: «ذهبت طوائف من القدماء إلى آراء أخرى غير ما سبق؛ فمن أصحاب فيثاغورث من قال: إن الأرض متحركة دائمة على الاستدارة، ومنهم من قال: إنها هابطة إلى أسفل، وغيرهم من ذهب إلى سكونها.»
فشيوع العلم باستدارة الأرض بفضل تداوله في الكتب العربية هو الخطوة الأولى التي تسبق كل خطوة في طريق كولمبس ومن صدق بدعوته من أبناء زمانه، ولولا هذه الخطوة لكان أهل أوروبا الشمالية أولى بكشف الدنيا الجديدة لأنهم أقرب إليها، ولهم دراية بالملاحة كدراية أبناء الشواطئ الجنوبية.
سبق العرب سائر الأمم إلى معرفة هذا التيار وخواصه، وإلى حركته من المكسيك إلى أرلندة، ومن هذه إلى تلك، فكانوا يركبونه من موطن إلى موطن بحيث كانوا يدهشون سكان جزر المانش؛ أي جزر القصدير وأهالي جزيرة أرلندة، فكانوا إذا ظَعنوا إلى أنحاء المكسيك مكث بعضهم فيها، وعاد القليلون منهم إلى بلادهم راكبين متن ذلك التيار المبارك مُسبِّحين ربهم، مُباركين مسلمهم. ونعرف أنهم كانوا يقيمون في الديار التي عُرفت بعد ذلك بالمكسيك من أسماء الحيوانات التي سمُّوها بها، وهي أسامٍ تُعرف بها إلى اليوم، لكن لا يفقه أهلها معانيها ولا علماء الغرب الذين اتخذوها …
إلا أننا مع هذا لا نوافق الأب أنستاس الكرملي على أن كولمبس كان مدينًا بالفضل في معرفة العالم الجديد لمراجع من القرن الخامس للمسيح، وذلك ما يؤخذ من مقال الأب حيث قال: «وأول من انتبه لهذا الأمر راهب اسمه برندان السائح البحار المولد … سنة ٤٨٣م، وهو من أصل شريف يرتقي إلى ملك أرلندة … ففي عام ٥٤٥م تهيأ لتحقيق ما يختلج في صدره من الأماني مع أربعة عشر راهبًا من مقتحمي الأهوال، فابتنوا مركبًا كبيرًا ليستكشفوا ما هنالك … وفي سنة ٥٥٢ نزل برندان ورفاقه على ساحة أميركة … ولا جرم أن كلنبس كان واقفًا أتم الوقوف على خبر رحلة برندان، فتمكن من أن يقنع الملك فردينند والملكة إيزابلة بأن يوافقا على هذه الرحلة للبحث عن العالم الجديد …»
فقصة برندان هذه من الأقاصيص التي يرتاب فيها الثقات، ولا يجدون لها أصلًا مكتوبًا قبل القرن الحادي عشر للمسيح، وهي التي يصح أن يُقال: إنها مقتبسة من المصادر العربية؛ لأنها تحكي لنا حكاية الحوت الكبير الذي نزل عليه المسافرون وظنوه جزيرة راسية، فتحرك بهم وأوشك أن يُغرقهم، وليس في القصة وصف للقارة الجديدة، بل وصفها كله خيال عن نعيم الأبرار الموعود في أرض الصالحين والقديسين.
وقد تواترت أقاصيص الجغرافيين العرب عند المغررين الذين طرحوا بأنفسهم في بحر الظلمات، فهلك منهم من هلك، وعاد منهم من عاد بأخبار تشبه الأساطير، ولا تبدو عليها مظنة الثقة والاعتماد. ومن ذلك إشارة المسعودي في مروج الذهب إلى أخبار «من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا».
ومنه وصف الإدريسي في «نزهة المشتاق» حيث يقول: «إنهم وصلوا — من لشبونة بعد اثني عشر يومًا — إلى بحر غليظ الموج، كدر الروائح، كثير القروش، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف، ثم فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب اثني عشر يومًا، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عدٌّ ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظرة إليها، فقصدوا الجزيرة فنزلوا بها، فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري، فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مُرَّة لا يقدر أحد على أكلها.»
إلى أن يقول: «فاعتقلوا فيها في بيت ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم، فوعدهم خيرًا وأعلمهم أنه ترجمان الملك … فلما علم الملك ذلك ضحك وقال للترجمان: خبر القوم أن أبي أمر قومًا من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهرًا إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تجدي.»
وهذه وما جرى مجراها أقاصيص ملفقة تحيط بها الشكوك، ولا سيما قول الرواة: إن المغررين وجدوا في الجزيرة «رجالًا شقرًا زعرًا، شعور رءوسهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب».
ولو وصل أولئك المغررون إلى القارة الجديدة لرأوا هناك ما رآه كولمبس، وعادوا بخبر أصح من هذه الأوصاف، وليس فيها جميعًا ما يزيدنا على الظن بأن روادًا من العرب حاولوا استطلاع بحر الظلمات؛ فلم يصلوا منه إلى نهاية، وهو ظن نستطيع أن نذهب إليه، بل نجزم به بغير حاجة إلى تلك الأقاصيص.
وأقوى من هذا التقدير دلالة على سبق العرب إلى ارتياد العالم الجديد، أن كولمبس عاد من أمريكا بذهب مخلوط بالنحاس على النحو الذي يخلط به أهل غانة الأفريقية، وبالنسبة التي يلاحظونها في هذا الخليط، وأن لغات الهنود الحمر تشتمل على كلمات أوروبية، وأقدم منها الكلمات العربية التي تتخللها مع بعض التصحيف والتحريف، ولكن قرينة الذهب أقوى وأقرب إلى الاحتمال، لأن تحقيق الزمن الذي تسربت فيه الكلمات المزعومة أمر عسير المراجع؛ إذ كانت الرحلات قد توالت بعد كشف أمريكا بين الشواطئ الأمريكية في أيام رواج النخاسة واختلاط النخاسين والعبيد بمن يتكلمون العربية في أفريقيا الغربية، وليس من السهل إثبات تواريخ الألفاظ في لغات كلغات الهنود الحمر لا تعتمد على الكتابة والتسجيل.
وأجدر بنا أن نقول كما قال البيروني: إن الأمر موكول إلى الخبر من جانب الثقة، فإن فضل العرب القائم على الحقائق في المعارف الجغرافية يغنيهم عن كل فضل قائم على الظنون.
وليس للجغرافية — بعد — من عماد تقوم عليه غير السياحة والاستقراء والأرصاد الفلكية، وفي كل أولئك فضل ثابت للعرب والمسلمين غير منسي ولا منكور.
فقد كانت السياحة فيما بين القرن العاشر والقرن السادس عشر فنًّا إسلاميًّا من فنون أهل المغرب على الخصوص، وهم قدوة الأوروبيين في هذه الشئون، ومن سياح المسلمين المشهورين أبو عبيد الله البكري، الذي وُلد في مرسية، وألف كتابي «معجم ما استعجم»، و«المسالك والممالك»؛ وتُوفي في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، ومنهم الشريف الإدريسي المتقدم ذكره، ومنهم محمد بن عبد الرحيم المازني الذي وُلد في غرناطة وألَّف «نخبة الأذهان في عجائب البلدان»، وتُوفي في القرن الثاني عشر، ومنهم ابن جبير الذي وُلِد في بلنسية قبل منتصف القرن الثاني عشر وكتب رحلته المتداولة بين قراء العربية، ومنهم ابن بطوطة صاحب «تحفة النظار في غرائب الأمصار»، أكبر الرحالين في القرن الرابع عشر على الإطلاق.
وهؤلاء غير الرحالين الشرقيين من أمثال: المسعودي، وابن حوقل، وياقوت الحموي، والبيروني، وعشرات آخرين لم يشتهروا هذه الشهرة، ولم يتركوا بعدهم من المطولات مثل ما ترك هؤلاء.
وقد كُشفت على شواطئ البحر البلطي وفي البلاد الأوروبية الشمالية أحافير شتى ترجع إلى القرون الوسطى، منها نقود إسلامية، وهي تدل على اتصال التجارة الشرقية بأطراف أوروبا في الشمال، وعلى دخول تلك الأقطار في نطاق الجغرافية الإسلامية بالمعاملة أو العيان.
وإذا كان وصول العرب إلى القارة الأمريكية قبل كولمبس مقطوع به على سبيل التحقيق، فمن المحقق أنهم وصلوا في المحيط الأطلسي إلى أمد بعيد، وانتهوا إلى جزيرة الآزور، وكشفوا سواحله إلى أقصى الجنوب.
أما المعارف الجغرافية من طريق الأرصاد الفلكية، فمن مآثر العرب فيها أنهم قاسوا محيط الكرة الأرضية في عهد المأمون، ثم قاسوه على طريقة البيروني بتقدير ارتفاع الجبال بالدقائق والدرجات؛ وأنهم صححوا خطوط الطول والعرض، وحققوا الاعتدال الشمسي، وضبطوا التقاويم، وأحكموا الأزياج، قال جوستاف لوبون في كتابه عن حضارة العرب: إن التقويم السنوي الذي أصلح في عهد السلطان ملك شاه أصح من التقويم الغريغوري الذي أتمه الأوروبيون بعد ستمائة سنة؛ لأن التقويم الغريغوري يقع فيه خطأ ثلاثة أيام في كل عشرة آلاف سنة، ولا يقع بحساب التقويم العربي غير خطأ يومين، وأنهم عرفوا مقياس خط النهار قبل الأوروبيين بألف سنة، وأنهم كشفوا الاختلاف الثالث في سير القمر الذي أغلقه بطليموس، وأنهم هم الذين عينوا الأماكن على الخرائط، واستدركوا كثيرًا من الأخطاء التي وقع فيها الإغريق في درجات العرض والطول، ومنها أخطاء بطليموس الكبير، وكانت أخطاؤهم لا تتجاوز الدقائق حيث تتجاوزها أخطاء الإغريق إلى الدرجات.
•••
وليس بالشرقيين غلو في القول إذا ارتفعوا ببعض الرياضيين الإسلاميين إلى الذروة العليا في علم الرياضة جمعاء؛ فإن الأستاذ كارل ساخاو، الذي كان أستاذًا للغات السامية في جامعة فيينا، يقول عن البيروني: إنه أعظم العقول التي ظهرت في العالم.
والأستاذ لالاند الفلكي الفرنسي المشهور في القرن الثامن عشر يقول عن البتاني: إنه واحد من عشرين رياضيًّا ظهروا في العالم القديم والعالم الحديث.
وقد كان إقليدس — الذي يُنسب إلى صور — يتلقى العلم على تلاميذ أفلاطون في أثينا، ويسمع منهم أمثال هذا الكلام عن شغف الحكماء المصريين بالدراسات الرياضية، وسعة المجال الذي يدرسون فيه الرياضيات على الإجمال، فلا جرم يرحل بعد ذلك إلى الإسكندرية، وينبغ بعد ذلك في هندسته نبوغًا لم يُسجَّل لأحد من الأثينيين الذين اقتصروا على معارف بلادهم في هذا الباب، ولم يرحلوا عنها إلى مصر أو بين النهرين.
وهيرودوت هو الذي روى لنا قصة إنباء طاليس بالكسوف قبل وقوعه، وهو الذي روى كذلك أن الإغريق أخذوا آلة قياس الانتقال الشمسي والاعتدالين بالظلام من البابليين، وتواترت الأقوال في كتب التاريخ الرياضي بأن البابليين قد رصدوا الكسوف، وحسبوا له دورة تتم بعد مائتين وثلاث وعشرين دورة قمرية؛ أي في ثماني عشرة سنة وأحد عشر يومًا، وطبقوا ذلك الحساب من أزمنة مجهولة قبل كل رصد منسوب إلى الإغريق.
فليس مما يليق بالعالم أن ينكر الحقيقة تعصبًا لجنس من الأجناس؛ لأن العلم الصحيح وحب الحقيقة لا يفترقان. ومهما يكن من غلو الغالين في تقويم حصة الإغريق من التراث الرياضي، فالحقيقة التي لا تقبل النزاع أنهم أخذوا من الشرق قبل أن يأخذ منهم الشرق، وأن أبناء هذا الشرق هم الذين أعطوا الأوروبيين وديعة تلك الحصة كبرت أو صغرت، وزادوا عليها ما زادوه بالتنقيح والابتكار.