السفر
٧ يوليو ١٩٠٩
هذه أول مرة في حياتي أضع فيها قدمي على غير أرض مصر.
لم نكد نصعد فوق سطح الباخرة حتى كُنَّا وسط لجة لا حدَّ لها من المسافرين والمودعين لا تميز العينُ بينهم هؤلاء من أولئك، كلهم رجال وشبان على وجه الأكثرين منهم أثر الجد والاهتمام، في حين تقرأ في عيون الآخرين حزنًا عميقًا ويمسحونها بمناديلهم من وقت لآخر، ومن الشبان من يضحكون غير مبالين، وفي كل لحظة ترى إلى جانبك اثنين يتقابلان ويتصافحان، ويقبل عليك الوقت بعد الوقت صديقٌ لم تره من أيام أو من سنين، فيهز يدك هزة قوية ويسألك إن كنت مسافرًا أو مقيمًا، ومتى علم أنك مسافر جعل يشجعك ويظهر من ثقته بك وبقوة عزيمتك، فتبسم أنت لأنك لا تعلم ما تجيبه به.
عن جانبنا شاب وقف معه من جاء يودعه، عشرة أشخاص أو أكثر، ومن بين هؤلاء رجل ظاهر الجزَع لا يستطيع رغم شعوره المبيضة أن يحجز دمعته على أن تسيل على خده الناشف الشديد السمرة، تدل حمرة جفونه على أنه كان يبكي من قبل، ويكفي منظره ليستدر القلب رحمة به ويسعى من حوله لتعزيته، فلا ينفع معه شيء ولا يتعزى، كأنه يرى في الخضم الهائل أمامه مختبئًا ملك الموت ينتظر العزيز الذي يفارقه … والناس يسيرون في كل جانب من جوانب المركب وإلى كل الجهات ينظرون في كل الوجوه يريدون أن يقولوا كلمة وداع لمن يعرفون، والكلام والضحك والبكاء ووصايا الآباء والإخوان وضجة الحمالين وأصوات الصائحين ورج الآلات الرافعة جوف المركب، كل ذلك مخلوط بعضه ببعض يترك الحواس والقلب والنفس في حيرة واندهاش، فإذا قلبت عينيك فيما حولك أزددت حيرة لا ينجيك منها إلا محدث ممن معك يقف إلى جانبك، فإما كان رجلًا فألقى إليك بنصائح، وإما شابًّا من أصدقائك صامتًا يحدق بك كأنما يريد أن يملأ عينيه من صورتك التي تتغيب عنه الزمان الطويل …
ارتفع في الجو صفير الباخرة تعلن المودعين ليذروها، في تلك الساعة هاج الناس وماجوا وجعل كلٌّ يقول لصاحبه الكلمات الأخيرة.
سلم عليَّ إخواني الشبان ثم وقفوا جانبًا، وجعل أهلي وإخواني يُقَبِّلونني قبلة الوداع ويقولون لي «مع السلامة وإن شاء الله نسمع عنك كل خير»، ولكن رجلًا من بينهم طالما عرفني لم يستطع أن ينطق بكلمة إلا دمعة ذرفها وقبلة وضعها على صدغي ثم هز يدي وسار.
جعلتْ الباخرة تخلو من المودعين قليلًا قليلًا، وسلمها الخشبي الضيق مزدحم بهم يقذفهم للشاطئ وهم يتتابعون فوقه، وأخيرًا أصبح السلم هو الآخر خلاء ورفعوه إلى الباخرة.
اصطف المودعون على الشاطئ وجع لكل منهم يبعث لمن يعرف نظرة أو ابتسامة، ثم تحركت المركب بحركة بطيئة وأخرج الناس من جيوبهم مناديلهم يشيرون بها في الهواء ويتنادون: «مع السلامة»، ثم ابتدأ الشاطئ يغادره من عليه حتى إذا لم يبقَ لنظرة أو لابتسامة سبيل لم يبقَ إلا الآباء ومن معهم ممن جعلوا يقتربون جهة الباخرة كأنما تجرهم إليها.
ابتعدت الباخرة في سيرها غير المحسوس ولم يبقَ على الشاطئ إنسان.
وذهبنا إلى الجهة الثانية فإذا أحجار المينا تقترب منا وهي قائمة بين الماء الهادئ الذي تسري فوقه والخضم الهائل الذي ينتظرنا، ثم سمعت الأذن صريف أمواجه المتكسرة على الأحجار.
عبرنا عباب المرفأ وتجلَّى أمامنا البحر ممتدًّا إلى الأفق، وجلست فوق تلك المدينة السائرة أتحادث وأصدقائي، وزادت سرعة الباخرة فجعلت الإسكندرية تنطوي أمام الناظر شيئًا فشيئًا، ومد من شاء من المسافرين بصرة يودع هذه الديار العزيزة الغالية، والشمس يغمر نورها الجو وينطرح على مهاد الأمواج شعاعها قد ابتدأت تهبط إلى مغيبها.
على هذا البعد الشاسع بيننا وبينها ظهرت المدينة مستكينة صاغرة وأحيت أمام الذاكرة الإسكندرية القديمة حين الناس في مدينتهم الأولى، وكلما زاد بعدنا عنها طحنها الأفق وأخفى من معالمها وزادها استكانة وخفوتًا، ونحن ننظر لها وللُّجَّةِ الهائلة تفصلنا عنها والعين أعلق ما تكونت بما بقي منها والقلب يَوَدُّ لو يطير إلى هاته الأراضي كمن فيه حبها طول حياته، وها هو يستعر أن يراها تبتلعها السماوات والبحار.
ثم ارتميت إلى مقعدي أن طمس الأفق على الخيال الأخير الذي كنت أرى، وأحسست كأن حزنًا يثقل فؤادي وينوء به صدري، وراحت خيالاتي في تيهاء لا أدرك فيها شيئًا.
لم يطل بي المقام على هذا الحال إذ اعتراني الدوار واضطرني أن أهبط إلى غرفتي.
١٠ يوليو
لنا الآن يومان على البحر تحيط بنا دائرة الأفق فوقنا وأسفل منا زرقة السماء وزرقة الماء … نحن في وحدتنا تتهادى بنا الباخرة فوق الامواج ولا تسمع الأذن سوى كلام المسافرين الهادئ الساكن ورغاء الماء يشق عبابه حيزوم قاربنا الهائل، وتطلع الشمس والناس في مراقدهم ثم ترتفع ويتلقف الموج شعاعها ويتقاذفه حتى يفنيه وسط اللجة العظيمة، وتغرب وهم يتجهزون لطعامهم فلا يُعنى بمغربها منهم جائع، ثم ندخل بكلنا تحت غطاء الليل ينفرد على الوجود وتتلألأ فيه النجوم.
ذلك ما نرى من يومين طويلين حتى اعتادت العين المنظر والسمع هذا الوش الدائم، ولم يبقَ أمام الحواس ما يستدعي الالتفات أو يشغل الضمير، نعيش في هدأة كاملة، أكبر ما يهمنا أن نقوم للطعام وأقصى أمانينا أن نفرد مقعدنا في مكان ظليل، فنمد فوقه سيقاننا ونسند إليه رأسنا وننظر بعين نصف مغمضة إلى الفضاء الذي أمامنا، ونترك أنفسنا خالدة إلى سكونها ناعمة في ذلك التخدر اللذيذ الذي يجيئها به نسيم البحر.
ما أحلى هذه الحياة الفارغة من كل الهموم وما أطيبها! يمر علينا الوقت في مقعدنا هذا أو جالسين إلى جانب أصدقاء يحكون لنا عمَّا سنرى ولا نحس بمره … نمسك أحيانًا كتابًا فلا يجذبنا شيء ممَّا فيه لأنه مهما كان لذيذًا لا يساوي عيش السكون الذي يغمرنا.
نجاهد أحيانا أن نغير هذا العيش ونبدله ببعض النشاط فندور فوق القارب من جانب لجانب، ولكن ما أسرع ما نرجع إليه إذ لا شيء يعوضنا عنه.
اليوم عينه منتصف الليل
أسمع ضجة في الخارج … ترى ماذا عساها تكون؟ …
ها مينا نابولي تختفي عن الأنظار ويبتلعها الليل في جوفه العظيم، تركتُ صالون الباخرة ساعة سمعت الضجة وأسرعت أرى سببها فإذا الناس ينظرون إلى بعيد ويتساءلون: «شايف … شايف»، فوقفت على أطراف أصابعي فلم أتبين شيئًا لأن الواقف أمامي أكثر مني طولًا وأعرض أكتافًا، وكلما حولت رأسي إلى جهة مال هو الآخر برأسه نحوها، وأخيرًا علمت أنها باخرة عند خط السماء، فغيرت من ذلك المنظر المتشابه الذي اعتدناه من ساعة غابت الإسكندرية عنَّا وأدخلت إلى الجو العظيم الصامت شيئًا من معنى الحياة والحركة.
ازدادت الضجة ارتفاعًا حينما لمعت عند الأفق بشائر الأرض، وجعل كلٌّ يقص على بعض ما يعرف عن نابلي، ولم يَكُ إلا قليل حتى رأينا قارب صياد يتلاعب به الموج وصاحبه فيه ساعٍ يريد أن يكسب من بين مخالب الموت قُوتَه، فلما اقتربنا منه ودفعت الباخرة عن جانبيها تضاعف الموج قوة وفظاعة فجعل القارب يختفي ويظهر بين طيات الماء، والصياد في جوفه مطمئن اطمئنان المترف في رياشه، ناظر إلينا وإلى مختلف ما نلبس بعين هادئة اعتادت هاته الأشكال حتى صارت مبتذلة عندها، وكأنه يقول لنا وقد اجتمعنا نحدق به إنما العيش عادة تصبنا في قالبها الأيام، فلا نعبأ بما فيه مهما كان شديدًا إذ قد طال ما ألفناه.
في الفترة التي أخذها الصياد تجلت المدينة تحت الشمس الساطعة، وهبطت حركة الباخرة حين دخلت المينا، ثم إذا إنسان يصيح كأنَّه غريق يستغيث، فما أسرع أن جاء راكب ممَّن معنا فوقف إلى جانبي وأخرج من جيبه قطعة من النقود قذفها بعيدًا عن الرجل كما يقذف الإنسان إلى الكلب لقمة العيش أو قطعة السكر، وكالكلب أسرع هذا العاري فالتقط القطعة بفمه، ووجدت أنا من السرور لنفسي أن أعمل ما عمل صاحبي فألقيت قطعة سقطت في الماء فسقط وراءها وخرج بها بين أسنانه وجعل يصيح من جديد، والتف الركاب يتلهى الإنسان بالضحك من أخيه الإنسان.
وكان هذا الرجل واحدًا من كثير من أمثاله ليس عندهم من الهمة ما له، فانتظروا قريبًا من الشاطئ وهجموا جميعًا على الباخرة دفعة واحد، ومن بينهم فتيان صغار وفتيات عليهن أثر الجمال استلفتن إليهن المسافرين وأخذن منهم ما جادوا به.
ألقت الباخرة رواسيها ونزلنا المدينة مع دليل يعرف العربية ساقته الصدفة، فبعد أن طردنا شرذمة من الأولاد الذين أحاطوا بنا يطلبون إحسانًا باسم المكرونة، اخترنا عربتين من بين كثير مصطفة على جانبي الطريق، عربات متسعة لا تضيق الواحدة منها بخمسة أشخاص أو ستة، لكنها قديمة بالية مقطوع جوخها قذر داخلها وخارجها، فلما كنَّا عندها اتجهت إلينا أنظار الحوذية وهم جميعًا وقوف إلى جانب خيولهم المشتغل بعضها بطعامه والآخر بدفع الطير عن جسده، بعد مداولة قصيرة أخذنا عربتين من بينها، كان معي في العربة صديقي ب. وآخرون، وقد اشتغلتُ عنهم بالنظر عن يميني ويساري إلى المباني الفادحة الارتفاع وإلى الشوارع الجميلة التنسيق.
وصلنا إلى شوارع متسعة تدل حالها وعلائم السكون البادية عليها أن الناس بها أرقى حالًا، وجعلت تتكرر أمامنا فيها وفي كل ميدان وعلى باب كل بناء عظيم التماثيل المختلفة لا نعرف عنها شيئًا فلا نفهم لها معنى، ولما كان الدليل في العربة الثانية مع أصحابنا استفسرنا حوذينا فابتدأ بذلك فصل مضحك: حوذي يرطن بالتليانية يريد أن يفهم شبانًا لا يفهمون من كلامه كلمة.
أبحرت الباخرة الساعة العاشرة مساء فتجلت ميناء نابولي تأخذ بالأبصار القلوب، قامت صفوف الأنوار في نصف دائرة بعضها فوق بعض تطوق بحر المرفأ وتطرح على الماء الهادئ اللابس كساء الليل خيوط النور والذهب تبعث إليه الحياة والجمال وتبين صاعدة من أعماقه مرتقية تتدرج إلى أعالي المدينة وتلاقي هناك عند مرمى النظر نجوم السماء.
وكلما ابتعدنا عنها اقتربت من بعضها حتى صارت عقد جيد الأفق، ثم أخذت الباخرة طريقًا آخر وابتلع الليل المرفأ في دجنته.
يقول الإيطاليون: «زر نابلي ثم مت.» أصحيح ما يقولون؟
١٢ يولية
ما أجمل الهدوء والسكون وما أحبهما للنفس. الساعة السادسة صباحًا والباخرة لا صوت فيها، وصاحبي في الغرفة قد ذهب ليأخذ حمامه، وبقيت وحدي في هذا الوكر الضيق مطمئنًّا فوق المدينة السائرة.
بالأمس مررنا من مضيق بونفسيو ورأينا على الجانبين جزيرتي كورسكا وساردينيا، الأولى جدبة صخرية صفراء باقية على عهدها أيام ولد نابليون وعلى عهدها من قبله أيام قيصر والسالفين، والثانية أبعد عن القارب وأبعد عن الذهن لا يلتفت إليها أحد لأن الكل مأخوذ بصاحبتها.
فوق هذه الجزيرة الجرداء نما نابليون، بين هاته الصخور شب الإمبراطور، تلك الأرض الصغيرة أنبتت الرجل الكبير لينشر علَمه على الارض وليذيع ذكرها في الخافقين، كذلك أنت يا كورسكا مسؤولة عن الدماء التي أراقها هذا الجلاد العظيم.
دق الباب ودخل صاحبي هاته اللحظة من حمامه فقطع عليَّ سلسلة كتابتي.
صاحبي رجل طيب واسمه ع. ف. لا يلبث أن يرجع من حمامه حتى يفرد عباءته ويصلي، في حين أبقى أغلب الأحيان في سريري أو على الكنبة إلى جانبه حتى يناديني الخادم إلى دوري في الحمام … ودوري من آخر الأدوار إن لم يكن آخرها.
أحسبنا اليوم ننزل مرسيليا؛ إذن … الخادم يناديني للحمام، كيف ذلك؟ … لأن كثيرين مشغولين بترتيب ما معهم فتركوا دورهم …
ها نحن وصلنا.
١٣يولية
نزلنا مرسيليا صباح أمس بعد أن تركنا متاعنا لرجل من شركة توبن، خلَّصه حتى أنزله معنا في قطار المساء، وتمكن من أن يهرِّب لنا خمسمائة سيكارة بالاتفاق مع عامل الجمرك، ولقد تناول جماعة أصحابي من سمك (البويابس) في طعام غذائهم حتى لا تفوتهم أكلة مرسيليا الخاصة بها، ثم أخذنا عربة طفنا بها أنحاء المدينة وأزارتنا أماكنها الجميلة، دخلنا البرادو أكبر بستان في مرسيليا وجعلت العربة تسير بنا في جوانبه وتمُرُّ بنا من تحت أقبيته الخضراء كونتها الأشجار الكبيرة الفروع حتى تتقابل وتتداخل، ويتقن فيها البستاني فيصل إلى أعظم درجات الإبداع.
أما المينا نفسها فيما حول الكورنيش فيقف دونها الوصف، بيوت صغيرة منعزلة قائمة وسط زرقة البحر تصعد متدرجة فوق الرُّبَى وتحيط بها من كل جانب أشجار ونباتات تجعلها في وحدتها فريدة لا يداني جمالها جمال، وأمامها زرقة المتوسط وسماؤه الصافية، ومن حولها يأخذ بالعين الجو العظيم تظهر فيه عن بعد بيوت أخرى وهضاب وأشجار
وأخذنا القطار آخر النهار فلما تحرَّك واستقر بنا المجلس جئنا بطعامنا فتناولناه، ثم بقينا بعد ذلك سكوتًا همودًا.
التفتُّ إلى يساري علِّي أرى من النافذة شيئًا، فإذا ما حولي سواد الليل الأدهم، ونظرت إلى صاحبي أريد أن أفاتحه القول فإذا هو مسند رأسه إلى ما وراءه محدق ببصره إلى سقف الغرفة تائه بكله في تلك الأحلام المبهمة التي تجيئنا عقب الطعام حين يصيب أعضاءنا خمول يتركها خادرة، ونحس كأن فكرنا منهوك تاعب فهو لا يستطيع أن يفهم شيئًا، والآخرون إلى جانبه وحالهم كحاله.
ثم أفاقوا جميعًا مرة واحدة حين علت ضجة القطار داخلًا النفق، وأسرع أحدهم فأقفل نافذة كانت مفتوحة خيفة أن يمتلئ المكان دخانًا، وأحسسنا حين أحاطت بنا الأرض من فوقنا ومن أسفل منا كأن صدى تلك الضجة يرن في قلوبنا فلم يقطع أحدنا السكوت الذي كنَّا فيه حتى خرج القطار من جديد إلى الهواء الحر، حينذاك قال عبد الله بك: يالله نلعب ورق.
قضينا في لعب الورق حتى منتصف الليل.
ولما وصل القطار إلى ليون نزل منه خلق كثير تركت أنا أصحابي إلى الغرفة المجاورة آملين أن ننال بعد سهرنا هذا ساعة يرد لنا النوم فيها من الراحة ما يعوضنا عظيم تعبنا.
لكني لم أبقَ طويلًا حتَّى دخلتْ إلى هذه الغرفة فتاة وضعت شنطتها على الرف وجلست إزائي فجعلت أدير نظري ساعة إلى جهة النافذة وأخرى ألقى به الأرض وثالثة أغمض عيني خيفة أن تقع عليها، واستولاني خجل لا أفهمه، فلما تحرك القطار انتهزت فرصة اشتغالها ببعض أمرها وانسحبت خارجًا أريد أن أرجع إلى حيث كنت فوجدت أصحابي قد أقفلوا الباب وطمسوا على النور …
وقفتُ في الممر حائرًا أسأل نفسي أليس ممكنًا أن يكون المحل الذي جلستُ فيه محجوزا «للستات»؟ ولكن بابه لا يدل على شيء من ذلك … أليس ممكنًا كذلك أن تكون هاته الفتاة وجدتني مفردًا فمالت عندي تريد أن تغريني؟ استحوذت هاته الفكرة عليَّ تهيج في نفسي أحيانًا من السرور وأخرى من التخوف … ثم عقدتُ حواجبي وهزرت رأسي قلت … «وسألعب أنا الآخر معها دوري».
دخلت إلى مكاني من جديد فوجدتها خلعت قبعتها وتقفل في ستار النافذة المقابلة لها، لكني أحسست لأول ما رأيتها بهزة عرتني، فتناسيتُ واشتغلت عنها بإقفال ستار باقي النوافذ حتى إذا انتهت جلستُ مكاني صامتًا لا أتحرك وإن استرقت إليها النظرات أحيانًا، أما هي فبعد أن أتمت كل الذي عملت كأن لم أكن موجودًا نظرت إلي وقالت: تسمح يا سيدي أن تحجب النور؟
فلم أتمالك نفسي حين سمعتها تتكلم أن ظهرت عليَّ الدهشة والاستغراب: فتاة لا أعرفها تكون وحيدة معي ثم تكلمني بسكون ومن غير خجل كما يكلمني أي رجل آخر، وتطلب أن تحجب النور ليمسي المكان الذي نحن فيه مظلمًا … ثم ماذا يكون بعد ذلك؟
تولاني خجل لم أقدر معه أن أجيبها بحلوة ولا بمرة، بل قمت ساكنًا فأرخيت ستاري المصباح وجلست منزويًا في الركن حيث كنت، فلم تمهلني بعد ذلك أن شكرتني ثم هيأت لنفسها مضجعًا اتكأت فيه وقالت (ولست أدري إن كانت تكلم نفسها أو تكلمني): آمل لا يصعد إلى القطار في جرنبل من يفسد علينا نومنا. تمطيت أنا في الجهة المقابلة ولم أقُلْ كلمة واحدة كأني منها خائف وجِل، وبقيت أغمض عيني وأفتحها وكلي الحذر ولا أفكر في شيء مطلقًا، بقيت كالطفل الذي أمرته أمه أن ينام وهو لا يريد، وفي الوقت عينه لا يدري ماذا يفعل.
أمسينا بعد ذلك في ظلمة مخيفة، فما لبثت لحظة حتى سمعت أنفاسها تتردد في صدرها علامة النوم الهادئ المطمئن، حينذاك سكن روعي ورحت في أفكار متناوبة حملتني معها أنا كذلك إلى عالم السكون.
قضيت بقية ليلي بين النوم واليقظة أغيب عن نفسي أحيانًا كأني نائم حقًّا ثم أرجع إليها وهي خادرة عمل فيها هواء تلك الغرفة الممتلئ كسلًا وخمولًا.
ثم تبنيت من خلال الستار كأنَّما تبددت ظلمة الجور وما كدت أرفعه حتى صدَّق النهار الوليد ظني، وتبدت أمامي الحقول تذهب منخفضة مرتفعة وتضيع دون الأفق، وتهبط الأرض أحيانًا فأحدق من الهضاب التي يرمح القطار فوقها ثم إذ الأرض ارتفعت ودخلنا بين جبلين نسير بينهما مستكينين مستسلمين حتى يقذفا بنا في ظلمة النفق.
أخذت هاته المناظر البديعة بعيني وجلست معجبًا بها لا أستطيع أن أتحول عن النافذة، جلست بشعري المنكوش وعيوني المتعبة وأنا تائه أريد أن آخذ هذا الجمال لصدري وأملأ منه ناظري فيحول دون ما أريد القطار الطائر إلى غايته، وأرسلت بأحلامي في الجو الفسيح أمامي وهو لا يزال في رداء من الشك مملوء بأحلام الليل وآمال النهار.
ثم التفتُّ فإذا صاحبتي هي الأخرى منكوشة الشعر وإن تكن عيناها الزرقاوان الضاحكتان أكثر يقظة وانتعاشًا من عينيَّ، فلما تقابلت نظراتنا ابتسمتْ عن شفاه رقاق وأسنان ناصعة بديعة الترتيب ثم قالت: آمل أن تكون نمت نومًا طيبًا يا سيدي.