في إنكلترا
١١ يونية
قمت من باريس بقطار الساعة العاشرة وثلث من محطة سان لازار.
والأرض الخضراء تروح إلى مرامي النظر وتمتع فيها العين بما تحب، ويمتلئ القلب سرورًا والفؤاد نعشة، وتطير الروح في جو خالٍ كبير تجد فيه الراحة والطمأنينة، وبقينا هكذا بين تلك المروج الممرعة حتى وصلنا أول المدينة، ووقف القطار ثم عاود السير حتى محطة فكتوريا، ومنها هبطت وأخذت عربة إلى الأوتيل الذي يقيم فيه صديقي م.ص. قطعت بي طرقًا وشوارع تختلف كل الاختلاف عن شوارع باريس؛ فلا شجر فيها ولا قهوات بها على سعتها وعظمها، بل لكأن العربة ترمح بي بين آثار مدينة قديمة من مدن العصور السالفة، أهذه لندرة التي يحكون عنها، أأنا الآن في عاصمة بلاد الإنكليز؟ وهؤلاء القلائل، وأكثرهم من الفقراء الذين يسيرون في الشوارع، هم أبناء هاته الأمة المتكبرة المتجبرة، وتلك الأبنية المنخفضة في ارتفاعها إلى جانب العاصمة الفرنساوية هل تكن في جوفها إنكليزًا، كل ذلك صحيح وكله غريب.
١٢ يونية
كنت أظن أني ساعة أنزل إنكلترا سأجد سحابة سوداء من الحزن تثقل سماء هاته البلاد الثاكلة ملكها من أيام، وأن شيئًا من الأسى يحوم في كل النواحي ويظهر أثره على جميع الوجوه، وتضيع كل بهجة أو رواء تحت مهابة السواد وجلاله … غير أن هاته الأحلام لم يصدق منها شيء مطلقًا حتى ولا خيالها، اللهم إلا فيما يضعه الإنكليز الآن من مناديلهم السوداء. إذ ما نزلت العاصمة وقابلت م.ص. وأخذنا عشاءنا ورتبت مبيتي حتى خرجنا ومعنا مصري ثالث نمشي في شوارع المدينة الزاهية في مساء السبت ليلة الأحد، وبقينا نقطع الطرق الكبيرة حتى كُنَّا في بيكاديلي المزدانة بالنور العامرة بالمارة، يمرح فيها الغيد خرجن في ليلة الراحة أزواجًا، وبلغت بهن الكثرة مبلغًا عظيمًا، وهن صغيرات الأحجام خفيفات الأرواح جميلات النفوس، يتتابعن بسرعة مدهشة حتى ليكنَّ أسرابًا ويتقاطعن سائرات في كل النواحي كأنهن عصافير الجنة تحت قبعاتهن الكبيرة غالبًا حتى لتغطي عيونهن ولا يظهر من تحتها إلا ابتسامات ثغورهن تفترُّ عن أسنان ليست حسنة الحظ من الجمال دائمًا، ودخلنا قهوة من القلائل الموجودة بلندرة وفيها بنات أكثرهن — إن لم يكن كلهن — بغيات، وجاء مجلسنا إلى جانب فتاتين ليستا على كثير من الجمال وإن كانتا ظريفتين، وإحداهما أشبه الناس بالفرنساويات، ومكثنا قليلًا ثم قمنا راجعين إلى منازلنا من الطريق بعينه، ولا يزال مملوءًا بالناس والنساء المتحركات ببطء وهدوء، أو المسرعات حتى كأنَّ عندهن ما يدعوهن إليه، وبعد أن اتفقنا مع صاحبنا الثالث أن نذهب إلى رتشمند عنده في الغد تركنا إلى ما تحت الأرض وسرنا نحن حتى وصلنا منازلنا.
١٣ يونية
يقول جماعة المحافظين — ويوافقهم عليه كثيرون من غير المهتمين بشيء — إن وظيفة المرأة تنحصر في البيت وما يخص البيت، ترقى المدنيات وتتنوع الأعمال وتظهر في العالم أصناف شتَّى من ضروب المهن، ومع ذلك تبقى وظيفة المرأة محصورة في البيت، يجد الناس من الحرف الجديدة ما أعدته الطبيعة للمرأة، وتظهر المجهودات العلمية من كل جديد ما لا معنى مطلقًا لوجود الرجل فيه، ومع ذلك لا تخرج المرأة في أذهانهم عن دائرة البيت، من ذا عساه يكون صاحب تلك الميزة الكبرى فيستغل لمنفعته كل جديد، ويقوم بكل الأعمال ويأخذ لنفسه كل المكاسب؟ من ذا يشغل كل الوظائف …!
هذا قولهم وتلك نظريتهم، فلنرجع للواقع.
في المصالح والمعامل نجد النساء مشتغلات كعاملات مع الرجال، تساعد المرأة زوجها في زرعة، وتجد معه وتتعب مقدار ما يتعب، تشتغل بكثير تضارع فيه الرجال وتفوقهم أحيانًا، وكل ذلك كل ليس في دائرة البيت، فلِمَ لا يصرخ الرجال في وجوههن قائلين قد تركتن واترتكن … فارجعن إليها، لِمَ لا يمنعونهن عن مزاولة هاته المهن ومنها الشاق الأليم.
هؤلاء الناس الذين يصيحون عند كل كلمة يسمعونها من نصير الحرية للمرأة، لِمَ هم ساكتون أمام هذه الأعمال التي تخرج بها عن دائرة وظيفتها الطبيعية، عن دائرة البيت؟
لذلك سببان: الأول أنهم محافظون فكل ما يدور تحت أعينهم وما يعودونه لا يقف أمامهم موضع غرابة ولا يريدون تغييره، والثاني أنهم ذوو طباع مستبدة ينادون بالحرية ليداروا بذلك أغراضهم المخبوءة، ولكنهم يريدون أن يجدوا من كل ضعيف عنهم عبدًا يستغلون ثمرات أعماله ويبقونه تحت سلطانهم لا يسمح له أن يشتكي، كلا، بل ولا يسمح لغيره من محبي الإنسانية أن يشتكي عنه، يريدون أن يحفظوا المرأة في البيت ليكون لهم منها خادم، وفي الوقت عينه ليخرجوها عنه متى وجدوا سبيلًا لاستغلالها.
الاثنين ١٣ يونية
أخذت اليوم خطفة عين من المعرض الياباني، رتب في ذلك البناء الكبير الهائل سموه بحق المدينة البيضاء، يمتد إلى حيث لا يجيء النظر على آخره، ويحوي في صالاته العديدة هنا وهناك مصنوعات اليابان وإنكلترا، وفي أول مدخله قسم تاريخي يمثل هؤلاء الصفر في القرون السابقة في القرن الثاني عشر وما بعده وعليهم لباسهم الشرقي الجميل، وإنهم لأقرب في ذلك للوحشية والجمال منهم في هذا العصر الجديد، بل لأرى الأزياء الحاضرة التي يرتدون على ما تدل به الفترينات الأخرى لا تلائمهم في شيء مطلقًا، وإن نساءهم ليظهرن فيها قبيحات إلى حد غير معقول في حين أنهن لسن كذلك في زيهن القديم؛ ذلك إن هذا كان يابانيًّا حقًّا يسير مع خلقة القوم وخلقهم ونما بوجودهم وحياتهم، والآخر مستعار وقل أن يكون للمستعار بهاء.
حفلة المطالبات بحق الانتخاب
كان في عزم المطالبات بحق الانتخاب أن يقمن بمظاهرة عامة لهن من شهرين مضيَا، ولكن وفاة الملك إدوارد السابع وحداد الأمة عليه حال دون ذلك، فأجَّلن مظاهرتهن إلى الوقت الذي يكون الحداد الكبير قد انتهى فيه، ولما تم ذلك رجعن إلى فكرتهن الأولى، وأعلنت الجرائد عزمهن على القيام بمظاهرة كبرى، وقمن بها هذه الأيام الأخيرة، وتكلمت كل الجرائد على مختلف لهجاتها وآرائها عنها، وما بالك بمظاهرة جمعت أكثر من عشرة آلاف امرأة كلهن عن رأي واحد في مسألة تمسهن جميعًا عن قرب؛ لذلك لم يكُ موضع لصحيفة أن تتوانى في الكتابة طويلًا عن الحفلة التي جمعت إلى مظهر القوة والعظمة معاني الجمال والنظام.
شهدت هذه المظاهرة وهي من أكبر وأبهى المظاهرات التي شهدت في حياتي، فذهبت وجماعة من أصدقائي إلى (هيد بارك كرز) وانتظرنا عنده في الصفوف الأولى حتى مرت المظاهرة كلها، مرت يحوطها صمت مهيب وهي تحمل شارات كثيرة تدل بعضها على أسماء الطوائف التي تحملها، وعلى أخرى كلمات وأمثال، وأنسب هذه ما كتب على إحداها: «إنما ينصر الحظ الشجاع … نعم إنما ينصر الحظ الشجاع، والموت أنفى ما يكون للموت، والناس من خوف الذل في الذل، واليوم الذي يريد الإنسان فيه أن يعيش شريفًا أو أن يموت هو اليوم الذي يحيى فيه شريفًا عظيمًا».
وأسعد هاته المظاهرة طقس جميل وشمس لألاءة وريح طيبة تنعش النفس، واستقبلها الناس بالإجلال والإعظام الذي تستحق.
وفي أول الصفوف تقدمت موسيقى كانت غاية في الرقة قام بها جماعة من الفتيات لبسن لبوس الجنود الإيقوسية، فظهرت من تحت أرديتهن القصيرة سيقانهن الممتلئة، وهن جميعًا يصدحن بنغم شجي بديع، وشارك في المظاهرة كثير من الرجال ذوي الدرجات الرفيعة.
لِمَ أقيمت هذه المظاهرة؟ ولِمَ يريد هؤلاء النسوة مشاركة الرجال في الحكم؟ ولِمَ يعارضهم الرجال بقوة قاسية فيما يطلبن؟
ليس من السهل البت في أمر مطالبهن ولا فيما يقيمه الرجال في وجوهن من المقاومات، ولكني أراني أميل للاعتقاد بأن دخولهن في الانتخاب يجعله أقرب للنظام والعدل والحرية وأبعد عن تأثير النساء.
ربما كان هذا التعبير الأخير غريبًا، ولكنه صحيح، إن النساء أكثر أثرًا اليوم في الانتخاب مِمَّا لو كنَّ منتخبات، ومن أجل امرأة غيَّر كاتب كبير من كتاب فرنسا رأيه فأصبح ملكيًّا بعد أن كان جمهوريًّا، فإذا ظهرت النساء في عالم السياسة لم يكن هناك موضع لأن ينخدع أحد في مظاهرهن أو يدخل في تقدير جماعة الرجال لهن ومبلغ عقلهن ورأيهن في السياسة.
كما أن العدالة لا تأبى عليهن المشاركة في الانتخاب، وما يقال تهكمًا بهن ممَّا يلازم حالهن الطبيعية من الموانع لا يزيد قوة عمَّا قد يقال ممَّا يلازم أحد الرجال من الأمراض، ويظهر مبلغ ذلك من الصحة حين ترى أن المنتخبات اللائي يجلسن بين النواب سيكن دائمًا من اللائي ارتفعن عن صف الولادات، مع هذا فإني أفهم كثيرًا معارضة الرجال لهن في مطالبهن، هذه المعارضة تجيء من حب الأثرة الطبيعي في نفس كل منَّا، والذي يسير على مقتضى ما توصي به طبيعته غير ملوم.
ولو كان لى مطمع في الانتخابات الإنكليزية، وكنت أرى ممَّا يعرقلني أن يدخل النساء في الانتخاب لكنت أول متهكم بمطالبهن منَّا وضدها.
هيد بارك … هيد بارك! كم كان لهذا الاسهم من معنى غريب في نفسي، وكم بهت حين رأيت بعيني هيد بارك: هيد بارك هو موضع المتناقضات ومكان العجائب أمام المصري، هو بؤرة الفساد ومستقر الفحش وموضع الفسق ومستنزل غضب الله، فيه تهتك الحرمات ويفتك بالأعراض وتقع النساء في حبالات الشياطين، فيه الشر كله … هو كذلك مرسح الخطباء تظهر فيه بلاغات المتكلمين ويرتقي منابره عظماء الرجال كل آنٍ وحين، وينشر على الملأ المستمتعين فيه كل وزير خطته، وكل طالب انتخاب ما ينوي عمله، ذلك هو هيد بارك أمام عين المصري أو على الأقل من تلقى علمه من جرائدنا وأصحابنا.
مكان كهذا يشتاق لزيارته! … ولكنى لم أذهب إليه إلا بعد ثمانية أيام من مقامي بلندرة، ذهبت إليه قبيل المغرب مع أصدقاء يوم أحد: اليوم الذي يموج فيه المكان بالمتنزهين فإذا فيه فتيات لا يعلم عددهن أحد … كثيرات جدًّا، وقلَّ أن تجد من بينهن عجوز، فإذا ما تصفحت الوجوه والملابس وكنت على علم بعض الشيء بالقوم وجدتهن جميعًا خادمات.
قلت في نفسي هل المساء أحسن من هذا وأضمن لبيان حقيقة المكان كما أملت أن يحوي وجوهًا أصبح ممَّا أرى، أصبح من تلك الأشكال أطل منها الفقر وقضى على بهجتها نحس الطالع، فرجعت في المساء فإذا هن أكثر عددًا ويزحمن كل ما حول مكان الموسيقى، ويسرن عديدات في الطرقات ولكن أشكالهن هي هي لم تتغير.
ولكن ما لي أنا وهذا، هل هاتيك القبيحات لا يقعن فيما تقع فيه غيرهن، وعلى حد قولنا لكل قوتة كيال، والمكان واسع فسر فيه فإنك لا شك راءٍ ما رأى غير ما دام الكيل هنا من غير حساب … ولكنى لم أكن ذا حَظٍّ ولم أَرَ شيئًا ولمَّا سألت إخواني من بعد قالوا إن أحد المصريين رأى هذا الأمر مرة بعينه.
أما رتشمند بارك فسعته الهائلة تسمح له أن يكون مكانًا لشيء من هذا.
ثم قصدته من بعد أكثر من مرة لأسمع الخطباء، فإذا هم حقًّا كثيرون ولكن ما هم؟ عدد كبير أكثرهم داعين للدين وبأشكال مضحكة حقيقة، بلغ من تعصبهم حتى فيما بين مختلف طوائفهم أن يتشاتم المتكلم مع أحد السامعين على مسمع من البوليس: داعٍ ديني بروتستانتي يدعو الناس لاتباع تعاليم السيد المسيح، وقد وزع على عدد منهم — العجائز والأطفال — كتبًا فيها الصلوات، وقبل أن يبدأ جعل يقدم فضل المسيح وفض البروتستانية ثم مال بكله على البابا قائلًا: والبابا يدعي أن في يده تغيير كلمة المسيح، إنه لمدَّعٍ كذاب.
فقام إليه فتى من بين المحيطين به يبلغ الثالثة والعشرين وناداه خائفًا: اسكت هناك، لا تقل عن البابا شيئًا.
– ها ها، فتى دخل الشيطان لنفسه ويعتقد بقدرة البابا.
– إنما دخل الشيطان لنفسك أنت فأصبحت ضالًّا.
– كان الشيطان يوسوس لي من خمس وعشرين سنة مضت، ثم عرفت كلمة المسيح، الكلمة الحق كلمة الله لا كلمة البابا … البابا الكذاب.
– لا تتكلم، سفيه وقح.
واستمروا في مثل هذا والبوليس إلى جانبهم ينتظر أن يقتتلا، ولكن الله سلَّم وابتدأ الداعي صلواته يرتلها مع المحيطين به بصوت حزين عالٍ تحت سماء رائقة وجو فرح وخضرة ناضرة وكون ضاحك من أوله إلى آخره.
وإذا ما أخذت قاربًا على النهر رأيت الأرض ترتفع مع بصرك حتى تضيع بما لبسته من حلة خضراء قريبًا من السحاب، وعلى الجانب الثاني تقوم أشجار عالية تطوق جِيد النهر الساكن المستسلم ترسل عليه الشمس النازلة أشعتها وينطرح في ظل الأشجار فوقه وهو على ما هو عليه، وكما كان من لا نهايات الزمان القديم ذاهب في طريقه ليضيع في البحر القريب، وفي وسطه وواصلًا للشاطئ مكان يسمونه الجزيرة يحيط به من الزلط الصغير ما يسمح لكثيرين أن يتركوا قواربهم وينزلوا فوقه ليشاهدوا من مكانهم وهم وقوف الرصيف الرفيع إلى الجهة الثانية من النهر، ويمتعوا النظر بمرأى عدة أشياء جميلة متتابعة، الماء ثم الشاطئ الضيق ثم المنحدر الأخضر وما به من زهر ثم الرصيف تتوجه أشجار، وليروا عن شمالهم القنطرة التي تعبر النهر والقوارب تمر من تحتها ومن فيها حذرون يسيرون متمهلين ترقبهم عيون من على الشاطئ أو الجلوس في محلات الشاي الممتدة إلى جانب النهر.
٢٠ يولية
أقمت بلندرة أربعين يومًا لأحبها وآسف على تركها، وما من بلد كبير إلا له من الجمال والهيبة ما يجذب النفس ويأخذ بالفؤاد، ما بالك بذلك البلد لا تعرف له أول ولا آخر، هو العالم تتوه فيه ولا تحلم بالخروج منه، أنت في الضواحي وفي لحظة إذ بك تشعر برهبة المدينة الهائلة حولك، وتنظر إلى ما يحيط بك فتراك أبعد ما يكون عن أن تتصور آخرها، هي بحر لا شاطئ له يتوه فيه الإنسان المسكين.
مع تلك العظمة تحوي لندرة بها ورواء ومهابه وجلالًا، وأي شيء أبهى وأبدع من منتزهاتها الكبيرة لا عدد لها أو أجمل من دور الآثار العديدة تحوي أدق ما أبدعت رأس الإنسان، وما أنسَ لا أنسَ آخر أيامي بها وأنا في متحف الهند وأعمالهم في العاج ونقشهم عليه يأخذ النفس إلى أرقى مواطن الإعجاب، وإني لأشهد أن ذلك أجمل ما رأيت إلى اليوم من مثله، ثم المدينة كذلك مهد علم وعمل وحركة كبيرة، مهد الجامعات العظيمة والكليات الهائلة، ومهد تلك المصانع الكثيرة والمعامل والمخازن، ولا أظن شيئًا ممَّا في الوجود ينقص هاته البلاد إلا ما استحال عليها أن تضمه بين جدرانها.
متى يكون لنا في الشرق مدينة كلندرة أو كباريس؟ … متى بلغنا من هاته المدنية الحاضرة القليلة الطعم ما بلغ القوم، وإني لأدعو كل محب لبلاده أن يعمل لإبلاغها أكثر ما يقدر من مدنية القوم لا حبًّا فيها، ولكن لأنها الوسيلة الوحيدة والأمل الضئيل الباقي لنا جماعة الشرقيين في العظمة والحرية، ليصبغوا المدنية بصبغة شرقية ثم لينقلوها إلى الشرق ينتفع بها أهلهم ومواطنوهم ويكونون لم يخسروا شيئًا وأفادوا أممهم أكبر الفائدة.
بريتين ٢١ يولية
الساعة العاشرة ونصف مساء، ساعة من الليل أحرى بالهدأة والهدوء والنوم، ساعة لا يتحرك معها في الجو الأسود بالظلام شيء، لكن البحر الهائج عالي الصوت يزأر كأنه الأسد الحبيس، نحن في بريتن، وأطل من النافذة على الجو يذهب مع البصر إلى أفق كان كل مدة هذا النهار ملفوفًا في رداء من الضباب حتى لم يتميز لحظة واحدة، فلما جاء الليل تسربت إليه رسله من شياطين العبيد، ونكشت شعرها فاسودَّ الهواء ولم يَكُ إلا حين، فإذا الكهرباء هي التي تدمي ذلك الجسد الهائل صاحب الخوار العظيم، نحن في برتين، هواء طلق ومناظر بديعة، نزهة لمن حملت نفسه بهموم المدن، فضاء واسع لمن حدق نظره حيطان لندرة وأمواج تتهادى اليوم كما كانت تتهادى أيام نوح وقبل التاريخ، وكما كانت حين كان العالم ماء لا أرض فيه، وستبقى كذلك إلى الأبد، هي بنت الطبيعة ولا حكم للإنسان عليها، يستخدمها لغاياته إن شاء ولكنه لا يصرف حركاتها على هواه.
الساعة العاشرة ونصف مساء، موعد نوم المكدود من أسفاره، وموعد نومي أنا الآخر، والوقت يجري إلى الغد ولا ينتظرني حتى أتم كلماتي وأذهب إلى سريري حينذاك يتحرك هو لا ينتظر أحدًا، هو يجري فيمتع به النائم المستريح أو اللاهي عنه بمسراته، ويحمله عله المتضايق المهموم، لست أنا من أي من هؤلاء، ولكني في دقائق سأكون في سريري.
بريتن ١ أغسطس
كانت بنت تقرأ في الكتاب المقدس — في الإنجيل — ولما أمسى الوقت وأرادت أن تذهب إلى سريرها وضعته على حرف مكتبها، وقامت فذهبت إلى النور وأطفأته وراحت لتنام، غير أنها في طريقها لمست الكتاب المقدس بطرف فستانها فسقط إلى الأرض ولم تأخذ هي بالها، وتمطت في مضجعها، ولكن كيف يسمح المسيح لمثلها أن تنام! ليست كلمة المسيح للأرض، فلا بد أن ترفع على الأرض؛ لذلك بقيت البنت في قلقها، ولا يقفل عينها النوم أبدًا، وكلما طال بها الوقت ازدادت تألمًا وقلقًا.
إن هاته الكسلانة التي لا تحفظ كلمة المسيح لا تستحق النوم، وأخيرًا لما تولاها الضجر قامت وفتحت النور من جديد فرأت الكتاب المقدس على الأرض، فبادرت لرفعه وبعد ذلك أقفلت النور وراحت إلى سريرها، فلم تكُ إلا لحظة حتى كانت في نوم عميق.
ومن بعد ذلك تركته وقد اكتفيت بحكايته.
٢ أغسطس
كنا إذ ذاك نحو الساعة الثالثة بعد الظهر، وشمس أغسطس ممتدة على الوجود، وقد انطرح نورها يملأ الجو بعظيم لجته ويغطي صحيفة البحر فتتقلب تحته الأمواج وتلعب به وتتفاذفه، والناس لا يزالون في بيوتهم منتظرين ساعات النسيم فالسكة خالية أو تكاد؛ لذلك لم أجد عقبة في سبيل أن أسرع في السير، وعلى هذا تركت للعجلة أن تذهب بأسرع ما تطيقه، ولكن سرعان ما انحرف بنا الطريق عن شاطئ البحر وأحاطت بي بيوت عن الجانبين بينهما طريق واسع مفروش بالأسفلت قد امتد على نصفه الظل، وبعد بضع دقائق ظهر البحر من جديد تفصل بيني وبينه مستنقعات واسعة أولًا ثم تضيق شيئًا فشيئًا، وعن يسار الذاهب يقوم حانوت صغير فقير تباع فيه البيرة والمشروبات الأخرى القليلة الثمن، وصحيفة المانش مجلوة بشعاع الشمس تبين هادئة مصقولة لا يحركها نسيم ولا تهيجها الأمواج.
رأيتني بعد ذلك دخلت بين جدران قرية لم أعرف اسمها، وأردت تعرف الطريق فملت إلى غلام يبلغ العاشرة أو الثانية عشرة من عمره أسأله، فأشار بيده إلى أذنه إشارة لم أفهمها، وأخيرًا ناداني: «إنني أصم فلا أستطيع أن أسمعك»، ولم أجد بعده بين جدران هذه القرية إنسًا.
بدأت أحس كأن همه دراجتى تفتر، فشجعت نفسي ودفعت جهد طاقتي، ونفذت إلى طريق معتدل بقيت فيه أمدًا غير قصير، ووصلت منه إلى شاطئ البحر من جديد، وبقيت الدراجة تتلوى مع الطريق حتى بلغت ورذنج، وهي لا تزال هي الأخرى في صمت الظهيرة، والقليلون الواقفون على الشاطئ مبعثرون هنا وهناك وفي كل مكان، ولما كنت على مقربة من الپير أخذت صورته ورجعت أمشي الهوينا ودراجتي بيدي أتفرج على ما حولي وأرفع نظري فأرى الأبنية القائمة ينظر أصحابها من نوافذها، فإذا ما تعدت عينهم ما أمامهم من الأرض والأشجار والناس إلى البحر راحت معه حتى ينطبق الماء والسماء، ويرسم الأفق خطه يحدُّ به القليل الذي نرى والعظيم الهائل الذي يغيب عنَّا علمه.
ثم رجعت أدراجي والطريق لا يزال خلاء لا يمر به إلا قليلون … وصلت مرة أخرى إلى القنطرة التي تفصل القرية التي قابلت فيها الغلام الأصم عن البحر، واستوقفني مرة أخرى خادم القنطرة ليعطيني تذكرة أدفع له قيمتها بنسًا.
في إنكلترا يجعلون الناس يدفعون بنسًا أجر جواز القنطرة في حين يمن علينا الإنجليز في مصر بأنهم رفعوا ضرائب جواز القناطر، ويعدون ذلك مفخرة من عظيم أعمالهم عندنا.
وصلت بريتن الساعة الخامسة ونصف مساء، فرددت دراجتي وملت إلى محل شاي أخذت فيه الشاي ثم رحت إلى المصور الذي أعرف، فاستظهرنا الصورة التي أخذت، ولكني لم أجد وقتًا كافيًا أطبعها فيه على الورق، وعلى هذا وضعتها مع الأشياء والألواح الأخرى في صندوق منتظرًا يومًا أستقر فيه، وسافرت من بريتن عند ذلك اليوم، فلما كنت في باريس، وفتشت عن صورة ورذنج إذا اللوح مكسور ولا ينتفع به.
ثم إذا صعدت إلى أعلى المكان ودخلت إلى آخر غرفه — الغرفة القائم على جدارها صورة وليم بت — رأيت هناك صورة مدام هملتن، صورة بديعة وجمال ناطق وسيدة أبدع ما ترى من السيدات.