الطريق
١
اغرورقت عيناه. رغم ضبطه لمشاعره وكراهيته أن يبكي أمام هؤلاء الرجال اغرورقت عيناه. وببصرٍ مائع نظر إلى الجثمان وهو يُحمَل من النعش إلى فوهة القبر، بدا في كفنه نحيلًا كأن لا وزن له، شدَّ ما هزلتِ يا أماه! وتوارت عن ناظرَيه تمامًا فلم يعد يرى إلا ظلمة. وسطعته رائحة التراب، ومن حوله احتشد الرجال؛ ففاحت أنفاسٌ كريهة وعرق، وفي الحوش خارج الحجرة ارتفع لغط النساء، وانفعل برائحة التراب حتى عافت نفسه كل شيء. وهمَّ بالانحناء فوق القبر، ولكن يدًا شدَّت على ذراعه وصوتًا قال: تذكَّر ربك.
تقزز من ملمسه ولعنه من الأعماق. هذا خنزير كسائر من حوله من الخنازير. ولكن لحظة الوداع استردته بوخزة كالندم، وقال إن معاشرة ربع قرن من الزمان لا تعني في هذه اللحظة شيئًا، ولا تساوي شيئًا. وتردد من بعيد صوت كالعواء، ثم دخل الحجرة طابور من العميان فطوَّقوا القبر في نصف دائرة ثم جلسوا القرفصاء. وشعر بأعينٍ كثيرة تُحدِّق فيه أو تسترق إليه النظرات، إنه يعرف ما تعنيه هذه النظرات. وشدَّ قامته الفارعة الرشيقة في عناد. يقولون لِمَ يقف هكذا غريبًا في منظره وملبسه كأنه ليس واحدًا منا؟ لِمَ نحَّته أمه عن بيئته ثم تركته وحيدًا؟ إنهم لا يُعزُّونك ولكنهم يدارون شماتتهم بك. ومذاق الحياة أمسى كالتراب. وبرز من الفوهة التُّرَبي ومساعده فوقفا فوق سطح الأرض مرةً أخرى، وأقبلا يسدَّان القبر، ثم يسوِّيان الأرض في نشاط وحيوية. ونادى السقَّاء على الماء. ورتل العميان. ثم ردَّد رئيسهم التلقين. وتساءل عما ستجيب به أمه! وقال إنها ستكون وحيدة حقًّا. وماذا يقول في ذلك الخنازير؟ ها هو الخشوع يغشى جباههم كسحابة صيف. وأدركه الضجر؛ فتاق إلى الوحدة في بيته، وألحَّت عليه رغبة في أن يعيد النظر في كل شيء. ستحدق الأسئلة المحرجة بأمه في ظلام القبر. ولن يساعدها أحد من هؤلاء الشياطين، ولكن يومكم سيجيء. وانخفضت الأصوات في نغمةٍ حزينةٍ موحية بالختام، ووقف الطابور في حال انتظار وتقدم التُّرَبي منه خطوات. عند ذاك قال الواقف إلى يمينه: دعه لي فلا تحاسبه، إني أدرى بهؤلاء الناس.
وثار حنقه من جديد، ولكنه أدرك أن الطقوس قد انتهت، وتضاعف شعوره بالوحدة. وألقى على المقبرة نظرةً شاملة فارتاح لأناقتها، وتراءى له بين قضبان النافذة اللبلاب والصبار والريحان التي تزركش جدار الفناء والأركان. كانت — رحمها الله — تحب الرفاهية فأعدَّتها للدارين، ولكن لم يبقَ لها إلا المقبرة. وتحرَّك الناس في بطءٍ نحو الحوش، فمضى إلى الباب الخارجي ليودِّع المشيعين. وصافحته النساء أولًا، ورغم ثياب الحِداد والبكاء واللطم لم تختفِ من أعينهن نظرات الفجور، ولا زايلت وجوهَهن القحة وفلتات التهتك. وتتابع الرجال، شد حيلك وسعيكم مشكور، من تاجر مخدرات إلى بلطجي، ومن برمجي إلى قواد. وأتبعهم نظرةً باردة وهو لا يشك في أنهم يبادلونه نفس العاطفة. ومع ذلك لم ينسَ أنه مَدِين لهم، وهو ما يؤكد سخطه دوامًا. وقال إنه قد انتهى منهم إلى الأبد ولكنه بلا نصير. وفي طريقه إلى مسكنه بشارع النبي دانيال لفحه هواء منعشٌ معبقٌ بأنفاس الخريف، وبدت السماء غامضة في مولد المغيب. مسكن النبي دانيال الذي شهد فترةً بهيجةً ناعمة من حياته، ولا أثر للراحلة في مسكنه إلا صوانٌ كبير ونارجيلةٌ مهملة تحت فراشها المهجور. وجلس في شرفة تطلُّ على ملتقى النبي دانيال بسعد زغلول، يدخن سيجارة، فجذب بصره استعدادٌ قائم في شقة على الجانب الآخر للطريق تسكنها أسرةٌ إفرنجية، فثمة بوفيه رُصَّت عليه القوارير وأوعية الثلج، وفي نهاية البهو تعانق رجل وامرأة بحرارة لا تناسب الوقت المبكر. وقال إنه ابتداءً من اليوم سيعرف الحياة على حقيقتها. إنه وحيد بلا مال ولا عمل ولا أهل، ولم يبقَ له إلا أملٌ غريب كالحلم. إنه مطالب منذ اليوم بتأمين حياته، وهي مسئولية لم يتحملها من قبلُ؛ إذ نهضت بها أمه وحدها، ففرغ هو طوال الوقت لإمتاع شبابه اليافع. وأمس فقط لم يكن يفكر في الموت بحال. في مثل هذه الساعة أو قبل ذلك بقليل جاء الحنطور بأمه فغادرته معتمدة على ذراعه، وسارت في خطواتٍ متثاقلةٍ متخاذلة من الإعياء والضعف، وقد وهنت، وهزلت، وكبرت ثلاثين عامًا فوق عمرها الحقيقي الذي لم يجاوز الخمسين. هكذا تبدَّت بسيمة عمران في آخر صورة لها، وهي راجعة إلى بيت ابنها، أو البيت الذي أعدَّته لابنها، بعد أن قضت في السجن خمس سنوات. وتأوَّهت قائلة: أمك انتهت يا صابر.
فحملها بين ذراعَيه دون مشقة وهو يقول: كلامٌ فارغ، ما زلتِ في عزِّ الشباب.
واستلقت على فراشها قبل أن تنزع قطعة من ملابسها، ثم أمالت وجهها نحو مرآة الصوان وقالت بحسرة وهي تنهج: أمك انتهت يا صابر، من يصدق أن هذا الوجه هو وجه بسيمة عمران!
أجل. في استدارة البدر كان. ووجنة موردة كالتفاح. وأما الجسد الجسيم الهائل فلم يكن ليهتز هزةً واحدة عند القهقهة، وقهقهتها كانت تهتزُّ لها المجالس.
– لعنة الله على المرض.
فقالت وهي تجفف وجهها بكُمِّها رغم لطافة الجو: ليس المرض ولكنه السجن، والمرض جاء من السجن، أمك لم تُخْلَق لذلك، وقالوا الكبد والضغط والقلب، الله يمرض عيشتهم، ترى ألا يمكن أن أرجع إلى ما كنت؟
– وأحسن، عندك الراحة والطب.
– والمال؟
وامتعض عند ذلك فلم ينبس، فسألته: ماذا تبقى لك منه؟
لم يخلُ من حذر وهو يجيب: شيء لا يُذكر.
– كنتُ حكيمة عندما كتبتُ بيت رأس التين باسمك، وإلا صادروه فيما صادروا من مالي.
– ولكني بعته عندما نفدت نقودي كما قلتُ لك وقتها.
فتأوَّهت وهي تضع راحتها على يافوخها: آه يا رأسي، ليتك أبقيتَ عليه، كان في يدك مالٌ كثير، ولكنني أنا التي عوَّدتك على الحياة الحلوة، أردتُ أن تعيش مثل الأكابر، وأردت أن أترك لك ثروة لا يغرقها البحر، ثم …
– ثم ضاع كل شيء في خبطةٍ واحدة.
– نعم، منهم لله، انتقامٌ وضيع من رجلٍ وضيع. رجل طالما تنعَّم بنقودي، ثم حقد عليَّ بسبب بنت لا تساوي ثلاثة ملاليم، فتذكَّر فجأة الواجب والقانون والأعراض وأوقع بي ابن الزانية؛ لذلك بصقتُ على وجهه في المحكمة.
وطلبتْ سيجارة بإشارة من يدها؛ فأشعل لها سيجارة وهو يقول: الأفضل ألا تدخني الآن، هل كنتِ تدخنين هناك؟
– سجائر وحشيش وأفيون، ولكني كنت قلقة عليك دائمًا.
ودخنت رغم تهافتها، وجففت وجهها وعنقها بيدها الأخرى: وماذا عن مستقبلك يا بني؟
– كيف لي أن أدري؟ ليس أمامي إلا أن أعمل برمجيًّا، أو بلطجيًّا، أو قوادًا!
– أنت!
– حق أنكِ علمتِني حياةً أجمل، ولكني أخشى ألا يكون ذلك في صالحي.
– أنت لم تخلق للسجون!
– وماذا في الدنيا غير هذه الأعمال؟
ثم مستدركًا في حدة: كم شمت بي الأعداء في غيابك!
– صابر .. تجنب الغضب؛ إنه الغضب الذي أدخلني السجن، فما كان أسهل عليَّ أن أُرضي الوغد الذي غدر بي.
– في كل مكان أصادف من يستحق السحق.
– دعهم يقولون ما يشاءون ولكن لا تستعمل قبضتك.
فكوَّر قبضته قائلًا: لولا هذه القبضة لعرَّضوا بي في كل مكان، إن أحدًا لم يجرؤ على ذكركِ بسوء أمامي حتى وأنت في السجن!
فنفخت الدخان في غضب، وقالت: أمك أشرف من أمهاتهم، إني أعني ما أقول، ألا يعلمون أنه لولا أمهاتهم لبارت تجارتي!
ابتسم صابر رغم الكآبة الشاملة، فعادت تقول: إنهم مهرة في خداع الناس بمظاهرهم، الوجيه فلان .. المدير فلان .. الخواجا علان .. سيارات وملابس وسيجار .. كلماتٌ حلوة .. روائحُ زكيَّة .. لكنني أعرفهم على حقيقتهم، أعرفهم في حجرات النوم وهم مجرَّدون من كل شيء إلا العيوب والفضائح، وعندي حكايات ونوادر لا تنفد، الأطفال الخبثاء القذرون الأشقياء، وقبل المحاكمة اتصل بي كثيرون منهم ورجوني بإلحاح ألا أذكر اسم أحد منهم ووعدوني بالبراءة، مثل هؤلاء لا يجوز أن يُعيِّروك بأمك، فأمك أشرف من أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم، وصدقني إنه لولا هؤلاء لبارت تجارتي.
عاوده الابتسام، فتأوَّهت قائلة: أين أيام الضحك أين؟ أمك أحبتك بكل قواها، ولك أعددت هذا المسكن الجميل بعيدًا عن جوِّي كله، وأرسلت مالي يجري تحت قدمَيك، فإذا جاءتك مني إساءة لا حيلة لي فيها فلا ذنب لي، وليس في الرجال من له نصف جمالك ورشاقتك، غير أنه يجب أن تتجنب الغضب وأن تتَّعظ بما جرى لي.
رنا إلى تعاستها بحزن، ثم تمتم: سيعود كل شيء إلى أصله.
– أصله؟! أنا انتهيت، بسيمة أيام زمان لن تعود، ولا سبيل إلى العمل من جديد، لا الصحة تسمح بذلك ولا البوليس!
ونظر إلى الأرض قائلًا: لم يبقَ من ثمن البيت إلا القليل!
– وما العمل؟ يجب أن تعيش كما عوَّدتُك.
– لكني لم أعرفكِ يائسة أبدًا.
– إلا هذه المرة!
– إذن عليَّ أن أعمل أو أن أقتل!
أطفأت السيجارة ثم أغمضت عينَيها إعياءً أو طلبًا للتركيز، فقال صابر: لا بدَّ من مخرج!
– نعم طالما فكرت في ذلك وأنا في السجن!
ولأول مرة في حياته تزعزعت ثقته في أمه. واستطردت المرأة: أجل فكرتُ طويلًا، ثم أقنعت نفسي بأنه لا يصح أن أصر على الاحتفاظ بك ما دام ذلك في غير مصلحتك.
حدجها بنظرةٍ متسائلة من عينَيه السوداوَين فتمتمت بنبرة اعتراف منهزمة: أنت لا تفهم شيئًا ولك حق، الواقع أن الحكومة صادرتك ساعة صادرت أموالي، لم يعد لي الحق في امتلاكك أنت أيضًا. أدركت ذلك يوم صدور الحكم.
وصمتتْ من شدة معاناة اليأس، ثم واصلتْ: معنى هذا أنه يجب أن تهجرني.
تساءل بامتعاض: إلى أين؟
أجابت بصوتٍ لا يكاد يُسمع: إلى أبيكَ!
رفع حاجبَيه المقرونَين في ذهول هاتفًا: أبي؟!
فهزَّت رأسها علامة الإيجاب، فقال: لكنه ميت، أنتِ قلتِ إنه مات قبل مولدي.
– قلت ذلك ولكنه ليس من الحقيقة في شيء!
– أبي حي! شيءٌ مذهل حقًّا، أبي حي!
وجعلت ترمقه بنظرة استياء، ومضى هو يقول: أبي حي! لكن لم أخفيتِ عني ذلك؟
– آه، جاء دور الحساب!
– أبدًا، ولكن ألا يحق لي أن أسأل؟
– أي أب في الدنيا كان يمكن أن يهيئ لك من أسباب السعادة بعض ما هيأتُ لك؟
– لا أنكر شيئًا من هذا أبدًا.
– إذن فلا تحاسبني واستعدَّ للبحث عنه!
– البحث؟!
– نعم، إني أتحدث عن رجل كنت امرأة له منذ ثلاثين عامًا، ثم لم أعد أدري عنه شيئًا.
قطَّب في حيرة وتهاوى جذعه الذي أطلقه الانفعال: أمي ما معنى هذا كله؟
– معناه أني أوجهك إلى المخرج الوحيد من ورطتك.
– لعله قد مات!
– ولعله حي!
– وهل أضيع عمري في البحث عن شيء قبل التأكد من وجوده؟
– ولكنك لن تتأكد من وجوده إلا بالبحث، وهو خير على أي حال من بقائك بلا مال، ولا عمل، ولا أمل.
– موقفٌ غريب لن أُحسد عليه.
– بديله الوحيد أن تعمل برمجيًّا، أو بلطجيًّا، أو قوادًا، أو قاتلًا، فلا بد مما ليس منه بد!
– وكيف يمكن أن أعثر عليه؟
تنهدت من الأعماق وهي تزداد تعاسة بالعودة إلى الماضي: أما اسمه فهو المسجل في شهادة ميلادك؛ سيد سيد الرحيمي، وقد أحبني منذ ثلاثين عامًا وكان ذلك في القاهرة.
– القاهرة! ليس أيضًا في الإسكندرية!
– إني أعلم أن مشكلتك الحقيقية ستكون في العثور عليه.
– لِمَ لَمْ يبحث عني هو؟
– إنه لم يعلم بك.
قطَّب صابر، واستقرت في عينَيه نظرة احتجاج مكفهرة، فقالت: انتظر، لا تنظر إليَّ هكذا، واسمع بقية الحديث عنه، إنه سيد ووجيه بكل معنى الكلمة، لا حدَّ لثروته ولا نفوذه، لم يكن في ذلك الوقت إلا طالبًا بالجامعة، ومع ذلك كانت الدنيا تهتزُّ لدى محضره.
تابعها بنظرة تجلَّى فيها الاهتمام المشوب بالفتور، فقالت: أحبني، وكنت بنتًا جميلةً ضائعة، وحفظني سرًّا في قفص من ذهب.
– تزوجكِ؟
– نعم، وما زلت أحتفظ بشهادة الزواج.
– ثم طلقك؟
تنهدت قائلة: بل هربتُ.
– هربتِ؟
– هربتُ بعد معاشرة أعوام وأنا حبلى، هربتُ مع رجل من أعماق الطين!
بذهول وهو يهز رأسه: شيء لا يُصدَّق!
– وبعد قليل ستتهمني بأنني المسئولة عن ورطتك!
– لن أتهمك بشيء؛ فحسبنا ما بنا، ولكن ألم يبحث عنك؟
– لا أدري، هربتُ إلى الإسكندرية، ثم لم أسمع عنه شيئًا، وكثيرًا ما توقعتُ أن ألقاه يومًا في أحد بيوتي، ولكن عيني لم تقع عليه.
ضحك في فتور، ثم قال: وبعد ثلاثين عامًا تدفعينني للبحث عنه!
– اليأس يدفعنا إلى ما هو أغرب من ذلك، وستكون معك شهادة الزواج، وستكون معك أيضًا صورة الزفاف، وسوف ترى بعينَيك أنك صورة منه.
– عجيب أن تحتفظي بالشهادة والصورة!
– كنت أفكر في مستقبلكَ، وكنت فتاةً فقيرة تعيش في كنف بلطجي، ولما أتاني صدقت نيَّتي على الاستئثار بك.
– ومع ذلك لم تتخلَّصي من بقايا الذكريات.
جففتْ وجهها وعنقها بحركةٍ حادة بعض الشيء، وقالت: هممتُ بذلك مرات ثم عدلتُ، كأن ركنًا فيَّ كان يتنبأ بما سيقع.
راح يذرع الحجرة في حيرة، ثم وقف أمام السرير وهو يسأل: وإذا بعد الجهد والتعب أنكرني؟
– من يرى بهاء صورتك وينكرك؟!
عاد إلى الجلوس وهو يقول: القاهرة مدينةٌ كبيرة وأنا لم أزرها من قبلُ.
– من قال إنه اليوم في القاهرة؟ لِمَ لا يكون في الإسكندرية، أو في أسيوط، أو دمنهور؟ الحق أنه لم يطلعني على حال من أحواله، أين هو اليوم؟ ماذا يعمل؟ أهو أعزب أم متزوج؟ الله وحده يعلم.
فلوَّح بيده كالغاضب، وقال: وكيف يراد مني العثور عليه؟
– ليس ذلك يسيرًا بطبيعة الحال، ولكنه ليس بالمحال، وأنت لك معارف من ضباط البوليس والمحامين، وليس من شخصيةٍ كبيرة إلا ولها في القاهرة مقام.
– أخشى أن ينفد مالي قبل العثور عليه.
– لذلك يجب ألَّا تتوانى عن البحث.
وتفكَّر قليلًا، ثم سأل: وهل هو يستحق يا ترى كل هذا التعب؟
– بلا أدنى شك يا بني، ستجد في كنفه الاحترام والكرامة، وسيحررك من ذل الحاجة إلى أي مخلوق بما سيهيئ لك من عمل غير البلطجة أو الجريمة، فتظفر آخر الأمر بالسلام.
– وإن وجدتُه فقيرًا! ألم تكوني أنت غنية لا يحيط بثروتك حصر؟
– أؤكد لك أن المال ليس إلا حسنة من حسناته، وقد كنت غنية حقًّا، ولكني لم أهيئ لك كرامة، ولا عملًا، ولا سلامًا، وكنت تسير ملوحًا بلكمتك لتُخرس الألسنة المتوثبة للنيل منك ومن أمك.
عاد إلى التفكير فخُيِّل إليه أنه يحلم، ثم سألها: هل تؤمنين حقًّا بأنني سأعثر عليه؟
– شيء يحدثني بأنه حي، وأنك إذا لم تيئس أو تتوانَ فسوف تعثر عليه.
هزَّ رأسه وهو بين الحيرة واليأس، وتمتم: هل حقًّا أمضي للبحث عنه؟ وإذا علم أعدائي بهذه الحكاية أفلن يجعلوا مني نادرةً جنونية؟
– وماذا يقولون إذا وجدوك آخر الأمر قوادًا؟ الحق أنه لا خيرة لك فيما أنت ذاهب إليه.
أغمضت عينَيها بعد ذلك وغمغمت: «إني تعبة جدًّا!» فرجاها أن تنام، على أن يستأنفا الحديث غدًا. وخلع حذاءها ثم غطَّاها، ولكنها أزاحت الغطاء عن صدرها بحركةٍ عصبية فلم يعده، وما لبث شخيرها أن تردد. واستيقظ حوالي التاسعة من صباح اليوم التالي بعد ليلة سهاد ممزقة بالفكر، وذهب إلى حجرتها ليوقظها فوجدها ميتة. ترى هل ماتت وهي نائمة، أو أنها نادته آخر الليل فلم يسمع؟ على أي حالٍ وجدها ميتة وهي لم تزل بالملابس التي غادرت بها السجن. وها هو الآن يتفحص بعناية ودهشة صورة الزفاف. الصورة التي جمعت بين والدَيه منذ ثلاثين عامًا. وها هو يركز بصره على صورة أبيه، على وجهه بالأخص. شابٌّ جميلٌ حقًّا، مفعم بالشباب والحيوية، ونظرته تفيض بالاعتداد بالنفس، ووجهه المائل للبياض، المستطيل الممتلئ، ذو الجبهة العالية، والطربوش المائل إلى اليمين، لا يمكن أن يُنسى. ولم تكذب أمه حين قالت إنه صورة منه، ولكنه كما يكون القمر على الورق، صورة من القمر في كبد السماء.
وفي شقة الجيران أخذ المدعوون يتوافدون وأنغام الموسيقى تترامى، هذا وصوت القرآن يُتلى في غرفة المرحومة. والآن أين هي الحقيقة؟ وأين هو الحلم؟ أمك التي ما تزال نبرتها تتردد في أذنك قد ماتت، وأبوك الميت يُبعث في الحياة. وأنت المفلس المطارد بماضٍ ملوَّث بالدعارة والجريمة تتطلع بمعجزة إلى الكرامة والحرية والسلام.
٢
ليبقَ الأمر سرًّا، وإذا خاب مسعاه فليستعن بمعارفه. وليبدأ بالإسكندرية؛ فهذا طبيعيٌّ جدًّا، وإن يكن من المستبعد أن يقيم بها شخص كأبيه ولا تدري به أمه. واتخذ من دليل التليفون دليله. حرف السين، سيد، سيد، سيد، حتى استقرت عيناه على: سيد سيد الرحيمي. آه لو يُدلِّـله الحظ، ويعفيه من متاعب لا يدري مداها أحد. سيد سيد الرحيمي صاحب مكتبة المنشية. أين هذا من جاه أبيه؟ والمنشية كانت معبرًا لأمه طيلة ربع قرن من الزمان، ولكن لعله يجد في الاسم مفتاحًا لِلُغْزه. ووجد صاحب المكتبة في الخمسين من عمره، وذا سحنة لا تمت بسبب إلى صورة أبيه. وأخبره أنه يبحث عن سميٍّ له، وأطلعه على صورته مُخْفِيًا صورة أمه بكفه، وقال الرجل: لا أعرف صاحب هذه الصورة.
ولما أوضح له أنها صورة التقطت منذ ثلاثين عامًا، قال: ولا أذكر أني رأيته.
– ألا يمكن أن يكون قريبًا من بعيد؟
– نحن في الأصل من الإسكندرية، وجميع أهلي يقيمون هنا عدا بعض أقارب في الريف من ناحية الأم، ولكن ما سبب بحثك عنه؟
وارتبك لحظة ولكن سرعان ما أجاب: إنه صديقٌ قديم للمرحوم أبي، أليس للرحيمي فروع في بلاد أخرى؟
وتفحصه بنظرة لم تخلُ من ريبة، وقال: الرحيمي هو جدي، ولا ينتسب إليه في أسرتنا إلَّا أنا وأختي، وليس لنا فروع من ناحيته خارج الإسكندرية.
ولا سبيل إلى الصبر أو الطمأنينة لمن لم يعد يملك سوى مائتين من الجنيهات. وهي تتناقص بمرور الساعات، ولا أمل بعدها في حياةٍ كريمة. ومرضت عيناه من التفحص المركَّز للوجوه، وأعياه القلق. ولجأ إلى محامٍ من معارفه يشاوره، فقال له: لعل له رقم تليفون سري.
وتطوع لمعاونته في الكشف عنه دون نتيجة، ثم قال له: اسأل مشايخ الحارات.
فقال صابر بإنكارٍ: إنه وجيه بكل معنى الكلمة.
– إن ثلاثين عامًا خليقة بأن تفعل الأعاجيب، بل في نيتي أن أكلف صديقًا من ضباط البوليس ليتحرَّى لك عنه في السجون.
– السجون؟
– لم لا؟ السجن كالجامع مفتوح للجميع، وأحيانًا يدخله إنسان لنبل في أخلاقه لا لاعوجاج.
وضحك المحامي ضحكةً مقتضبة، ثم قال: ولكن لنبدأ بالشهر العقاري فلعله من الأعيان المتخفِّين.
ولم يكن في كشف السجون اسمه، ولا في سجلات الملاك، فلم يجد مفرًّا من اللجوء إلى مشايخ الحارات. واستبعد إلى حين اقتراحًا للمحامي بالإعلان في الصحف؛ إذ إن ذلك يذيع مشكلته العجيبة على الملأ، ويُمَكِّن أعداءه الكثيرين في الإسكندرية من العبث به، فأجَّل تنفيذ الفكرة إلى ما بعد مغادرة المدينة. ودار على مشايخ الحارات من العطارين إلى كرموس، ومن رأس التين إلى محرم بك. وكلما ذكر اسم سيد سيد الرحيمي سُئل: ما عمله؟
– لا أدري عنه شيئًا إلا أنه من الوجهاء وهذه صورته منذ ثلاثين عامًا.
– ولِمَ تبحث عنه؟
– إنه صديقٌ قديم لأبي وقد كلفتُ بالبحث عنه.
وتحدق فيه الأعين باستغراب: وهل أنت متأكد من أنه حيٌّ؟
– لست متأكدًا من شيء.
– وكيف عرفت أنه في الإسكندرية؟
– مجرد أمل ليس إلَّا.
ثم يجيئه الجواب النهائي كجدار السجن: غير معروف لدينا.
ولم ترتح عيناه لحظةً واحدة من الْتهام الوجوه. ولم يشعر في دوامة الاستطلاع بخطى الخريف حتى أيقظه مطرٌ مباغتٌ عند لسان الكورنيش الموغل في البحر فانسحب مسرعًا إلى الميرمار، ورفع عينَيه إلى سماءٍ أظلَّت جو الظهيرة بقطع من الليل. وسمع صوتًا يقول مرحبًا: تعال.
صافحها وجلس.
– لم أتمكن من تعزيتك ولكني انتظرت أن تزور «الكنار».
– ألست في حداد؟
– الكنار مكان مناسب للمحزونين، والجميع يتساءلون أين أنت؟
وتوقف المطر فوقف من فوره معتذرًا بمشاغل؛ فقامت بدورها هامسة: خبرني هل أنت في ضائقةٍ مالية؟
آه هل بدءوا يتقوَّلون؟ وقالت بإغراء: مثلك لن يعزَّ عليه المال إذا أراده.
فصافحها مرةً أخرى ببرود ثم ذهب. مثلك لن يعز عليه المال! أجل فأذعن لنداء القوادة. ذلك ما يتمناه أعداؤك ولكن دونه الموت. وتساءل: ماذا بقي في الإسكندرية؟
وبسط راحتَيه أمام قارئ الكف ولكنه لم يقل جديدًا. وزار العارف بالله سيدي الشيخ زندي بعطفة الفراشة. تربع بين يديه في حجرةٍ تحتانيةٍ مغلقة الشيش دوامًا فهي تعيش في مغيبٍ متصل، وتتلوى في جوها سحائب البخور. وشمَّ الشيخ منديله، ثم أحنى رأسه مستغرقًا، ثم قال: من جَدَّ وصل.
وترامى إليه هدير الموج من الأنفوشي، فقال بأمل: «بداية حسنة.» وقال الشيخ: وتعب كليالي الشتاء.
اليوم بسنة وكم هي باهظة التكاليف.
– وستنال مطلوبك.
وفي جزع سأله: ما مطلوبي؟
– إنه ينتظرك بفارغ الصبر.
– هل يدري بي؟
– إنه ينتظرك.
لعل أمه لم تقل له كل شيء.
– إذن هو حيٌّ.
– الحمد لله.
– وأين أجده؟ فهذا ما يعنيني حقًّا!
– الصبر.
– لا يمكن الصبر إلى ما لا نهاية.
– أنت في البدء.
– في الإسكندرية؟
أغمض الرجل جفنَيه، ثم تمتم: أبشرك بالصبر.
وقطَّب مغتاظًا، ثم قال: لم تقل شيئًا.
فقال الشيخ محولًا عنه رأسه: قلت كل شيء.
وخرج إلى جوٍّ عاصف تركض فيه السُّحب مثقلة بالظلمات. وقال: دجَّالون وعاهرات، والنقود تبعثر بلا حساب. وعزم على بيع أثاث شقته تمهيدًا للسفر إلى القاهرة.
وكان قد باع التحف الرشيقة في محنته ليواجه بثمنها نفقات معيشته الخيالية. وكره دعوة السماسرة إلى شقته، فقصد المعلمة نبوية صديقة أمه الحميمة، والشخصية الوحيدة التي لم يكرهها في ذلك الوسط. وقالت وهي تقدم له خرطوم النارجيلة: سأشتري أثاثك على العين والرأس، ولكن لماذا تهجر بلدك؟
– سأشقُّ لي طريقًا في القاهرة بعيدًا عن الخلق.
– الله يرحم أمك، أحبتك ودلَّلتك فسدَّت في وجهك سبل الرزق.
وأدرك ما تعنيه فقال: لم أعد أصلح لهذه المهن.
– وماذا تفعل في القاهرة؟
– صديق هناك وعدني خيرًا.
قالت باسمة عن ثغرٍ ذهبي: أعمالنا لا تُشين إلا المغرورين، طاوعني.
فبصق في موقد كبير ينفث بخور الهند.
وتعلَّق بصره بالإسكندرية والقطار يرجُّ الأرض مبتعدًا. رآها مدينة من الأطياف مغروسة في حلم الخريف تحت مظلةٍ هائلة من السحب، وهواءٌ بارد معبق بمطلع نوفمبر يجوب شوارعها الأنيقة شبه الخالية. وودعها هي وأمه، وذكريات ربع قرن من الزمان بزفرةٍ طويلةٍ ساخنة. وكيف يكون الحال لو أن من تبحث عنه قد خلَّفته وأنت لا تدري في ركن من الإسكندرية لم يبلغه مسعاك؟ ومن ضمن لك أن يكون حظك في القاهرة خيرًا منه في الإسكندرية؟ وكم في البحر من أمواج! وكم في السماء من نجوم! وعجيب أن يكون بعيدًا هذا البعد كله من تحمل روحه وجسده بين جنبَيك. وما أبعدك عنه إلا شهوةٌ عمياء انتزعتك من أحضانه لتَلِدَك في ماخور. وكان يسألها عن أبيه فتجيبه: «كان موظفًا محترمًا، ورجلًا طيبًا، ولكنه مات في ريعان الشباب.» وأهله أليس له أهل؟ فتجيبه: «لا أعرف له أهلًا.» لذلك ظن طويلًا أنه ابن رجل من البلطجية، وأنه ابن زنا. وأنت اليوم وحيد بلا أهل ولا أصدقاء كأنك من جنسٍ غريب. وهاله الزحام في محطة مصر فألحَّ عليه شعوره بالوحدة.
ونازعته نفسه إلى العودة في أول قطار، ولكنه أودع حقيبته الأمانات، ثم خرج إلى الميدان والشمس تميل ميلة العصر. ودار رأسه مع السيارات والباصات والعابرين. وترامى الميدان في غاية من الاتساع وبلا شخصية، وتقابل فوق أديمه متناقضاتٌ من أشعةٍ حامية وهواءٍ لطيف، وشوارع مزدهرة وأخرى خربة. وقضى ساعة وهو يبحث عن فندقٍ رخيص في الميدان وما حوله حتى وجد نفسه في شارع الفسقية ذي البواكي أمام فندق «القاهرة». وقف على الطوار المسقوف المقابل للفندق على كثب من شحاذٍ مستلقٍ لصق الجدار يتغنى بمديحٍ نبوي. وانعكس عليه من الشارع طابع عمل ودمامة وضجر لكثرة الدكاكين على الصفَّين، وعربات النقل، وأكوام البضائع، ولكنه أمل أن يجده أرخص فندق في الناحية. وهو مبنًى قديم، ترابي الجدران، مكوَّن من أربعة أدوار وعليَّة فوق السطح، وذو بابٍ مرتفعٍ مقوَّس الرأس كوجهٍ باكٍ، يفتح على مدخلٍ مستطيل ينتهي إلى السلَّم، ويتوسطه مكتب جلس إليه رجل إلى جانبه امرأة. الرجل طاعن في السن، أما المرأة … رباه إنها فتاة في عز الشباب تشد عينَيه بقوة ليست بلا سبب؛ إنها توقظ مشاعرَ نائمة، وتنبِّه ذكرياتٍ مدفونة في الضباب. العطفة المبلَّطة الصاعدة من الأنفوشي المشبعة بهواء البحر، ورطوبته المالحة، وانفعالات الجنون الملفَّعة بالظلام. وسرعان ما توثقت علاقاتٌ خفية بينه وبين الفندق كأنما جاءه على ميعاد. ووجد نفسه يعبر الطريق نحوه مدفوعًا برغبة في الاستطلاع والكشف وإن يكن غير مصدق لظنونه تمامًا، وصوت الشحاذ يتردد عاليًا في نبرة أعجبته:
السمرة الرائقة النقية، والعينان اللوزيتان الدعجاوان، وبريقهما المضيء المفعم بالنبض والاقتحام. أين من هذا القطة المهزولة ذات الثوب الباهت الواحد وأظافرها الجارحة؟ إنها تذكره بها بعنف تاركة له تخيل ما صنع الزمن في عشر سنوات أو يزيد. والاسم القديم ضائع كأبيه، ولكن رائحة البحر تملأ خياشيمه، وها هو يرتجف لتذكر الليل البهيم، ورغم ذلك كله فقد ظل أبعد ما يكون عن اليقين. وبنت العطفة ذكرى عابرة لا قيمة لها، ولكنها تُبعث الآن في صورةٍ فريدة ذات سطوةٍ خطيرة الشأن كبعث أبيه من الموت الذي جاء به من البحر إلى هذه المدينة المثيرة. استقبلت الفتاة القادم بنظرةٍ قصيرة، ولكنها متغلغلة، ثم أدارت وجهها نحو استراحة الفندق إلى يمينها. ووقف صابر أمام المكتب والعجوز عاكف على دفتر يطالعه من خلال عدسةٍ مكبِّرة يمسك مقبضها المعدني الصغير بيدٍ مرتعشة.
ولم ينتبه العجوز إلى القادم؛ لشيخوخة حواسه فيما بدا، فأدام الشاب النظر إلى عارض الوجه الذي شغله، مكتشفًا آياتٍ تؤكد ظنونه، وآيات تبدِّدها، ثم تحول الوجه إليه بنظرةٍ ناقدة لانتهازيته، فربتت على ساعد الرجل لتنبهه، وعند ذاك بادره صابر قائلًا: مساء الخير يا والدي.
رفع الرجل إليه وجهه ويده لا تكفُّ عن الارتعاش. وهو وجه من الصعب التنبؤ عن صورته الأصلية؛ إذ اختفى أديمه تحت قناع من الأخاديد والتجاعيد، وبرز أنفه مقوسًا، حادًّا، مجدورًا، واحتارت في عينَيه الناضبتَين نظرةٌ باهتةٌ ممصوصة كأنما لم تعد تُعنى برؤية العالم. وقال صابر: إني أسأل عن سعر الحجرة.
– ريال في الليلة.
– ولمن يقيم أكثر من أسبوعين؟
– الريال عملة لا قيمة لها اليوم.
– قد أقيم شهرًا أو أكثر تبعًا لمشيئة الله.
فأمسك الرجل عن الكلام إعراضًا عن المساومة، وهنا رأى صابر طربوشه الطويل الغامق لأول مرة، وتمتم: كما تشاء.
وراح يملي عليه الاسم والمكان الذي جاء منه، ولما سُئل عن عمله أجاب: من الأعيان!
وقدم له بطاقته الشخصية. وجعل يسترق النظر إلى الفتاة طوال انشغال العجوز بالبطاقة.
والتقت عيناهما مرة، ولكنه لم يقرأ فيهما المعنى الذي يتلهَّف عليه. وبسبب انفعاله وحده راح يقنع نفسه بأنها هي هي! ولفحه هواء البحر في الركن المظلم وهو نصف عارٍ، وملأت أنفه رائحة القرنفل المنبعثة من الشعر المبعثر. وثمل بشعور تفاؤل عجيب، فقال إنه على نحو ذاك سيعثر على أبيه. والمؤكد بلا أدنى شك أن هذه الفتاة على استعداد لشيءٍ ما. إنها تقف منه موقفًا حياديًّا في الظاهر، ولكنها تخاطب ماضيه وأعماقه بألف لسان. ولا شك أن وراء هذه القشرة الناعمة الصامتة اللامبالية مدينةً مسحورة. ولو كان الظرف غير الظرف لدعاها إلى الرقص، واحتواها بين ذراعَيه، وقال لها بكل جرأة كيف يرضى بالعيش تحت هذا القبو من ترطب جسده بهواء البحر في عطفة القرشي! وردَّ العجوز إليه البطاقة قائلًا: إذن فأنت من الإسكندرية؟
فهزَّ رأسه بالإيجاب مبتسمًا، فغمغم الرجل بكلماتٍ مبهمة، فقال بمكرٍ راميًا الفتاة بنظرةٍ سريعة: أراهن على أنك تحب الإسكندرية.
وابتسم جانب فم العجوز وحده، وعلى خلاف توقعه أضربت الفتاة عن متابعته فشعر بخيبة، ثم خطر له أن يسأله: هل عرفت يومًا سيد سيد الرحيمي؟
فضيَّق الرجل عينَيه، ثم قال: غير مستبعد أني سمعت عنه.
تركَّز صابر في اهتمام أنساه كل شيء حتى الفتاة نفسها: متى وأين؟
– لا أذكر، لست متأكدًا.
– لكنه من كبار الوجهاء.
– عرفت كثيرين منهم، ولكني لم أعد أذكر أحدًا.
ومع أنه آثر ألَّا يزيد إلا أنه تمادى في التفاؤل، وقال إنه غير بعيد أن يهتدي إلى مكان أبيه اليوم أو غدًا. والتقط في اللحظة المناسبة نظرةً من عينَي الفتاة قبل أن تستردَّهما. قرأ فيها شكًّا وما يشبه السخرية، وكأنها تتساءل عما دعا هذا الوجيه إلى النزول بفندقها المتواضع. ولم يضايقه ذلك وقال إن الحقيقة ستنجلي عندما تعرف مهمته، وسوف تعرف عاجلًا أو آجلًا. ترى هل تذكرته؟ وشعر بغرز الأظافر في ساعده عقب المطاردة البارعة التي بدأت من ساحل الصيادين بالأنفوشي واستقرت في الركن المظلم بعطفة القرشي، ولفح هواء البحر بدعابته القاسية نصفه العاري. ولكن أين كان أبوها في ذلك الوقت؟ ومتى انتقل بها إلى إدارة هذا الفندق؟ ونادت المرأةُ قائلة: عم محمد يا ساوي.
فجاء عجوز من مجلسه عند الباب، عميق السمرة، مائل للقصر، دقيق الجسم. تتكون ملابسه من طاقيةٍ بيضاء، وجلبابٍ رماديٍّ مقلَّم، ومركوب؛ فأشارت المرأة إلى صابر قائلة: حجرة رقم ١٣.
ابتسم صابر لدى سماعه الرقم، ثم استأذن في الذهاب لإحضار حقيبته. ولما عاد تبع عم محمد الساوي إلى الحجرة في الدور الثالث. وغادرها الرجل، ثم دخل خادم يحمل الحقيبة. خادم بين الشباب والكهولة، سريع الحركة بدرجة لا تتناسب مع العمل الذي يؤديه، ضيق العينين جدًّا مستديرهما، صغير الرأس، يوحي منظره بالسذاجة. وسأله صابر عن اسمه فأجاب: علي سريقوس.
وآنس في نبرته امتنانًا بدرجةٍ أشعرته بالقدرة على امتلاكه وقتما يشاء. وسأله: هل العجوز الجالس إلى المكتب هو صاحب الفندق؟
– نعم. عم خليل أبو النجا.
وهمَّ بسؤاله عن الفتاة، ولكنه كبح رغبته عن حكمة إلى حين، وحذر نفسه قائلًا: إن السذاجة سلاحٌ ذو حدين! ولما خلا له المكان شمله بنظرةٍ سريعة فتركت في نفسه انطباعًا بالقِدَم. السقف العالي والسرير ذو الأعمدة والكنصول، وقال إن أباه كان يعجب بهذا المنظر حينما أحب أمه. ودلف من نافذةٍ عالية، وأطلَّ على ميدانٍ صغير في الطرف الشمالي من الشارع، تتوسطه فسقية تمجُّ نافورتها رذاذًا على غلمان مهللين. وأضاء المصباحَ ثم جلس على كنبةٍ تركيةٍ قديمة. وراودته أخيلةٌ جنسية، وتخللتها أحلام بالعثور على أبيه. أما نداء العينَين اللوزيتَين المضيئتَين فعجيب كل العجب. ولعلها الآن تفكر في أمره وتتساءل. ولكن ليس ثمة ما يقطع بأنها هي هي. في زحمة المولد نهرته قائلة لا تقترب مني هكذا، فقال متظاهرًا بالكبرياء لم تقلها بنتٌ قبلك، فأجابت بكبرياءَ أشد: ولكني أقولها وأعيدها. وذهبت في صحبة امرأةٍ شرسة والهواء يلعب بضفيرتَيها، فأين كان عم خليل؟ وعيناك اليوم التقت بعينَيها أكثر من مرة وتجلَّت معانٍ، ولكن لم يلتمع بينهما ما يوحي بذكرياتٍ مشتركة. لم تقل عيناها إنها تذكر المجلس فوق سور الكورنيش عند قوارب الصيد المقلوبة، والأحاديث المفتعلة للتستر على الرغبات الجامحة، وقبلة خُطفت أعقبتها معركة غير حامية. وعندما أعيتك الحيل صحت سأقتلع يومًا أظافركِ. أما يوم المطاردة الرائعة، وصراع الركن المظلم، وشذا القرنفل، والهواء المشبع برائحة البحر فكانت نصرًا صريحًا، ثم تلاه اختفاء وصمت، لا هي ولا الأم الشرسة، وأسفٌ دام طويلًا، حتى انتقلت أمك من حال إلى حال، واستقر بك المقام في الشقة الأنيقة ﺑ «النبي دانيال». من أدراك أن لهذا الفندق علاقةً بعطفة القرشي؟ وأن هذه الفتاة المثيرة هي تلك البنت القرنفلية؟ على أي حال فهذه الفتاة تثير عاصفةً في دمك، وفي سواد مقلتَيها ترى الليالي المعربدة بأنغامها الجنونية. وما أحوجك إلى دفء الشهوة المعزِّية في فترات الراحة من البحث! وقيمة ذلك تتضاعف للوحيد الذي لا أهل ولا صاحب له. وعندما تجيء المعجزة ستقول له: أنا صابر، صابر سيد سيد الرحيمي، هاك شهادة الميلاد، وهاك شهادة الزواج، وانظر جيدًا في هذه الصورة!
عند ذاك سيفتح لك ذراعَيه، وتنجاب عنك الوساوس إلى الأبد. وصرتِ امرأةً أنيقة بكل معنى الكلمة. أين البنت المغطاة بملح البحر؟ أين رائحة غفلة العذراء؟
٣
استيقظ مبكرًا بعد ليلة لم ينم فيها سوى ثلاث ساعات. ووجد رغم ذلك نشاطًا لم يحلم به من قبلُ. وفتح النافذة فلم يرَ المنظر الذي في غفلةٍ توقَّعه، منظر عمارات النبي دانيال وسعد زغلول، وزرقة البحر على مرمى البصر، وهواء الإسكندرية العامر بالفتن. رأى سماءً ملفَّعة بالسحب السمراء، وفي الأفق الشرقي نضح الستار ببياضٍ ناصع، وعلى الأرض الخالية سعى فوج من العمال والباعة، وفي لمحةٍ واحدة تجلَّت لمخيلته صورةٌ أبيه، والوجه الدافئ المفعم بالإثارة، وجاءه علي سريقوس بالفطور إلى حجرته فأكل بشهوةٍ عظيمة، ولما رجع الخادم ليحمل الصينية الفارغة، سأله: من الفتاة التي كانت تجلس إلى جانب عم خليل أمس؟
– زوجته!
ليعترف بأن هذا لم يجرِ له في بال، وكم بدا له مزعجًا: من الإسكندرية؟
– لا أدري.
– متى امتلك عم خليل هذا الفندق؟
– لا أدري، إني أعمل هنا منذ خمس سنوات فقط.
– وهل كان وقتذاك متزوجًا؟
– نعم.
هي بنت عطفة القرشي. اشتراها العجوز هناك من المرأة الشرسة، وصنع منها امرأةً حسناءَ طاغية. ولكن عليه هو أن يتفرغ لمهمته قبل أن ينفد آخر ما يملك من نقود. ووجد عم خليل أبو النجا بمجلسه وراء المكتب وهو يحادث عم محمد الساوي الجالس إلى يمينه. ولمح في طريقه إليهما نفرًا من النزلاء يجلسون في الاستراحة ما بين متناول لفطوره وقارئ لجريدة. جاء بكرسي أمام المكتب، ثم جلس رافعًا يده بالتحية وهو يقول: عن إذنك دليل التليفون.
وفرَّ الصفحات حتى عثر على حرف السين. سيد. سيد سيد. وسيد سيد الرحيمي. وخفق قلبه بقوة. هذا هو في مدينته. ليس كصاحب مكتبة المنشية. والمهنة؟ طبيب بميدان الأزهار وأستاذ بكلية الطب. كما يحدث للوجهاء وأبناء الوجهاء. واستخفه فرح فتمتم: الظاهر أن ربنا سيرضى عني.
فنظر عم خليل بعينَيه المذكِّرتَين بالآخرة، فقال: الظاهر أني سأنجح في المهمة التي جئت من أجلها من الإسكندرية.
فغمغم العجوز: جميل أن ينجح الإنسان.
كما نجحتَ في شراء الفاتنة! ورآه ما زال ينظر إليه مستطلعًا فقال: إني أبحث عن رجل هو كل شيء في حياتي.
فدعا له عم محمد الساوي قائلًا: ربنا يحقق مقاصدك.
وقال عم خليل أبو النجا: لا يجيء أحد إلى هذا الفندق للإقامة، ولكن لمهمة تستغرق ليلة، أو أسبوعًا، أو شهرًا، ثم يمضي إلى حال سبيله.
– هذا طبيعي جدًّا.
– ولذلك فهم يتجاورون في الغرف والموائد والاستراحة، ويندر أن يعرف أحد منهم الآخر.
– يُخيَّل إليَّ أن عملك مُسلٍّ جدًّا.
– لا شيء مُسلٍّ على الإطلاق.
ومغالطة الزمن أليست مسلية؟ وسمع وقع حذاءٍ نسائي فأجَّل قيامه الذي همَّ به. وجاءت الزوجة مدملجة الجسم في جونلا سوداء، وبلوزةٍ حمراء، مطوقة الرأس والخدَّين بإشاربٍ أبيضَ منمنم. ووشى خطرانها باكتنازٍ سويٍّ هو الوسط المثالي بين النحافة والبدانة، فسرعان ما ثمل أنفه بعبيرٍ أنثويٍّ مسكي عصف بعقله وقلبه. وهي وإن لم تبتسم إلا أن عينَيها عكستا نظرةً راضيةً موحية كأرضٍ خصبة لم تُزرع بعدُ. ونهض عم محمد الساوي وهو يحبك معطفًا رماديًّا قديمًا، أما عم خليل فقد رفع إليها وجهه متمتمًا: نويتِ بالسلامة؟
فقالت بصوتٍ حلقي دسم: فُتَّك بعافية.
ومضت إلى الخارج يتبعها عم محمد الساوي. أنت سر من الأسرار يا عم خليل. ووجهك يصلح رمزًا للموت كعلم القرصان. ولمَ يرتكب أناس الأخطاء بلا تبصر؟ وقام متظاهرًا بالهدوء فحيا الرجل وغادر الفندق. وسبقته عيناه إلى كافة أنحاء الطريق حتى رأى المرأة والعجوز يميلان مع ميدان الفسقية فأسرع في مشيه حتى لحق بهما. والتفت عم محمد نحوه فابتسم كالمعتذر، وقال: لا تؤاخذني يا عم محمد، أودُّ أن أعرف الطريق إلى ميدان الأزهار؟
والتفتت نحوه المرأة في شيء من الدهشة. ووقف عم محمد ليصف له طريق الوصول؛ فاضطرت المرأة إلى الانتظار. وتظاهر بالإنصات إلى كلام عم محمد دون أن يعي منه كلمة، وكلما وجد فرصةً آمنة حدج المرأة بنظرة فتتلقاها بالرضى الهادئ المثير للطموح بلا دليل. ودَّ أن يسألها عن القرنفل وملح البحر والظلام العاري، ولكن الساوي انتهى من شرحه، فشكره ثم ذهب. ترى أين هي ذاهبة مع كلب الحراسة؟ وألم تكن جرأته سابقة للأوان؟ إنه دائمًا جريء، غير أن الجرأة هذه المرة قد تُفسد عليه البحث أو تُعرقله. وبلغ ميدان الأزهار مستعينًا بالمارة، ولم يجد في العيادة سوى التمرجي. وأخبره الرجل أن الطبيب يحضر عادة حوالي الثانية عشرة فجلس لينتظر. هل ترددت أنفاس أبيه في هذه الشقة؟ ها هو القلق يساوره والجزع، والأمل واليأس. وكلما تقدمت الساعة قلَّ صبره. وإن وجد أباه حقًّا فكيف يكون موقفه منه؟ كيف يتصرف إن أنكره أو طرده؟ ولكنه سيستميت في الدفاع عن حقوقه؛ ولذلك تبدَّى في أحسن مظهر، ولم يخفَ عليه أن التمرجي رمقه باحترام وإعجاب! ولكنه تذكر أنه لعجلته واضطرابه لم يعرف اختصاص الدكتور! وخرج من حجرة الانتظار إلى الصالة فجلس في قبالة التمرجي وسأله: من فضلك ما اختصاص الدكتور؟
– القلب! حضرتك طبعًا …
– أردت أن أتأكد، أصلي من الإسكندرية.
وشعر بسخافة أسئلته ولكنه لم يبالِ، بل عاد يسأله: هل عندك فكرة عن عمره؟
فأجاب الرجل مندهشًا: لا أدري عن ذلك شيئًا!
– ولكنك تفرق ولا شك بين الشباب والكهولة؟
– إنه أستاذ بالكلية.
– وهل هو متزوج؟
أعلن التمرجي عن مدى استغرابه بضحكة، ثم قال: متزوج وأب، وله ابن طالب بالكلية.
عقبة! وأي عقبة تعترض أمله في القبول! وسيكون للأسرة رأي في العضو الجديد القادم من ماخور، ولا مؤهل له غير جماله المبذول للفجور. ولكن إصراره بلغ المنتهى. وجاء المرضى تباعًا حتى امتلأت الحجرات. ثم دعاه التمرجي إلى حجرة الكشف. ونفخ سحب القلق والوساوس ودخل. رأى وجهًا لا يمكن أن يرجع بحال إلى أصل الصورة التي يحملها، ولكن من يتصور أن أمه — في آخر ليلة لها — يمكن أن ترجع إليها؟ وجلس أمام مكتب الدكتور وراح يجيب على أسئلته التي شرع في تدوينها في دفترٍ كبير: اسمي صابر سيد سيد الرحيمي.
ضحك الدكتور قائلًا: عال، أنت إذن ابني، وما عمرك؟
– الواقع أنني لا أشكو مرضًا على الإطلاق.
فحدجه بنظرةٍ متسائلة، فقال: إني أبحث عن سيد سيد الرحيمي.
– عني أنا؟
– لا أدري ولكن تفضل بالنظر في هذه الصورة.
تفحصها الدكتور، ثم هزَّ رأسه بالنفي.
– ليست صورة حضرتك؟
ضحك قائلًا: بالتأكيد لا، ومن هذه الفتاة الجميلة؟
– أليس بأحد من أقربائك؟ لاحظ أن تاريخها يرجع إلى ثلاثين عامًا مضت.
– ولا هي لأحد أقربائي.
– حضرتك من أسرة الرحيمي؟
– والدي سيد الرحيمي، كان موظفًا بالبريد.
– أليس للأسرة فروع لم تعرفها؟
– أسرتي محدودة أصلًا وفرعًا.
قام يائسًا وهو يقول: آسف على إزعاجك، ولكنك ربما سمعت عن أحد الوجهاء بهذا الاسم؟
– لا أعرف وجيهًا بهذا الاسم، ولكن ما الحكاية بالضبط؟
– الحكاية أني أبحث عن وجيه يُدعى سيد سيد الرحيمي، صاحب هذه الصورة منذ ثلاثين عامًا.
– لعله هنا أو هناك، وأنا على أي حال لست مرجعًا في هذه الشئون.
وقضت نبراته بإنهاء الحديث؛ فحيَّاه وانصرف. دخل أول قهوة صادفته فجلس إلى البار، ثم طلب براندي. ها هو يبدأ من جديد. وما إغراء دليل التليفون إلا خدعةٌ سخيفة. وتبدد التفاؤل الوهمي الذي اجتاحه منذ رأى زوجة عم خليل. وتذكر سلسلة الأبحاث التي قام بها في الإسكندرية من الشهر العقاري، ومشايخ الحارات، وأولياء الله، ولكنه يحتاج لإعادة ذلك إلى مرشد ولا أحد له في القاهرة. لذلك استحسن أن يبدأ بالإعلان، ولعله أرخصها، وأسهلها، وأجداها. ونظر إلى الساقي العجوز وسأله: ألم تسمع عن سيد سيد الرحيمي؟
– دكتور في العمارة التالية.
– كلا، أعني الوجيه سيد سيد الرحيمي؟
ردَّد الخواجا الاسم كأنه يلوكه في ذاكرته، ثم قال: لا أذكر زبونًا بهذا الاسم.
– ألم يحدث لك أن بحثتَ عن شخص وأنت تجهل مقامه؟
أجاب وهو يمدُّ بصره إلى لا شيء: ابن مفقود من أيام الحرب.
هزَّ صابر معلنًا عن أسفه، ثم قال: لكن الحرب انتهت وعُرِفَ مصير كل من اشترك فيها.
– أن أعتبره مفقودًا خير من التسليم بموته.
وسأل الخواجا عن موقع جريدة أبو الهول فوصفه له بميدان التحرير. ذكَّره مبناها الأبيض المربع، والفناء الذي تتوسطه فسقية بفيللا ثريٍّ يوناني بالأزاريطة. ومضى نحو الباب الداخلي فرأى فتاةً واقفة على عتبته، وما لبثت أن أشارت إليه. دهش صابر وأحدَّ إليها بصره، ولكن ساعيًا مرق من جانبه متجهًا نحوها، فأدرك أن الإشارة لم تكن له. وسلمها الساعي شيئًا ثم اختفى وراء الباب، ووجد صابر نفسه أمامها. رشيقة، نحيلة، لفت انتباهه في وجهها تناقض محبوب جمع بين سمرة البشرة وزرقة العينين، وتكوين الرأس والوجه غاية في الأناقة والبداعة، انبعث إليه منه شعور بالجذب والطمأنينة، ثم استعاد نشوة نبيذ بتافرنا وهو يسمع عزف كمان. وحياها باسمًا، ثم سألها عن قسم الإعلانات، فقالت بصوتٍ مُوحٍ بالثقة بالنفس: أنا ذاهبة إليه.
ولحَظَها منقِّبًا عن موضع للإثارة، ولكن طرفه رُدَّ ممتلئًا بالإعجاب وحده. ودخلا الإدارة فأشارت إلى رجل في الصدر حملت لافتة مكتبه اسم «إحسان الطنطاوي» فحيَّاه، ثم دعاه الرجل إلى الجلوس على كرسي يقع بين مكتبه ومكتب الفتاة التي جاءت به. وأبان صابر عن مقصده قائلًا إنه يرغب في الاهتداء إلى شخصٍ يُدْعَى سيد سيد الرحيمي، فتساءل الرجل: دكتور القلب؟
فأجاب بالنفي، وتوقع أن يسمع منه مزيدًا عن الشخصيات التي تحمل هذا الاسم ولكنه لم يفعل، فقال: في الحق أنني لا أعرف سوى اسمه.
– أليس لديك فكرة عن عمله أو مكانه؟
– كلا البتة، كل ما أعلمه عنه أنه من الوجهاء، ومحتمل أن تكون له مهنة تناسبه، ولكني لم أجد في الدليل إلا الدكتور.
– قد يكون رقمه سريًّا، وقد يكون من أعيان الريف، وعلى أي حال فالإعلان أوجز سبيل إليه.
– ليكن إعلانًا صغيرًا بقدر الإمكان، ويوميًّا لمدة أسبوع، في شكل دعوة للاتصال بي بفندق القاهرة سواء بالمراسلة أو بالتليفون.
– لا بدَّ من ذكر اسمك في الإعلان.
وفكر بسرعة وقلق، ثم تمتم: صابر سيد.
ولم تتحقق مخاوفه فراح الرجل يخطط صورة للإعلان، فلاحظ صابر أن الفتاة تتابع حديثه فلم يشك في أن غرابة الإعلان هي التي أغرتها بذلك. ورأى ثمة مكاتبَ أُخر يجلس إليها موظفون وموظفات، وعرف اسم الفتاة «إلهام» وهي تُخَاطَب به، وسمع إحسان الطنطاوي يسأله: ألا تشير إلى الغرض من إعلانك؟
– كلا.
ثم بعد هنيهة صمت: المؤسف أنني ظننت أن الذين يعرفونه في القاهرة لا حصر لهم، ولكني لم أجد حتى الآن أحدًا يعرفه.
– موضوعك غريب، الاسم وحده! وكيف تتأكد من هوية من يتقدم إليك مدعيًّا أنه سيد سيد الرحيمي؟
– لديَّ ما أستدل به على ذلك.
وقالت إلهام وقد غلبها حب الاستطلاع: في المسألة سرٌّ عجيب، كأسرار السينما.
فقال صابر باسمًا وهو يرحب في أعماقه بتدخلها في الحديث: أودُّ أن يُكشَف بالسهولة التي تُكشَف بها أسرار السينما.
– على الأقل أنت تعلم أنه وجيه من الوجهاء، فكيف عرفت ذلك؟
سكت صابر مليًّا، فقال إحسان الطنطاوي بلهجةٍ جديَّة: هذا سؤال على مستوى التحقيق.
آه، هذه الطفلة الكبيرة، لعلها على استعداد للميل إليه، وهي طاقة من عبيرٍ لطيف يدعو إلى استباحة الأسرار، ليست كالنار التي صهرته بالفندق، وقال: يا آنسة إلهام أنا رجلٌ غريب في بلدكم.
– غريب؟
– أجل، أنا في الأصل من الإسكندرية وجئت القاهرة أمس، فأنا غريب في بلدكم، ويهمني جدًّا العثور على ذلك الرجل، وإني أستبشر خيرًا بوجهك!
ابتسمت بشجاعة الفتاة العاملة. ومرةً أخرى تذكَّر نشوة النبيذ بتافرنا على أنغام الكمان.
٤
غادر الجريدة وموظفو الإدارة يتأهبون للانصراف. خطر له أن ينتظر قليلًا ليلقي نظرةً أخيرة على إلهام، فوقف ضمن الواقفين تحت مظلة محطةٍ للباص. إشعاعها اللطيف لم يزل ناشبًا في خياله، وقد تخفف من عبء البحث إلى حين بوضع ثقته الكاملة في الإعلان. وجرى هواءٌ مائل للبرودة في جوٍّ أبيض امتصَّ لونه من سحابٍ ناصع البياض، فأضفى على الدنيا حلمًا رائقًا. ورأى إلهام وسط مجموعة من الشبان والشابات وقفوا أمام الجريدة متبادلين كلماتٍ سريعة وابتسامات قبل الافتراق، ثم عبرت الفتاة شارعًا جانبيًّا للجريدة إلى محلٍّ صغير يُدعَى فتركوان واختفت داخله. تبعها بلا تردُّد، ثم نظر إلى الداخل من خلال حاجزٍ زجاجي، فرآها جالسة إلى مائدةٍ منفردة، وتبين حقيقة المحل وهو مطعم للشطائر ومشرب للعصير والقهوة. دخل كأنما يقصد البوفيه ثم لمحها — مصادفة — فتهلل وجهه، ومضى إلى مائدتها في أقصى المحل، والنادل يضع أمامها طبقًا بالشطائر وكوبًا من عصير البرتقال: مصادفةٌ جميلة جدًّا، هل تسمحين لي بمشاطرتك المائدة؟
قالت دون حماس ودون فتور: تفضل.
وطلب غداءً كغدائها، وزاد انتعاشًا بإشعاعاتها التي ترفعه إلى مستوًى غير مألوف في علاقاته مع الناس. وشعر ببهجةٍ غريبة: لا شك أني أبدو ثقيلًا، ولكن هكذا يبدو الغريب.
– إني أرحب بالغرباء.
– شكرًا، أقصد أن لهفة الغريب على التعرف بالناس تُنفِّرهم منه؟
– ليس في مشاركةٍ عابرة كهذه ما ينفِّر إطلاقًا.
وشكرها، ثم تناول أولى شطائره.
– لعلكِ ذاهبة إلى السينما؟
– كلا، ولكننا نستأنف العمل في الجريدة بعد ساعتَين أو أكثر قليلًا، ولما كان بيتي في أقصى الجيزة والمواصلات كما تعلم، فإنني أفضل كثيرًا أن أتناول طعامي هنا.
– وهل تبقين هنا طول الوقت؟
– بعض الوقت، وأتمشى على النيل البعض الآخر.
وراحا يتناولان طعامهما. واسترق — كلما وجد فرصة — النظر إلى فيها وهو يمضغ الطعام، وإلى أصابع يديها، متمليًا ما أمكن زرقة العينين في البشرة السمراء.
– ماذا ترين في الإعلان، هل يحقق المقصود منه؟
– هو كذلك دائمًا.
قصد أن يوقظ حب استطلاعها، ولكنها لم تتمادَ في الكلام، فقال: كم تهمني النتيجة!
– أحقًّا لا تعرف شيئًا عن الرجل الذي تبحث عنه؟
– عندي صورة وبعض معلوماتٍ طفيفة.
ثم بعد لحظة تفكير: إني موفَد للبحث عنه من قبل والدي العجوز الذي كان يعرفه في الزمن القديم.
وقرأ في عينَيها الصافيتَين تساؤلًا، فقال باسمًا: معاملاتٌ قديمة.
– مالية؟
– لا تخلو من هذا الجانب الهام.
أن تحقق أحلام لم تخطر بالبال هو ما يطمعك في المستحيل، وهذه الفتاة من معدن يخلق النشوات.
– لم أشعر من قبلُ بمثل هذا الشعور!
فرفعتْ حاجبَين مقوسَين متباعدَين في تساؤلٍ إنكاري، فقال مفسرًا: الغربة، والأمل، وصحبتك اللطيفة.
– فيما يتعلق بصحبتي أرجو ألا تكرر أقوالًا أسمعها كثيرًا ولم أجد لها معنًى.
– تسمعينها في الإدارة؟
– مثلًا.
– هل أنتِ سعيدة في العمل؟
– هه!
– هل تتركينه للبيت في حينه؟
– إني أعتبره عملًا لا محطة.
وفكرته الثابتة عن الجنس الآخر لا يمكن أن تتغير؛ هو في نظره سلسلة من المخلوقات الوحشية الفاتنة الباحثة عن الغرام بلا مبدأ. أمه، وقريناتها، وفتيات الكنار الليلي، وعطفة القرشي. وحتى نشوته الصاعدة إلى فوق لم تستطع أن تزعزع هذه الفكرة الثابتة، ومع ذلك لم يشأ أن يجردها — في خياله — من ثيابها، وهي عادةٌ مزمنة لم تفارقه. تجريدها من الثياب غير مجدٍ لأن سحرها لا يستقر بموضع بالذات؛ شائع كضوء القمر، وبه جانبٌ مجهول تتعلق به الآمال كمستقر أبيه. ولن يتحقق سروره بها كسروره بالأخريات، أي بالبهلوانيات، والألفاظ الجارحة، والأفعال الشائنة، والعبث الهمجي الوقح. هي شيءٌ فريد. وفي ساعاتٍ قلائل كشفت له عن طبيعةٍ ثانية فيه، وعن ذوقٍ لم يذق به الأشياء من قبلُ.
– ومع ذلك فانظري إلى عنايتك بأظافرك!
لاح في وجهها الاحتجاج في صورة طابعٍ جدي، وقالت: عنايتك بشعرك ليست دون ذلك!
– اعتبري ملاحظتي طريقة غير مباشرة للإعجاب.
ثم مستدركًا بنبرة اعتذار وهو ينظر إلى اللوز الوردي المغروس في البنان: عندما أعود إلى الإسكندرية سأحمل منك أجمل ذكريات القاهرة.
– لِمَ لَمْ تعلن في فرع الجريدة بالإسكندرية؟
– الإعلان جزء من البحث ليس إلا.
وهمَّ بأن يدفع ثمن الغداء لها، ولكنها أبت ذلك بإصرار، فعدل عنه قائلًا: لو أردتِ أن تفعلي نفس الشيء لما رفضتُ.
فقالت ضاحكة: ولا هذه.
وفي مرآة مثبتة في الجدار الأيسر ضبطها وهي تتفحَّصه باهتمام، فارتاح لذلك جدًّا. ليكن تأثيره فيها كتأثيره في الأخريات. وتذكَّر الأسرار التي كشفها في ماضيه القصير فابتسم. النوافذ والغابات والروائح الفطرية الفاتنة. وقامت لتذهب فصافحها مودعًا، ولكنه لم يتبعها رغم رغبته الشديدة في ذلك. وأدرك أنه من المحتمل جدًّا أن يطلع نزلاء الفندق وصاحبه على الإعلان، وأن علاقته بمن يبحث عنه لن تخفى على أحد. ولما أخبر خليل أبو النجا ومحمد الساوي عن المكالمة التليفونية المنتظرة قال العجوز: إذن أنت تبحث عن أبيك؟
فتورَّد وجهه وأحنى رأسه بالإيجاب.
– وكيف فقدته؟
– فقدته كما فقدني، وها أنا قد قدمت للبحث عنه.
– لا شك أنها قصةٌ عجيبة!
وتضايق من الأسئلة المطوِّقة، فقال: بل عادية جدًّا فأرجو استدعائي عند الطلب.
الشاب الذي يبحث عن أبيه، هكذا سيطلقون عليه، وسيقولون ويتقوَّلون. وهزَّ كتفَيه استهانة. ولزم الاستراحة أكثر الوقت، وكلما رن التليفون تعلق به بصره. ووقعت مكالماتٌ غير مجدية، فاتصل به سيد سيد الرحيمي الحلاق ببولاق، وثانٍ مدرس لغةٍ عربية، وثالث سائق ترام، وقابلهم واحدًا فواحدًا، كما قابل الدكتور من قبلُ، ولكن لم يكن لأحد منهم علاقة بمن يبحث عنه. أين من يبحث عنه إذن؟ ولِمَ لَمْ يتصل به كما فعل الآخرون؟ وإذا كان قد مات أفلم يترك ابنًا أو قريبًا؟ وتذكَّر نقوده التي تتناقص باستمرار بجزعٍ شديد. ومن حوله جلس كثير من النزلاء، وتطايرت رائحة القهوة والسجائر، ولكن أحدًا لم يلق إليه بالًا، وكأن الإعلان لم يقرأه أحد وهو ما حمد الله عليه. ولكن ما عسى أن يصنع إذا تتابعت الأيام بلا نتيجة؟ ماذا لو نفد المال ولم يظهر الأب؟ أنت قواد أو بلطجي؟ وعهد النبي دانيال الذي مضى كعبيرٍ طيب بدَّدته الريح. عرف حب الأم وإغداقها المال بلا حساب، وعرف مسرات الحياة بلا خوف أو ندم. وقالت الحياة جميلة وأنت زهرتها. وحتى عند الوعي بحقيقة الأمر خضعتَ لها باعتبارها مصدر كل شيء. وأنت ترقص في ملهى الكنار الليلي صاحَ مخمورٌ أكل الغيظ قلبه: يا ابن بسيمة!
فكانت معركة دامية وتناثر الزجاج، ولا شيء يحمي السمعة السيئة إلا القبضة الحديدية. وما دامت بسيمة قد دُفنت فلا أمل إلا إذا جاء الأب. وقال أحد القاعدين في الاستراحة: القطن! كل شيء يتوقف على القطن!
لم؟ أهو رحيميٌّ آخر؟ وهو لولا الإعلان ما تصفح جريدة. حتى أنباء الذرة وغزو الفضاء جاءته عن طريق السكارى بملهى الكنار. وتساءل رجلٌ آخر: وهذه الحرب التي تهدد العالم ألا تضمن لنا القطن؟
– لن تكون كالحروب الماضية.
– أجل إنها لن تُبقي على شيء.
– القطن، والفول، والبهائم، والخلق.
فتساءل الصوت الأول: وأين الله خالق كل شيء وحافظه؟
أين الله حقًّا؟ هو عرف اسم الله ولكنه لم يشغل باله قط. ولم تشده إلى الدين علاقة تُذْكَر. ولا شهد النبي دانيال ممارسة عادةٍ دينية واحدة؛ فهو يعيش في عصر ما قبل الدين. وقُضي عليه بأن يمضي أجمل أوقات النهار بين ثرثارين أغلبهم من الريف، ورائحة السجائر تختلط دائمًا برائحة البصل الأخضر، وإذا اشتدت مرارة الصبر تسلَّى بتخيُّل إلهام أو زوجة عم خليل أبو النجا. والهواء ضروري جدًّا، والنار لا غنى عنها. وسوف يصمت إلى الأبد دون أن ينبس لسانه بجواب يخرجه من حيرته. وإذا لم يلبِّ أبوه النداء أفليس من الخير أن تنفجر الذرة لتهلك كل شيء؟ الخوف، والجوع، والماضي الملوث؟ ومرة حانت منه التفاتة إلى التليفون فرأى زوجة عم خليل بمجلسها الذي رآها به أول مرة. إذن عادت! ودقَّ قلبه باعثًا حرارةً جنونية في كافة المراكز المتلهِّفة؛ الجسم الصارخ، والنظرة المتآمرة مع الغرائز. ونسي التليفون والرحيمي وإلهام، وصعد إلى حجرته في الدور الثالث وانتظر وراء الباب. ثم سمع وقع أقدامٍ صاعدة فخرج إلى الطرقة فالتقيا في منتصفها. وتظاهر بالمفاجأة، وقال: حمدًا لله على سلامتك.
فشكرته بابتسامة، فقال: تركتِ خلفك وحشةً حقيقية.
فجادت بهزَّة شكر من شعرها الأسود، وسارت في طريقها المفضي إلى سلم الدور الرابع، غير أنه همس بجرأة: الإسكندرية.
تباطأت حتى وقفت تقريبًا على بعد ياردة منه متسائلة: الإسكندرية؟
– عطفة القرشي!
قالت مقطِّبة: لا أفهم شيئًا!
فقال بإصرار: إن كنتِ نسيتِ فأنا لا يمكن أن أنسى.
– أنت مجنون؟
قالتها بثبات زعزع ثقته فتساءل: أليست …
ولكنها قاطعته وهي تمضي في سبيلها: لعبةٌ قديمة وسخيفة.
واستدرك قائلًا قبل أن توغل في الابتعاد: على أي حال تقبلي إعجابي.
واعتمد على الدرابزين حتى يتمالك أنفاسه. حتى تبرد بعض الشيء النار الحامية. وتملَّكته لحظة جنون، فتمنى لو يهلك جميع من في الفندق ليخلو لهما وحدهما. كما عصف به الجنون ليلة المطاردة التي اندفعت من ساحل الصيادين بالأنفوشي. وإذا بعلي سريقوس يهبط السلم وهو يدندن بموالٍ صعيدي فجرَّه إلى موقفه بإشارة، وقال بمكر: سمعت صوتًا يناديك لعله صوت الست.
– الست؟
– حرم عم خليل!
– كلا، لعلها الحجرة ١٦، أنا قادم من عند الست وهي تدخل شقتها.
– ربما، وستتأكد بنفسك، ولكن هل تقيم الست في شقة؟
– شقة عم خليل فوق السطح.
– وأين كانت طوال الأيام الماضية؟
عند أمها، إنها تزورها أيامًا كل شهر.
ورمق ظهر عم خليل — وهو نازل — باحتقار ومقت، وكره فكرة العودة إلى مجلسه بالاستراحة فغادر الفندق. تمتع بشمس ترسل أشعتها من سماءٍ صافية، في جوٍّ يتيه ببرودةٍ لطيفةٍ محببة، ورغب في المشي بنهم، فمشى بلا هدف وهو يأسف على أنه لا يجد فراغ البال لمشاهدة القاهرة. وتذكر أن مدة الإعلان ستنتهي بعد يوم؛ فمضى إلى جريدة أبو الهول. والحق أنه كان يرصد ميعاد الذهاب إلى الجريدة ليرى إلهام من جديد. وجد إحسان الطنطاوي مشغولًا بزبون، فصافح إلهام، ثم جلس على الكرسي بين المكتبين. توقفت عن دق الآلة الكاتبة وسألته: لا جديد؟
أجاب وهو يفيق نهائيًّا من لفحة الجحيم: مكالمات ومقابلات غير مجدية.
– الصبر طيب.
تابع أصابعها فوق أحرف الآلة بارتياحٍ خفَّف عنه متاعبه. وبدا عنقها طويلًا وهي خالعة جاكتتها وفي صفحته اليسرى لاح خال. ورغم سعادته برؤيتها فاجأه حزنٌ طارئ لا تفسير له. وتبين أن إحسان الطنطاوي ينجز إعلان وفاة، فحاصرته ذكريات الليلة الأخيرة لأمه. ووضحت له تعاسة مركزه في الوجود؛ إذ يعتمد كلية على شبيه بالسراب. وحانت في تلك اللحظة التفاتةٌ سريعة من إلهام إليه؛ فانشرح صدره وتجاهل همومه. وفرغ إحسان الطنطاوي من إعلان الوفاة، فحيَّاه قائلًا بشيء من الخبث: تجديد؟
ضحك وهو يحني رأسه في تسليم، ثم سأله: جاءني كثيرون، أما هو فلا حياة لمن تنادي، ما تفسير ذلك؟
– الإعلان من هذا النوع يتطلب المثابرة.
– ولكن المفروض أن الرجل معروف على أوسع نطاق.
– أنت لا تعرف سوى اسمه، وما عدا ذلك بالسماع عرفته، ولا يمكن أن تقطع في ذلك برأيٍ حاسم، وأنا رجلٌ عشت في مختلف الأوساط بالقاهرة زهاء ثلاثين عامًا ولم أسمع عنه.
– ولكني أصدق تمامًا من أرسلني للبحث عنه.
– إذن ففي المسألة سرٌّ ستكشفه لك الأيام.
تفكَّر قليلًا، ثم قال: عندي له صورةٌ قديمة أُخِذَت له منذ ثلاثين عامًا.
– نضيفها إذا شئت إلى الإعلان فتضاعف من فائدته.
وأراه الصورة فتفحصها، ثم تمتم بإعجاب: يا له من شخصية!
وانتظر صابر في إشفاق أن يلاحظ الرجل وجوه الشبه بينه وبين صاحب الصورة، ولكنه لم يلاحظ شيئًا، ومضى يتحدث عن الإعلان الجديد وتكاليفه. ووافق صابر على الاقتراح مرغمًا، ثم غادر الجريدة وهو يفكر في نقوده التي تتناقص يومًا بعد يوم، والتي سيُضحي بعد نفادها معدمًا كمتسول. وذهب إلى فتركوان، فجلس إلى مائدة إلهام ينتظر. ولما رأته ترددت في شيء من الارتباك، ولكنه أزال ترددها بوقوفه مرحبًا. وبمجرد أن جلست طلب الغداء من الشطائر والعصير، وتصرف بلا كلفة ليُبدِّد دهشة اللقاء. وإذا بها تقول: رأيت الصورة!
– حقًّا؟
– أنت تشبهه!
– تعنين الرجل؟
هزَّت رأسها موافقة وهي ترمقه بارتياب، فلم يجد بدًّا من اختلاق كذبةٍ جديدة، فقال: إنه أخي.
– أخوك! معقول جدًّا، ولكن لماذا لم تقل ذلك من الأول؟
فابتسم ولم يجب، فسألته: ومن الفتاة الجميلة؟
– كانت زوجته رحمها الله.
– آه، وهل … أعني أخاك … كيف …
– اختفى قبيل مولدي، خلاف ثم اختفاء كما يقع أحيانًا، وأخيرًا بعد ثلاثين عامًا أرسلني أبي العجوز للبحث عنه.
– حقًّا إنها قصةٌ مثيرة، ولكن لم تعتقد أنه شخصيةٌ معروفة؟
– هكذا قال لي أبي، ولعله مجرد استنتاج، ولكن العجيب أن إحسان الطنطاوي لم يلاحظ الشبه بيننا عندما أريته الصورة! فهل حدثك عن ذلك بعد ذهابي؟
– كلا، رغم وضوح الشبه، ولكن رأس الأستاذ إحسان مشغول بالحسابات.
وجاءت أطباق الشطائر فبدأ الغداء. وعند ذاك قال معتذرًا: آسف على تطفلي، ولكني وحيد في المدينة، والفراغ يوشك أن يقتلني.
فقبلت عذره بابتسامة، وسألته: كيف تمضي وقتك؟
– في الانتظار.
– هذا مملٌّ جدًّا، ثم إن البحث غير الانتظار.
– نعم ولكنه لا يخلو من فترات انتظار.
– وماذا تفعل في أوقات الانتظار؟
– لا شيء.
– غير معقول.
فقال برجاء: من هنا تلمسين مدى حاجتي إلى صديق.
ووشى تورد وجنتَيها بتشرُّبها الإشارة، فتشجع قائلًا: وأنتِ الصديق!
شربت قليلًا من الماء ثم واصلت الطعام، فتساءل: ما رأيكِ؟
– قد تكون مغاليًا في ظنك.
– هذه الشئون تُعرف بالقلب.
– يمكن أن نتقابل كلما جئت لتجديد الإعلان.
فضحك قائلًا: إذن فأنت تريدينني أن أواصل الإعلان إلى الأبد؟
– ما دام يهمك العثور عليه.
– هو ذلك، ولكن إذا أثبت الإعلان عقمه فسوف أستأنف البحث.
ورفعت كوب البرتقال، فرفع كوبه قائلًا: صحتك.
– أنت تشجعني على الحذر منك.
وشربا وهما يتبادلان الابتسام. وقال إنه ما كان يطاردها لو كانت مكان الأخرى عند ساحل الصيادين. وقال إنها عزيزةٌ جدًّا وهو يحبها. ومن الفتاة الجميلة؟ عجيب موقع السؤال من أذنكَ. ولكنها لم ترها في الليلة الأخيرة. ولم ترَ كفنها النحيل ﮐ «لا شيء».
وقال بدهاء: أشكركِ جدًّا.
وجدت في الشكر فخًّا ولكنها لم تبدِ احتجاجًا. وحلَّ صمتٌ سعيد فانغرست بذور التفاهم، وطريق البحث شاقٌّ ومحرق وطويل؛ فيحتاج إلى استراحة من الظل الظليل.
٥
تعب البصر من تفحُّص الوجوه. وشوارع القاهرة الزاخرة بتيارات البشر والسيارات كأمواج البحر في الأيام العاصفة. وسُحب الخريف الواردة من الإسكندرية يتبدد أكثرها قبل الوصول إلى سماء القاهرة، ولكن ذكريات الإسكندرية مشتعلة أبدًا في القلب المنتظر. ولم تعد استراحة الفندق مرهقة مذ عادت المرأة من رحلتها، ولكنها في الحق معذِّبة. وليس نادرًا أن ترى بمجلسها إلى جانب زوجها وأنت ترصدها من أقصى الاستراحة، ولها نظرةٌ دسمةٌ موحية تتفجر همساتها كالشرر. وكم من محاولاتٍ فاشلة بذلت للانفراد بها في طرقات السلم! وقد تدري بها من بعد فتفسدها عليك ثم تجيء إلى مجلسها ساخرة. وهي لا تردُّ ابتسامة وتتجاهل أي إشارة. ومن خلال حيرةٍ ضبابية تلتمع بوارق إغراء لاسلكية. وكلما جن جنون الإثارة تمنى الهلاك لجميع من بالفندق لينقضَّ عليها في الخلاء الصامت. في هذه الحالات الجنونية تنزوي إلهام في ركن كالندم عند طغيان الجريمة. ويفيق أحيانًا على روائح السجائر والبصل وأحاديث القطن والقمح والحرب المدمرة. لعلهم مثلك يجرون وراء أملٍ شبيه بما يعدك به أبوك المفتقد. ومن صميم ذهوله استيقظ مرةً على صوت محمد الساوي وهو يهتف: صابر أفندي .. تليفون!
وثب في انتباهٍ حاد واندفع نحو المكتب. هل أخيرًا؟ وتأهبت جميع حواسه لسماع الكلمة الموعودة.
– آلو …
– حضرتك صاحب الإعلان؟
أجاب وهو يحس بدبيب دموع الراحة في أقصى مسالك عينَيه: نعم، من حضرتك؟
– أنا الرجل الذي تطلب فيما أعتقد.
– سيد سيد الرحيمي؟
– نعم!
– هل الصورة صورتك؟
– نعم.
ازدرد ريقه بصعوبة، ثم قال بصوتٍ متهدج: كيف أقابلك؟ أي مكان تحدده؟
– ولكن لماذا تريدني؟
– فلنؤجل ذلك للمقابلة.
– أُفضِّل أن تعطيني فكرة قبل المقابلة.
– لكن ذلك متعذر بالتليفون ولا ضرر من المقابلة البتة!
– هل يمكن أن أعرف من أنت؟
– اسمي منشور في الإعلان.
– أعني مهنتك أو عملك؟
– من الأعيان!
– ولم تريدني؟
– ستعرف ذلك في الوقت الذي تحدده، وكله خير.
وسكت الصوت قليلًا، ثم قال: تعال الآن .. إليك العنوان: فيلا ١٥ شارع التلبانة بشبرا.
سأل عم خليل وعم محمد عن العنوان، ولكنهما لم يعرفاه، وقال له الساوي: أسماء الشوارع تتغير كل ساعة، اذهب إلى شبرا أولًا ثم اسأل هناك عن الشارع.
وذهب إلى شبرا، وحرق ساعات النهار في البحث والسؤال مندفعًا بإصرارٍ محموم، ولكنه لم يجد أحدًا قد سمع عن الشارع. ولما أعياه التخبط ذهب إلى قسم شبرا، وهناك تأكد من عدم وجود شارع بهذا الاسم. تدعى إلى فراغ اليأس. هل أخطأ السمع؟ هل عبث به عابث؟
ورجع إلى الفندق وصوت الشحاذ يعلو بالمديح فكره كل شيء إلى حد المرض. ولما رأى المرأة في مجلسها المألوف امتزجت كراهيته برغبةٍ عنيفةٍ دموية. وأخبره الساوي أن شخصًا سأل عنه في التليفون أكثر من مرة، ورجح أنه نفس الشخص الذي طلبه أول النهار، فعاوده الأمل، وقال إنه أخطأ السمع بلا شك، وإن الرجل استبطأه فكرر السؤال عنه. وتمتم عم خليل: وُفِّقتَ إن شاء الله؟
فأجاب متظاهرًا بالمرح: في الطريق …
وخطف من المرأة نظرة ثم مضى إلى مجلسه بالاستراحة منهوك القوى. وتسللت إلى المكان كآبة مساء الخريف فأُضيئت الأنوار. واختفت المرأة فازدادت الكآبة كثافة. لا شك أن الرجل سيعيد المكالمة. وإذا بالساوي يلوح له بالسماعة فهرع إليه: آلو …
– صابر؟ فات النهار ولم تأتِ؟
– لكني لم أجد الشارع!
– هل بحثت عنه حقًّا؟
– طول النهار تقريبًا .. التلبانة رقم ١٥ بشبرا!
– حقيقة إنك حمار!
وضحك ضحكةً طويلة قبل أن يغلق السكة. أعاد السماعة وغادر الفندق. انتفض طوال الوقت من الغضب. عابثٌ كلبٌ وغد! هكذا يُرَد إلى نقطة البدء ودون بادرة أمل. وذهب إلى بقالة الحرية بكلوت بك، فاشترى زجاجة كونياك، وأعدَّ له الرجل عشاء سمك. يوم عبث ويأس فلا أقل من أن يختم بسهرةٍ مستهترة. وشرب بسرعة ودون أدنى اهتمام بالنقود التي تُنْفَق، كأيام النبي دانيال، عندما قالت له: الدنيا جميلة وأنت زهرتها. وهواء الإسكندرية المعربد المليء بالفتن. أما هذه المدينة فلا يلقى فيها إلا العناء، وكل ساعة تمر تقربه من النهاية المخيفة. وماذا بعد الانتظار والجري وراء المجهول في الظلام؟ وإذا خطر له أن يمتهن مهنة أمه فسيكون هزأة رجال الليل بالإسكندرية. واللكمة التي كانت تؤدبهم تنقلب راحةً مبسوطة لخدمتهم. الجريمة دون ذلك يا أوغاد. لعل عابث التليفون واحد منكم فالويل لكم. وامرأة الفندق متعة يرغب فيها منذ عهد الأنفوشي، وإلهام عبيرٌ طيب، ولكن ما قيمة أي شيء قبل العثور على الأب؟ وتبسم بالنشوة رغم رائحة السمك، ومضى يسير تحت البواكي المقطبة. وحنَّ إلى الرقص في الكنار الليلي، والشوارع السنجابية المغسولة بماء المطر، والهواء المنبعث من الهدير الذي يغطي الأجساد بغلالةٍ سمراء؛ ومسَّ دمَه جنونٌ حيواني كليلة المطاردة. وأمه كانت تدخن النارجيلة وتحكم الرجال، وعندما تجلس لمناقشته تجلس كملكة. وقالت له افعل ما تشاء، ولكن لا تسرف، فلا عدو لنا إلا الفقر. وقالت له اعشق كل يوم امرأة، ولكن لا تجعل لإحداهن من سلطان عليك. وهام على وجهه في الليل كالثور. وفي ملهى الكنار تعبث الأيدي تحت الموائد عبثًا فاضحًا. ولكن أين سيد سيد الرحيمي؟ وهتف بصوته المليء «يا رحيمي»، ثم راح يدندن بالأغنية الإسكندرانية: «ما تبطل الشقاوة وتعال عندنا». وبحكم الكونياك والسمك والهمِّ جرَّد الزوجة من ثيابها وعبث بها بوحشية. ورجع إلى الفندق عند منتصف الليل فوجده غارقًا في النوم. ودخن سيجارة في حجرته الأثرية ثم نام. واستيقظ. انتبه إلى أنه استيقظ على صوت وفتح عينَيه. ثمة ظلمةٌ عميقة والنافذة لم تنضح بأي نور. ثم سمع نقرًا خفيفًا متقطعًا على الباب. جلس وهو يرهف السمع، فعاوده النقر الخفيف الحذر. مدَّ يده إلى مفتاح الكهرباء فأضاء المصباح العاري، ثم مضى إلى الباب وفتحه بخفة. وما إن تحركت الضلفة عن فرجة حتى مرق منها شخص، ثم ردَّ الباب وراءه بسرعة. اشتعل يقظة وهو يحملق فيها، ثم غمغم بذهول نشوان: أنتِ؟
نظرت فيما حولها بحركةٍ تمثيلية مازحة كأنما فوجئت بخطأ لم يجرِ على البال وتمتمت: أين أنا؟ أخطأتُ المكان؟
وحبكت الروب حول صدرها نصف العاري، وعضت على شفتَيها لتئد ابتسامة، فجذبها إلى صدره، إلى بيجامته المبعثرة، وشعره المنكوش، وضمها إليه بقوة تعادل الصبر المعذب الطويل.
– أما أنا فإني أنتظر مائة عام.
واتجها ملتصقَين نحو السرير. وفي الطريق أطفأ النور.
– ألم تصادفكِ متاعب؟
– كلا.
هي أدرى بأمرها وهو لا يهمه شيء. ورفع شفتَيه عن ثغرها لحظة ليسألها: لم أعرف اسمكِ؟
– كريمة.
فهمس في أذنها من خلال أنفاسٍ حارَّة: جدًّا.
إذن فأنتِ من النوع المقتحم! لم أفطن إلى طبعك بسبب دهائكِ الجميل. وفي الوقت المناسب لا يردُّكِ شيء عما تريدين. ما أحلى الحب في الظلام! وتحقق حلم الجنون في دوامة من الذهول، وانصهر التأمل في وقدةٍ طاغية، وسبحت موجة من النار في الظلمة الدامسة، واستحكمت لحظات النسيان المطلق، فالتهمت الماضي والحاضر والمستقبل.
– قلتُ إنكِ أكثر من كريمة!
– وأنت!
وتسللت إلى أنفه رائحةٌ خفيفة، ولكنها مثيرة، جمة الذكريات. وتوقع أن يسمع هدير البحر. حتى تواصل تردد الأنفاس كصدى رنين الأوتار بعد توقف العزف. ورأى الظلمة مرةً أخرى. سواء فتح عينَيه استطلاعًا أم أغمضهما شبعًا وارتياحًا. وقال بصوتٍ منغوم: في الدنيا أشياء تستحق عليها التهنئة حقًّا.
– سيجارة من فضلك.
أشعل لها سيجارة وهو يقول: ظننتك غير مدخنة.
– نادرًا جدًّا ما أدخن.
وترك العود يعكس على جسدها ضوءه، ولكنها نفخته فساد الظلام، وانتشرت رائحةٌ فسفوريةٌ خفيفة.
– لم ألمس فيكِ طوال الأيام الماضية إلا المعاندة!
– ولا المعاندة! أنا لا أُبدي شيئًا.
– أما أنا فصارحتكِ بكل شيء من أول يوم.
فضحكت قائلة: عندما رأيتك قادمًا منذ عشرة أيام قلت لنفسي هذا هو!
فهتف بانتصار: الإسكندرية؟
– كلا، لا أقصد هذا، ولكنني قلت هذا هو رجلي.
– والإسكندرية؟
– أنت تختلق حكايات لا أصل لها.
– حقًّا؟
– ولمَ أكذب عليك؟
– عجيب أن يُخلَق مثلك مرتَين!
– يجب ألا يسرقنا الوقت حتى لا تحدث حوادث.
– كيف أمكنكِ المجيء؟
– أخذ المنوِّم فنام، متاعبه كلها تتجمع عند النوم.
– ولكنكِ خيبتِ ظني، طالما قلتُ لنفسي إذا كانت هي فتاة الإسكندرية فقد يعني هذا أنني سأوفق في البحث.
– تعني أباك؟
– نعم.
– ما حكايتك بالضبط؟
– نشأت وأنا أظن أبي ميتًا، ثم أخبرني ثقة بأنه حي، هذه هي الحكاية باختصار.
– لعلك تبحث عن المال؟
– ولكنه ليس كل شيء، الذي يهمني الآن أكثر من سواه أن أسمع منكِ أنك ستجيئين كل ليلة؟
– كلما وجدتُ فرصة.
فقبَّلها قبلةً طويلةً هادئة، فقالت بشقاوة: كلما راق لي ذلك.
فتشمم عبير صدرها بامتنان، وقال بتوسل: لا تنكري الإسكندرية.
– أنت مجنون بخيال، واحذر أن تكون كذلك في حكاية أبيك!
فقال بوجوم: أودُّ لو كان ذلك كذلك؛ لأريح نفسي.
– همك أكبر مما ظننت.
– نعم، ولكن همي الجديد بعد هذه الليلة أن أبقى هنا أكبر مدةٍ ممكنة.
– وماذا يمنعكَ من ذلك؟
بعد تفكير: إذا نفدت نقودي قبل العثور على أبي وجب عليَّ الرجوع إلى الإسكندرية.
– ومتى تعود إلينا في تلك الحال؟
– عليَّ أن أبحث عن عمل هناك.
فشبكت أصابع يدها في أصابع يده، وقالت: لا!
ارتفع انتباهه إلى القمة، فعادت تسأله: ولم لا تبحث عنه هنا؟
– غير ممكن.
– كلك ألغاز، ولكني أخبرك بأن النقود ليست مشكلة.
خفق قلبه، وقال مقتبسًا من جو الكنار الليلي: الظاهر أنكِ مليونيرة.
فقالت في مباهاة: هذا الفندق .. والمال .. كل شيء باسمي أنا.
– والرجل موظف عندك؟
– كلا، هو المتصرف في ماله طالما أنه على قيد الحياة.
– على أي حال هذا لا يعني شيئًا بالنسبة إليَّ.
وخجل من مكره الساذج رغم الظلام، فقالت: لندعُ الله أن يهديك إلى أبيك فهو حل أيسر من غيره.
– هذا ضروري ولو أنني لن أهتم منذ الساعة بشيء سوى انتظارك.
وأحاطها بذراعه، ولكنها تزحزحت إلى حافة السرير قائلة: اقترب الفجر ووجب الذهاب!
ورجع إلى سريره بعد أن أغلق الباب وعناقها لاصق به كالعبير. واستلقى في ارتياحٍ عميق فسرعان ما زحف عليه التخدير. وقال إنه يشعر لأول مرة بأنه يحتمل أن يستغني عن أبيه، ولكن عندما لوح له الساوي بسماعة التليفون هرع إليه كالريح، ثم هتف بجزع: ألو؟
وإذا بصوتٍ جاد يسأل: صابر سيد صاحب الإعلان؟
– نعم أنا هو.
– أنا سيد سيد الرحيمي فماذا تريد؟
– لا بد من مقابلتك!
– أنا منتظرك بمحل فتركوان، هل تعرفه؟
– نعم، سأكون عندك في خلال دقائق.
وأجال عينَيه في المحل حتى رأى رجلًا جالسًا إلى مائدة إلهام، لم يشك لحظة في أنه صاحب الصورة. بل إنه لم يكد يتغير في مدى الثلاثين عامًا، عدا انتشار المشيب في سوالفه، وانطباع تجاعيد غير ملحوظة إلا عند التدقيق حول فيه وتحت عينيه. نظر صوبه في رهبةٍ حقيقية إذ وجده أضخم وأفخم من أي خيال. واتجه نحوه حتى حدس الرجل شخصيته فنهض لاستقباله فتصافحا، وصابر لا يحول عنه عينيه.
– صابر أفندي؟
– نعم، وسيادتك صاحب الصورة بلا ريب.
وجلسا والرجل يقول: أنت شاب في عز الشباب، ويخيل إليَّ أني رأيتك قبل الآن، أين يا ترى؟
– أنا في الأصل من الإسكندرية، وأنزل الآن في فندق القاهرة بشارع الفسقية، وأمشي كثيرًا في شارع كلوت بك وميدان المحطة، وقد جلست أكثر من مرة إلى هذه المائدة.
– لا شك أني رأيتك في أحد هذه الأماكن، فأنا أزور الإسكندرية من آن لآن، وأمرُّ كل يوم بميدان المحطة، وليس نادرًا أن أجلس في هذا المحل.
فهتف صابر: هذا أعجب ما سمعت، ولو أنني لا أذكر أني رأيتك من قبلُ إلا بالتخيل، ولكن متى اطلعت على الإعلان؟
– منذ أول يوم.
– حقًّا؟ ولكنك لم تتصل بي إلا اليوم!
– بلى، ذلك أن الإعلان يدل على أنك لم تستطع الاهتداء إليَّ بالطريق العادي على حين أنني رجلٌ معروف جدًّا، ولا أيسر من الاهتداء إلى بيتي أو مكان عملي، لذلك تجاهلت نداءك، ولما لمست إلحاحك لم أرَ بدًّا من الاتصال بك.
– هذا عجيب حقًّا فإني لم أصادف أحدًا يعرفك، ولا رقم لك في الدليل.
– لندعْ ذلك الآن وخبرني عما تريد؟
– الحق أني أريدك أنت، ولكن ألا تلاحظ شيئًا يا سيدي؟
ونظر في وجهه متوقعًا أن يلاحظ الشبه بينه وبين الصورة، ولكنه خيب ظنه فقال بجزع: انظر إلى وجهي.
– ماذا في وجهك؟
وهنا سمع صوتًا يهمس: أستاذ صابر!
التفت نحو الصوت فرأى إلهام واقفة. نهض فصافحها، ثم همَّ بتقديمها إلى أبيه، وإذا بالرجل يمد لها يده قائلًا: إلهام! كيف حالك؟
وقبَّلت الفتاة يده باحترام فهتف صابر: إذن أنتِ تعرفينه!
فسأله الرجل دون اكتراث بدهشته: خبِّرني متى عرفتَ ابنتي؟
فصاح صابر: ابنتك! رباه!
وبسرعة غير متوقعة غادرت إلهام المكان قبل أن يستطيع منعها، وقال الرحيمي بهدوئه الذي لزمه طيلة الوقت: كثيرًا ما أسمع كلامًا لا معنى له، ومنه ما يمسني شخصيًّا، ولكني لا أكترث لذلك البتة، خبرني الآن عما تريد؟
جلس صابر في حال من الانحلال التام، وبحركةٍ آلية قدَّم له الصورة الجامعة بينه وبين أمه التي رأى نصفها في الإعلان، ووثيقة زواجه بأمه، وشهادة ميلاده، وشهادة تحقيق الشخصية. نظر الرجل فيها واحدة بعد أخرى وهو هادئ كتمثال. وبكل برود وضع كلًّا منها فوق الأخرى، وبحركة سريعة حاسمة راح يمزقها إربًا. صرخ صابر، وانقضَّ عليه يريد أن يمنعه، ولكن بعد فوات الأوان. أمسك بثنية الجاكتة وصاح به: أنت تمحو وجودي محوًا فالويل لك!
فقال الرجل دون أن يخرج عن هدوئه المثير: ابعد عني، لا تُرني وجهك، دجال كأمك، ولا شأن لي بك، اذهب!
ودفعه عنه، فتقهقر حتى اصطدم رأسه بحافة البوفيه.
واستيقظ. فتح عينَيه وهو يتنفس بصعوبة، فرأى الحجرة الأثرية على ضوء النهار الذي ينضح به الشيش. وأدرك أنه عارٍ تمامًا تحت الغطاء، فتذكر الليلة المنطوية بجميع ملابساتها، وتنهد بارتياح، ولكنه شعر — لشدة انفعاله بالحلم — بإعياء وحزن.
٦
وتعددت أحلامه لدرجة أثارت انزعاجه وامتعاضه. ويستيقظ فيلازمه شعور بالتعب والكدر، وأحيانًا يُخيَّل إليه أن الصمت يخنق العالم. وكثيرًا ما يُذكِّره ذلك الصمت بالصمت المصاحب لارتفاع الموجة وتجمعها قبل أن تنفجر مُرعِدةً مُزبدة. وفي الحلم يطلُّ عليه وجه أبيه بالرغم من أن العشق أصبح المحور الذي تدور حوله حياته؛ العشق الذائب في أحضان الظلمة. وهو يكره الأحلام لأنها ترجعه إلى فترةٍ ماضية من حياته ألحَّ فيها عليه الصرع حتى أوشك أن يهلكه. وطاردته ذكريات المرض طويلًا بعد شفائه منه فكان الصرع من أسباب اندفاعه في طريق البأس والقوة كسُمعة أمه سواء بسواء. أما الصراع الذي يخوضه في الأحلام فيورثه عقب اليقظة انهاكًا وحزنًا فيمتلئ بأفكار الفناء، وإذا ترامى إليه الأذان من الجامع القريب وهو على تلك الحال تضاعف حزنه.
وعندما دخل إدارة الإعلانات بجريدة أبو الهول تطلع إليه نفر من الموظفين في فضول، ولكن تطلُّع إلهام إليه أفعمه بنشوةٍ أحلى من بسمة الفجر الأولى فوق البحر الأبيض. وصافحها بحرارة كما ينبغي لصديق، فسألته: أما من جديد؟
فأجاب وهو يملأ من وجهها عينَيه: جئت لأجدد الإعلان ولو أنني ترددت طويلًا هذه المرة.
– هل تفكر في وسائلَ أخرى؟
ابتسم ولكنه لم يخبرها بأن اهتمامه بالعثور على الرحيمي لم يعد في مكانته الأولى. وقال له الأستاذ إحسان طنطاوي: عندنا لك مفاجأة.
فجلس وهو يتساءل، فقال الرجل: سألت عليك امرأة بالتليفون.
– امرأة؟!
– سألت عن سر الإعلان.
– حقًّا؟ ومن هي؟
– لم تكشف لنا عن هويتها ولم نشفِ لها غليلًا بطبيعة الحال.
– أليس من المحتمل أن تكون من طرف الرحيمي؟
فقالت إلهام: قد وقد؟
– وما قد الأخرى؟
فقال الطنطاوي ضاحكًا: قد تكون من طرفك أنت.
استعذب هذا التحقيق الذي أخذ بمجامع قلبه، وقال: أو عابثة من العابثين، لقد لعب معي أحدهم لعبة سخيفة.
تُرى هل المرأة من طرف الرحيمي؟ زوجته أو أرملته؟ أو لعلها كريمة دُفعت إلى ذلك بحب الاستطلاع، إنها امرأةٌ مجرِّبة لا تصدق شيئًا بسهولة. هي داهية بقدر ما هي فتَّاكة، بقدر ما هي لذةٌ طاغية. وجلس إلى المائدة بفتركوان فتذكر لحظات الحلم العجيب. وجاءت إلهام فاتخذت مجلسها، وطلب الغداء، وتبادلا ابتسامًا ودودًا، وقالت: لستَ على حماسك الأول للإعلان وهذا أحسن.
أنت لا تدرين شيئًا عما خفض درجة حماسي!
– أحسن؟
– نعم فهذا البحث يجب أن يُترك للزمن الطويل.
– ولكن ألا تسمحين لي بأن أدفع ثمن الغداء ولو مرة؟
– أنت الضيف لا أنا.
– ما ألطفكِ يا آنسة إلهام، ألا يمكن أن أذكر الاسم مجردًا؟
– بكل سرور.
– ما ألطفكِ!
ومضيا يتناولان الطعام في ارتياح وسرور. وقرأ في عينَيها الزرقاوَين اهتمامًا بموضوعٍ ما لن يلبث أن يُترجَم إلى كلمات، فانتظر الكلام بشغف مؤمِّلًا أن يكشف فيه عن حقيقة مشاعرها. وتذكر ظلمة النصف الثاني من الليل وذوبانه في فتنةٍ رائعة، فعجب لانقسامه الحاد بين المرأتَين. وقالت: يُخيَّل إليَّ أنك في إجازةٍ خاصة لإنجاز هذه المهمة؟
تجسُّ النبض للتعرف عليه. وساوره قلق ولكنه قال: لست موظفًا بأي معنًى لهذه الكلمة، أنا من الأعيان.
– تزرع أرضك؟
– أبي من ذوي الأملاك.
واضح أنها تتستر على شعور بعدم الارتياح. قال: وأنا أدير أملاكه العقارية، وهو عمل أثقل من أي وظيفة.
ثاني كذبة يكذبها عليها وهو كاره رغم أنه لم يكذب بعدُ على المرأة الأخرى.
– المهم أنك لا تعيش في فراغ فهو عدو البشر.
– هو كذلك، عانيته أسبوعَين، ولكن كيف عرفتِ ذلك؟
– ليس عسيرًا أن أتصوره، ثم إني قرأت عنه.
– التجربة لا تكون حقيقية إلا حين أمارسها.
– رأيٌ وجيه.
– في سنِّكِ هذه لا يتاح لكِ معرفة الحقائق بطريقتي إلا فيما ندر.
– إن كنتَ تتصورني طفلة فأقلع عن تصورك.
يا ربي كم أحبها! وكم يسعدني الوجود بقربها! وتقدم خطوةً جديدة فقال: أنت تعرفين كل شيء عني تقريبًا، فهل تُعرِّفينني بكِ؟
– وماذا أعرف عنك؟
– اسمي، عملي، أبي، مهمتي في القاهرة، إعجابي بكِ.
وهي تضحك ضحكةً صامتة: لا تخلط الحقائق بالخيال.
وقال لنفسه بل هو الحقيقة الوحيدة التي عرفتِها. وتجهم الجو في المحل كأن نوافذه أُغلِقَت، وغاب إشراق الظهيرة السابح وراء الحاجز الزجاجي في الخارج فتخيلا جسامة السحابة التي أخفت الشمس.
وقال مستدرجًا إياها إلى الاعتراف: وبدوري فأنا أعرف اسمك ووظيفتك.
– وماذا تريد أن تعرف أكثر؟
– ما تجودين به، متى توظفتِ؟
– منذ ثلاثة أعوام، وهو تاريخ تخرجي في التجارة الثانوية، ولكني مستمرة في التعلم.
وقلق. لا تسألي عن مؤهلاتي فالكذب هنا لا يُجدي. ولكنكِ لبقةٌ مهذبة.
– وأسرتكِ بالجيزة هه؟
– أعيش مع أمي فقط، أسرتنا من قليوب، وخالي بمصر الجديدة، المهم أن في أسرتنا مفقودًا مُهمًّا كما في أسرتك.
فقال بدهشة: من هو؟
أجابت وهي تكتم ضحكة: أبي.
اتسعت عيناه الجميلتان في ذهول. وتذكر الحلم العجيب. وقَصَّهُ عليها مُحَوِّرًا فيه بما يتمشى مع كذبته الأولى. الآباء المفقودون أكثر مما تتصور، ولعلهما يبحثان عن أبٍ واحد.
– لكن كيف فُقِدَ أبوكِ؟
– لا كأخيكَ، ألا ترى أنني أبيح أسرار أسرتي بغير حساب؟
فرمقها بعتابٍ ما لبث أن اختفى وراء نظرةٍ متألقة بحب الاستطلاع في ذروته، فقالت: الحقيقة أن أبي انفصل عن أمي وأنا في المهد.
– هرب؟
ضحكت ضحكةً عالية فتنبَّه إلى هفوته قائلًا: أعني اختفى؟
– إنه محامٍ معروف في أسيوط، ولعلك سمعت عنه فهو الأستاذ عمرو زايد.
زال عنه توتر التوقع، فقال في دعابة: ظننته سيد سيد الرحيمي.
فتساءلت ضاحكة: أيسعدك أن تكون عمي؟
فأجاب بقوة: كلا.
تورَّد وجهها الأسمر وهي تقول: صممت أمي من بادئ الأمر على الاحتفاظ بي إلى النهاية، وجاراها أبي؛ إذ كان شارعًا في الزواج من أخرى، فاتفقا على نفقة، ثم عادت إلى بيت جدي بالقاهرة، وبعد وفاته عشنا وحيدين.
تابع القصة بقلبٍ لم يخلُ من سوء الظن. كحاله مع جميع النساء والأمهات خاصة. بيد أن إلهام لم تسمع قطعًا عن القوادين والبلطجية والبرمجية. هل تستطيع أن تحكي قصتك في مثل هذا التفصيل؟ وغيمت روحه كالسماء.
– ويومًا قال خالي إن عليَّ أن أعرف أبي، فقالت أمي إنه لا يستحق ذلك، وإنه لم يسعَ إلى رؤيتها مرةً واحدة، وكنت أشعر طوال الوقت أنني بلا أب، وقال خالي إنني أكبر يومًا بعد يوم، وإنه لا غنى لي عن أبي بحال.
فغمغم وهو لا يدري تقريبًا: والحرية والكرامة والسلام!
فهزَّت منكبَيها في استهانة، وقالت: أصرت أمي على الرفض خشية أن يفكر في استردادي، وانضممتُ إليها بلا تحفظ، واتفق رأينا على أن العمل أهم من الأب وأبقى.
آه كيف تتكلم الجميلة؟ أي عمل يغني عن الحرية والكرامة والسلام؟
– واجتهدتُ حتى أكملتُ تعليمي، وحصلت على الوظيفة في امتحان أعلنت عنه الجريدة، وانتسبت بعد ذلك إلى معهدٍ تجاريٍّ عالٍ.
– وأبوكِ ألا تفكرين فيه؟
– كأنه غير موجود، وهو الذي اختار ذلك.
– لأنكِ في غير حاجة إليه؟
– كلا، فأنا في غير حاجة إلى أمي كذلك، ولكني أحبها ولا أتصور الدنيا من غيرها.
ليست على شفا هاوية مثلك. وليست جائعة إلى الحرية والكرامة والسلام. ولا يهددها ماضٍ ملوث قد ينقلب في أي لحظة فيصير لها المستقبل الوحيد.
– إني سعيدة بعملي رغم أنني لست مثلك من الأغنياء.
طعنته وهي لا تدري. لكن الهيام غلب على جميع مشاعره. ولولا خوفه لاعترف لها بحقيقة حاله. ولما ذهبت شعر بقلق في وحدته. إن سمو عواطفه نحوها يُغريه بأن يجرِّب معها حيوانيته، وهو إغراء يقترحه عقله لا إحساسه. وهو إذ يتخيل ذلك فإنما يتخيلها مذعورة من المباغتة، ثم يتخيل نفسه مخذولًا منهزمًا. وليس عقله وحده الذي يغريه بذلك، ولكن تقاليده في معاملة النساء، ورغبته الثابتة في العبث بما يسمى بالأخلاق الفاضلة. وكما يغطي تلوثه بالقوة فهو يغطيه أيضًا بالاعتداء على الفضائل ليجعل من ماضيه قاعدةً لا استثناءً معيبًا؛ ولذلك فإن إلهام وإن قامت في حياته كالمنار إلا أنها أقلقت مخاوفه وعقده، وزعزعت أركان العالم الذي بناه لنفسه واطمأن إليه، وفي الحقيقة هو لا ينسى عذابه إلا في نار كريمة التي تشتعل في ظلام النصف الثاني من الليل.
ومشى في الشوارع مستسلمًا لجو نوفمبر اللطيف المنشط، حتى بلغ فندق القاهرة حوالي العصر. رأى عم خليل مهوَّم الرأس تحت طربوشه الطويل، وعم محمد الساوي مقتعدًا كرسيه من خلاف عاقدًا ذراعيه فوق مسنده. جلس في الاستراحة ساعة، ثم قام إلى التليفون فطلب إلهام، وقال لها: سأقابلك غدًا في فتركوان فهل تأذنين؟
– بكل سرور، ولكن خيرًا إن شاء الله؟
– كله خير، ولكني سأقابلكِ كلما أمكنني ذلك.
٧
العزاء الحقيقي تجود به ظلمة النصف الثاني من الليل، عندما تعزف الأنفاس المترددة ألحانًا من الغابات، عندما يسود النسيان المطلق الأرض والأفلاك؛ غذاءٌ دسم وراحةٌ أبدية لا كالقلق النشوان وعذاب الوحدة التي تخلفها وراءها إلهام. ولم تنقطع عنه ليلةً واحدة، مذ أيقظه طرقها الحذر من نومه السكران. ومضت سيطرتها تزحف عليه كالزمن لا مهرب منه، وهو بفضل تجاربه السابقة يمثل دور المسيطر المتحفظ، ولكن كم تخونه اللحظات! وبهذه القوة لم تتمكن منه امرأة من قبلُ، ولم تشدَّه بمثل هذه الأغلال. وهو لم يجد عندها استجابةً واحدة؛ فلم يدر إلا الظن ما حقيقتها. فليلة ذابت في أحضانه وهمست في أذنه: لا حياة لي بدونك.
كذكريات الكنار الليلي على أنغام البحر، وتلك الليالي الظافرة في كل شيء. وربت على خدها بحنان وسيادة وهو يسبح بعزم ضد موجة تشده نحو أعماق الخضوع. هي كل شيء؛ الحب، والآمال التي بعثته يجري وراء الأب الضائع. وفي ليلةٍ أخرى آنس منها تحفُّظًا شاردًا، واستسلامًا خامدًا؛ لا تعليق، ولا حماس، ولا نفور. عند ذاك سهد متفكرًا حتى مطلع الفجر. ومن شدة ضيقة ناجى إلهام داعيًا الروح الرقيق المنبثق منها كعبيرٍ فاتن لا اسم له. ويقول لنفسه إذا أرادت أن تتخذ مني أسيرًا فعلى الدنيا السلام. أنت الجحيم إذا سيطرت. وعن مآسي السيطرة تستطيع أن تحكي عشرات القصص. ولكن الحياة من غيرها لا طعم لها؛ غثيان، وفتور كالرماد، ودون ذلك الجنون والدم. وكم كانت بسيطة عند ساحل الصيادين وإن لم تخلُ من مشاكسة، كموهبةٍ كامنة لم تنضج بعدُ. ها أنت تسلكها في ذكريات الأنفوشي بعناد لا مبرر له، وتلك حقيقة ضاعت كموجة في بحر. وهي ليست الحب وحده، ولكنها نسيانٌ سحري لعذاب البحث العقيم عن الأب ويأسه، وهربٌ من دوامة القلق التي تخلقها إلهام، وهي في ذات الوقت لا تخلو من مزية أو أكثر اختصت بها إلهام أو الأب. وقال لها وهو يتعذب من تغيرها: لستِ كعادتك.
فسألته بسذاجة: هل تجدني أحيانًا مختلفة؟
أماكرة هي أم ذاهلة؟ أنسيَتْ لحن الاعتراف المعربد بالجنون؟
وأمك تكشفت لك مرة عن وجهَين؛ حين طمع صديق في زيارتها بمسكن النبي دانيال طردته من شراعة الباب بقسوةٍ وحشية، ثم خلت إلى نفسها وهي تسبُّ وتلعن، ثم أغمضت عينَيها إعياءً، وتهاوت بلا حول، وأُجهشت في البكاء.
وقال بلا اكتراث في الظاهر: حسبتكِ متوعكة.
فقالت ببساطة ولكن خُيِّل إليه أنها تتحداه: إني على خير حال.
– يسُرُّني أن أسمع ذلك.
فداعبت خدَّه براحتها قائلة في هدوء: ألا ترى أنك أعزُّ عندي من الحياة نفسها؟
أنتَ لا تتعامل بالألفاظ. وجميع ما يحيط بك ينذرك بالمتاعب، ولن يكون هذا بلا ثمن. قال بمكر: وأنتِ عندي كذلك وأكثر، ولذلك فكلما اقترب الرحيل حزنت بلا حدود.
– أنتَ تتكلم عن الرحيل؟
– السكوت لن يبعده.
– سنبعده بقدر ما نستطيع، ولكن حيلتنا محدودة؛ فغريزة النقود هي الغريزة الوحيدة التي حافظت على قوَّتها عند الرجل.
– وفضلًا عن ذلك فليس هو بالحل.
– هو جرعة إسعاف عند الضرورة.
– والرجل يقظ في هذا الجانب؟
– جدًّا، ولا تهمه النقود بقدر ما يهمه كيف أنفقها.
– غيور؟
– فوق ما تتصور، وبيننا اتفاق يجب أن أحترمه وإلا ضاع كل شيء، ولكن ماذا تفعل أنت؟ ألا عمل لك إلا انتظار مكالمةٍ تليفونية؟
– لو جاءت لاختفت متاعب الحياة.
– كان أبي شيئًا على هامش الحياة.
– وليس كذلك أبي.
– وكيف فقدتَه؟
– تاريخٌ قديم سأحدثك عنه في ظرفٍ آخر.
– ولم لا يريد أن يتصل بك؟
آه هذا هو العذاب الغامض المليء باحتمالاتٍ لا حصر لها. وعادت تسأله: خبرني عن حالك إذا لم يظهر الرجل؟
– تصوري حال رجل بلا مال، ولا أهل، ولا عمل!
– وكيف عشتَ فيما مضى؟
– ملكتُ الألوف ولكن لم يبقَ إلا عشرات.
– ماذا كنتَ تعمل؟
– لا شيء.
– لم لا تبحث عن عمل؟
– لا قيمة لأي عمل يجيء عن غير طريق أبي.
– لا أفهم.
– ولكن صدقيني.
– اشتغل بتجارة.
– لا رأسمال ولا خبرة.
– وظيفة؟
– لا مؤهل ولا واسطة.
ثم بعد هنيهة صمت: الواقع أنني لا أصلح لشيء.
فتخلَّلت غابة صدره بأصابعها وهي تهمس: إلا الحب.
فابتسم في الظلام، ثم سأل: تُرى كيف تمضي بنا الحياة؟
– الأمور معقدة، وزوجي غير مأمون الجانب.
– كم أنه طاعن في السن!
– هو كذلك، وأضيف أنه من صلب معمَّرين عاشوا حتى قيل إن الموت نسيهم!
– وعمره على أي حال أطول من عمر البقية الباقية من نقودي.
– وقد يشم رائحةً غريبة في الهواء فلا نلتقي بعد ذلك.
فشدَّ على راحتها فوق صدره، وقال: عند اليأس نهرب.
– مستعدة لذلك، ولكن ماذا نصنع بعد الهرب؟
فقال بحدة: حتى حبنا لا قيمة له بدون أبي.
– فكِّر ولا تحلم.
– أيعني هذا أنه يجب أن ننتظر؟
– وكم نتحمل الانتظار؟ وماذا بعد الانتظار؟
– الموت!
– ربما سبقناه إليه، يخيل إليَّ أحيانًا أنه سيدفنني، لا مرض به البتة، وبي أنا مرض في الكبد واللوزتين.
– شيء مضحك!
– هو في الواقع مُبكٍ، وعند أول بادرة شك سأمتنع عن الزيارة.
– عند ذاك أُجنُّ.
– وأُجنُّ أنا أيضًا، ولكن ما الفائدة؟
– الانتظار غير مجدٍ، والهرب عقيم، والتليفون حلم، ما العمل؟
– أجل ما العمل؟
– أظن الهرب أنسب الحلول.
– أبدًا.
– إذن فهو الانتظار.
– ولا الانتظار.
– إذن ما العمل؟
– آه، ما دمنا عاجزين فلنقطع ما بيننا.
سدَّ فاها براحته لحظة وهو يقول: أهون من ذلك الموت.
فتنهدت قائلة: الموت.
ثم وهي تناجي نفسها: أجل، الموت!
هزَّت نبرتها أعماقه فأرهف حواسه وقلبه يخفق. وطال صمت لدرجة أرهقته، فقال: ماذا أسكتكِ؟
– تعبتُ، لا تسألني عن شيء.
– ولكن مشكلتنا ما زالت عند نقطة البدء.
– دعها حيث هي.
– ولكن يوجد بلا شك حل.
– ما هو؟
– إني أسأل.
– وأنا أسأل.
– لكنني توقعت في لحظة أن تقولي شيئًا هامًّا.
– لا رأي عندي، ولكنه حلم، كالتليفون؛ أن أرث سريعًا الفندق والمال المودَع باسمي، وأن نعيش معًا إلى الأبد.
– آه!
– عيبنا أننا عند العجز نحلم.
– ولكن الحلم قد يتحقق فجأة.
– كيف؟
– يتحقق وحده!
– صوتكَ ضعيف يقطع بأنك لا تصدق نفسك.
– نعم، وإذن؟
– وإذن سيطلع الفجر ونحن لا ندري، وقد قلنا ما يمكن أن يُقال.
ارتدت ثيابها في الظلام وهو يتطلع إلى شبحها المتحرك. وتبادلا قبلة وراء الباب، ثم ذهبت.
اندس تحت الغطاء فغشيته كآبةٌ مقبِضة. الظلام لون الموت، وظلمة القبر تشهد الآن صورة لأمك لم يشهدها أحد. وعندما نطق القاضي بالحكم وددت أن تخنقه. وفي السجن قالت لك: «أنا عارفة الوغد الذي وشى بي، سأقتله!» كنتِ جميلة وقوية! وما اعترى صحتك في السجن لا يُنسَى، وحبك لي لا يُنسَى كذلك، أما صورتكِ الآن فلا يمكن تخيُّلها. كم من هموم تتلاشى لو اعترفتُ لإلهام بكل شيء! هي تعطيك كل شيء صادق، وأنت لم تعطها إلا حزمة من الأكاذيب. أبي .. لمَ تصرُّ على الاختفاء؟ قال: «أمك تظن أنها قتلتني وفي الحقيقة أنا الذي قتلتها.» إذن فأنت مختفٍ لأنك قاتل «ولكنني سأعرف كيف أهتدي إليك.» وإلهام أنت تغتصبها وهي تقاوم بشدة. وتصيح وهي تداري ثوبها الممزَّق: «سأقتلك!» سأقتلكِ أنا لأخفي جريمتي. وارتفع صوت المؤذن عند الفجر فهاله أنه لم ينم دقيقةً واحدة، ولكنه تذكر الاغتصاب والقتل فهدأت نفسه قليلًا، وأدرك أن النوم سرقه وهو لا يدري بعض الوقت. ولعله حلم بالسهاد فيما حلم. واستيقظ مرةً أخرى في السابعة، وفتح النافذة فرأى الضباب يزفر على الآفاق، والسماء طبقات من الألوان القاتمة. وترامى إليه صوت الشحاذ:
وما كاد يبلغ باب الاستراحة حتى رأى عم خليل نازلًا متكئًا على ذراع علي سريقوس، متلفِّعًا بالعباءة. جلس ينظر إليه من بعيد، إلى يده المعروقة المرتعشة، والكوفية السوداء التي أخفت عنقه النحيل. خير ما تفعل يا عم خليل هو أن تموت. أنا أعرف عنك أكثر مما تتصور. أنت لا تنام إلا بالمنوم وبعد أن تدلكك كريمة طويلًا. وسعادتك تمارسها في الحنان العقيم. ولذتك الوهمية عندما تجردها من ثيابها فتذهب أمامك وتجيء، ثم تحبها براحتَيك. يستوي لديَّ أن يجيء أبي أو أن تذهب أنت. مرة أوشك أن يقتل في الكنار الليلي؛ في طرقة المرحاض اعترضه ضابطٌ بحري، وقال له: «اترك علية فنار وإلا …» واشتبكا في صراعٍ مخيف. تلقى منه ضربات وكيَّل له ضرباتٍ وحشية. ولم يكفَّ حتى حين استلقى غريمه بلا حراك. لم تعد مجرد خطة للتغلب على الخصم، ولكن اندفاعًا جنونيًّا للقضاء عليه. لولا أن رمى النادل بنفسه عليَّ صائحًا «هل تحب المشنقة؟» وعند الفجر قالت أمه: «يا حسرتي لما أسمع أنني كنت سأفقدك!» وقالت: «إذا ضايقك وغد فخبرني، وأنا قادرة على إرساله إلى القبر!» كما فعلتْ مع منافسة لها فقتلها رجل من أعوانها ثم فرَّ إلى ليبيا. وقالت الإسكندرية إن بسيمة عمران هي الفاعلة الأصلية. ولكن أين الدليل؟ أما أنت يا عم خليل فلن تتغير تغيرًا يُذكَر بعد الموت.
٨
قال صابر يخاطب الأستاذ إحسان الطنطاوي: أظن أن الاستمرار في الإعلان عبث!
فأجاب الرجل بتسليم: أظن ذلك.
– لا شك أنه اطلع على الإعلان، هو أو أحدٌ من ذويه.
– هذا هو اعتقادي.
وتدخلت إلهام في الحديث قائلة: إذن فهو يرفض العودة.
فقال صابر: أو لعله يقيم في جهةٍ نائية، أو خارج القطر.
– على أي حال فالاستمرار في الإعلان كما قلت عبث.
ثم وهي تزداد حماسًا لفكرتها: كل شيء يتوقف عليه وحده، والزمن هو الذي يعالج مشكلة من هذا النوع، وسوف يعود إليكم عندما يريد ذلك، كما نقرأ أحيانًا عن عودة الغائبين.
إنها لا تدري أنه هو المحتاج إلى الغائب وليس العكس، وأنه لا يحتاج إليه حبًّا في الحرية والكرامة والسلام فحسب، وإنما خوفًا من التردي في الجريمة. إنها لا تدري شيئًا عن الجريمة التي تتعقبه، ولا المأزق الذي سيجد نفسه فيه عندما تنفد نقوده في القريب. ولم يعد في الطاقة الاستعانة بالمحامين، ومشايخ الحارات، وغير هؤلاء من المرشدين. وإنه يفكر كثيرًا في نفض يده من الأمر، ولكن لا يهون عليه الكفُّ النهائي عن البحث. وإذا قرر يومًا الكفَّ عن البحث فسوف يندفع في طريقٍ آخر كثورٍ أعمى. قال: فلنجدد الإعلان للمرة الأخيرة.
وانتظر في فتركوان، لا يكاد يمر يوم دون لقاء. صار اللقاء عادةً جميلة للطرفَين. أجل في النصف الثاني من الليل ينسى كل شيء، ولكن ما إن ينبلج الصبح حتى تنزع نفسه شوقًا وحنانًا إلى إلهام. وفي محضرها ترتفع به مشاعره إلى آفاق من السعادة والأنس والصفاء، ولكن رغبته الغشوم في كريمة لا تموت، تغفو إلى حين ولكن لا تموت. جاذبية إلهام لا تخمد، ولكن سيطرة الأخرى لا مهرب منها كالقضاء. ولشدة وطأة هذه السيطرة يمقتها أحيانًا بقدر ما يعشقها، وكم نادى باطنه إلهام لكي تنقذه، ولكنه نداء اليأس. وشدَّ ما يهرب من هذا السؤال المزعج «من تختار إذا خُيرت؟» ولكنه يدأب على جسِّه كدُمَّلٍ كامن. أحيانًا يمقت الليل وهو ينتظر كالأسير. وإلهام سماءٌ صافية يجري تحتها الأمان، وكريمة سماءٌ ملبدة بالغيوم تُنذر بالرعد والبرق والمطر، ولكنها أيضًا سماء الإسكندرية المحبوبة. وكان يحتسي الشراب على صوت الرعد بالنبي دانيال، ويدفئ قلبه بالقُبل. وهي تأبى أن تعترف بأنها فتاة عطفة القرشي، لماذا تخفين الأسرار؟ لأنك العذاب والشيطنة. وقد التحمت في خياله بهدير البحر، ورائحة الماء المالح واليود، وحنين الوطن، ومغامرات الليالي المفعمة بالشهوات، والمعارك البهيمية. وهي مثله تغلي في شرايينها دواعي الفطرة والغريزة والعمى والقحة، لا كإلهام نسمة تستقر في ذروة لا يرقى إليها أحد. ونظر إلى عينَيها ترنوان إليه وهي تتخذ مجلسها قبالته. وأبدت ملاحظة عن انشغاله فقال: عندما أستنفد وسائل البحث فلن أجد عذرًا للبقاء في القاهرة.
فأسبلت جفنَيها وهي تسأله: أقررتَ متى تسافر؟
– لا أتصور أي حياة خارج القاهرة.
فقالت بصراحةٍ فاتنة: كلامٌ جميل أرجو أن تحققه.
– هذا ما أفكر فيه بلا انقطاع.
– وأهلك وعملك؟
– لكل مشكلة حل، يُخيل إليَّ …
ثم واصل حديثه بعد انقطاعةٍ قصيرة: يُخيل إليَّ أنني لم أجئ إلى القاهرة للبحث عن سيد سيد الرحيمي، ولكن لكي أجدكَ أنتِ، أحيانًا نجري وراء غايةٍ معينة ثم نعثر في الطريق على شيءٍ ما نلبث أن نؤمن بأنه الغاية الحقيقية.
فقالت بصراحةٍ أفتنَ من الأولى ولكن بوجهٍ مُورِد: من ناحيتي فأنا مدينة لسيد سيد الرحيمي!
قال بنشوةٍ عجيبة: ما أجملك! ما أجمل الحب! هو الحب الذي يشدني إليك يومًا بعد يوم، وهو الذي يكمن وراء كل كلمة من كلماتي إليكِ مهما يكن موضوعها الظاهري، واسمه لم يجرِ على لساني قبل الساعة، ولكن لولاه ما كان ثمة مبرر أو معنًى لأي كلمة قلتها.
فغمغمت شفتاها بكلمات لم تُسمَع، فتساءل: أليس كذلك؟
– فقالت مستردة شجاعتها: بلى، وأكثر!
وانتشى لحد الطرب، وأعرب عن نشوته بضغطةٍ رقيقة من راحته فوق ظهر كفِّها. ثم تذكر أنه سيلقى كريمة بين ذراعَيه بعد ساعات فساوره القلق، وخاف العينَين الزرقاوَين السعيدتَين، ثم تراءت له أخيلةٌ مظلمة نفثت في أعصابه بهيميةً خفية. آه، كثيرًا ما عشق أكثر من امرأة في وقتٍ واحد بلا عذاب ولا قلق. ولكنه مع إلهام تعذبه كريمة، ومع كريمة تعذبه إلهام، والتوحيد بينهما أمنيةٌ لا يجرؤ على تمنِّيها.
وسألها هاربًا من أفكاره: خبريني ألم تعرفي الحب من قبلُ؟
فقالت بلا تردد وهي تبتسم: لا، لا أظن، عواطف الصبا وهمية، وأين هي؟ لا أثر هناك لها، وهي كانت موجهة إلى ممثلٍ كبير قد مات من زمن، لا، لم أحب قبل هذه المرة، ولكني خُطبتُ مرة وفسختُ الخطبة عندما طالبني بالاستقالة من وظيفتي، وبعض الزملاء في الجريدة يكلمونني عن الحب بأسلوب الصفحة الأخيرة من الجريدة، كل ذلك لهوٌ لطيف بلا غاية، سأحدثك عن ذلك كله فيما بعدُ، على شرط ألَّا تسافر، أو على الأقل ألَّا تنسى القاهرة.
– قد أسافر إلى آخر الدنيا ولكني لن أنسى القاهرة.
– حسنٌ أن أسمع ذلك، ولكن ما شأنك أنت مع الحب؟
– ما عرفتُه ينبغي أن يكون له اسمٌ آخر.
– إذن فلنمرَّ عليه بسلام، وأنا أفهم الحياة بدرجة لا بأس بها، وعندما أنظر في وجهك لا أشك في أنني أرى وجه رجلٍ صالح!
سيطر بسرعة على دهشته، ثم تساءل باهتمام: ماذا تعنين؟
– لا أدري، أنت … أنت … أعفني من التعاريف، شيء يشع من عينَيك أقنعني … هو المسئول … هو المسئول عن عواطفي الصادقة، الأفضل أن تتكلم أنت.
العينان الصافيتان لا تريان، أيدل وجهه حقًّا على أنه رجلٌ صالح! وأين ذهبت عربدة الحياة والدعارة والبهيمية؟ وأمه وأساطيرها ونزوات الليالي المرعبة؟ يجب أن يجيء الأب لينتشله من مأزقه ويطرد الأكاذيب. قال: لا أودُّ أن أمدح نفسي، ولكن حبي دليل على أني إنسانٌ خيِّر مما كنت أظن.
– أكثر من ذاك، انظر كيف تشقى بالبحث عن أخيك، أعرفتَه يومًا ما؟
– كلا.
– ومع ذلك فأنت تجدُّ وراءه كما لو كنت عاشرته العمر كله، أليس ذلك نبلًا؟
لعنة الله على الكذب. لذلك يفقد حديث إلهام معناه كأنه الصمت.
– ما هي إلا مهمة كُلفتُ بها.
– ولو! ثم إن تحقيقها ليس في صالحك من الناحية المادية فلا تُنكر نبلك.
كريمة مثله تمرغت في التراب طويلًا، وهما يتفاهمان حتى على البعد. وفي أعمق لحظات الحب الحارة تتمالك أنفاسها لتهمس في أذنه «متى تختفي العقبة التي تهدد حبنا؟» فيمسُّه رعب الوعي كصفعةٍ مباغتة، وتهمس تضاعيف الظلام بالجريمة. أما إلهام فلا تقرأ في وجهه سطرًا واحدًا من الجريمة. ولا يجري لها في بالٍ أنه قد يقتل للاستئثار بامرأةٍ أخرى، وأنه بات يشم رائحة دمٍ مسفوك، وأنه لا معنى لتشبُّث عم خليل بالحياة إلا أن يدفعه إلى مصيرٍ محتوم. ولأنكِ يا إلهام لم تنقذيني من الهاوية أحببتِ، وأنتِ لا تدرين، مجرمًا. وإذا مضيتُ في الكذب عليكِ فسوف أُجنُّ. ولمَ تضعف أنت أمام الحقيقة بالرغم من أنك قاتلت حتى أوشكت أن تقتل، وأنك تفكر طويلًا في القتل؟ قل أنا فقير مُعدم، والرحيمي أبي لا أخي، وإنه إن لم يعترف بي فلن أساوي حفنة من تراب، وماضيَّ غارق في الدعارة والفضيحة! آه .. ستصرخ من الفزع. وينطفئ شعاع عينيكَ الذي يلهم الحب. ثم ترى هي الوجه الصالح على حقيقته. لو أنشأتك أمك نشأةً مناسبة لكنت اليوم قوادًا سعيدًا، لكنها صانتك في النبي دانيال لتتعذب أبد الدهر، ثم أحيت أباك لتحرمك نعمة اليأس.
– ماما لها رأي، هي تعرف عنك الكثير، وقالت لم لا يُنشئ عملًا في القاهرة؟
ماما! إنه يخاف الأمهات. كأمه تستطيع أن ترى حقيقته بنظرةٍ واحدة. لن يعميها الإشعاع المزعوم الذي يشعُّ من عينَيه.
– أي عمل؟
بعد تردد: هذا يتوقف على استعدادك؟
قل لها إنك تُتقن السُّكْرَ والرقصَ والعراكَ والحُبَّ.
– إدارة الأملاك هي خبرتي الوحيدة.
– لا مؤاخذة، ليس عندي فكرة عن دراستك!
تذكَّر المدارس الوطنية والأجنبية التي عبرها عبور المتفرج.
– والدي لم يتركني أكمل أي نوع من التعليم لحاجته إليَّ وبخاصة عقب مرضه.
– فكِّر في مشروعٍ تجاري، وأنا أعرف من الزملاء أناسًا متنوعي الخبرة.
– حسن، سأفكر في ذلك، ولكن بعد مشاورة أبي.
وقال لها وهو يودعها: من المؤسف أن هذا المكان لا يسمح لي بأن أُقبِّلك.
العقل ينصحه بأن يهجر إلهام، ولكنه لا يستطيع. هي كأبيه فيما تعده به، وفي أنها حلمٌ عسير التحقيق، أما كريمة فامتدادٌ حي لأمه فيما تهبه من متعة وجريمة. ارجع إلى الإسكندرية واعمل قوادًا لأعدائك. اقتل واغنم كريمة ومالها. استخرج الرحيمي من الظلمات وتزوج إلهام. آه .. وشتاء القاهرة قاسٍ، ولا يضمر المفاجآت، ولا يعزف موسيقى السماء. وما أزحم شوارعها ومحالَّها فهي سوق تتلاصق فيها الأجساد والسيارات. وأكثر من امرأة تجد فيك ما تبحث عنه بنظرةٍ واحدة، على حين تشقى أنت عبثًا في البحث عن الرحيمي، لعله هلفوت ضحك على أمك فأوهمها بأنه من الوجهاء. وكثيرًا ما يجد لمحة من صورة أبيه المتخيَّلة في هذا الرجل أو ذاك بين مئات الوجوه المتتابعة. إنه يرفضه أو لعله يخافه أو لعله ميت. وفي الشتاء سرعان ما تجنح الشمس للمغيب وترتفع أمواج الظلام. ولدى رؤيته عم محمد الساوي سأله عمن يعرف من رجال الله القارئين للغيب فدلَّه على رجل بالدرب الأحمر يُدعَى الشيخة زهرة. ولما بلغ مسكنه وجده مغلقًا مختومًا بالشمع الأحمر، وقيل له إن البوليس قبض عليه بتهمة الدجل. وتساءل صابر: متى كان الدجل تهمة؟ وعندما رأى الفندق وهو راجع إليه آثار فيه شعورًا برتابة البيت وكآبة السجن. وجلس في الاستراحة وهي آهلة تضج بالأصوات وتختنق بالدخان. ومن عجب أن الأحاديث هنا لا تكاد تتغير رغم أن الوجوه تتغير كل يوم. وسمع رجلًا وهو يتساءل: ألا يعني هذا فناء العالم؟
فقال بلا وعي: في ألف داهية.
وتعالت ضحكات فأيقظته. وسأله سائل: حضرتك مع الشرق أم الغرب؟
فقال وهو آسف على تورطه في حديث لا يهمه: لا هذا ولا ذاك.
ثم تذكر جملة متاعبه، فقال بتأفف: أنا مع الحرب.
٩
في تلك الليلة لم تأتِ كريمة في ميعادها. انتظر في الظلام عامر الرأس بخيالات الشراب، ومن الفراغ جسَّد صورًا يُصبِّر بها شهوته. ومرت ساعةٌ كاملة بعد منتصف الليل ولم تأتِ. هو لا يدري شيئًا عما يحدث فوق السطح، ولكن كريمة لم تتخلف ليلةً واحدة مذ طرقت بابه لأول مرة. وتقدم الوقت ساعةً أخرى ساحقًا أعصابه فيئس من ليلته، وأيقن أن مجيئها بعد ذلك سيكون عبثًا. وجعل ينظر صوب الباب مرهف السمع، ولكن اليأس كثف الظلمة. وظل مسهدًا حتى انطلق صوت المؤذن فقال إنه ينادي بفناء هذه الليلة. واستيقظ حوالي العاشرة، فسخر من نفسه قائلًا: «ليكن حسابٌ عسير»، ونزل إلى الاستراحة فتناول فطورًا خفيفًا، وراح يراقب من بعيد علاقة المودة التي تؤاخي بين عم خليل ومساعده الساوي. وتساءل متى ينزل فيجد مكان عم خليل خاليًا؟ وكيف يسأل كريمة عن أسباب تخلفها؟ وفجأة قامت معركةٌ كلامية بين اثنين من النزلاء لم يدرك سببها، ولكنه تابع باهتمام حركات أيديهما العصبية، وكلماتهما الحادة، وتهديداتهما التي لم يتحقق منها شيء، ثم شعر بضجرٍ غير محتمل.
وقرأ في وجه إلهام — في أثناء تناول الغداء — اهتمامًا أضفى على فتنته جديةً ملحوظة. انجابت عنه همومٌ كثيرة وعاوده شيء من المرح، فقال: أعترف لكِ بأنني لا أجد لحياتي معنًى إلا عند اللقاء.
فحدجته بنظرةٍ إرادية، وقالت: الحق أني لا أنقطع عن التفكير في حياتنا.
عاتبها في باطنه على توانيها في امتلاكه والسيطرة عليه، وعلى هزائمها غير العادلة أمام عدوتها الطاغية. أنت مسئولة عما سيقع. قال: يسعدني أن أسمع ذلك، وأنا بدوري لا أنقطع عن التفكير.
– هاتِ ما عندكَ.
قال وهو يلعن نفسه وأكاذيبها: أفكر في أمرَين؛ العمل والزواج.
– هل اقتنعتَ نهائيًّا باقتراحي؟
– أجل، ولكن عليَّ أن أتمَّ مهمتي على أي وجه أولًا، ثم أسافر للاتفاق مع أبي.
كره نفسه لحد الموت. وتمنى أن يمحق أكاذيبه دفعةً واحدة وليكن ما يكون. وقال إنه لم يعرف هذا النوع من الألم المحيِّر قبل ذلك. وبدافع كالاستغاثة قال: لنذهب إلى سينما هذا المساء.
في ظلمة السينما أخذ راحتها في يده. الظلمة دائمًا. ورفع يدها إلى فمه فلثمها في سعادةٍ عجيبة. وتشمم منها عبيرًا طيبًا في سرحةٍ طائرة. وقال إنه يستريح من الاحتراق والجريمة، أما العذاب الذي يخشى أن يعذبه في النصف الثاني من الليل فيطرده عن باله. وهمست إلهام متسائلة: أليس هذا ظلمًا بينًا؟
ولم يكن يتابع الفيلم بحال، فهمس مداعبًا: افتراقنا ساعةً واحدة ظلمٌ أفظع!
وتركز في الشاشة لأول مرة فرأى رجلًا يضطهد فتاة، وسمع حوارًا عنيفًا، ولأنه لم يتابع القصة من أولها بدا له المنظر حركات وكلمات لا معنى لها. كما نشاهد أجزاء من حياة الناس منقطعة عن ملابساتها فنمرَّ بها دون اكتراث، وأحيانًا ضاحكين مما يستحق الرثاء. وكم يبدو بحثك عن أبيك من خلال الإعلان مضحكًا ومغريًا بالمزاح. وهل تجيء كريمة الليلة في ميعادها؟ أو يتعذب حتى الفجر؟ وكيف تنجلي هذه المتاعب كلها في البحث والحب؟ ولحظ إلهام في لحظات المناظر الشديدة الإضاءة فرأى استغراقها، فأحنقه ذلك، وأوقف مداعباته لراحتها، وأراد أن يسحب يده ولكنها شدت على أصابعه فشدَّ على راحتها ممتنًّا. وغادرا السينما ليتلقيا ليلةً باردة تحت سماءٍ صافية تومض بها آلاف النجوم فأوصلها إلى محطة الباص، ومضى إلى بقالة الحرية بكلوت بك، فأكل بسطرمة وسردينًا، وشرب نصف كونياك. ورجع إلى حجرته عند منتصف الليل فلبث في الظلام ينتظر. ولم يعد الغيب بأي أمل، واشتد الصمت خارج الحجرة كالصمم.
وتتابعت الدقائق في عذاب وحنق. لا، لم يعرف هذا الذل من قبلُ؛ ذل الرغبة الجائعة، ذل البحث الخائب، ذل الخوف من الذل. ولحقت الليلة بسابقتها مسهدةً ملعونةً مصدعة. ورسم أن يوجد بالفندق في عصر اليوم التالي، فشهد نزول كريمة إلى مجلسها بجانب زوجها كما رآها أول مرة. تفشى عذاب الرغبة في كيانه فهاله أن تستأسره المرأة لهذا الحد. وتجنَّبت أن تنظر ناحيته وهو في ركن الاستراحة يتصيَّد. لا تعرف جنوني فهي لا تخشى عواقبه. ولما قامت لتصعد إلى شقتها التقت عيناهما لحظة عند استدارتها فرمته بنظرةٍ محذرة ثم ذهبت. ما معنى هذا التحذير؟ العجوز لم تتغير معاملته لها، وهو في سن لا يملك معها قوة أعصاب لمداراة ما في نفسه. وفكر أن يلحق بها في الدور الثاني أو الثالث، ولكنه لمس سرعة صعودها كأنما حسبت حساب أفكاره، فأعادت التحذير بصورةٍ أخرى. الأيام تمرُّ والنقود تتناقص، وحكاية الأب أمست أسطورةً سخيفة لا يركن إليها بحال. ولا غنى له عن هذه المرأة فهي حياته والأمل الباقي له في الحياة. وتكرر التسكع بالليل في كلوت بك والسكر والانتظار في الظلام ليلة، وليلة، وليلة. وهو راجع عند منتصف الليل قال محمد الساوي بصوتٍ نعسان: سأل التليفون عنك عصر اليوم.
آه .. لم تعد أنباء التليفون تهز أعماقه، ولكن آه لو يخلف ظنه ويجيئه بالمعجزة في هذه اللحظة من اليأس والعذاب. قال الرجل: صوت امرأة.
– بخصوص الإعلان؟
– كلا، سألت هل أنت موجود فقلت لها إنك لم تعد بعدُ، فأغلقت السكة!
إلهام؟ من شدة نكده لم يقابلها في اليومَين الأخيرين. ولما خلع بدلته وأطفأ المصباح سمع نقرةً على الباب. وثب وثبة مجنون وفتح. شد على ساعدَيها بقوة وهتف بغضبٍ وشى رغم زمجرته بالراحة السعيدة!
وجذبها صوب الفراش وهو يقول: أنتِ .. الويل لكِ!
– أنت تمزِّق لحمي!
– كما مزقتِ أعصابي!
– وماذا تعرف عن عذابي أنا؟
أراد أن ينزع عنها الروب ولكنها أمسكت بساعدَيه: كلا .. البقاء مجازفة غير مأمونة .. سأقول كلمة ثم أذهب.
– ادعي الشيطان ليدافع عنكِ.
– أنت سكران ولكن اضبط نفسك، حركةٌ بسيطة قد تهدم كل ما بنيناه.
أجلسها إلى جانبه على حافة السرير وهو يسأل: ماذا حصل؟
– عند رجوعي آخر مرة من عندك استيقظ على غير عادة، وسألني هل كنت طوال الوقت إلى جانبه فاعتذرتُ بالعذر المألوف، وخُيِّل إليَّ أن علي سريقوس لمحني، لست متأكدة ولكني خفت خوفًا شديدًا.
– لعلها أوهام!
– لعلها ولعلها، لا يجوز أن نجازف بكل شيء، سنخسر الحب والأمل، كلمةٌ واحدة منه تقضي عليَّ بالفقر الأبدي، لا تنسَ ذلك.
وتنهدت ثم استطردت: لذلك امتنعتُ عن المجيء، ولم أستطع بطبيعة الحال أن أفسر سلوكي، وقدرت وأنا في غاية من العذاب حالك وأفكارك، ولكن الرجل لم يكتب كل شيء باسمي إلا بعد أن أخذ عليَّ عهدًا بالوفاء، قال لي أنت يدي وعيني وابنتي وزوجتي، لا تنغِّصي عليَّ صفو الأيام الباقية!
– إذن؟
– وإذن فيجب أن أمتنع عن الحضور بتاتًا، هذا هو الأسلم.
– هذا جنون!
– هذا هو العقل.
– كيف أنتظر؟ إلى متى أنتظر؟
وهي تتنهد: لا أعرف الجواب كما تعلم.
– وسوف تنفد نقودي وأضطر إلى السفر.
– يمكن أن أمدك بالقليل منها لإطالة بقائك أكبر مدةٍ ممكنة.
– لن يغير هذا من المصير المحتوم.
– أعرف هذا ولكن ما الحيلة؟ أنا معذَّبة مثلك.
– أنا أشَدُّ، أنا مهدد بالعذاب والإفلاس معًا.
– وأنا أتعذب لنفسي ولكَ، كيف لا تدرك هذا؟
تساءل وكأنما يخاطب نفسه: متى يموت الرجل؟
– أنتَ تسألني كأنني مطلعة على الغيب!
– وماذا أنتِ إذن؟
– امرأةٌ تعيسة، أتعس مما تتصور.
– قد يسخر من مخاوفنا ويموت فجأة.
– هذا محتمل.
– رجل طاعن في السن ولا يمكن أن يعيش إلى الأبد.
– قد يموت الليلة، وقد يموت بعد عشرين عامًا في سن أخت له ماتت منذ عامين.
– اللعنة!
– لا حيلة لنا، ويجب أن أذهب الآن.
– ولا أراكِ إلا بعد موته؟
– قلت لك لا حيلة لنا.
– بل هنالك حيلة.
وصمتا في الظلام حتى سمعا هسيس الصمت، وإذا به يقول: أنتِ تذكِّرينني طيلة الوقت بحديثٍ قديم، حديث إشاراتٍ متقطعة يشهد عليها هذا الظلام، فلنتكلم بالصراحة هذه المرة، عليَّ أن أقتله؟
قالت بنبرةٍ مضطربة: أنتَ لا ترتاح إلى هذا الحديث؛ لذلك نبذتُه، لست قاسية ولا متوحشة، عيبي الوحيد أنني أحبك بجنون، الأفضل أن ننتظر.
– حتى يموت في سن أخته!
– حتى يأمر الله بما يشاء.
وركبه تصميمٌ جنوني فنهض في الظلام، يائسًا كل اليأس، ثم جلس مرةً أخرى شاعرًا بالتهاب رغم برودة الجو. تساءل: ماذا بعد الجريمة؟
لم تنبس بكلمة. وأحسَّ الظلام دخانًا كثيفًا: لا تضيعي الوقت هباءً، ماذا بعد الجريمة؟
سمع همسًا غير مبين كأنما تريد أن تتكلم فتمنعها شرقة. ثم جاء صوتها كأنما يزحف من جحر: ننتظر فترة، ولكن في أمان، ويمكن أن نلتقي في خفاء. ثم أكون لك أنا والثروة.
قال وهو يُكوِّر يده في الظلام: اليأس لا يدع لنا سبيلًا ولا وقتًا للاختيار.
– للأسف.
– ولكن ماذا ينبغي أن أفعل؟
قالت بعد صمتٍ أقصر بكثير مما قدر: ادرس العمارة الملاصقة للفندق.
آه! هي مبيتة كل شيء. الجريمة جاهزة في رأسها الرشيق. مغفور لها كل شيء ما دام قد دُبِّرَ في سبيل حبه.
– شقةٌ مأجورة لخياطين وبياعين بدل نصف عمر، فهي تخلو ليلًا، ولا يصعب الدخول إليها أو الخروج منها.
– هذه هي العمارة.
– سطحها ملتصق بسطحنا.
– يعني الانتقال سهل.
– تجيء إلى سطحنا، يجب أن تنتظره في الشقة.
– أظنه يصعد إلى شقته بين الثامنة والتاسعة؟
– وليكن في اليوم الذي أذهب فيه إلى زيارة أمي، وهو ميعادٌ معروف من كل شهر.
قال بدهشة: لا أصدق أنني لم أكد أتم شهرًا في الفندق!
– ومن السهل بعد ذلك أن تنتقل إلى العمارة التي جئت منها.
قال بارتياب: كثيرًا ما نسمع عن جرائم من هذا النوع عند اكتشافها!
فقالت ببرود: لأننا لا نسمع إلا عن الجرائم التي تُكتشَف.
جبارةٌ كأمكَ أو أكثر.
– أهذا هو كل شيء؟
– كلا، يجب أن تقع سرقة لتُبرِّر القتل.
– وماذا أسرق؟
– دع ذلك لي، احذر أن تترك أثرًا، إن الكلاب تجري وراء الأثر.
– يبدو أن التنفيذ سيكون في غاية من الإحكام.
– حياتنا حياةٌ واحدة، فإذا قُضي عليكَ قُضي عليَّ، ولا حيلة لنا في البحث عن طريقة للخلاص من الألم والجنون.
وهزَّ رأسه قائلًا في حيرة: جنون، جنون، هل تصدقين أن شيئًا من ذلك سيقع حقًّا؟
فقالت ببرود: ادرس العمارة جيدًا، أمامك أيام، احذر أن يراك أحد وأنت تنتقل من سطح إلى سطح، أنت جريء وإلا فلا يجوز أن أدعي أني أفهم شيئًا في الدنيا.
ومضى يفكر، أما هي فقالت: لنبدأ من الأول من جديد، خطوة فخطوة حتى لا يفوتنا شيء.
١٠
تذوقِ اللبن والبيض والفاكهة، وانظر جيدًا إلى هؤلاء الناس في الاستراحة، فعما قريب ستختلف عنهم جد الاختلاف، وعندما يأتي الليل ستكتسب صفةً دمويةً غريبة فتنضم إلى طائفة المجرمين. ها هو عم خليل أبو النجا، يستقبل الصباح البارد، يده لا تكف عن الارتعاش، ولا يفكر في الموت. سيقف عمرك عند العاشرة مساء، أنت لا تعلم ولكنني أعلم، فلا تشغل بالك بمتاعب الدقيقة التالية. تقبل نصيحة أخٍ يائس. ولعلي الآن أشارك الله في بعض علمه بالغيب، مذ قبلتُ أن أكون قاتلًا. ورنَّ جرس التليفون فضحك ضحكة سمعها الأقربون من حوله، أهو سيد سيد الرحيمي يجيء في اللحظة الحاسمة ليغير المصير المحتوم؟ ورفع عم محمد الساوي السماعة، ثم قال: «لا، لا يا حضرة.» لا، لا، وأنا أقول لا يا سيدي الرحيمي. أنت تنكر ابنك وابنك سينكرك، ليس في حاجة إليك، سيبحث عن الحرية والكرامة والسلام عند غيرك. ها أنت تتثاءب يا عم خليل فحتامَ تُغالب النوم الأبدي؟ لماذا تُصر على جرِّي إلى مصيرٍ محتوم؟ ما معنى أن يتمتع بمالك سالب حياتك، وأن تسقط أمي بلا عقل. وأن يصمت أبي بلا رحمة، وأن تتعلق آمالي بإزهاق روح؟ خبِّرني عن معنى ذلك كله. أسبوع مَرَّ ولا فكر إلا في الجريمة، وكم كانت الأحلام مختلفة عندما تحرك القطار من محطة الإسكندرية. وهؤلاء الرجال ألم يرتكب أحدهم جريمة؟ ثرثرة المال والحرب والحظ التي لا تنتهي، ونبوءات عن جرائم في باطن الغيب، وغفلةٌ تامة عن جريمة تدبَّر تحت أعينهم.
حوالي العاشرة غادر صابر الاستراحة فحيَّا عم خليل، ومضى إلى الطريق وهو يقول لنفسه: «غادرت الفندق في العاشرة، ولم أرجع إليه قبل الواحدة صباحًا»، ألقى نظرة على مدخل العمارة المجاورة، كأنه سوق لكثرة الداخلين والخارجين، ثم قال لنفسه: «السطح خالٍ، ولا يُرَى من مكان قريب، والظلام ينتشر ابتداءً من الخامسة مساء.» فكَّر في زيارة إلهام بالجريدة، ولكنه افتقد التركيز الضروري للزيارة، وكره محادثتها وهو ينضح بالدم. وماذا يقول لها وهو يهجر طريقها إلى الأبد؟ ومرَّ أمام الجريدة وهو حزين حقًّا، وتخيل مجلس إلهام، ونظراتها، وسؤالها المألوف عن الرحيمي، ولفتاتها الرقيقة، وعجزه عن الارتفاع إلى مسئولية حبها. وقتل الوقت بالمشي في الشوارع، وتناول غداءه في بقالة الحرية بكلوت بك وشرب كأسَين. وقال له البقال: الجو رديء.
فقال وهو يغادر المحل: أنا مجرم من سلالة مجرمين.
ومضى وضحكة الرجل تودعه، وصمَّم فجأة على مقابلة إلهام في فتركوان ولكنه لم يجدها، وقيل له إنها ذهبت عقب الغداء مباشرة. وأفاق من تصميمه المندفع فجفل من فكرة زيارة الجريدة. ولبث في المحل حتى الخامسة، ثم مضى إلى شارع الفسقية، فوقف تحت البواكي في شبه ظلمة على الجانب المقابل للعمارة المجاورة للفندق، وهو يتفحص المكان. وارتفع صوت الشحاذ بالمديح غير بعيد من موقفه فتقزز من المفاجأة، وانتهز فرصة انشغال البواب بمساومة بائع خس؛ فعبر الطريق إلى العمارة ودخل. شقَّ سبيله في مدخلٍ مزدحم. ورقي في سلمٍ مزدحم كذلك وصاخب، بين أبوابٍ مفتوحة على شققٍ مكتظة بالعمال والزبائن. وقد وقعت عليه أعينٌ كثيرة ولكنها لم تره. وجعل يختلس النظرات إلى الوجوه ليرى إن كان ثمة أحد يعرفه من نزلاء الفندق، حتى بلغ السطح في أمان. في الفضاء تبدَّت الظلمة أقل كثافة فرأى السطح مغطًّى بالنفايات، ولكنه خالٍ من الآدميين. اطمأن نوعًا ونظر فيما حول سطح العمارة فلم يرَ مبنًى يطلُّ عليه، ثم استقرت عيناه على سطح الفندق فرأى — منتفِضًا — كريمة وهي تجمع الغسيل. هي تنتظره بلا شك، ولعلها رأته وهو يعبر الطريق إلى مدخل العمارة، ويداها مهتمتان بفك المشابك، ولكن وعيها مركز في طرف عينها المتجسسة. رأته عند مدخل السطح فأشارت إليه بالاقتراب، فدلف من السور وقد انحصر وعيه في تصميمه الجريء كاسحًا وساوسه واضطرابه. وظلت مولية ظهرها له كأنها لا تشعر به، وسألته: هل رآك أحد يعرفك؟
– كلا.
– علي سريقوس تحت، سأقف عند رأس السلم حتى تعبر السور.
وذهبت حاملة الغسيل حتى غيبها جدار الشقة الذي يشطر السطح، فنظر حوله بحذر، ثم وثب إلى السور وهبط فوق سطح الفندق، وتقدم في أثرها، ثم وقف أمام مدخل الشقة. أطل رأسها من وراء باب السطح، وهمست: الباب مفتوح فادفعه وادخل.
اتجه نحو الباب وضغط عليه براحته فانفتح. شهق بعمق ثم زفر، ودخل دهليزًا غارقًا في الظلمة فتسمَّر وراء الباب. وما لبثت أن لحقت به فأغلقت الباب وأضاءت المصباح. رآها شاحبة الوجه برَّاقة العينين، ولا أثر هناك لحيويتها الفاتنة. تعانقا بلا مقدمات، وبعصبية وعنف، ولكن بلا روح ولا حس، ثم انفصلا وهما يتبادلان نظرةً ذاهلة. قال: أي خطأ سيهلكنا.
فقالت بنبرةٍ جافة: ثبت قلبك، كل ما حولنا مُطمِئن، وسينتهي كل شيء كما رسمنا.
وتقدمته لتُريه الشقة الصغيرة، من الدهليز إلى حجرةٍ كبيرة أُعدت للنوم، متصلة بباب مشترك بحجرة أصغر للسفرة والجلوس، وسوى ذلك لا توجد إلا المرافق. ألقى نظرةً على أثاث الحجرة الكبيرة فخُيِّل إليه أن للسرير والصوان والكنبة التركية أعينًا ترنو إليه ببرود وعدم اكتراث، وأوشك لحظة أن يفصح عن مشاعره، ولكنه خجل من ذلك واكتفى بقوله: الحجرة كئيبة.
فأجابته وكانت تفيق رويدًا من صدمة اللقاء والتسلل: ربما، المهم أنك ستنتظر هنا في حجرة النوم، ويجب أن تختبئ تحت السرير بمجرد أن تسمع الباب الخارجي وهو يفتح.
– الأرض خشب؟
– أجل، ومغطاة بالبساط، البساط يغطي أرض الحجرة كلها.
– طبعًا سيغلق الباب الخارجي؟
– طبعًا، الساوي يوصله عادة وخاصة حال غيابي، وهو يغلق الباب بنفسه، وغالبًا ما يترك المفتاح في القفل أو يضعه على الترابيزة، وستفتحه وتخرج.
– ألا أفاجأ بوجود أحد فوق السطح؟
– كلا، علي سريقوس ينزل بعد توصيل الرجل، وهو ينام في الدور الثالث.
– سيسألون كيف دخل اﻟ…؟
– ستكون النوافذ مغلقة، فإما أنه نسي أن يغلق الباب بعد ذهاب الساوي، أو أنه فتح لطارق.
– هل يُعقَل أن يفتح لطارق قبل أن يسأله عن هويته؟
– لعله سمع صوتًا يعرفه.
– وتتجه الظنون إلى من يعرفهم في الفندق؟
قالت ببرود: هذا حسن، لن يقع بريء، والمهم أن تنجو أنت.
ثم أشارت إلى حقيبتها، وقالت: تمت السرقة المطلوبة، بعض حلي وبضعة جنيهات، وقد فتحت باب الصوان بنصل سكين وبعثرتُ الملابس، هل أتيت بالقفاز؟
– نعم.
– حسنٌ جدًّا، وإليك قضيب الحديد.
أشارت إلى القضيب فوق الترابيزة، وقالت: أحضرته من الطقيسي وكان رجل كرسي ولَّادة أثري فلا تمسه إلا بالقفاز، احذر أن يسقط منك شيء وأنت تحت السرير.
خُيِّل إليه أن وجهها ذبل تمامًا من شدة إشعاع عينيها. قالت: يجب أن أذهب.
وتعانقا كما تعانقا أول مرة، ثم قال: ابقي بعض الوقت.
– ولكن حان وقت الذهاب.
– ألم تنسي قول شيء؟
– ثبِّت قلبك، وتصرَّف بعقل في كل خطوة، ور…
– وماذا؟
حدجته بنظرةٍ غريبة، ثم همست: لا شيء، ادخل تحت السرير.
وتعانقا للمرة الثالثة، كأنما تشبَّث بها، ثم مضت إلى الخارج وهي تنادي بأعلى صوتها على سريقوس فسارع بالدخول تحت السرير. وعادت كريمة يتبعها الرجل فأمرته بأن يغلق النوافذ المفتوحة، ويتأكد من إغلاق الأخريات. وانتظرت حتى قام بمهمته، وأطفأت النور ثم ذهبا معًا. خرج صابر من تحت السرير. ثم وقف بحذر، في ظلامٍ حالك. الظلام ضربٌ من الاختناق، وضياع وعدم. ولبس القفاز بعناية. وجال بيده متحسِّسًا حتى عثر على الترابيزة، ثم تناول القضيب وشدَّ عليه بقوة. وارتدَّ إلى موقفه الأول، ثم جلس على حافة الفراش. اختفت الدنيا، لا شيء سوى ملمس الفراش، ورائحة عطارة، وصوت الصمت الآخذ في الاستفحال. لا مفرَّ فيجب أن تهوي الضربة بإحكام. والانتصار بضربةٍ واحدة خير من العناء والصبر، والانتظار العابث، والبحث الضائع. وحب إلهام سحابةٌ شفافة، ولكنها أشقُّ من القتل. ومديح الشحاذ يترامى فهو لم يأوِ إلى جحره بعدُ. نداءٌ ضائع كالإعلان، وثروة الأم المصادرة. ومتى تعانق كريمة بحرارة وأمان؟ وذوبان الأعصاب في الظلام محنة، ولكن وراءك إرادةً من حديد، وقلبًا ينطلق إلى مراده الجهنمي كالشهاب.
وهذا صوت علي سريقوس فوق السطح يغني:
ثم لا شيء إلا الظلام وصوت الصمت.
وأخيرًا سمع المفتاح وهو يُدار في القفل؛ فهبط إلى الأرض وزحف تحت السرير. وسمع وقع أقدام قادمة، ثم فتح باب الحجرة وسطع النور. انكمش في اضطراب وتوثب. ورأى فوق الأرض ست أقدام. وارتفع صوت عم خليل قائلًا: اذهب أنت يا علي ولا تنسَ أن تُحضِر السباك.
ذهبت قدمان. وجلس عم خليل على حافة الفراش فاستقرت قدماه على بعد ذراع من عينيه. وقال: سأقابله غدًا، ولن أقبل مزيدًا من المساومة.
– هذا هو الرأي.
– رجل دنيء، رأى الموت أربع مرات بعينَيه ولم يتعلم.
– ربنا يطول عمرك.
وساد صمت، فتساءل محمد الساوي: هل أفوتك بعافية؟
تأوَّه الرجل قائلًا: كلا، ظهري يؤلمني وعندي صداع.
إلى متى يبقيه معه؟ هل يبيت معه ليلته؟ سرت في جسده رجفة من القلق. وإذا بالرجل يقيم الصلاة وهو جالس. ثم يسترسل في صوتٍ مسموع:
وواصل صلاته حتى السلام، ثم قال: ساعدني في خلع العباءة والحذاء يا محمد.
وبعد هنيهة قال: ناولني زجاجة المنوم من الدرج.
أين هذا الدرج يا ترى؟ إن كان في الصوان فقد انكشفت كذبة السرقة المدبرة. وانتظر وكأنه يتوقع انفجار قنبلة وهو يتابع صفيرها. ولكنه سمع الرجل وهو يرشف الماء. ثم شعر به وهو يستلقي فوق الفراش. وسمعه وهو يقول: لن أستطيع القيام لإغلاق الباب وراءك، أغلقه من الخارج، وافتحه في ميعاد الصباح، مع السلامة.
حياه الساوي، وأطفأ النور، ثم أضاء المصباح السهاري وانصرف. سوف يفتح الباب صباحًا فيجد صاحبه جثة. كيف دخل القاتل؟ كيف يذهب عقب الجريمة؟ النافذة. النافذة المطلة على السطح. كيف يتصورون الجريمة؟ آه، العقل مشتَّت. المهم التنفيذ لا تخمين آراء المحققين. ضربات قلبك تشوش عليك أفكارك. ورغم الدراسة السابقة يجد في كل لحظة جديدًا. هل ينام قبل أن تنفجر أعصابك؟
وارتفع الشخير، كشخير أمك في الليلة الأخيرة. والكفن كعودٍ جاف. وبكاء السماء من زجاج الشرفة بالنبي دانيال. قطب في تصميم طاردًا خواطر الأحزان ثم زحف. زحف حتى خرج جسمه كله. وقف بحذرٍ شديد قابضًا على القضيب. رأى الرجل مختفيًا من الرأس إلى القدم تحت الغطاء. رأى رأسه المغطى بارزًا تحت الوسادة. ارتاح جدًّا لاختفائه، وانبعثت فيه جرأةٌ جديدة. اقترب من الفراش خطوة رافعًا القضيب إلى أقصى ذراعه، وإذا بالرجل يزيح طرف الغطاء عن وجهه، ويميله إلى ناحيته. ارتعد صابر وتسمَّر؛ تسمر جسمه وذراعه المرفوعة. وفتح الرجل عينَيه فالتقيتا بعينَيه. ولم يبدر منه ما يدل على أنه رآه أو أنه انذعر. أفاق صابر من الصدمة بجنون. هوى بيده بكل قوة على الرأس فوق الطاقية. وتراجع ذاهلًا عن تكرار الضربة. ندَّ عن الرجل صوت لم يتبين حقيقته، وعبثًا حاول فيما بعدُ تحديده. تأوه .. صرخة .. شخير .. حشرجة؟ وانتفض الجسم تحت الغطاء انتفاضةً خفيفة فيما رأى ثم همد. وبسرعة حوَّل عنه عينَيه فاستقرتا على النافذة. لم يفكر أبدًا في التأكد من موته. اقترب من النافذة ثم فتحها. ومرق منها معتمدًا على ساعدَيه. ردها وراءه، وازدرد ريقًا جافًّا لأول مرة. آه، هل القضيب ملطخ بالدم؟ والسطح المجاور خالٍ كما توقع. كم الساعة يا ترى؟ وعبر السور. لماذا لم يغسل القضيب في الحمام؟ هل يتخلص منه هنا؟ جنون. هل يرميه في الجهة الخلفية للعمارة؟ جنون وسخف. وثمة أصواتٌ آدميةٌ آتية من أسفل السلم. أطلَّ من فوق الدرابزين فرأى الدور الثالث غارقًا في الظلام، ولكن نورًا ينبعث من شقة في الدور الثاني انعكس على الدرابزين والجدار وراءه. ومسح القضيب بفردة القفاز اليسرى، ثم قبض عليه بها، وهبط السلم. مرَّ أمام الشقة المفتوحة لا يلوي على شيء، ثم غادر الشقة رجلان أو ثلاثة فنزلوا وراءه فتباطأ حتى أدركوه، ثم فاتوه، فهبط وراءهم حتى الدهليز، وغادر العمارة كأنه واحد منهم، وقد لمح البوابَ جالسًا في حجرته الصغيرة وراء الباب. في الطريق شهق بعمق ثم زفر. هل عرفه أحد؟ هل رأى أحد القضيب في يده؟ هل لوث الدم بدلته؟ ورأى تاكسي عند الطوار المقابل، ولكنه خاف إن عبر الطريق مباشرة أن يراه أحد من الفندق، فتوغل في الشارع، ثم عبر من بعيد إلى الجانب الآخر، فرجع تحت البواكي صوب موقف التاكسي. وصادف رجوعه قيام الشحاذ وسيره نحوه متلمسًا طريقه بعصاه. اضطر أن يقف على بعد مترَين من التاكسي حتى يمر الرجل، فرآه لأول مرة بوضوح على ضوء مصباح. وشدَّ ما أثار اشمئزازه لحد الغثيان؛ وجهٌ نحيلٌ ضائع اللون والمعالم في لحية متلبَّدة بالقذارة، وعظامٌ بارزة، ووجنتان غائرتان، وأنفٌ مجدوع، ورأسٌ مغطًّى بطاقيةٍ سوداء يحجب مقدمها حاجبيه، تدمع تحتها عينان دمويتان مشدودتان إلى أسفل، فمن أين جاءه الصوت اللطيف الذي يغنِّي بالمديح؟ كتم أنفاسه كي لا يشم رائحته وهو يمضي أمامه، وتقلص وجهه في تقزز ونفور حتى اختفى عن ناظرَيه، ثم اندفع نحو التاكسي آمرًا السائق بالذهاب إلى ناحية من النيل بها مرسى قوارب. أي إنسان يعطف على هذا الشحاذ! ولكن هل لمحه أحد وهو يغادر العمارة؟ القفاز والقضيب هل رآهما أحد؟ وسائق التاكسي هل ينقلب شاهد إثبات غدًا؟ التاكسي لا يريد أن ينطلق، والسائق يزعجه بتعليقات غير مفهومة.
– أليس كذلك؟
– هه!
– وبدل الجنون أقول لنفسي الصبر طيب.
ليس أفضل من السكوت إلا الجنون. وشاطئ النيل راقد في ظلام، فمن يرى القضيب أو القفاز أو الدم؟ والتجديف في هذه الساعة من السنة غريب، ولكنه سلوكٌ عادي جدًّا إذا قيس بغيره. الآن تتخلص من القضيب والقفاز وتغسل يدَيك. اغسلها جيدًا في الأمواج الثقيلة النابعة من الليل. وبمجرد التفكير في الراحة زحف الإعياء كالنوم. وترك القارب للتيار. ليس فوق البر من شيء يهم. وثمة لذةٌ غريبة في إغماض العين والاستسلام للتيار. وفي محو الفكر والذاكرة. لكن التقاء العينَين تحت المصباح السهاري لا يُنسَى. والصوت الذي انبعث ما كنهه؟ وما يسيل من عين الشحاذ دم أم دمع؟ حتى المطاردة الآن لا تهم. ولكن أين مضى بك التيار؟
وفجأة انطبقت السماء على الأرض؛ وثب من الفزع فتمايل به القارب، وفي اللحظة التالية أدرك أنها صفارة قاطرةٍ بحرية انفجرت بغلظها المحطِّم لأركان الجو. وتتابعت أمواجٌ قوية فرقص القارب. وتناول المجدافَين وجدف بقوة راجعًا إلى المرسى. ولم يرَ في السماء نجمًا واحدًا، فتذكر الشتاء، وسرعان ما سرت في جسده قشعريرة البرد. ومشى في الجزيرة بسرعة وقوة دفعًا لبرودة الجو حتى عبر جسر قصر النيل. وعند إشارة المرور لمح سيارةً كبيرة واقفة، ورأى داخلها رجلًا جذب انتباهه من النظرة الأولى. كهلٌ فخم، ولكن هذا الوجه كم إنه محتمل أن … وانفتح الطريق، وتحركت السيارة، فصاح بأعلى صوته: سيد الرحيمي!
وجرى وراء السيارة بأقصى سرعته، ولكن المسافة الفاصلة بينهما اتسعت إلى غير نهاية، وسرعان ما اختفت السيارة. حتى رقمها لم يره. توقف عن الجري وهو يلهث. هو الرحيمي! صاحب الصورة بعد ثلاثين عامًا. ولو تقدم خطوات أسرع لأمكنه الوثوب على مؤخرة السيارة. لكنه لم يعرف الرقم ولا الماركة. والحسرة غير مجدية، وهي في حالته مضحكة أيضًا. وكيف يثق في عينَيه وهو لم يشعر بالبرد فوق سطح النيل! وماذا يعني الرحيمي له بعد ما كان؟ الأمل الوحيد الباقي له هو كريمة. هي الآن سهرانة تفكر. وتربطهما حقيقةٌ واحدة رغم البعد. ومع ذلك كم يحن إلى لقاء إلهام ليعترف لها بكل شيء. وأنبأته ساعة الميدان بانتصاف الليل، فقرر العودة إلى الفندق في ميعاده المألوف رغم كراهيته للفكرة. ارتعد وهو يمر أمام العمارة، وتذكر الشحاذ بصورته البشعة؛ فتساءل عن المأوى الذي يؤويه. ووجد عم محمد الساوي جالسًا مكان عم خليل لم يذهب بعدُ للنوم. وتذكَّر أنه لم يأكل ولم يشرب، وأنه كان ينبغي أن يشرب قليلًا من الكونياك. ورفض فكرة الرجوع خشية ألا يحسن تفسيرها غدًا!
وقال له العجوز: التعب واضح في وجهك!
فأجاب بحذر: الدنيا برد جدًّا في الخارج.
فابتسم الرجل قائلًا: سألتْ عنك مرةً أخرى.
– من؟
– أنت أدرى.
إلهام! خرافة كالرحيمي.
– ليس وراء بلدكم إلا التعب.
– الحياة كلها تعب، ولكن أما من جديد؟
أَدرَك أنه يسأل عن الرحيمي، فقال وهو يمضي محيِّيًا: سأبحث عنه غدًا في القرافة.
١١
غادر الفراش في السادسة صباحًا. ترى هل ذاقت النومَ عيناه؟ إنه لا يذكر من ليله إلا السهاد. ولكن مهلًا لقد حلم. أجل لا يذكر من الحلم سوى منظر عراك نشب بينه وبين كريمة أمام عم خليل الذي لم يكترث لما يجري أمامه، ولكن ذلك دليلٌ كافٍ على أنه نام ولو بعض الوقت. والجو بارد حقًّا، ولكن فلتكن رجلًا إلى النهاية، وإلا فما معنى مباهاتك بأنك مجرم من سلالة مجرمين!
وأضاء المصباح فهاله أن يرى فردة القفاز في يمناه! حملق فيها بذهول وفزع. إذن رمى بالقضيب والفردة اليسرى ونسى هذه! عاد بها إلى شاطئ النيل، وسار في الجزيرة، وجرى وراء السيارة الكبيرة، وقطع الشوارع، ولوح بها للساوي وهو يحدثه. حملق فيها بفزعٍ متزايد. بقعة من الدم انداحت وسط راحتها البنية. ماذا فعلت هذه القبعة! أي آثار خلَّفتها وراءك! وماذا بقي من حسن التدبير؟ عليك أن تختبر كل شيء. وتفحص الفراش والغطاء والملاءة، وأرض الغرفة، ثم الحذاء، والجورب، والبدلة، والقميص، والمنديل، كل شيء بعناية، ولكنه لم يطمئن لشيء، ودار رأسه بالوساوس فعيناه لا تريان شيئًا، أما أعين شياطين الأمن فلن يخفى عليها شيء. وقرر أن يتخلص من القفاز فمضى به — مع الفوطة والصابونة — إلى الحمام، مخفيًا في جيب البيجاما مقصه الصغير. وراح يقطعه، ويرمي بكل قطعة على حدة ثم يشد السيفون. وهو يفعل ذلك سقط منه مرة على الأرض، فالتقطه وواصل عمله، ثم غسل وجهه وغادر الحمام. وفي الطرقة رأى علي سريقوس أمامه فحياه الرجل قائلًا: صباح الخير يا سي صابر، استيقظت اليوم مبكرًا.
اللعنة! ماذا جاء بك إلى طريقي! ساكن الحجرة رقم ١٣ استيقظ مبكرًا على غير عادته، هذا هو الشيء الوحيد غير العادي يا حضرة الضابط. اللعنة. بادرة سوء ولا شك. وهل غسل الأرض عند موضع سقوط القفاز؟ اللعين دخل الحمام! ولما دخلت الحمام عقب خروجه منه رأيت أثرًا يشبه الدم عند البالوعة. ولم يدخل حجرته ولم تفارق عيناه باب الحمام. وفتح الباب وخرج علي سريقوس، فلما رآه بموقفه سأله: أي خدمة يا سي صابر؟
فذهب إلى الحمام دون أن يلتفت إليه، وتفحص موضع سقوط القفاز جيدًا ثم غادره، ولما رأى علي سريقوس في الخارج قال كالمعتذر: نسيت الصابونة.
فابتسم الرجل قائلًا: كانت بيسراك وأنت ذاهب!
يا للداهية! وتكلف ضحكة قائلًا: هذه عاقبة الاستيقاظ مبكرًا قبل أن يشبع الواحد من النوم، زياطٌ ملعون أيقظني بعد الفجر، وعبثًا حاولتُ النوم من جديد!
ودخل الحجرة وهو يستأنف ضحكته. بدايةٌ سيئة، ولكن لا داعي للمبالغة في الخوف. وأعاد تفحص ملابسه وهو يرتديها. ورفع رأسه نحو السقف متخيلًا صورة عم خليل فوق فراشه. وقال لنفسه — رغم قشعريرة تقلص بها جسده — إن حوادث القتل تقع كل يوم وبلا حصر. ومجرد التفكير في السفر إلى الإسكندرية جنون. ولما انتهى من ارتداء بدلته نظر فيما حوله متسائلًا، ترى هل نسي شيئًا؟ إنه غير مطمئن إلى بدلته رغم إعادة الفحص، وسوف يكتشف الشياطين في نسيجها ما لا يخطر ببال. وخطر له أن يرتدي أخرى، ويذهب بهذه إلى مصبغة لغسلها بالبخار، ولكن فيمَ يلفها؟ وألا يلفت ذلك بعض الأنظار؟ ألا تصير موضع تحقيق بعد ظهر اليوم؟ وشعر بضيق ويأس، وبخاصة لأنه رسم أن يغادر الفندق قبل اكتشاف الجريمة. ورأى أن ذلك أهم من البدلة نفسها. وألقى نظرةً أخرى على الحجرة وهو يقول لها: «لا تخونيني!» ثم ذهب. رأى عم محمد الساوي وهو يصلي الصبح فجلس في الاستراحة مع نفر قليل من النزلاء. وتناول فطورًا خفيفًا، وفي أثناء ذلك جاءه علي سريقوس مسرعًا وهو يقول: نسيتَ هذه يا سي صابر.
حافظة نقوده! سقطت بلا شك وهو يتفحص الجاكتة. وراجع محتوياتها، ثم قال له: أشكرك جدًّا يا عم علي.
ونفحه بعشرة قروش، فقال الرجل وهو يمضي عنه: وجدتها عند رجل السرير.
الأخطاء التي اكتُشِفَت كثيرة حقًّا، فما عدد الأخطاء التي لم تُكتَشف؟ والقوة العمياء التي تجردك من ملابسك قطعة وراء قطعة سترمي بك في النهاية عاريًا كما ولدتك أمك. وأمك هي القاتل الحقيقي لعم خليل أبو النجا. وما أشبه شخيرها بشخيره في الليلة الأخيرة، أما الصوت الذي ندَّ عنه عقب الضربة القاتلة فقد مضى وانقضى. وضبط رجلًا من الجالسين وهو يداري ابتسامة ابتسمها لدى ملاحظته، فأدرك أن شفتَيه تفضحان أفكاره فأربكه الحرج. وكره المكان فغادره. وفي الخارج ترامى إليه الغناء المألوف كل يوم «طه زينة مديحي» فتذكر الصورة البشعة بتقزُّز، ثم قال وهو يتجنب النظر ناحيته: «من يدري لعله سعيد بالغناء.» ويصعد عم محمد الساوي إلى السطح، ويفتح باب الشقة، ثم يطرق حجرة النوم .. عم خليل استيقظت؟ استيقظ يا عم خليل الساعة تدور في الثامنة .. يا عم خليل .. يا عم خليل .. ويدفع الباب برفق ويختلس من الداخل نظرة .. عم خليل .. رباه! يا ألطاف الله! أغيثونا .. يا علي .. يا علي .. يا هوه .. عم خليل قُتل .. أغيثونا .. بوليس النجدة. قديمًا اختفت أمي فلم يعثر عليها أبي، واختفى أبي فلم أعثر عليه. فليكن هذا الاختفاء الموفَّق نصيبي أيضًا، وإذا انجابت الغمة وطواها النسيان فتلقَّ كريمة بين ذراعَيك، ومعها كل ما تعد به من الحياة السعيدة المطمئنة. سار على غير هدًى تقوده الشوارع والمنعطفات. وكلما أجهده السير جلس في قهوة ليُريح قدمَيه. لم يرَ شيئًا ولم يسمع شيئًا. ومرة ارتفع رأسه إلى الأفق فوق مبنى القضاء العالي فرأى مظلةً كبيرة من السحب ذات أرضيةٍ بيضاءَ صافية تنتشر عليها قطعان من السحائب الداكنة، فاستيقظ قائلًا: «هذه زفرة من الإسكندرية!» وتحرك في القلب الشجن، ثم مضى بالعين التي لا ترى، والأذن التي لا تسمع. وطيلة الوقت وهو يشعر بحاجةٍ حارة إلى لقاء إلهام، فلما فات النهار منتصفه مضى إلى فتركوان وهو ينظر إلى كل شيء بغرابة. ولدى رؤية الفتاة مقبلة فاضت به رغبةٌ مفاجئة في الاعتراف. ولما رأته وَمَضَتْ عيناها، ثم صافحته وهي ترميه بنظرةٍ زرقاءَ عاتبة: لماذا أصافحكَ ما دمتَ تقاطعني؟
وتفحصته باهتمام ثم استدركت: وأيضًا لا تتكلم!
– استغرقتني المشاغل، وكنت وما زلت في غاية التعب.
– ولا تليفون؟
– ولا تليفون، فلنؤجل حديث ذلك لأُشبع شوقي إليكِ.
وارتضيا الصمت وهما يتناولان الغداء، ولكنه ظل يرنو إليها طيلة الوقت. وردد باطنه: «طه زينة مديحي .. صاحب الوجه المليحِ». وقال إن تصميمه على هذا اللقاء عجيب. وهو يبدو لا معنى له إلا أن يكون ملجأً مؤقتًا في العاصفة. وهي تبتسم رغم أنها صافحت يدًا ملوثةً بالدم. ورهبة الوداع تُغري بالدمع.
– أنت متعبٌ حقًّا.
فقال بفتور: أمس رأيته.
فلمعت عيناها باهتمامٍ شديد مدركةً من يعنيه: أخوك؟
– سيد سيد الرحيمي.
– إذن قد انتهت مهمتك؟
فقصَّ عليها الحكاية فيما يشبه الضجر، فقالت: هناك احتمالٌ كبير أن يكون هو.
– وثمة احتمال أن يكون غيره.
فتساءلت برجاء: متى نعتبر هذه المسألة منتهية؟
– إني أعتبرها كذلك.
– لكنك متعب حقًّا؟
– مضت الأيام الأخيرة في مقابلاتٍ متواصلة ومشاويرَ معقدة.
– أناس من طرف والدك؟
– نعم.
وشربا العصير، ثم تهيأت لنغمةٍ جديدة مهدت لها بابتسامةٍ حيية، ثم تساءلت: ولا تجد وقتًا للتفكير فيَّ؟
– بل أفكر فيكِ طول الوقت.
– ماذا قال لكِ التفكير؟
متى تعترف لها بكل شيء، وتعفي نفسك من الكذب؟
– أنت لا تتكلم، تحدثنا آخر مرة عن عملٍ جديد في القاهرة!
آه .. أنت لا تفكر إلا في الاعتراف، وعما قليل ستنفجر.
– أجل، لم أنس ذلك لحظةً واحدة.
– رغم مشاغلك؟
– رغم مشاغلي كلها.
– أما أنا فأدرس الموضوع من جميع نواحيه.
انهار آخر حصن للمقاومة، فقال: إلهام، أنا أحبك، أحبك من كل قلبي، ولكني كذبت عليكِ.
رمقته بدهشة وهي تسأل: متى وكيف كذبتَ؟
– كذبت عليك بدافع حبي نفسه.
– لا أفهم شيئًا.
– قلت لك إني أبحث عن أخي، والحقيقة أني أبحث عن أبي.
– أبوك!
– أجل، أبي هو الذي أبحث عنه.
– وكيف فقدتَه؟ أهي حكاية كحكايتي؟
– كلا، صدَّقتُ طول عمري أنه ميت، وفي الساعة الأخيرة من حياة أمي اعترفت لي بأنه حيٌّ، وأن عليَّ أن أجده.
وهي تحدق في وجهه طول الوقت: على أي حال ليس الأمر بذي بال.
– لكنني رجلٌ مفلس لا أملك إلا جنيهات، كانت أمي غنيةً جدًّا، وكنت أعيش عيشة الوجهاء، ثم ضاعت ثروة أمي لآخر مليم، لم تترك لي سوى وثيقة زواجها وصورة أبي لأثبت بها بُنوَّتي أمامه عندما أجده، وعدا ذلك فإنني لا أصلح لشيء.
أثقل الوجوم عينَيها الصافيتَين. كيف كانت تكون حالها لو اعترف لها بسيرة أمه وماضيه على حقيقتهما؟
– أقرأ الانزعاج في وجهكِ!
– كلا، ولكنها المفاجأة.
– أنا غير جدير بكِ ولن أغفر لنفسي خداعكِ.
تمتمت: إني أفهم جيدًا لماذا كذبتَ عليَّ.
– الأفظع من ذلك أنني جعلتك تحبين شخصًا غير جدير بحبك.
– وحبك أهو كاذب؟
– أبدًا، مطلقًا، أحبكِ من كل قلبي.
وهي تتنهد: والحب هو الذي ردك إلى مصارحتي بالحقيقة؟
– أجل هو ذلك.
– إذن فعذرك واضح.
– ولكنه يطالبني أيضًا بالابتعاد عنك.
وهي تزدرد ريقها: ولكن بالله لماذا؟
– مفلس ولا أهل لي، ولا أصلح لشيء.
– الإفلاس لا يهم فهو حالٌ مؤقتة، والأهل لا يهمون فما حاجتنا إليهم! ولكنك تصلح لأشياء كثيرة.
– أشك في ذلك، لا شهادة لي، ولا علم، ولا خبرة، ولا عمل؛ ولذلك فلا أمل لي إلا في العثور على أبي.
– وهل يُغني أبوك عن كل شيء؟
– أفهمتني أمي أنه من الوجهاء وممن يشغلون المناصب الخطيرة.
فترددت لحظات، ثم قالت: لكن الإعلان … والاسم … ودليل التليفون … أعني …
– أجل، لا أصدق الآن أنه من أصحاب المناصب فهم معروفون، ولا من وجهاء القاهرة كذلك، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون من وجهاء هذا الإقليم أو ذاك.
– ثم إنك لمحته أمس؟
– ذلك ما خُيِّل إليَّ، ولكني لم أعد أثق بشيء.
– وحتى متى تنتظر؟
– يجب ألَّا أضيع وقتي في البحث أو الانتظار.
– ثم؟
– لا أدري، السبل مسدودة في وجهي، ولكن عليَّ أن أرجع إلى بلدي فأبحث عن أي عمل أو أنتحر.
وهي تعضُّ على شفتَيها: وتقول إنك تحبني!
– نعم .. بكل قلبي.
– وتُفكِّر في الذهاب أو الانتحار؟
– السبل مسدودة لحد الاختناق.
– لكنك تحبني، وأنا أيضًا أحبك.
قال بوجهٍ متقلِّص من الانفعال والحزن: أنا لا أصلح لشيء، فكيف أصلح لكِ؟
– الصبر، لن أتخلى عنك.
– لكن ما الفائدة؟ كنت أحلم بالعثور على أبي، ولذلك أدخلتك في حلمي بلا حساب.
– العمل، هو الذي يحل مشكلتنا.
– قلتُ إنني لا أصلح لشيء.
– أعطني فرصة للتفكير وسوف تسير الأمور كما نودُّ.
والجريمة التي ارتُكبت! لا يجوز بحال أن تسير الأمور كما نودُّ، يجب أن يكون وقت ذلك قد فات. كيف لم يأتِ الاعتراف بالنتيجة المدمرة! والضحك من الآن إلى نهاية العمر لن يكفي.
– لن تسير الأمور كما نود.
فقالت بحزم: أمهلني يومًا أو يومَين، لا تتخذ أي قرار قبل الرجوع إليَّ، أنا أعرف ما أريد.
قل لها ماذا كانت أمك! قل لها ماذا فعلتَ أمس! قل لها إنك تزوجت من أخرى بوثيقة من دم! قل لها إنك تود أن تصرخ حتى تصدع أركان الأرض.
١٢
ها هم عساكر البوليس، وها هي اللمة، كما تخيل ذلك تمامًا طيلة النهار؛ وإذن فقد انتهى الرجل، واكتُشفت الجريمة، والبحث دائر عن المجرم. ولا مفرَّ من التقدم فأسكت هذه الرعدة، وتمالك نفسك حتى الموت، ولتنسَ النظرة الغائبة التي ألقاها عليك الرجل إلى الأبد، ولا تسل عن الصوت الذي ندَّ عنه. والعودة إلى الفندق شاقةٌ مرعبة كالاعتراف. حتى الخطة التي نُفِّذت نوقشت من جديد كأن لم تُنفَّذ بعدُ. كان يجب أن تغادر الفندق قبل يوم الجريمة بأسبوع. لم يكن الشيطان نفسه ليفكر فيك، ولكنك لن تجني من الهلوسة إلا الحسرات. ومن يصدق أنه حتى في غمرة هذا الفزع الشامل لا يكفُّ صوت الشحاذ عن المديح! وشقَّ طريقه خلال المتطلعين حتى اعترضه عسكري، فقال بدهشة: ماذا حدث؟ أنا من نزلاء الفندق.
وظهر عم محمد الساوي على عتبة الفندق بوجهٍ شاحب استقرت في صفحته صورةٌ دميمة للفزع، فأشار إليه قائلًا بصوت لا يكاد يُسمَع: دعه يدخل.
سأله بلهفة: ماذا حدث يا عم محمد؟
فأجاب الرجل ووجهه يتقلص تقلص البكاء: قُتِلَ عم خليل!
– قُتِل!
– وُجِدَ قتيلًا في فراشه لعنة الله على المجرمين.
رأى في المدخل عساكر ومخبرين، وفي مكان عم خليل جلس المحقق وإلى يمينه — على كرسي كريمة المعتاد — رجلٌ آخر. وكان شاغلُ كرسي عم خليل عاكفًا على أوراقٍ بين يديه، وقد جلس وراء المكتب من الناحية الأخرى أحد النزلاء. وذكَّره الجالس مكان عم خليل بصورة أبيه المتخيَّلة. وأوشك اهتمامٌ مفاجئ أن ينتزعه من دوامة الاضطراب التي اجتاحته، ولكنه ما لبث أن تبين شباب الرجل النسبي، واختلافه عن الصورة عند التحقق، فوضح له سخف مخيلته. هل يقف أو يمضي إلى حجرته؟ وبعد ترددٍ قصير شرع في السير إلى الأمام، ولكن الجالس مكان كريمة أوقفه بإشارة من يده قائلًا: انتظر من فضلك في الاستراحة.
ذهب إلى الركن الأيمن حيث جلس بعض النزلاء، فجلس معهم وهو يسأل: ماذا حدث؟
– وُجِدَ عم خليل مقتولًا.
– ولكن كيف؟
– من يدري! وجاء المحققون، وحجزنا جميعًا للتحقيق، وحصلت المعاينة كما حصل تفتيشٌ شامل.
وارتفع صوت بكاءٍ مكتوم جذب عينَيه إلى ركن الاستراحة الأيسر فرأى كريمة! رآها جالسة بين امرأةٍ عجوز في السبعين ورجل يكبرها بأعوام. كيف لم ينظر صوبها وهو داخل؟ وماذا يجدر به أن يفعل؟ وبعد تردد نهض إليها، ثم قال بصوت خافت: شدي حيلك، البقية في حياتك.
لم تنبس بكلمة، وظلت مُخفية وجهها بين يديها فرجع إلى مجلسه وهو يهزُّ رأسه أسفًا. ترى هل أخطأ أو أصاب بهذه الحركة؟ وهل يمكن أن تشبه المرأةُ العجوز أمَّ بنت الأنفوشي؟ وماذا يدور في أذهان المحققين؟ هل سألوا عن ساكن الحجرة رقم ١٣؟ هل بدأت التحريات عنه؟ هل يفهمون المجرمين كما يفهم هو بنات الليل؟ وكرههم جميعًا لدرجة الموت. ونظر إلى الجالسين متسائلًا: وبعد؟
– أنت لم تنتظر إلا دقائق ونحن على هذه الحال منذ الصباح.
– هل سألوا النزلاء الآخرين؟
– نعم، وتركوهم يذهبون، ولم يأتِ دورنا بعدُ، وسألوا الزوجة وأمها وخالها.
– لكنها لم تكن موجودة فيما أعلم …
وندم على تسرُّعه، ولكن رجلًا قال: ولو! وحصلت مفاجآت؛ ففي الحجرة رقم ٦ ضُبطت كميةٌ ضخمة من المخدرات فقُبض على صاحبها، وفي الحجرة رقم ٣ عثروا على لصٍّ محترف.
– آه .. لعله …
– هذا جائز، كل شيء يتوقف على سبب الجريمة.
– لا شك أنه السرقة.
وندم على تسرعه مرةً أخرى، يحسن به أن يتجنب الأخطاء. هل وجدوا دليلًا أو شبه دليل في حجرة عم خليل أو في حجرته؟ لا يبدو أن أحدًا منهم يهتم به. وكم يود أن يخلو ولو دقائق إلى كريمة! احذر أن تنظر نحوها. لديها بلا شك ما يستحق أن تخبره به. ليس الأمر كما تخيل. أجل ليس الأمر كما تخيل. اللعنة .. متى يخرس الشحاذ البشع؟ في مثل هذا الوقت من كل شهر أذهب لزيارة أمي. سُرقت نقود وحُلي. أغلق علي سريقوس النوافذ أمام عيني، ثم أغلقتُ الشقة بنفسي. لا، لا أعرف له أعداءً، لماذا ذكرني هذا الرجل بصورة أبي؟
وإذا برجل يقول: ومع ذلك فنحن أبرياء، فكيف يكون اضطراب المذنبين!
– وأكثر من هذا فمجرد خطأ في التعبير قد يجلب متاعب لا حدَّ لها.
– ولكن لم يُشنَق بريء قط.
– أوووه.
ولكن قد ينجو مذنب؛ أمك والرجل الهارب إلى ليبيا. والعودة إلى الفندق محض جنون، فخطةٌ أخرى هي ما كان يلزمك، وكالقضاء والقدر اعترضت مسعاك الخائب كريمة. وحاجتك إلى أبيك لم تنقضِ كما توهمت ولكن الخطر يزيدها إلحاحًا.
واستُدعوا تِباعًا. وأخيرًا وجد نفسه جالسًا أمام المحقق. كرهه من أعماقه، ثم صمم على الانتصار عليه.
– صابر سيد سيد الرحيمي.
وقدَّم بطاقته فتصفحها الرجل بعناية: نزلتَ في هذا الفندق منذ شهر تقريبًا وهو مسجل في الدفتر.
كلا، لا يشبه الأب في شيء وإن يكن ذكَّره به عند النظرة الأولى.
– استيقظتُ كالعادة فارتديتُ ملابسي، ونزلت إلى الاستراحة، ثم تناولت الفطور وذهبت.
– ليس كالعادة تمامًا، استيقظت مبكرًا.
– لا أستيقظ عادة في وقتٍ محدد، وقد استيقظت مبكرًا أكثر من مرة.
– قال الخادم إنك استيقظت هذا الصباح مبكرًا بخلاف عادتك.
– لعله لم يرني في المرات السابقة.
– ألم تسمع شيئًا غير مألوف في الليل؟
– كلا، نمت عقب عودتي فلم أستيقظ إلا في الصبح.
– ألم يلفت نظرك شيء عقب استيقاظك؟
– كلا.
– متى رأيت الخادم علي سريقوس؟
– عند خروجي من الحمام مباشرة.
– ألم تلاحظ عليه شيئًا؟
– كلا، كان كعادته كل يوم.
– وأنت ألم يحدث لك ما يستحق الذكر؟
– كلا.
– ألم تنسَ حافظة نقودك؟
– بلى، حدث هذا حقًّا، وأتاني بها علي سريقوس في الاستراحة.
– وكيف كان وقع ذلك في نفسك؟
– سررت بطبيعة الحال.
– وماذا أيضًا؟
– لا شيء.
– ألم تدهشك أمانته؟
– ربما، لا أدري بالضبط، ولعلي لم أفكِّر في ذلك.
– من الطبيعي جدًّا أن تفكر في ذلك.
– لعلي دُهشت بعض الشيء.
– بعض الشيء؟
– أعني دهشةً عادية.
– ما رأيك في مدى أمانته؟
– لم ألاحظ عليه ما يسوء.
– وأين أمضيت الوقت فيما بين ذهابك وإيابك؟
– أتجول هنا وهناك كيفما اتفق.
– بلا عمل وهذا مفهوم من البطاقة، ولكن بلا أصدقاء؟
– لا أصدقاء لي هنا.
– وأمس متى غادرت الفندق؟
– حوالي العاشرة صباحًا.
– ومتى رجعتَ إليه؟
– عند منتصف الليل.
– لم ترجع في أثناء النهار كما فعلت اليوم؟
– كلا!
– وهل سبق لك أن فعلتَ ذلك؟
كيف خرقت مألوف سلوكك أمس خلافًا للخطة؟!
– مرةً أو مرتين؟
– لا يتذكر أحد هنا ذلك.
– ولكني أتذكره!
– مرَّةٌ أو مرتان؟
– الأرجح مرتان.
– وكيف تقضي هذا اليوم عادة؟
– في التجوال، وأنا رجلٌ غريب، وكل مكان في المدينة بالنسبة إليَّ جديد.
– وماذا وجدت عند عودتك؟
– قابلت عم محمد الساوي في هذا المكان، وعلي سريقوس أمام باب حجرتي.
– وكيف وجدته؟
– سألني إن كنت في حاجة إلى خدمة، ثم ذهب.
– ألم يصادفك أحد من النزلاء؟
– كلا.
– وكيف أمضيت أمس من الساعة العاشرة صباحًا حتى منتصف الليل؟
– تجولت في الشوارع حتى موعد الغداء.
– وأين تناولت الغداء؟
– في بقالة الحرية بكلوت بك.
– مكانٌ غريب بعض الشيء لرجل من الأعيان.
طفح بالكراهية للرجل وهو يقول: اهتديت إليه أول عهدي بالمدينة وأنا أتخبط فآنست إليه.
– وبعد ذلك؟
– مشيت على شاطئ النيل.
– في هذا الجو؟
وهو يضحك: أنا إسكندراني.
– ثم؟
فتركوان. لا، حتى لا يجر إلهام، وفيلم مترو رأيته في الإسكندرية.
– دخلت سينما مترو.
– متى؟
– من الساعة السادسة.
– أي فيلم؟
– فوق السحاب.
– وبعد التاسعة؟
– تجوَّلتُ كالعادة، وركبت باص مصر الجديدة إلى نهاية الخط لمجرد قتل الوقت.
قَتْل! لماذا اخترتَ هذه الكلمة المرعدة!
– وأين تناولت العشاء؟
آه .. حذار.
– في سينما مترو تناولت شطائر وحلوى.
– ألم تقابل أحدًا؟
– كلا.
– لم تعرف أحدًا في القاهرة؟
– كلا.
ثم بعد لحظة تردد: اتصلت بمدير الإعلانات بجريدة أبو الهول لعمل لكنها ليست علاقة معرفة بالمعنى المفهوم.
أخطأت؟ هل يقحم ذلك إلهام؟
– لماذا انتقلت من الإسكندرية إلى القاهرة؟
– زيارة سائح.
– لعل هذا الفندق غير جدير بإقامة سائح من الأعيان؟
– هو جدير من الناحية الاقتصادية.
– يبدو أنك لست من الأغنياء؟
– بلى.
– ولا غاية لك من الزيارة إلا السياحة؟
الحلقة تضيق. والكذب غير مجدٍ في هذه النقطة. وأنت لم تفكر في هذه الأسئلة عند وضع الخطة.
– ولديَّ مهمة خاصة.
– أمن الممكن أن آخذ عنها فكرة؟
– مهمةٌ عائلية.
– حدثني عن أملاكك؟
– مجرد نقود.
– لا عقار ولا أطيان؟
– مجرد نقود.
– ومحل إقامتك بالإسكندرية كما هو في البطاقة أم تغير؟
آه، تحريات. النبي دانيال. الكنار الليلي. بسيمة عمران. سوف تطاردك الشبهات بالوراثة.
– كما هو في البطاقة.
– وأموالك في أي بنك؟
– بنك؟
– في أي بنك تودع أموالك؟
– ليست في أي بنك.
– أين تودعها؟
– في … في جيبي.
– جيبك! ألا تخاف عليها السرقة؟
أجاب بيأس وحقد مكتوم: لم يبقَ منها إلا القليل.
– ولكن في بطاقتك ما يدل على أنك من ذوي الأملاك.
– كنت كذلك، أعني قبل إفلاسي.
– وماذا أعددت لمستقبلك؟
لا تتردد طويلًا. سأتحداك بصدق. أو رغم الصدق!
– كنت أبحث عن أبي، وهذا هو مستقبلي.
– تبحث عن أبيك؟
– أجل، انفصلت عنه وأنا في المهد. ولذلك قصةٌ عائلية لا أهمية لذكرها، ولما أفلست لم أجد بدًّا من البحث عنه.
– أليس لك أي فكرة عن مكانه؟
– كلا، والإعلان في الصحف هو آخر ما عمدت إليه من وسائل البحث.
– ولعل ذلك هو السبب الحقيقي في انتقالك إلى القاهرة؟
– لعله.
– وحتى متى تكفيك نقودك؟
– شهر على الأكثر.
– تسمح؟
أعطاه المحفظة بوجه يحمارُّ ويحتقن، ثم استردها بوجه عابس: وإذا نفدت نقودك؟
– شرعت في البحث عن عمل.
– ما مؤهلاتك؟
– لا مؤهلات!
– أي نوع من العمل؟
– عملٌ تجاري.
– هل تظن البحث سهلًا؟
– لي أصدقاء في الإسكندرية، ولن أجد صعوبة في الحصول على عمل.
– أأنت مدين للفندق؟
– كلا، ولقد دفعت أجرة هذا الأسبوع مقدَّمًا.
– وكيف اهتديت إلى هذا الفندق؟
– صادفتُه وأنا أبحث عن فندقٍ رخيص.
– ألم تكن تعرف فيه أحدًا من قبلُ؟
– كلا.
– ولكنك عرفت فيه الكثيرين ولا شك؟
– عم محمد الساوي، وعلي سريقوس.
– وعم خليل، أعني المرحوم خليل أبو النجا؟
– طبعًا.
– ماذا ترك في نفسك من أثر؟
– رجلٌ عجوز جدًّا وطيبٌ جدًّا.
– ومع ذلك فقد وجد من قتله بلا رحمة.
– أمرٌ محزنٌ جدًّا.
– أكنتَ تعرف أين يقيم؟
اللعنة والمقت، ولكن حذار من الكذب.
– في شقة فوق السطح فيما أظن.
– لستَ متأكدًا؟
– كلا!
– كيف عرفت ذلك؟
– علي سريقوس أخبرني.
– أم أنك أنت الذي سألته؟
– ربما.
– ترى لِمَ سألته؟
– لا أذكر الآن بالضبط، ولكن العادة جرت بيننا بالدردشة كلما جاءني لخدمةٍ ما.
– ألم توجه إليه أسئلةً أخرى؟
خفق قلبه بعنفٍ أليم وهو يجيب: ربما، لا أذكر سؤالًا على وجه التحديد، كانت مجرد ثرثرة.
وشعر بأنه يُدفَع إلى شر يصعب التخلص من عواقبه، ولكن الرجل سأل: حتى متى تبقى في القاهرة؟
– حتى أعثر على أبي، أو أجد عملًا، أو تنفد نقودي.
أشعل الرجل سيجارة في صمتٍ مُعذِّب، وتفكَّر مليًّا، ثم سأله: أليس عندك أقوالٌ أخرى قد تفيد التحقيق؟
– كلا.
– قد نحتاج إليك فيما بعد فلا تسافر قبل أن تُخطرنا.
– بكل سرور يا أفندم.
لم تكن خطةً كاملة. هي خطةٌ بلهاء. ومحاولة الهرب جنون، وسوف ترصدك عينٌ لا تغمض. وعليك أن تستعيد كل سؤال وكل جواب لتعرف حقيقة مركزك.
١٣
مركزك غامض كالموت. غير بعيد أن تكون الآن محور بحثٍ وتحرٍّ. وغير بعيد أن تكون الآن هدفًا لعين أو أكثر، ولن تدري بما يدور حولك، كعم خليل قبل أن تهوي عليه ضربتك. حذار أن تأتي حركة مريبةً واحدة. الفندق خير منك فقد استعاد هدوءه؛ رائحة الموت طردت كثيرين من نزلائه، ولكن غيرهم يجيئون، والاستراحة باردة برودة القبر، وليس في الجرائد اليوم من جديد، وها أنت تقرأ الجرائد كبقية الناس، ها هم يعودون إلى أحاديث القطن والعملة والحرب، والهواء يصفر في الخارج كالعويل، والشحاذ يرتفع إنشاده مضجرًا سقيمًا؛ فيا لإلحاح الشحاذين!
ولفت سمعَه وقع أقدام في مدخل الفندق فرأى عم محمد الساوي واقفًا يستقبل كريمة؛ انتفض باطنه. وجلست المرأة وأمها العجوز أمام الرجل؛ أجاءت لتتسلم إدارة الفندق؟ هل تلتقي عيناهما الآن أو بعد لحظات؟ حضورها رد إليك روحك الهاربة، فمتى تغفل عنا العيون؟ سوف تبلغك رسالة بطريقةٍ ما، وليست الرحمة ببعيدة. وهي في السواد أشد إثارة، وما أحوجك إلى العزاء الساخن! ويدور بينها وبين الرجل حديث، ترى ما أهميته غير الخافية؟ وسمع عم محمد الساوي وهو يقول: ولا أدري حتى متى يُسمَح بدخول الشقة!
تود أن تعرف مقرها ولكن من الجنون أن تتبعها. كيف فاتك أن تسألها عن عنوان أمها وأنتما تضعان الخطة كاملة؟ يجب أن تفكر في الاتصال بك تليفونيًّا، وأن تتذكر حاجتك الماسة إلى النقود.
– تليفون يا سي صابر.
– آه، ماذا يريد التليفون. هل يحسن الرحيمي فن السخرية؟ تناول السماعة بيسراه وهو يمد يمناه إلى المرأة قائلًا: أكرر العزاء يا هانم.
تلقت يده شاكرة دون أن ترفع إليه عينَيها. وجعل ظهره للساوي وعينيه لها طوال المحادثة.
– أنا إلهام.
لِمَ لَمْ تكن الرحيمي؟ ولم كان هذا الفندق بالذات؟ أجاب: أهلًا.
– أأنت بخير؟
– بخير.
– لم تحضر أمس.
– آسف، بعض التعب.
– فلنؤجل الحساب، ولكنك ستحضر اليوم؟
– ليس اليوم، عندما أُشفى من زكام.
– لن أضايقك، أنت تعرف المكان والزمان، إلى اللقاء.
– إلى اللقاء.
وأغلقت الخط ولكنه أبقى السماعة على أذنه كأنما الحديث ما زال متصلًا. وظل ينظر إلى كريمة حتى صاد عينَيها، فقال: يجب أن تتصلي بي بأي وسيلة، بالتليفون على سبيل المثال.
حوَّلت عنه عينَيها ولكن خُيِّل إليه أنها فهمت لعبته. قال: أريد أن أعرف أشياء كثيرة، لا شك أنكِ تدركين موقفي تمامًا، لا بد من تفاهم بوسيلةٍ ما، ولا تنسي أن نقودي تنفد بسرعة.
رمقته بنظرةٍ سريعةٍ محذرة، فقال: إني مدرك تمامًا لجميع المصاعب، ولكنكِ لن تعدمي حيلةً ذكية.
عاد إلى مجلسه مضطربًا، ولكنه ظفر بشيء من الارتياح. وما لبثت كريمة أن ذهبت متبوعة بأمها؛ واقتحمه إحساسٌ غامض بأنها تختفي إلى الأبد، وقال إنه بدونها جريمة بلا هدف. ولبث في الاستراحة على أمل أن تتصل بالتليفون. ومر وقتٌ عقيم. وترك اختفاؤها وراءه جحيمًا من الرعب، وخلت الاستراحة من النزلاء فرأى عم محمد ينظر نحوه فتبادلا تحية مجاملة. وسأله الرجل: ماذا يبقيك وحدك؟
– الزكام! تناولت أسبرينة، وسأذهب إذا شعرت بتحسن.
وهو يتكلم انتقل إلى الكرسي التي جلست عليه كريمة من قبلُ. ترى أين يقبع المخبر؟ وقال: كم خيب هذا التليفون أملي.
– آه .. الغائب سِرُّه معه.
فرنا إليه برثاء قائلًا: الحق أنك تعرضت لتجربةٍ قاسية.
تقلص وجه العجوز وهو يقول: لا أراك الله ما رأيت!
– لا شك أنه كان منظرًا فظيعًا، أنا لم أرَ ميتًا قط، حتى جثة أمي أغمضتُ عيني وأنا أقرأ عليها الفاتحة.
– ومع ذلك فالميتة شيء، والقتل شيء آخر.
– أجل .. القتل .. الدم .. الوحشية!
– وحشية تستحق اللعنات الأبدية.
– إني أتساءل أي سبب يبرر القتل؟
– نعم، أي سبب؟
– والقاتل، أي إنسان هو؟
– من كان يصدق أو يتصور، رأيت قبل ذلك قاتلًا، صبي بقال، وطالما ظننته وديعًا كالحمام.
– عجبت حقًّا!
– ولكن أين المفر؟
– صدقت، أين المفر؟ وعما قريب سنسمع بالقبض عليه.
حدجه العجوز بنظرةٍ حزينة، ثم قال: لقد قُبِضَ عليه بالفعل.
– من؟
– القاتل.
– القاتل! لم نسمع ولم نقرأ.
هزَّ رأسه هزة العارف دون أن ينبس: ولكن من هو؟
– علي سريقوس.
– ذلك الأبله؟
– كصبي البقال.
– ألذلك لم أره اليوم ولا مساء الأمس؟
– ليرحمنا الله.
– وهل علمت بذلك زوجة المرحوم؟
– طبعًا.
– الإنسان لغز.
– ضبطوا عنده نقودًا.
– ربما كانت نقوده؟
– لكنه اعترف بالسرقة، لهم وسائلهم.
– واعترف بالقتل؟
– لا أدري.
– لكنك قلت إنهم قبضوا على القاتل!
– هو ما قالت كريمة.
– أيعني هذا أن السرقة كانت الباعث على القتل؟
– أظن ذلك.
– كان بوسعه أن يسرق دون أن يقتل.
– الراجح أن المرحوم استيقظ فاضطر إلى قتله.
– كان طيبًا لدرجة البلاهة.
– الإنسان كما قلت لغز.
– أكثر من لغز.
– أتدري أن الشحاذ الذي نسمع مديحه النبوي كل ساعة كان في شبابه فتوةً داعرًا؟
– ذلك الرجل!
– ثم فقد كل شيء من قوة ومال وبصر فتسوَّل.
– ولكن علي سريقوس عثر على حافظة نقودي صباح الجريمة فأتاني بها.
– لعله أمكر مما نتصور.
هل تقع المعجزات بهذه السهولة أو هو بنيان من الأوهام يقوم على لا شيء؟
– أما كان الأجدر به بعد ذلك أن يهرب؟
– الهرب اعتراف.
– وكيف يخفى المسروقات في حجرته؟
– ربما ضُبطت في بيته.
– تهريبها إلى بيته لا يقل غباءً.
– تلك حكمة ربنا.
– عندما قابلني في الصباح قبل اكتشاف الجريمة كان هادئًا لطيفًا كعادته.
– من الناس من يقتل القتيل ثم يمشي في جنازتك.
الثبات. احذر أن تفضح أطرافُك اضطرابك الخفي. قد يوافيك التليفون بضوء. وعاد العجوز يقول: كنت أول من حُقِّقَ معه.
– أنت!
– طبعًا، فأنا آخر من كان معه ليلًا، وأول من دخل شقته صباحًا.
– ولكن من يتصور.
– تلقيت سيلًا من الأسئلة، وكنت أغلقت الباب بيدي، وكانت النوافذ مغلقة، ولكن وجدت نافذةً مردودة دون إغلاق.
– لعلها نُسيت.
– أكدت الزوجة أن جميع النوافذ كانت مغلقة.
– هل كسرها علي سريقوس؟
– غير معقول فالكسر حقيق بأن يوقظ النزلاء لا المرحوم فحسب.
– لعله طرق الباب ففتح له الرجل.
– ولماذا يفتح النافذة؟ ثم إنه لم يكن بوسع الرجل أن يغادر فراشه وقد قُتل وهو نائم عليه.
ونظرة عينَيه، وصوت الصمت.
– ربما تمكن من الاختفاء في الداخل.
– أبدًا، لقد غادر الشقة قبلي وأنا من أغلقها.
– لعله …
ماتت بقية الجملة إذ خنقها الرعب. أوشك أن يقول لعله تظاهر بإغلاق النافذة دون أن يغلقها، مع أن المفروض أنه لا يعلم بأن علي هو الذي أغلق النوافذ. ورغم نجاته فقد تثلج من الرعب. وتساءل العجوز: لعله ماذا؟
– لعله فتح الباب بمفتاحٍ آخر.
– ربما، ولكن لم فتح النافذة؟
– الراجح أنها نُسيت مفتوحة.
– الله أعلم.
– كانت محنةً لك، ولكنك رجلٌ طيب.
– لا أدري كيف تركوني! ولكنهم يحسنون عملهم.
– والجرائد سكتت فجأة، لا كلمة اليوم عن الجريمة.
– الله يرحمك يا عم خليل، لقد عرفته منذ ستين عامًا.
– وكم بلغ عمره؟
– جاوز الثمانين.
– ومتى تزوج؟
– منذ عشرة أعوام.
– لكنه زواجٌ عجيب، أليس كذلك؟
– لقد تزوج في شبابه وأنجب، ثم ماتت أسرته جميعًا، ولبث أرملًا عمرًا، حتى تمت مشيئة الله، وكان يحبها كأبٍ قبل كل شيء.
– هذا هو المعقول.
– كان رجل جد وعمل، وكان محسنًا، ساعدني في تربية أولادي، الله يرحمه.
– وكيف تزوج منها؟
– كان يسافر إلى الإسكندرية لبعض الأعمال.
– فقاطعه: أهي من الإسكندرية؟
– كلا، كان عند كل رحلة يقيم أيامًا عند صاحب له في طنطا، وكانت هي متزوجة.
– متزوجة؟
– من ابن خالتها، شابٌ بلطجيٌّ وضيع، وقد رآهما عند صاحبه، آه .. لقد تكلمت أكثر مما ينبغي.
– ولكن كيف تزوجها؟
– طُلِّقت من ابن خالتها فتزوجها.
– وتزوجت من رجل فوق السبعين!
– لم لا؟ لقد وفَّر لها الاحترام والطمأنينة.
فقال بذهول: والسلام!
وجعل يتذكر كلمات أمه الأخيرة، ثم تساءل: ولكن البلطجي لا يطلق زوجةً حسناء، فكيف طلقها ابن خالتها؟
– لكل شيء ثمنه!
ورمش الرجل كالنادم على تسرُّعه فقال صابر: ذلك ماضٍ قد مضى.
– لكني أتكلم أكثر مما ينبغي، والحق أنني كثيرًا ما أهذي مذ رأيت دمه .. أستغفر الله العظيم!
ربيبة بلطجي، جاريةٌ سوقية، زوجة رجلٍ فان، مدبرة جريمةٍ رهيبة، خالقة لذاتٍ جنونية، معذبتك إلى الأبد. ومجرد وهم لا أساس له ساقك إلى فندقها الدامي، ثم رمى بك إلى براثن هذه الحيرة القاتلة. كالوهم الذي دفعك تجري وراء سيارة كالمجنون.
١٤
قهوةٌ مضاعفة لتفيق من الأرق. ونظر إلى التليفون خلال سُحب الدخان المتصاعدة من سجائر النزلاء وتساءل متى تتكلم كريمة؟ وهطلت السماء في الخارج بغزارةٍ دقائقَ معدودة، ثم أشرقت السماء، ولكن الطريق غشاه الوحل. كريمة صامتة كالموت كأنها لا تدري عذابه. وأنت تشرب أردأ أنواع الأنبذة، وتسهد فوق فراشك حتى الفجر، وتحلم حتى يُخيَّل إليك أن النزلاء يسمعون صراخك، وإذا تدهورتْ صحتك فلن يخفى ذلك عن عين الرقيب، أما كريمة فلا يهمها شيء.
واستأذن في الجلوس إلى ترابيزته — لازدحام الاستراحة — قادمٌ لعله الوحيد الذي بقي من النزلاء الذين عاصروا يوم الجريمة، فأذن له وهو كاره يتوجس ثرثرةً مزعجة. وصدق توجسه؛ إذ قال الرجل: قبضوا على القاتل.
فقال صابر مخفيًا انزعاجه بابتسامة: سمعت ذلك.
– علي سيرقوس؟
– نعم.
حبك العباءة حول جسده، وقال: مجرد سرقة لا كما ظننت.
– وماذا ظننت؟
– الحق أني سيئ الظن بالنساء.
حدجه بنظرةٍ مستطلعة، فقال الرجل: زوجةٌ جميلة وشابة، وسوف ترث تركة لا بأس بها.
قال صابر وهو يشد على أعصابه: دار برأسي نفس الخاطر.
فضحك الرجل قائلًا: بعض الظن إثم.
ألم يدر ذلك برأس المحقق؟ ولكن كريمة صامتة كالموت. وهذا التليفون لا يحقق رجاءً قط. والبرد والمطر والوحل لم تُسكت صوت الشحاذ. وناداه محمد الساوي وهو يشير إلى السماعة، فهرع إلى التليفون بتوسل معذَّب: آلو.
– صابر؟
لم يتخيل يومًا أن يتلقى صوتها بهذه الخيبة: إلهام، كيف حالك؟
– هل أضايقك؟
– أبدًا، سترين أنه المرض وسوف أنتظرك اليوم.
إن قطعها بلا تمهيد لفوق الطاقة، ولكن ما أيسر أن يجعلها هي القاطعة! يجب أن يبعدها عن وحل طريقه ولو بجراحةٍ أليمة. وها هي لا تدري شيئًا عن أفكاره فتبتسم في عتاب، وتطالعه بصفاء لا يكدره شيء. آه .. كيف أمكن أن يحبها ذلك الحب العميق الصادق! وتصافحا بقوة وهي تقول: ألا تشعر بالذنب؟
وتوقفت عن الكلام وهي تنزع قفازها وتجلس قائلة بقلق: شد ما أثَّر فيك الزكام.
– بل انفلونزا خبيثة.
– ولا أحد يعنى بك؟
– لا أحد البتة.
– ألم تستشر طبيبًا؟
– كلا .. وقد شُفيتُ من المرض ولم يبقَ إلا ظله.
– يسرني أن أسمع ذلك، ستشرب مزيدًا من العصير.
ومضيا يتناولان الطعام وهي تنظر إليه أكثر الوقت.
– فكَّرتُ أكثر من مرة أن أزورك.
– أحمد الله أنك لم تفعلي.
هزَّت منكبَيها ولكنها لم تناقشه، ثم قالت بابتهاج: أما أنا فلم أضيع دقيقةً واحدة.
ستُسمعك لحنًا جميلًا بعد أن أصابك الصمم.
– أنتِ ملاك.
– ألا تصدقني! إذن فاعلم بأنك ستبدأ حياةً جديدة، أو أننا سنبدأ حياةً جديدة، ما رأيك؟
طارد فتوره إكرامًا لها، وقال: رأيي أنكِ ملاك، وأنني حيوانٌ كسيح.
لمعت عيناها وهي تقول: رأس المال الذي تحتاجه تحت أمرك.
– رأس المال!
– نعم، هو ما اقتصدته للمستقبل، وثمن بعض حُلي لا أستعملها، ليس ضخمًا ولكنه يكفي، وقد استشرتُ زملاءَ خبيرين، أُؤكد لك أننا سنبدأ فوق أرضٍ ثابتة.
آه .. ليس لحنًا جميلًا فحسب، معجزة أيضًا. هل كنت تحلم بذلك .. رأس مال بلا سرقة ولا جريمة! ومعه الحب الحقيقي. إذن رُدَّ الحياة إلى عم خليل، واستيقظ من الكابوس! وتأوَّه بلا صوت: إلهام، كلما غمرتِني بنُبلكِ زاد اقتناعي بأنني غير أهلٍ لكِ.
– لا وقت للشِّعر.
هي في غاية من السعادة والحماس، وإطفاء شعلتها سيكون جريمتك الثانية. لكنها تمد يدها لتقطف ثمرةً غير موجودة. ولم يجرِ لك في بال أنه يمكن حل مشكلتك بهذه السهولة. ها هو الحب والحرية والكرامة والسلام، فأين أنت! ولماذا لم تقع المعجزة قبل الجريمة؟
– فيمَ تفكر؟ توقعتُ أن تفرح .. أن تفرح كثيرًا!
لم يبقَ إلا أن تصدمها بالحقائق لتُشفى، قال متنهدًا: قلتُ لكِ إنني لستُ أهلًا لنبلك، فلمَ لا تصدقينني؟
– توقعت أن تفرح.
– فات الوقت!
– يا ربي! أنت لا تحبني!
– إلهام، الأمور معقَّدة جدًّا، أنا أحببتك من أول نظرة، ولكن من أنا؟
– لا تحدثني عن أبيك، ولا فقرك، ولا عدم صلاحيتك …
أنتِ تعذبينني لأنكِ تشطرينني شطرَين. والوسيلة الوحيدة لشفائكِ أن أصدمكِ بالحقائق.
– لعلك ما زلتَ مريضًا .. إنك أمامي ولكني أتساءل أين صابر؟
– أودُّ ألا تتساءلي بعد اليوم وألا تتكدري!
– إن كنت مريضًا …
– كلا .. ليس المرض!
– إذن فما هو؟ لماذا قلتَ فات الوقت؟
– أقلتُ ذلك؟
– منذ ثوانٍ!
– أنا أعني شيئًا واحدًا بكل إصرار وهو أنني غير أهلٍ لك.
– أرفض هذا السخف، أنت تعلم أنني أحبك.
– وهذه هي جريمتي، نحن للأسف لا نفكر أمام الحب إلا في الحب فقط.
– ولماذا هي جريمة؟
– لأنه كان يجب أن أقدم لك نفسي على حقيقتها.
– فعلتَ ذلك وقَبِلتُك.
– حدثتكِ عن أبي ولكنني …
ثم واصل بمرارة: ولكنني لم أحدثكِ عن أمي!
رمقته بنظرةٍ مستنكرة وهي تقول: أنا أحبك أنت ولا دخل للماضي في ذلك.
– يجب أن تصغي إليَّ.
– بالله دعها ترقد في سلام.
– الإسكندرية كلها تعرف ما سأحدثك عنه.
– لنحذف الإسكندرية من خريطتنا.
قال وحلقه يغصُّ بالمرارة: لقد ختمت حياتها في السجن.
حملقت في وجهه كأنما تنظر إلى مجنون، فقال: أرأيت؟
ثم وهو يزدرد ريقه: ولذلك صادرت الحكومة أموالها، وهذا هو سر فقري بعد الغنى، ولم تترك لي إلا وهمًا هلكتُ وأنا أبحث عنه.
صدمةٌ قاسية يئنُّ لها قلبكَ ولكنها ستفيق.
– لا يحق لي أن أحب امرأة إلا من النوع الذي كانت تعاشره، كان يجب أن أتجنبك، ولكن سحرني الحب كما قلتُ لك.
إنها لا تستطيع أن تتكلم وهذا حسن، أو لا يبقى أمامك إلا أن تعترف بما هو أدهى.
– هذا ما يُعزِّيني عن خسارة الفرصة التي تهبينها لي، وقد عشت حياتي الماضية عيشة العبث بفضل مالها الحرام، ولم يكن بيني وبين الاتجار في الأعراض إلا خطوة، ولعله العمل الوحيد الذي يليق بي.
اجتزتَ أشد العقبات. كأنك سعيد! ويا ليت الليل لا يوجد. ولعل المحقق يعلم الآن بتفاصيل هذه القصة المخزية.
وحنى رأسه لها تحية، ثم ذهب.
وفي عصر اليوم التالي دُعي إلى التليفون. وشد ما انزعج عندما سمع صوت إلهام.
– أهلًا إلهام!
قالت بصوتٍ متهدج: صابر .. أردت … أريد … أريد أن أقول إن كل ما قلتَ لي أمس لا يهمني.
١٥
إلهام .. لستِ إلا عذابًا. أما كريمة فقد جمعت بينكما الجريمة برباطٍ لن ينفصم حتى الموت. وحاجتك إليها كالجوع الكافر وإن قُذف بك في أعماق الجحيم. والوقت يمرُّ مقطِّرًا العذاب، ولكن مروره بلا حدث يهب شيئًا من الطمأنينة. وسوف تجد وسيلة أو أخرى للاتصال بكريمة. وخير ما تفعلان فيما بعدُ أن تبيعا الفندق، ثم تعيشا في مدينةٍ غريبة. وسوف تعيشان عيشةً فطريةً تلقائية، فهي ليست كإلهام التي تلهبك بسوط التغيير والتعذيب. ولكن متى تنوي كريمة الاتصال بك؟ وما العمل إذا نفدت النقود الباقية! حتى عمل علي سريقوس يقبله إذا أبقى له على الأمل في الاتصال بكريمة يومًا ما. تُرى هل يُشنَق الرجل؟ لقد قتلتَ رجلًا بيدك فما يضيرك أن تقتل الآخر بيد غيرك؟ لكن متى تستيقظ من الكابوس؟
وقبل أن يغادر الفندق صباحًا طلبته إلهام بالتليفون، وسألته: هل ستجدد الإعلان؟
فأجاب في ضجر: كلا!
فقالت بتودد: رجوت شخصًا مهمًّا أن يبحث عن الرقم السري للرحيمي إن كان له رقمٌ سري.
– ولم يجد شيئًا طبعًا؟
– لا للأسف!
– لا تشغلي بالك.
– لنا مراسلون في الأقاليم وهم يقومون الآن بتحرياتٍ هامة.
– لساني يعجز عن شكرك!
ثم سألتْ بصوتٍ ينمُّ على الحياء: ألا تفكر في زيارتنا؟
فقال بحزم: كلا، مراعاة لصالحكِ قبل كل شيء.
تُرى أتبكي أم تُغالب البكاء.
– قلتُ لكَ لا يهمني!
– ولكنه يهمني جدًّا!
انقطع الاتصال بعد ذاك. تألم من جديد حتى حنق عليها من شدة تألمه. ما قيمة الجمال في هذا العالم الدامي؟ ألا تريد عيناها أن تريا إلا هذا الجمال الملعون؟ وقبل أن يغادر موقفه رأى عم محمد الساوي يتطلع إليه بابتسام، فابتسم إليه متوددًا فدعاه إلى الجلوس. قَبِلَ الدعوة بامتنانٍ خفي. وسأله العجوز: مستعجل؟
– أبدًا، لا غاية لي وراء الذهاب.
فقال بارتياح: إذن فاجلس قليلًا، الحق أني أشعر بوحشة منذ موت المرحوم. ولا أجد من أحادثه.
– وأبناؤك؟
– لا أحد منهم في القاهرة.
– كان الله في عونك.
لم يبقَ في الاستراحة سوى رجلَين، وفي الخارج غطت أصوات العمال والعربات على مديح الشحاذ.
– أليس هنالك من جديد؟
– لي صديق من المخبرين ولعله يدَّعي من العلم ما ليس له.
– ماذا قال؟
– علي سريقوس، لم يجدوا أحدًا غيره.
– لعله اعترف.
– لا أدري.
– أغرَّته سرقةٌ حقيرة.
– لقد أنكر السرقة.
– ألم يعترف بها من قبلُ؟
– بلى، ثم عاد فأنكرها.
– ولكن النقود ضُبطت عنده.
– قال إن الزوجة جادت بها عليه.
خفق قلبه خفقةً مؤلمةً جدًّا: زوجة المرحوم؟
– نعم.
– ولكن، لماذا؟
– على سبيل الإحسان.
– وهل كانت تحسن إلى الخدم الآخرين؟
– سئل في ذلك جميع الخدم ولكن ثبت أنه كان الوحيد.
وهو يزدرد ريقه: هذا غريب.
– الأغرب من ذلك أنه رجع فاعترف بالسرقة.
– والإحسان المزعوم؟
– قال إنها كانت تجود عليه ببعض النفحات عندما يؤدي لها خدمات في شقتها، ثم عرف من وراء ظهرها مكان النقود فسوَّلت له نفسه السرقة.
– وذهب ليسرق فقتل!
– أظن هذا.
– ورأي المحقق؟
– من يدري؟ ولكنهم مقتنعون فيما يبدو بأنه القاتل.
– وربما يكون قد اعترف.
– ربما.
– لا شك أن الزوجة كانت تهبه قروشًا.
– ربما.
– ولكن لماذا أنكر السرقة، ثم عاد فاعترف بها؟
– من يدري؟
– هل للمسألة وجهٌ آخر؟
– آه .. من يقطع بذلك؟
اكتشف لأول مرة — وهو ينظر من قريب في وجه العجوز — أن لون عينَيه أخضر باهت، وكلما أمعن فيه النظر خُيِّل إليه أنه يرى صورةً جديدة لدرجة أنه تعذر عليه استحضار الأولى.
– أتظن أن للمسألة وجهًا آخر؟
– من أين لي أن أعلم؟
آه .. هكذا سيشعر البشر وهم يقتربون من الجحيم في الآخرة.
– أنت تعلم الكثير ولا تقول إلا القليل.
– أخشى أن يكون العكس هو الصحيح.
– ألم يسألوا الزوجة من جديد؟
– استدعوها للتحقيق أكثر من مرة.
– ألم يكن لأقوال سريقوس دخل في ذلك؟
– بلى.
– أتثق بالمخبر كل الثقة؟
– لكنها هي التي قالت لي بنفسها.
– الزوجة!
– نعم، جاءت مساء أمس!
اختارت الوقت الذي لا يوجد فيه بالفندق. وعندما يدك زلزال الأرض دكًّا فماذا يهم التحقيق أو المحقق! وقد يستشف العجوز وراء أسئلتك دافعًا أهم من حب الاستطلاع، ولكن كيف تحذر الحَرَّ والنيران تشتعل في ملابسك؟
– هل تكلمت عن الإحسان إلى سريقوس.
– مجرد إحسان طبعًا.
– هذا هو المعقول.
– لماذا؟
– علي سريقوس غير مقنع كرجل.
– أتحيط علمًا بهذه الأسرار؟
– ليس كل رجل يصلح.
– لكنني عشت أضعاف أضعاف حياتك.
– لعلك تشك في سلوك المرأة؟
– لم أقل ذلك.
– أنت إذن واثق من أمانتها؟
غضَّ العجوز بصره في حزن. وصمت مليًّا. ثم قال: أنا لا أشك في سلوك المرأة، ولكنني متأكد من ذلك!
انظر كيف تتكشف عوالم من الفزع تحت سطحٍ أملس من التراب: إذن فهي امرأةٌ آثمة؟
– نعم، ويا للأسف!
– وعرفت ذلك من قبل مصرع صديقك؟
– نعم، راحة باله كانت أهم عندي من الحقيقة.
– ألم تصرح بآرائك في التحقيق؟
– طبعًا!
– صرحت بالعلاقة الآثمة التي بينها وبين علي سريقوس.
– علي سريقوس! أنا لا أفكر في علي سريقوس.
آه .. هل وقع في مصيدة؟
– كنا نناقش موقفه.
– لكننا تحدثنا بعد ذلك عن المرأة.
– باعتبارها الطرف الآخر.
– كلا، هنالك رجلٌ آخر.
تعال. الجحيم يسع أكثر من رجل!
– رجلٌ آخر؟
– زوجها السابق.
وهو يسترد روحه: الرجل الذي باعها؟
– كانت مجرد صفقة لها ما بعدها.
– ولكن كيف عرفتَ ذلك؟
– رأيته أكثر من مرة يتسلل إلى بيت أمها وهي هنالك.
ها هو الجحيم يعود أفتك نيرانًا.
– وأخفيتَ الأمر؟
– لو أبلغته المرحوم لقتلته.
– وقد قُتِلَ رغم ذلك.
– نعم ويا للأسف!
– كيف سمح لها بتلك الزيارات؟
– إيغاله في الشيخوخة أنساه كل شيء حتى سوء الظن.
– وقلتَ ذلك في التحقيق؟
– قلته.
– حققوا معهما؟
– ثبت أن الرجل كان خارج القاهرة ليلة الجريمة.
– هذا لا يمنع من أن يكون مدبرها.
– بلى، ولكن التحقيق انتهى بإطلاق سراحهما.
– كيف؟
– عندهم الأسباب.
– لعلهما استغلا الخادم بمكرٍ فائق؟
– أو أي أحمق سواه.
وهو يزدرد ريقه: وربما كانت مجرد ظنون لا تقوم على أساس.
– ربما.
– لكنك قلت إنك متأكد!
– مغالاة بعض الشيء في التعبير.
– عدنا من حيث بدأنا!
وهو يهزُّ رأسه في حزن: قلبي يحدثني بأن ظنوني صادقة.
– ولعله لا توجد علاقة بين الخيانة وبين الجريمة؟
– ربما، وإلا كيف أُطلق سراحهما؟
– على أي حال فقد أدى علي سريقوس لهما خدمة لا تقدر بثمن.
– إذا كان هو القاتل.
– ألا تعتقد أنه القاتل؟
– كل شيء محتمل.
– أحيانًا يخيل إليَّ أنك لا تصدق ذلك؟
– لم لا، ألا تذكر حديثي عن صبي البقال؟
– لعله القاتل إذن؟
تنهد قائلًا: أعتقد أن القاتل سيُقتل ولو بعد حين.
لن تذوق النوم حتى تُحقق معها بنفسك. امرأةٌ جهنمية لكن ما أغباها إذا حسبت أنها يمكن أن تعبث بك! ألم تقتنع بأنك قادر على القتل إذا أردتَه! ولكن كيف تعرف عنوانها؟ وعاد العجوز يقول: زوجها القديم لم يدبر الجريمة وإلا لما أُطلق سراحه بتلك السهولة، أما الجريمة الأخرى …
– إنه ابن خالتها وليس من الشاذ أن يزور خالته.
– الحق أنني شككت في الأمر من قديم، كانت أمها تقيم في الفجالة غير بعيدة من هنا، وكان المرحوم يصطحب زوجته إلى بيتها كلما اشتاقت إلى رؤيتها، وإذا بالأم تقرر أن تنتقل إلى شارع الساحل رقم ٢٠ بالزيتون! لماذا؟ لم أجد لذلك تعليلًا إلا أن تتخذه الزوجة عذرًا للإقامة أيامًا عند أمها كل شهر، ورغم معارضة المرحوم بادئ الأمر فقد انطلت عليه الحيلة فسلَّم بالواقع.
آه .. لم يتخيل أن يظفر بطلبته بذلك اليسر، ودون بذل أي مجهود من ناحيته، لكن الجنون كان يعصف به عصفًا. أجل كان الجنون يعصف به عصفًا.
١٦
لولا يقينه من أن عينًا من عيون الأمن تراقبه بطريقةٍ ما لاندفع من فوره إلى الزيتون. لا بد إذن من التريث حتى يجد حيلةً جهنمية. ولما نزل صباحًا من حجرته رأى ظهر الساوي وهو منحنٍ فوق مكتبه، فخُيل إليه لحظة أنه يرى عم خليل أبو النجا. ودهمته الحقيقة الغريبة — وكأنها تدهمه لأول مرة — وهي أنه أزهق روحًا. وتساءل ترى هل يمكن أن يتذكره عم خليل الآن بطريقةٍ ما؟ وتمهل قليلًا وهو يصبِّح على العجوز، ولكنه ردَّ تحيته بعجلة، وعاد إلى دفتر الحساب وكأنه نسي تمامًا حديث الأمس كله. نسي الأسرار الرهيبة التي كان سيمضي حياته كلها وهو يجهلها. وتناول فطوره في الاستراحة برأسٍ ثقيل من أثر المنوم. كريمة .. لن أسمح لقوة في الأرض بأن تجعل مني أبله، ستجدينني قريبًا فوق رأسك ضربةً قاضية. افعلي ما تشائين، خوني أو تزوجي، فإن حبل المشنقة في يدي. لا تتوهمي أن حياتي أغلى من كبريائي. أما حديث المال والحرب فلا ينقطع في الاستراحة كإنشاد الشحاذ في الخارج. ودعته إلهام إلى التليفون. لشد ما يحنق عليها كلما سمع صوتها من أعماق دوامته.
– ألا تقابلني اليوم ولو بعض دقائق؟
– لا أستطيع.
– اذكر سببًا مقنعًا.
– لا أستطيع.
– حتى لو كان الأمر يتعلق بأبيك؟
تساءل بذهول: أبي؟
– نعم.
– ولكن كيف؟
– فلنتقابل اليوم.
حتى أبوه لا يمكن أن يستحوذ على انتباهه في هذه اللحظة النارية الدامية.
– لا أستطيع.
– لكنه أبوك الذي جئت للبحث عنه!
– ربما فيما بعدُ.
– هل أجيء إليك؟
فقال بضيق لم يخلُ من حدة: كلا!
أي جديد جَدَّ عن الرحيمي؟ وماذا يهمه الآن؟ الزيتون هي كل شيء. وربما لم يكن الأمر كله إلا حيلة لاستدراجه إلى اللقاء. الزيتون الآن هي كل شيء. وهام على وجهه معذَّبًا وهو يفكر بلا انقطاع. وشرب كثيرًا من النبيذ الرديء، ثم تخبط في الشوارع مواصلًا التفكير حتى آمن بأنه سينتصر على المخبر المجهول الذي يتعقَّبه. ها هو يصعد إلى حجرته لينام ولكنه لن ينام. المخبر هو الذي سينام. وعقب أذان الفجر بقليل غادر الحجرة في حذرٍ شديد، ثم نزل على مهل إلى مدخل الفندق. رأى على ضوء المصباح السهاري خادمًا نائمًا وراء الباب المغلق فشعر بخيبة وغيظ. ولم يفكر في إيقاظ الخادم ليفتح له؛ إذ لم يستبعد أن يكون هو المخبر. تراجع حائرًا وأنفاسه تتردد في الصمت العميق. وطرأت فكرة لم يدرسها من قبلُ؛ فبعثت حيويته من جديد، فرقي في السلم حتى السطح بلا توقف ولا تردد. وعندما وقع بصره على الشقة المغلقة تحت ضوء النجوم سرت في أطرافه رعدة حتى أغمض عينَيه من التأثر. واندفع نحو السور الفاصل بين سطح الفندق وسطح العمارة الملاصقة فعبره كالمرة الأولى. آه .. إنه يرتجف ولكن ما أحوجه إلى قوة أعصابه. ومضى إلى باب السطح، ثم نزل في ظلامٍ دامس حتى مدخل العمارة المضاء بمصباحٍ سهاري. رأى حجرة البواب مغلقة، والباب الخارجي مغلقًا كذلك والمفتاح في القفل. كل شيء معد كأنما بتدبيرٍ سابق. دلف من الباب وأدار المفتاح، ولكنه لم يطاوعه! لماذا؟ وشده بحذر فأخذ ينفتح فأدرك أنه كان مفتوحًا، ولماذا أيضًا؟ أراد أن يخرج ولكن اعترضه شبح رجل سد الفتحة سدًّا وهو يسأل بصوت جاف: من؟
بسرعة جذبه إلى الداخل مجازفًا بحياته. وفي اللحظة التالية طعنه بركبته في بطنه فتقوس وهو يئن، فهوى على رأسه بقبضته فسقط على وجهه. مرق إلى الخارج يخترق البرد والفجر والخلاء. عبر الطريق إلى بواكي الجانب الآخر، ثم اتجه نحو الميدان. ولم يكد يخطو بضع خطوات حتى اصطدم بشبح فكاد يُسقطه على ظهره. وقد تأوَّه قائلًا: آه .. أنا رجلٌ ضرير …
قال متعجِّلًا: لا مؤاخذة، الظلام شديد تحت البواكي!
– ربنا ينور بصيرتك، دعوة مستجابة بإذن الله من سائلٍ مسكين.
اقشعرَّ من التقزُّز. هو الشحاذ دون غيره. حتى في هذه الساعة من الفجر يسعى. وواصل سيره وصوت الرجل يلاحقه: حسنة لله تنور طريقك.
واستقلَّ تاكسي وهو يتنهد. سوف ينتظره المخبر طويلًا، وستعمى عيناه من التحديق هنا وهناك. وغادر التاكسي في شارع الساحل على بُعدٍ قريب من البيت المكوَّن من دورٍ واحد، والظلام ينزع آخر غلالة قبل الشروق. طرق الباب لا يدري عما سيفتح، ولكنه سلم نفسه للمقادر. انفتحت الشراعة عن وجه كريمة! وبسرعة واضطراب فتحت فدخل.
في قميص النوم، مشعثة الشعر، خاملة المفاتن، همست: جُننت؟
ومالت إلى حجرة على يمين الداخل معدة للاستقبال. وقفا وجهًا لوجه تحت ضوء مصباحٍ عارٍ: تصرفٌ مخرب! جُننت؟
وهو يثقبها بعينَيه اللتين لم يغمضا: ربما.
– ألم تفكر في خطورة الزيارة؟
– هي أهون من الانتظار بلا أمل.
– الانتظار ضرورة، ألا تدرك أن حالي أدق من حالك؟
– وأظل أنتظر حتى الموت؟
– حتى يصبح الاتصال مأمونًا.
– عندك التليفون.
– صوتي يعرفه عم محمد.
– أي صبي بقال كان يمكن أن ينوب عنكِ في طلبي.
– حققوا معي أكثر من مرة، ركبني الخوف ولم يعد في رأسي عقل!
– أنت تدبرين جرائم القتل في أثناء المضاجعة.
– لا ترفع صوتك فأمي نائمة!
– أليست شريكة لك في أسرارك؟
– مجنون! .. حالتك غريبة!
– يجب أن أرى حجرة نومك.
– حجرة كبقية حجرات البيت.
– لا تراوغي، يجب أن أرى من ينام فيها!
اتسعت عيناها وهي تقول: ماذا جرى لعقلك؟
– ابن خالتك، زوجك السابق، أليس هنالك؟
– من قال ذلك؟ لا أحد هنالك، ها هو الخراب يجيء بيدنا لا بيد الآخرين.
– ليكن، لا بدُّ أن أرى بعيني.
أزاحها من أمامه وغادر الحجرة. فتح أول باب فرأى العجوز مستغرقة في النوم. وفتح بابًا آخر فرأى حجرة نوم. حجرة نومها على الأرجح، وفراشًا ينفتح غطاؤه عن الثغرة التي انزلقت منها. ودار بالحجرات والمرافق فلم يجد أثرًا لأحد. رجعا إلى موقفهما بحجرة الاستقبال وهو يقول بحنق: شتت عقلي، فالرجل يجب أن يتجنبك في فترة التحقيق.
– قلبي يحدثني بأن مخلوقًا لئيمًا أوقع بيننا.
– ألم يكن ابن خالتك زوجًا لك؟
– كان.
– وباعك للزوج الذي دبرتِ قتله؟
– سيُقبض علينا اليوم يا مجنون.
– أجيبيني!
– أنتَ غبي، جازفتُ بحياتي لأني أحبك.
– في هذا الماخور كان يجيء للنوم معكِ!
– ألا تفرق بين الصدق والكذب؟ أنسيتَ ما كان بيننا؟
– أي امرأة لا تعجز عن إتقان التمثيل فوق الفراش.
– صدقني لصالحنا، كل ما في رأسك أكاذيب.
– تظنين أن خوفي من المشنقة سيضطرني إلى تركك للرجل.
– لا رجل في حياتي غيرك، صدقني، إن لم تصدقني في الحال سيأخذوننا قبل شروق الشمس.
– كذابة، ماكرة، حطمتِ حياتي كلها بكذبةٍ قصيرة.
– صدقني، أنا أحبك، لم أدبر شيئًا إلا من أجلك، صدقني.
– حطمتِ حياتي بكذبة لتفوزي أنت وعشيقك بالثروة والحياة.
– صدقني قبل فوات الأوان، أنت حبيبي، ولا أحد غيرك، خرج الرجل من حياتي من زمان.
– دبرتِ قسمةً جهنمية، فلي الجريمة ولك الرجل والثروة.
– لا فائدة، انتهينا، اللعنة، رأسك كالحجر، كلمة أخيرة ألا تريد أن تصدقني؟
– كلا!
– إذن ماذا تريد؟
– أن أقتلكِ!
– ثم تُشنَق؟
– في ألف داهية.
ودوَّى طرق على الباب كالقنابل، وطوَّقت البيت أصواتٌ مهدِّدة وأقدامٌ ثقيلة. صرخت كريمة بيأس: جاء البوليس، ألم أقل لك؟
انقضَّ عليها كالمجنون، وقبض على عنقها بيدَين عصبيتَين ثم ضغط بكل قواه، على حين اهتزَّ الجو من زلزلة دفع الباب …
١٧
في السجن وحدك؛ لا يُزار من ليس له أهل. وإلهام تخطر كالحلم وهي تعرف الآن الحقيقة. شفيت ولا شك من الحب ولعنته. وها هي الجرائد تُعيد القصة، بل ها هي تكشف عما خفي عنك من أسرارها. والصور تملأ الصفحات. كريمة، وعم خليل، ومحمد رجب زوج كريمة الأول، وصورتك، والصورة الجامعة للأب والأم، حتى إلهام الملائكية، وبسيمة عمران، الجرائد لا تترك كبيرة ولا صغيرة. في سجن الموت تتحرر من علاقات الحياة كلها فلا تهمك الفضائح. أنت متحرر من الكبرياء والخجل كما كنت وأنت في الرحم. صابر يُقبَض عليه متلبسًا بقتل عشيقته. صابر له قصة. بسيمة عمران إمبراطورة الليل بالإسكندرية. علَّلته عند اليأس والإفلاس بجاه أبٍ مجهول. البحث عن سيد سيد الرحيمي المزعوم. الحب. القتل. صابر مثالٌ فريد للجمال والرجولة. غزواتك في الإسكندرية. الحب الأعمى الذي رفعه إلى المشنقة. هو مثال أيضًا للقسوة والأنانية والدعارة. وكم عجبوا للجانب الخفي الذي كشف عنه حب إلهام. لم يفكر مرة في إغوائها. اعترافاته المتتابعة بين يديها. رفضه استغلالها على أي وجه، وتعفُّفه عن أموالها وهو مختنق بأزمته الأخيرة. أمه أنشأته على مستوًى رفيع من الجاه فلم يكن بد من أن يعثر على الأب الوجيه المزعوم، أو أن يرتكب أشنع الجرائم وهي القتل. وانظر كيف ارتاب المحقق في أمرك من أول الأمر. ورُصدت حركاتك في الشوارع، وبقالة كلوت بك، وفتركوان. وكيف كلف عم محمد الساوي بأن يحدثك عن خيانة كريمة؟ أيها العجوز الماكر، يا لي من أحمق! والزوج الأول محمد رجب أنكر أي علاقة بالقتيل، ولكن العاشق وقع في الفخ. ترى أأنكر دفعًا للشبهات، أم أنه قرر الحقيقة بلا زيادة؟ ليس في الصحف ما يقطع باليقين في هذه المسألة التي ساقتك إلى الهلاك. هل يُمكن أن تعرف السر بعد الموت؟ وعم محمد الساوي أخطأ وهو ينسج أكاذيبه مما هدد التدبير كله بالفشل لولا ذهول العاشق؛ فقد اعترف له بأنه شهد بخيانة الزوجة، وفي ذات الوقت أخبره بأنها تزوره فظنَّ لحظة أن الشاب قد فطن إلى التناقض الواضح، ولكنَّ صدْمته بحكاية الخيانة أذهلته عن إدراك التناقض الواضح. آه .. هذا حق ويا لي من أحمق! ووصف تسللك للذهاب إلى كريمة بإسهاب. كيف عبرت السور إلى العمارة المجاورة، وكيف ضبطك البواب وهو راجع من صلاة الفجر حتى اضطررت إلى ضربه حتى الإغماء، وكيف انتبه المخبر الذي يراقب الفندق تحت البواكي إليك عند اصطدامك بشحاذٍ ضرير وسماع صوتك وأنت تعتذر إليه! آه .. ذلك الشحاذ الكريه البشع الأعمى.
الجرائد لا تترك كبيرة ولا صغيرة. إنها تُشهِّر بحماقتك وعماك كما شهَّرتْ بأمك. وهذا البحث الذي قامت به مجلة الربيع مع نخبة من رجال الفكر. تحدث أستاذ في الجامعة عن الزواج غير المتكافئ بين عم خليل وكريمة باعتباره المسئول الأول عن الجريمة. وقال كاتب يوميات صحفية: إن المسئول الأول هو الفقر، هو الذي أغرى زوج كريمة الأول ببيعها إلى زوجها الثاني، وإن كريمة شهيدة لصراع الطبقات وفوارقها. وناقش أستاذ بالخدمة الاجتماعية نشأة صابر في أحضان تاجرة أعراض ورواسبها في نفسه. وقال أستاذ علم نفس إن صابر مصاب بعقدة حب الأم، وإنه يمكن تفسير اندفاعه الإجرامي بأمرَين مهمَّين؛ فهو أولًا وجد في كريمة بديلًا عن أمه فأحبها، وإنَّ لا شعوره أصرَّ على الانتقام لأمه فقتل صاحب الفندق كرمز للسلطة، وطمع في مصادرة أمواله كما صادرت الحكومة أموال أمه. وقال شيخ من رجال الدين إن المسألة في جوهرها مسألة إيمانٍ مفقود، وإن صابر لو بذل في البحث عن الله عُشر ما بذله في البحث عن أبيه لكتب الله له جميع ما طمح إليه عند أبيه في الدارَين.
قرأ صابر تلك التعليقات بفتور وحيرة، ثم هزَّ منكبَيه استهانةً وهو يقول: «لكن أحدًا لم يعرف إن كانت كريمة صادقةً أم كاذبة، ولا إن كان الرحيمي موجودًا أم لا.»
ويومًا دُعِيَ إلى مقابلة محامٍ في حجرة المقابلات بالسجن. وقد خُيِّل إليه أنه رآه قبل ذلك، ولكنه لم يتذكر متى أو أين! وارتاح لوقار شيخوخته فصافحه وهو يتساءل: هل سيادتك المحامي الذي قيل إن الدولة ستختاره لي؟
– كلا.
ثم بصوتٍ منخفض عن الأول تواضعًا منه: أنا محمد الطنطاوي.
ولكن صابر وضح جهله بالمحامي الكبير، فسأله بارتباك: من وكَّل سيادتك عني؟
– اعتبرني صديقًا متطوعًا.
فقال بنبرة اعتذار: لا تؤاخذني إن صارحتك بأنني لا أملك مالًا على الإطلاق!
فابتسم الأستاذ قائلًا: أنا الأخ الأكبر لإحسان الطنطاوي مدير إدارة الإعلان بجريدة أبو الهول.
– آه .. أتعلم أنني سألت نفسي أين رأيتك من قبلُ!
ابتسم الأستاذ، فسأله صابر بتأثر: هل سعى لديك لتتولى الدفاع عني؟
– أجل، إذا شئت.
هتف صابر بغتة: إلهام؟!
ابتسم الأستاذ مرةً أخرى دون أن ينبس بكلمة، فأغمض صابر عينَيه مليًّا ثم فتحهما متسائلًا: والأتعاب؟
– المصروفات الضرورية للإجراءات فقط.
هل يمكن! كيف تتصور! نفقة جنازة الحب!
– لكنه جهدٌ ضائع يا أستاذ محمد.
– مفهوم اليأس لا يوجد في قاموسنا.
– قتلتُ اثنَين مع سبق الإصرار، واعترفت!
– ولو!
– وإلهام … لِمَ …؟
– قيل إنه ليس لك أهل، فليس بكثير أن تكون لك صديقة.
– حتى بعد أن عرفَت؟
– تقبَّل ذلك دون مناقشة.
جفَّف عينَيه بطرف كمه وهو يقول: الدمعة الثانية في عمري كله!
– لا عيب في ذلك، ولندخل في الموضوع.
– لقد اعترفتُ كما قلتُ لحضرتك.
– هنالك ظروف.
– أي ظروف يمكن أن تنفعني؟
– النشأة، الحب، الغيرة، سلوكك الأمين تجاه إلهام.
– لن أجني من ذلك إلا مزيدًا من التشهير.
– لن نُسلِّم باليأس قبل أن يقع.
– الحكاية كلها كالحلم، جئت من الإسكندرية للبحث عن أبي فوقعتْ أحداثٌ غريبة نسيتُ فيها مهمتي الأصلية، حتى وجدتُ نفسي أخيرًا في السجن.
ثم وهو يتنهد: والآن أكاد أن أنسى كل شيء إلا المهمة الأصلية التي جئت من أجلها.
– ولكن لا جدوى من التفكير فيها الآن، ربما أشرتُ إليها في مرافعتي باعتبارها أول جناية كٌتبت عليك قبل أن تولد.
– ولكن إلهام دعتني بالتليفون ذات يوم لأمور تتعلق بأبي.
– وماذا قالت لك؟
– لم أذهب لمقابلتها؛ إذ كنت محمومًا بالانتقام من الأخرى.
– أؤكد لك أنها لا تعلم عنه شيئًا.
هزَّ صابر رأسه في حيرة، ثم قال: إن نشر أخبار الجريمة في الصحف يعتبر إعلانًا ضخمًا من نوع غير معهود، ولعله يجيء بالنتيجة التي عجز عنها الإعلان المتواضع بجريدة أبو الهول.
– أنا على علم لا بأس به بأخبارك، ولكني على يقين من أنك لن تجني من الاهتمام بأبيك الآن إلا التعب الضائع، فإن مجيئه أو عدمه سواء في موقفك الأخير.
– لا يبعد إن جاء أن تحدث معجزة!
– كيف؟
– أعني إذا صح أنه وجيه حقًّا وذو نفوذ.
– فليكن أكبر الوجهاء، ولكن كيف يمكن أن يغير قوانين الدولة؟
– اسمع يا أستاذ، لقد كانت أمي ذات نفوذ يومًا ما، فاستطاعت بنفوذها أن تتحدى قوانين الدولة تحت سمع المسئولين وبصرهم!
– بالله خبرني عن الأمل الذي يراودك إذا جاء أبوك؟
تردد قليلًا ثم قال: ربما استطاع أن يسهل لي سبيل الهرب.
– تماديتَ في الخيال، ولن تجني من وراء ذلك إلا تعب القلب.
فنفخ قائلًا: على أي حال أنا شاكر فضلك، وأرجو أن تبلغ امتناني إلى الآنسة إلهام، وإلى الأستاذ إحسان، وسوف تجدني تحت أمرك في كل ما تريد، وأما عن أملي المضحك فإنني لن أيئس كما تقول أنت إلا إذا وقع اليأس.
•••
وقُدِّم صابر إلى المحاكمة، وأحيلت الأوراق إلى المفتي، ونطق بالحكم. وقد تابع المرافعات باهتمام، ولكنه تلقَّى الحكم بذهول رغم توقُّعه له من أول الأمر.
•••
وفي السجن دُعي إلى مقابلة الأستاذ محمد الطنطاوي، وقابله الأستاذ بعطف وشجعه بكلمات مناسبة، ثم قال له: لا يزال أمامنا الاستئناف ثم النقض.
فسأله بحزن: كيف حال إلهام؟
– ليست على ما يرام، والظاهر أن مأساتها التي تحدثتْ عنها الجرائد قد هزَّت أباها من الأعماق؛ فجاء من أسيوط لزيارتها وأصرَّ على أخذها معه بعض الوقت تغييرًا للجو والتماسًا للصحة.
فارتفع صوت صابر وهو يقول: إذن استيقظ من جحوده، أما أبي …
ابتسم المحامي الشيخ قائلًا: بهذه المناسبة هل تُصَدِّق أنني أحمل لك أنباءً عن أبيك؟
هتف ذاهلًا: لا!
– بلى.
ثم مستطردًا بعد وقفةٍ قصيرة: ألم تسمع عن الصحفي الذي كان يوقع عموده اليومي بإمضاء «الصحفي المخضرم»؟ طبعًا لا، فلقد انقطع عن العمل منذ عشرين عامًا. وهو جار لي بمصر الجديدة، وكان قديمًا أستاذي بكلية الحقوق، ومن أفقه من عرفت في الشريعة، وقد جاءت سيرتك على لساني وأنا مجتمع به أول أمس، ولما قصصت عليه قصة أبيك قاطعني: أتقول سيد سيد الرحيمي، لكنني أعرفه!
فقلت له لعل المعني شخصٌ آخر، فقال: سيد سيد الرحيمي، الوجيه الغني الجميل، وقد كان شابًّا في الخامسة والعشرين أو نحو ذلك منذ ثلاثين عامًا.
هتف صابر: ألم يرَ الصورة في الصحف؟
– إنه الآن لا يعرف الصحف وفضلًا عن ذلك فهو ضرير.
– يا للخسارة! ولكن لا يمكن تجاهل التشابه في الاسم، والصفات، والعمر.
– هذا ملحوظ بطبيعة الحال.
– وأين يقيم؟
– للأسف لا يدري شيئًا عن ذلك.
– ألم يحدثك عن زواجه الأول؟
قال المحامي مبتسمًا: قال إنه لم يكن له من هواية في هذه الدنيا إلا الحب.
– لكن أمي هجرته، وتلك حادثة لا يمكن أن تُنسَى.
– في حياة رجل كالرحيمي، تُعدُّ فيها النساء بعدد الأيام، لا يمكن أن تعرف من الهاجر ومن المهجور.
– أمي لم تحدثني عن ذلك الجانب من حياته.
– ربما لم تعرفه.
– ولكن الزواج علاقة لا تخفى.
– قال علي برهان — أعني الصحفي المخضرم — إنه كان يتزوج كما كان يرافق، وكان يمارس الحب بشتى أنواعه؛ الجنسي والعذري، ولا يعتق ناضجة أو مراهقة، أرملة أو متزوجة أو مطلقة، فقيرة أو غنية، حتى الخادمات وجامعات الأعقاب والمتسولات!
– يا للعجب!
– نعم.
– ألم يوقعه ذلك في متاعب؟
– كان يقهر المتاعب.
تساءل صابر بعينَين حائرتَين: ومهنته، ماذا كانت مهنته؟
– كان وما زال مليونيرًا، لا عمل له إلا الحب، وكلما وقع في مأزق هاجر من مدينة إلى مدينة، مواصلًا ممارسته لهوايته.
– ولكن وثيقة زواج أمي ما زالت معي.
– وربما وُجدت وثائق أخرى لا حصر لها.
– ألم تُرفَع عليه قضايا شرعية؟
– من يدري، ولكنه طليق وفي هذا ما يكفي.
فقال صابر بسخرية مُرة: وقوانين الدولة؟
– لكنه لم يقع، وقال الأستاذ برهان إنه غوى مرَّة عذراء من أسرةٍ كبيرةٍ محافظة، ولكنه غادر القطر في اللحظة المناسبة.
– ومتى رجع؟
– لم يرجع، تعلق فؤاده بالعالم الكبير، وراح ينتقل من بلد إلى بلد، بل من قارة إلى قارة، معتمدًا على ملايينه، جاريًا وراء النساء من كل شكل ولون.
– وكيف عرف صاحبك ذلك؟
– كانت تصله منه رسائل على فترات متباعدة جدًّا.
– وهل عنده فكرة الآن عن مكانه؟
– كلا، كانت الرسائل تجيئه بلا عنوان ليس عليها سوى اسم البلد؛ إذ إنه لا يُحب الاستقرار في مكان أكثر من أيام.
– لا شك أنه رجلٌ مشهور في الخارج.
– ذلك هو الراجح بالنسبة لأي مليونير، وإن قضى الحذر في مثل حالته باتخاذ أسماء وشخصياتٍ شتى.
– متى تَسَلَّم صاحبك آخر رسالة منه؟
– صاحبي لم يعد يذكر شيئًا على وجه التحديد، ولا تنسَ أنه جاوز التسعين عمرًا، ولكنه يذكر أنه تلقى رسائل منه من جميع القارات.
– لكنه يعرف بلا شك كل شيء عن أسرته.
– لا أسرة له في مصر، كان أبوه مهاجرًا من الهند، وقد عرفه صاحبي في نادي الصفوة، فتوطدت بينهما أسباب الصداقة، وعن سبيله عرف ابنه الوحيد سيد، وهو ابن وحيد لا أخ له ولا أخت، وقد مات الأب منذ أربعين عامًا تاركًا لوريثه ملايين الجنيهات التي اقتناها من تجارة المشروبات الروحية، فلا أحد له في مصر إلا الذرية التي يحتمل أن يكون أنجبها في مغامراته العديدة.
– مثلي أنا!
– مثلك أنت إذا كان هو أباك حقًّا.
– لا ينبغي أن أشك في ذلك بعد ما عرفت من خصاله.
ابتسم المحامي ملتزمًا الصمت.
– خصاله هي خصالي، ولكن بينا يلهو هو فوق الكرة أنزوي أنا في السجن منتظرًا حبل المشنقة.
– لكنه لم يَقتل!
– صاحبك الضرير لا يعرف كل شيء.
– هو على أي حال مليونير.
– الأهم من ذلك أن قوانين الدولة لا تهدده.
– لكنك كنت تعلم أنك فقير وخاضع لقوانين الدولة.
– وكنت أعرف أيضًا من يكون أبي.
– وماذا كانت النهاية؟
– أجل للأسف، أمي عرفته خيرًا من صاحبك المخضرم فاستطاعت أن تقتني ثروةً طائلة وأن تتحدى القانون، ولولا سوء الحظ …
– لكنه لا يعرف سوء الحظ.
– ولم يكن من المعقول أن أرضى بأن أعمل قوادًا بعد أن عرفتُ أصلي.
– لم تحسن تقليد الأصل.
– بحثت عنه.
– وباعترافك نسيته.
– بسبب امرأة، وهو عذرٌ خليق بأن يقبله.
– لكن ليس هو حاكمك.
– لكنه هو الذي نسيني.
– ربما ظنك في براعته وأنك غير محتاج إليه.
– لو لم تهجره أمي لكان لي ذلك.
– لكنها هجرته.
– وما ذنبي أنا؟
– لا ذنب لك في ذلك.
– وذلك كان السبب الأول لجريمتي.
– سببٌ بعيد جدًّا لا يُعتدُّ به عند تحديد المسئولية.
– ولكنه أخطر من سبب يعرض صدفة مثل مقابلة كريمة.
– سيظل القانون هو القانون.
تنهد بعمق، ثم قال: لعله من الخير ألا أقطع بأنه أبي.
– ذلك كان رأيي، ولكنني وجدتك متعطشًا لمعرفة أي شيء.
– وماذا عرفت؟ يُخيل إليَّ أنني لم أعرف شيئًا مجديًا.
– بلى للأسف.
– وفضلًا عن عدم جدواه فما زال بعيدًا عن اليقين.
– للأسف.
– وبسبب هذه المعرفة الطارئة أصبح الرجل أعزَّ منالًا من الأول.
– هذا راجحٌ جدًّا.
– وقد ضاعت الحرية والكرامة والسلام وإلهام وكريمة.
فلاذ المحامي بالصمت مرةً أخرى، فقال صابر: ولم يبقَ إلا حبل المشنقة.
فقال المحامي بنبرة عتاب: هنالك النقض.
وتردد مليًّا متفكرًا، ثم قال مبتسمًا: وثمة خبرٌ آخر حدثني به الأستاذ برهان.
– ما هو؟
– ما يدري الأستاذ يومًا إلا والرحيمي يطرق بابه.
هتف صابر: حقًّا؟
– كان ذلك في أكتوبر الماضي.
صرخ صابر بلا وعي: أكتوبر!
– أجل.
– كنت في ذلك الوقت أبحث عنه في الإسكندرية.
– وقد أمضى في الإسكندرية ستة أيام.
– يا للجنون! كنت أسأل مشايخ الحارات ولكنني أجَّلت فكرة الإعلان في الصحف طالما كنت في الإسكندرية أن أتعرض لسخرية أعدائي وجهًا لوجه.
– ألم تكن المهمة أخطر من سخرية الأعداء؟
– بلى، وا حسرتاه!
– لا تحزن، لعله لم يكن يطلع على الصحف.
– هيهات أن يهوِّن ذلك من حسرتي!
– لا تجعلني أندم على مكاشفتي لك.
وجعل ينظر إليه في حسرته، ثم قال محاولًا انتزاعه منها: كان في طريقه إلى الهند، وقد أهدى إلى صاحبي كتاب: «كيف تحتفظ بشبابك مائة عام» كما أهداه صندوقًا فاخرًا من الخمر المعتقة.
– لا يبعد أن يكون هو الذي رأيته في السيارة، وهل وقَّع على هديته بإمضائه؟
– أظن ذلك.
– ألا يمكن أن أرى الكتاب؟
– سآتيك به.
– وإذا أردت الاحتفاظ به المدة الباقية؟
– لا أظن صاحبي يرفض طلبك.
– شكرًا، وماذا أيضًا؟
– وقال صاحبي إنه ما زال محتفظًا بحيوية الشباب وأفكاره وضحكاته، وقال له: «إني أتجول بين قارة وأخرى كما يتجول أصبعك بين طرفي شاربك!» وقال له أيضًا: «لا تعد نفسك من الأحياء حتى تطوف بأربعة أركان المعمورة وتمارس فيها الحب.»
– ألم يذكر في الحديث أحدًا من أبنائه؟
– محتمل أن يكون له في كل قارة أبناء، ولكنه لا يتحدث إلا عن الحب، وقد شرب حتى ثمل، ثم غنى أغنيةً غرامية سمعها في إحدى قبائل الكنغو.
– يسكر ويُغني ولا يخطر له أن يسأل عن أبنائه؟
– ربما تغير مفهوم الأبوة إذا امتدت فوق كثرة غير عادية.
– لكن الأبناء هم الأبناء قلُّوا أو كثروا!
– كثيرًا ما تقع متناقضاتٌ غريبة إذا تصور أبٌ قوي أبناءه على مثاله.
– يا له من دفاع!
– نحن نغتفر لبعض الشواذ هفوات لا نغتفرها لغيرهم، فما بالك بشخصٍ غريب الأطوار كذلك الرجل!
– آه .. رأسي يدور!
– لا تجعلني أندم.
– لعله ما زال بمصر.
– لقد أرسل إليه بطاقة تحية من الخارج.
– لعله يزورنا قبل الإعدام.
– لا شيء مستحيل.
– آه .. كنت أزور إلهام وأخاك الأستاذ إحسان كل أسبوع، ولا أدري أنني بطريقةٍ ما قريب منك، وأنك جار لبرهان صديق الرحيمي!
– هكذا تقع الأمور عادة.
– كانت هناك فرصةٌ نادرة للبحث.
– الأمل مع ذلك لم ينعدم.
– كيف؟ أي أمل؟
– أن نستبدل المؤبد بالإعدام.
– أي أمل؟
– ستجد عند ذاك فرصةً لاستئناف البحث.
– وإذا تأيَّد الإعدام؟
بسط المحامي راحتيه في تسليم، ثم قبضهما في وجوم.
– في حالة الإعدام يبقى لي من الزمن ما يستنفده النقض، ثم الفترة السابقة للتنفيذ، ألا تستطيع أن تقدم لي في تلك المدة خدمةً حقيقية بمحاولة الاتصال بالرجل؟
– يا بني، القانون هو القانون، والرحمة والواجب يقتضيانني ألا أضيع وقتي فيما لا طائل وراءه، والأجدى أن أراجع ملف القضية والقانون الجنائي.
– بالرغم مما سمعت عنه لا تريد أن تقتنع بقوَّته؟
– أنا رجل قانون، وأعلم أن مصيرك بيد القانون وحده.
– قد يدركني في فترة الانتظار، أفلا تأخذني على قدِّ عقلي؟
– إن يكن حقًّا كما تتصوره فأهلًا به وسهلًا، ولكن لا سبيل من ناحيتي إليه.
– إنك رجلٌ ذو خبرة وعلم، وجارك يبدو أثيرًا لديه.
– الاتصال به إن لم يكن مستحيلًا فهو يستلزم وقتًا لن يتسع لك، ولا أملك وسيلة بحال، وسوف يتطلب منا الاتصال بجميع سفاراتنا في الخارج كخطوةٍ أولى، ولا يبعد أن ينتقل في أثناء الاتصالات إلى بلد لا تمثيل سياسي لنا فيه للأسباب التي تعرفها.
آه .. الذكرى التي تموت وهي على طرف اللسان، وتشكيلات السحب التي تعبث بها الرياح، وعصارة الألم المنصهرة وراء القضبان، والسؤال الأعمى والجواب الغشوم.
وقال: يبدو أنه لا جدوى من الاعتماد على الغير.
فابتسم المحامي في تسامح وهو يقول: بل هناك جدوى فيما هو معقول.
فهزَّ منكبَيه قائلًا: فليكن ما يكون.