في الرفييرا
١٦ مارس
ووصلتُ كلرمنت بُعَيْدَ الساعة السادسة فذهبت من محطتها إلى الفندق فأخذت فيه طعام الصباح، ثم خرجت أبغي التفرج على ما في البلد.
وانحدرتُ منها فزرت تمثال بسكال، وهو رفيع يحكم المدينة من أعلاها وينظر بعيونه الجامدة إلى مسقط رأسه، خرج منها في القرن السابع عشر، وظهر تفوقه وهو ابن ثمانية، ومات في التاسعة والعشرين، وقد خلف وراءه أثرًا لا يمحوه الزمان، أثرًا فكريًّا يمثل فكر الزمان ما بقي الزمان.
الأماكن التي تستلفت نظر الزائر قبل غيرها في بلاد فرنسا هي الكنائس والتماثيل والمتاحف، وهاته الأخيرة أكثرها استلفاتًا للنظر فإنها تحوي من بدائع الفن ومن الأدلة الناطقة على ذوق أهل البلاد ومن الآثار التاريخية ما يأخذ بالفؤاد؛ لذلك أسرعت إلى متحف كلرمنت، وهو وإن بات صغيرًا فإنه حيوي كثيرًا، ويحوي من كل شيء ومن كل ما يخص مقاطعة كلرمون، يحوي التماثيل والملابس والأحجار والنقوش والصور وكل هذه الأشياء الفنية التي يعشقها الفرنساويون، والتي تربي إلى حد كبير الذوق والعقل والإحساس، ومن الصور التي أخذت بنظري من القليل الذي رأيت صورة لغروب الشمس على شواطئ النرمندي والليل يسقط فوق النهار وتنساب ظلماته وسط الضوء المتضائل والشفق الأحمر يتفانى هو الآخر تحت قوة الظلام، كذلك صورة مثل فيها الشباب في صورة فتى غض جميل يلمح الإنسان على وجهه ذلك الأثر الذي تخلفه سن القوة القوة والجمال، وفي نظراته معنى الحياة والرغبة، وفي شفاهه القبلة الحائرة لا تدري أين تقع.
على مقربة من كلرمون تقع روايا ويصل الترام ما بينهما، فلما نزلت منه صعدت أريد قمه الجبل ولكن بلغ بي الملال حين رأيتني بعد أن أجهدت نفسي أرى القمة لا تزال على بعدها الأول، وإنما أمسك عليَّ قوتي أن رأيت الماء يتخدد الجبل وينزل فيدير معامل غسيل أقيمت عند منتهى السفح، أمسك ذلك عليَّ قوتي لأني أردت أن أتبع الماء إلى منبعه، فتركت الطريق العام وما يحيط به من الصخر عن جانب ومن الوهاد المبنية فيها المعامل على الآخر، وسرت فوق العشب على عكس تيار الماء، ثم وصلت إلى مرتفع من الجبل قد قام فوقه الشجر وهو لا يزال من أثر الشتاء أجرد فقيرًا، فهالني أن أجاهد لارتقاء هذا المرتفع وقد أخذ مني الجهد وكدَّني السير، فجلست مستظلًّا بجزع شجرة يداري عني قرص الشمس، وبقيتُ حول الساعة أرقب ذلك الماء المتدفق ينساب بقوة هائلة مدفوعًا بقوة الانحدار، وهو لا يقدر من أمره على شيء، ويرغي ويزبد لضعفه أمام الطبيعة فلا ينفعه إرغاؤه، ويظل في انحداره حتى يتلقاه عند أسفل السفح عفريت السموات والأرض — الإنسان — فيستخدمه لأغراضه، ويحسب أنه مختار في ذلك في حين أنه ليس أقل من هذا الماء خضوعًا لقانون الطبيعة العاتية.
وانحدرت مع الطريق المعتدل راجعًا فأدَّت بي إلى منازل روايا، وهي عندي أحسن نظامًا من كلرمون، وسرت إلى محطة الترام فقابلني في الطريق ما يسمونه الكوبري الكبير، وهو من غير شكٍّ حقيق بهذا الاسم، إن لم يكن بأفخم منه، فهو قائم فوق بطن من الأرض منخفض يرتفع عن سطحها خمسين مترًا بالأقل، ويبلغ طوله أكثر من مائتي متر، وتمر من فوقه ومن تحته الطرق، وهو من الحجر قائم فوق عمد من الحجر يبلغ من خمسة عشر إلى عشرين مترًا في السعة، ويضاهي بعظمته الآثار الكبيرة الخالدة.
ورجعت إلى كلرمون بعد أن قضيت النهار سيرًا.
١٨ مارس
(في الطريق من كلرمون إلى نيم)، قمت من كلرمون بقطار الساعة السابعة صباحًا، وأنا أعلم أني سأصل إلى نيم حوالي الساعة السادسة من المساء … إحدى عشرة ساعة في السكة الحديد! كيف يمكنني أن أمضيها وأنا وحيد؟ … اصطحبت كتابًا من حكايات موباسان، وابتدأت أقرأه لأول ما تحرك القطار، الحكايات ألذ ما يكون، ولا بد سأتي عليها في سويعات، فما عسى أنا صانع بعد ذلك؟
وبعد محطة من كلرمون ركب القطار معي شيخ فرنسي، وجعلنا نتحادث ويسألني عن مصر، وينصح لي كما ينصح كل أوربي أن أطمئن للحكم الإنجليزي الذي ملأ بلد الفراعنة خيرًا ونعمة … وله ولكل أوربي العذر فيما يقول؛ فعلى الشكل الذي يفهمون به الحوادث والأشياء من بعيد لا نعمة تعدل نعمة الحكم الإنجليزي عندنا، أمن سائد حيث لا تقوم مذابح يقتل فيها الأوربيون تقتيلًا، ووفرة ونعمة لأن لمصر تجارة تزيد على أربعين مليونًا وإن كان القسم الأكبر منها لا يتعلق بثروة مصر، وتعليم راقٍ لأن هناك أسماء مدارس كأسماء المدارس العالية في أوربا … فماذا يريد المصريون فوق هذا؟
المصريون يريدون أن تكون مصر للمصريين.
وتركني الشيخ بعد قليل ورجعت إلى كتابي، ولكني لم أبقَ طويلًا حتى إذا بالقطار دخل فجأة من ذلك السهل الذي كان يرمح فيه لتحيط به جبال عالية يبقى بينها يخرقها لحظة ويتهاوى على سفوحها أخرى، تظله أشجارها من ناحية ويطربه خرير نبوعها من ناحية حتى يتخلص منها إلى نيم، ويكون بذلك قطع طريق وسط جنة منيعة ملأى بآمال الربيع وثلوج الشتاء.
تلك هي الأوفرن البديعة.
سار القطار بين جبالها يظهر مرة فتظهر أمامه حزون وبطون، وفوق الحزن تقوم الأشجار قاتمة اللون لا تزال في مأتم الشتاء، وتصعد على السفح حتى تختلط هي والجبل بالسحاب الرفيع، وتتدفق في البطون مياه المنبع متلاطمة مرغية مزبدة، ما دامت في مبدأ نزولها من موضع رفعتها فإذا هي استوطأت مهادها الوضيع الغائر في الأرض هدأت ورقصت فوق سطحها موجات لطيفة دائمة الابتسام، كأنما هي حلم ذلك الماء المستسلم بعد ثورته.
ويبقى ذلك المنظر لحظة، ثم إذا الجبل انفتح بطنه وابتلع القطار في جوفه فأحاطت بنا ظلمة تبددها المصابيح … وبعد لحظة إذانا تحت السماء من جديد، وإذا الخرير مستمرٌّ دائم، وإذا هناك بين الصخور والأشجار سكة ضيقة يسير عليها أحد هؤلاء الجبليين وتتبعه بقرته، وهو في وحدته ساكن العقل والنفس ينظر بعيون كلها الاستسلام وعدم الاهتمام لذلك المنظر الذي يرى كل يوم.
ويتكرر المنظر الجبلي المستوحش أمام العين، ولكن في أشكال مختلفة جذابة كلها تأخذ بالقلب والفؤاد وتستهوي اللب، ويظل الإنسان محدقًا بها مأخوذًا بنشوة جمالها حتى يصل إلى غايته وقد سحرته الطبيعة وتمنى لو أنَّ له كل يوم سفرة من كلرمون إلى نيم.
١٩ مارس
الآن ابتدأت جولاتي بين المدن القديمة التي شهدت الرومان في أيام دولتهم، وإذا لم يكن لمصري مثلي أجداده الفراعنة أجداد التاريخ أن يهوله قدم؛ فإن لهذه الأماكن ذات التاريخ البعيد لجاذبية لا أستطيع أن أتخلص منها، فتراني متى وقفت أمام بناء قديم احتلتني لمرآه هيبته وأخذ بنظري وسمعي وحواسي ومثل، أمامي ذلك الأجل الطويل الذي يصل مبتدأه بأيامنا، وذكرني بأولئك الذين استحالوا إلى الأرض ثم انتقلوا معها ومع الزمان وجاءت آثارهم ناطقة بالخبر الصحيح عنهم.
أنا اليوم في نيم هذا البلد القديم المملوء آثارًا، لا يكاد الإنسان ينزل من القطار ويتدرك السلم النازل إلى الأرض ويسير في الطرقات حتى تقابله الآثار وتصل إلى نفسه ريح التاريخ، يحس مع أنه غريب عن البلد نازح إليه بجاذبية تدفعه إلى هاته الأماكن التي شادها الرومان بعضها للهوهم وبعضها لمنفعتهم، وكلما مَرَّ أمام أحدها وقف يحدق به مطيلًا التحديق مستعيدًا إلى رأسه المشاهد والأشخاص والأعمال والوقائع التي يعرفها عنهم.
أكبر هذه الآثار في نيم (الأرينا)، والأرينا بناء هائل بيضاوي الشكل (طوله مائة متر وثلاثين، وعرضه مائة، ويرتفع عن الأرض عشرين مترًا)، بني في القرن الأول أو الثاني من الميلاد، وعشقت أحجاره بعضها ببعض من غير أن تصل بينها أي «مونة» شأن كل الأبنية الرومانية الكبيرة، وقد أعده الرومان للهو فكان يقوم عندهم مقام المراسح عندنا، فنرى في وسطه دائرة بيضاوية ترتفع حولها المقاعد بشكل (امفيتياتر) خمس وثلاثون صفًّا كانت مقسمة أربعة أقسام: أولها لذوي المقام، والثاني للشجعان، والثالث للناس، والرابع للعبيد. ويدخل إليها ببوابات كبيرة اتخذت فوقها أماكن لذوي المكانة والعظمة.
سوى الأرينا ترى في نيم البيت المربوع، وهو كذلك أثر روماني من أبدع الآثار وأجملها، وعني به أكثر العناية، وقد قامت حوله عمد تزيده جمالًا، واتخذ في هذه الأيام متحفًا يحوي آثارًا قديمة وأشياء حديثة، وفيه مجموعة من النقود يرى الإنسان فيها نقود أغلب الأمم الحاضرة والقديمة.
ولقد جاء صديقي ب. من مونبلييه إلى نيم لمقابلتي، وزرنا بعض هذه الأماكن معًا، وآخر النهار سافرت إلى مونبلييه.
٢٢ مارس
ليس لي أن أكتب شيئًا عن مونبلييه، فإني وإن كنت قد بقيت فيها يومين وشهدت بعض الشيء من آثارها فلقد كنت مشغولًا بصديقي ب. الذي أخذ كل وقتي ونفسي، ولم يسمح لي المقام معه أن أعرف عن بلده أكثر من أنه بلد ريفي ككل بلاد الريف التي رأيت: ككلرمنت ونيم أو أقل من هذه الأخيرة بعض الشيء.
أما اليوم بين جدران آرل فإني أحس بأقوى ممَّا أحسست به في نيم، تصورت أمام عيني كل معاني القدم والفناء ظاهرة واضحة في هذه الآثار القديمة والأطلال الدراسة، وليست الأرينا وحدها التي هي أعرق في البناء بكثير من أرينا نيم هي التي تدفع لهذا الإحساس، بل إلى جانب الأرينا تقوم بقايا التياترو الروماني ولم يبقَ منها أحجار إلا منشورة، واثنين من العمد الكثيرة التي كانت ونقلت إلى الكنائس والهياكل، والمنظر كله يشعر بالقدم البعيد وتحس وأنت واقف في هذه الوحدة والصمت المطلق كأنما تناجيك من تحت الأحجار بصوت خافت تلك الأرواح البالية الفانية التي عمرت يومًا ما هذه الأماكن.
أين ذهب هؤلاء الرومان الأقدمون؟ من يدري، ابتلعهم الفناء في جوفه الهائل ثم قذف بهم بعد ذلك أشجارًا وحيوانات وجسومًا انتقلت هي الأخرى مرات إلى الظلمة ثم ردت في أشكال مختلفة إلى نور الشمس الذي شهدها في غيرها من غير أن يحس لها من أجل ذلك بفرح أو ألم.
وهذا المرسح الدارس الصامت كان مكان الضحكات العالية والسرور الجم؟ وهذه العمد البالية كانت موضع الإعجاب بجمالها، وهذه الأحجار الضخمة موضع الهيبة وسط البناء، نعم كلها كانت كذلك، ثم ها هي اليوم ولا صوت لها ولا حياة فيها إلا حياة القدم المهيب.
والرومان الأقدمون كانوا سكان هذه الأماكن هؤلاء الناس الذين عمروا الأرض وانتشر عليها سلطانهم ولم يَكُ لهم من منافس هم أشد صمتًا من هذه الأحجار التي أرى.
وعلى مقربة من هذه الآثار ينصب نهر الرون قوي التيار، وقد شهد هو الآخر كل هذه التقلبات، وربما قذف مرات مع مياهه دماء وأشلاء وأشياء في الماضي، وهو مستعد لأن يقذف بالدماء والأشلاء في الحاضر والمستقبل إلى البحر، والماضي والحاضر والمستقبل كلها عنده سواء.
ترى في آرل متاحف تحوي الأشياء القديمة، وترى فيها سكانها المشهورين بجمالهم يروحون ويجيئون ويقضون حاجات الحياة من غير أن يفكروا في هذه الآثار المطروحة تحت أقدامهم، ولا في الجمال المتوجة به رؤوسهم.
أقمت في هذا البلد ليلة واحدة ونهارًا، وكنت في كليهما ممتلئًا سرورًا وإعجابًا ومهابة وأحلامًا.
٢٣ مارس
من آرل إلى طولون … لا شيء يستدعي النظر غير البحر الأبيض الجميل الزرقة الخفيف الأمواج.
٢٥ مارس
وصلتني هذا الصباح البوستة المحولة من باريس وبينها هذا الخطاب.
أخي محمد:
أكتب إليك والبلد تموج من أثر حادثة مقتل بطرس غالي، والحكومة تشدد النكير على كل من يُظَن صاحب أثر فيها، والبوليس السري يدور هنا وهناك وفي كل أنحاء العاصمة، والناس جميعًا في انتظار نتيجة هذه الحالة الفردية الغريبة الكبيرة.
إما أنا فهادئ بين هؤلاء جميعًا، وأنظر لما يدور بعين عودت أن لا ترى في الوجود خيرًا ولا شرًّا، وأن لا تعتبر أكبر الحوادث التي يهتز لها الناس والحكام والعالم بأكثر ممَّا تعتبر الحوادث الصغيرة التي تقع كل يوم؛ لأنها لا ترى في ندرة وقوع الأولى وخروجها عن المألوف من العظمة أو الغرابة ما يريد الناس أن يحبوه لها، ولا في كثرة وقوع الثانية وصغرها ما يضعف من أهميتها أو يقلل من قيمتها.
وأنت فما رأيك فيما يقع هنا؟ وماذا عساك وأنت بعيد عن التأثر بالحوادث تقول عنها؟ لعلك تخبرني بكلمة تذهب بكثير من الآراء التي تشعبت وانتشرت في البلد، وتجعلني أطمئن لرأي في هذه الحادثة التي يقولون ستكون ذات أكبر الأثر على مستقبل البلد.
هذا وأما عن خصوصياتنا فلا شيء جديد، غاية الأمر أني كنت أفتش بالأمس في دولابي فوقعت يدي على سبحة بلح ممَّا كانت أحضرته عمتي ر. من الحجاز، فصممت على أن أرسلها لك وأنتظر أن أفعل، ويعدل هذه المسألة في الأهمية أن كتاب صديقي… كتب من أيام وهو أشد ما يكون جزلًا، كما أنه بلغني من أخبار البلد أن خالتي سعدة مريضة، وأن ما أحرق من البخور من أجلها وما دفع لقياس (أطرها) ذهب أدراج الرياح.
ولك مني تحيات لا يحصيها العد. والسلام.
٢٦ مارس
أخي عطية:
كنت أريد أن أكتب لك بالأمس ردَّا على خطابك وعلى ما جاء فيه، فلما خرجت بعد الظهر ورجعت عدلت عن ذلك؛ لأني رأيت شيئًا أحسن ويستحق حقيقة أن أكتب لك عنه.
أنا هنا في نيس — مشتى ذوي اليسار ونزهة المنعومين أيام الأجازة — لي أيام، وغرفتي تطل على البحر إلى حد ما، ولكني لا أكتفي بالمكوث فيها، بل أخرج كل صباح إلى سوق الأزهار، وأمر من وسطه أتمتع بشذاه وبهيج مناظره وألوانه، وأرتقي أحيانًا بعض المرتفعات الغريبة من البلد لأسرح النظر فوق سطح البحر المكسو بلجين ضوء الشمس، أما ما بعد الظهر فأمضيه غالبًا في نزهات خارج البلد.
وتركتُ مناكو وذهبت بترام آخر إلى منتكارل، ولقد كان أشد دافع لي على زيارة هذا البلد حبي الفرجة على كازينو القمار فيها، ولكني للأسف لم أقدر، فلقد طلبوا مني جواز سفري، ولما رأوني على ما سطر فيه لم أبلغ الثالثة والعشرين أبدَوْا أسفهم أن قوانين الكازينو لا تسمح بدخوله إلا لمن كان فوق هذا السن، وبذلك خرجت مضطرًّا أن أقنع بمنظر البناء الفخيم من الخارج ثم أن أجلس على قهوة قامت أمامه، وأمامها قامت حديقة مستديرة تقف حولها العربات القليلة والأوتومبيلات الكثيرة وكلها تشعر بالثروة الوافرة، هناك نسيتك يا أخي — ولا مؤاخذة — ونسيت ما تسأل عنه، ثم التفتُّ إلى أمامي فإذا ألماني لا يحسن إلا كلمات من الفرنساوية، استطعنا على كل حال أن نتفاهم بها ونمضي سويعة معًا، وهو لا يدخل الكازينو لأنه يخاف أن ينقاد إلى اللعب فيضيع ما بقي معه بعد أن أضاع الشطر الأوفر، وأنا لا أدخله حتى لأتفرج عليه لأن سني لا تبلغ الثالثة ولعشرين فلا أستطيع.
هذه الجهات، نيس ومنتكارل والريفييرا كلها ملأى بالألمان وبالإنجلو ساكسون من الإنكليز والأمريكيين؛ لذلك كنت لا أكاد أسمع كلمة فرنساوية فيما حولي وأنا على القهوة، بل كله دردشة ألمانية لا أفهمها، وإنكليزية لا تكاد تخرج من أفواه أصحابها المقفلة فلا أتميزها.
وأخذت الترام الراجع توًّا إلى نيس، هنا كان موضع إعجابي إلى حد الذهول، في هذه المدة التي استغرقت نحو ساعة أنسيت خلالها كل شيء سوى ما كنت فيه، وهذا المنظر البديع الذي جادت علينا به الشمس في غروبها جعلني أتوه على الفكر في أي شيء غيره، ودفعني حين أردت أن اكتب لك إلى ترك السياسة وما سوى السياسة لأتلذذ بتسطير هذه المناظر المتعاقبة التي رأيت والتي احتلت من نفسي أكبر مكان.
ولكن هل أستطيع أن أعبر لك عمَّا رأيت، هل يستطيع قلمي أن ينقل إلى هاته الصحيفة أمامي الجمال البارع المهيب، كلا يا صديقي إنه لعاجز.
في هذه الساعة التي أكتب لك تمر أمام مخيلتي الجبال والبحر والزهور وقرص الشمس كما رأيت من ساعات، وأريد أن أطبع لك صورة لنفسي فهل أنا على ذلك قدير؟ … لأجاهد على كل حال.
أخذت الترام من منتكارل وأنا كما قدمت بين جماعة من الألمان والإنكليز، وسار بنا يحاذي الشاطئ فإلى شمالنا يذهب البحر المتوسط بزرقته البديعة تتكسر على سطحه موجات خفيفة، وينحدر الشاطئ من حين لحين مغروسًا بالزهور تبعث للهواء بريحها العطر فتملأه رقة وشبابًا، وعن اليمين الجيل قائم محدد الوجه أحيانًا حتى ليكون قاسيًا ومغطى بالزهر أخرى فيصبح ساحرًا.
والترام يشق بنا هذه الجنات ونحن بها مسرورون، فلما اجتزنا فل فرانش إذا ضجة في العربة تلاها سكون عميق، وامتدت الأبصار إلى الغرب ذاهلة وفتحت الأفواه وعلا الموجودين الذهول، وتهت أنا عنهم وعن نفسي وجعلت أحدق بعيون ثابتة لهذه الشمس البديعة، هذه الشمس التي أرى الآن أمامي وهي مرتكزة بأسفل قرصها على الجبل كأنها منهوكة من أثر النهار، وقد ارتفع الدم واللهب إلى هذا الوجه الذي ظل سائرًا حتَّى هدَّه اللغوب، والجبل لفه شيء من ضباب تلك الساعة مهوب هائل يحمل القرص البديع وكأنه أشد ما يكون بذلك سرورًا ونشوة.
والقرص الملتهب قد بعث إلى ما حوله بلون وردي بديع، وطوق السحب المشتقة في السماء بأطواق من لونه فصارت كأنها في حلقة من نار أو سوار من ذهب، وكلما ابتعدت تغير لون سوارها مائلًا إلى البياض.
والشمس في تلك اللحظة أبدع من كل ما نتصور، ألا ليت تلك الساعة دامت إلى الأبد، لا نهار ولكن شمس متوردة ترنو للناس بعينها الفائرة ذاهبة إلى خدرها، وهواء يموج بالعطر ويبعث للنفس تخدرًا وسكرة، وجبل نما فوقه الزهر وهو قريب تكاد اليد تلامسه، وبحر هائل تضيع العين دون آفاقه.
والقرص المتورد يخطو فوق الجبل ويختفي رويدًا رويدًا.
هذا عطية ما رأيت اليوم، وما رأيت أن أسطره لك، ولعلك تجد مثلي فيه من اللذة أضعاف ما تجده في السياسة والكياسة.
٣٠ مارس
يقع قصر الباباوات في ناحية من البلد مرتفعة، ويقوم قريبًا منه بستان أو ما يشبهه فوق هضبة تجتلي منها أفنيون ونهر الرون، وتتسلى فيها بمنظر المياه المنحدرة تتسرب هونًا ما إلى المنخفض.
فإن أنت نزلت من هذه الأماكن الأثرية والطبيعية، ودخلت إلى قلب البلد، وكان ذلك بيوم ماطر كاليوم الذي ساقني فيه الحظ، لشعرت بأكبر السرور حين تدخل من باب دار الصور (المتحف) وتجتاز صحنها إلى البناء، فإذا صرت في صالات هذه الدار المتواضعة الشكل القديمة البنيان المكسرة الأحجار نسيت البلد والمطر والدار وشكلها ورحت بكلك مسحورًا بجمال ما ترى من الصور فيها.
رأيت أبدع ما يكون من النقوش في الدور الأول بعد أن استوقفني مدة تماثيل الدور الأرضي، رأيت غروب الشمس في نرمندي، ورأيت مراتع الشاه ومسارح الصيد وكلها من ريشة نقاشين من أهل أفنيون، ولكن الرسم البديع الذي استوقفني أكثر من كل رسم آخر. والذي أخذ مني وقتًا أكثر من غروب الشمس ومن الأشجار والمزارع تلك هي القديسة العذراء جاثٍ أمامها مستتيب.
لا أستطيع مهما جاهدت تصويرَ ما عليه هاته العذراء من الإبداع، هي الخيال، هي الأحلام، هي الجمال، هي الحب، هي السعادة، هي كل ما تشاء من جميل، فتاة دقيقة القوام حادة الأنف ساحرة العينين قد انسدل فوق جسمها الخصب ثوب فياض، ثم لفَّتها سحابة فستقية اللون، أو هي سماوية وتشف عن ذلك الجمال البديع … كنت كلما تركتها خيفه انتهاء الوقت وطمعًا أن أرى ما سواها رجعت إليها غير مستطيع أن أفارقها الفراق الأخير، وحدقت منها بتلك الصورة الملائكية الناطقة، وذلك المستتيب جاثٍ أمامها ضارع يعبدها، وهل هي إلا المعبود الأكبر.
لقد جال بنفسي أن أجثو أنا الآخر أمامها، أن أضرع إليها إلا سمحت لي بنظرة من سحر عينيها، ثم أرى أمامي حارس الدار فيعلوني ارتباك ويقف هو عنيدًا دون ما أشاء، وكل واجبه أن ينبهني إلى فراغ الوقت.
حقًّا لو أن هذا الجمال على الأرض لعُبِدَ، ولكنه على حيطان متحف أفنيون.