في إيطاليا
لوجانو في ٢٠ يوليو
كنت على القارب الذي يقوم من هنا الساعة الثامنة ونصف صباحًا قاصدًا بونتي تريزا، وهو قارب صغير الحجم أو دونه.
سار القارب حتى وصلنا إلى الحدود الإيطالية، هنالك مر عمال الجمرك، وما أثقلهم، فجعلوا يفتحون أصغر حقائب السفر ثم يختمونها ولم يتركوا من غير تفتيش إلا الجيوب وحقائب السيدات، ولقد حدق بي أحدهم وأنا أخرج صندوق السجائر من جيبي، وهز رأسه كأنه يأسف أن ليس عنده من الإقدام ما يجعله يضبطه، وكان هؤلاء العمال بشائر إيطاليا، فإن يَكُ هذا فويلي من الطليان ما أقبحهم!
إذا رأيت أشخاصًا بالغات في القبح فاحكم بأنهن أمريكيات وربما كن إنكليزيات، ولقد صادفت خارجتين من القارب عند (پورتو سريزو) تشمئز لمرآها العين، ولم يكد يرتد إليَّ طرفي حتى صدقتا حكمي عليهما أنهما أمريكيتان بأن تراطنتا بالإنكليزية الأمريكية.
صباحنا اليوم كثير الغيوم؛ فلقد اشتمل الجبال المحيطة بالبحيرة ضباب كثيف جعلها تظهر كلما ابتعد القارب ولو قليلًا عنها كأنها أشباح مخوفة هائلة، أما سطح البحيرة فقد كان يعكس خضرة الجبل ويتموج قليلًا، والمسافرون قد هدَّهم الضباب وضايقهم عمال الجمرك يسود عليهم سكون حزين.
ثم حملنا قطار صغير من (بورتو سريزو) إلى (لونيو) على شاطئ بحيرة (ماجبوري)، ومن لونيو سافر بنا قارب أحسن بكثير من القارب الأول قاصدًا (ايزولا بلا — الجزيرة الجميلة).
كان إلى جانبي على القارب سيدة فرنساوية ومعها ابنها، وهو طفل عمره ثلاث سنوات، وبينما هو يلعب نادته: أندريا، أندريا تعالَ هنا! فذكرني ذلك قول أخرى لابنها ذي الخمس عشرة سنة: «ألبير، ألبير لا تعمل هذا» وتقول ذلك بنفس اللهجة التي تخاطب بها أم أندريا طفلها؛ ذلك أن الفرنساوية متشابهة دائما في معاملة ابنها، فهي دائمًا شديدة في الأمر لينة في التنفيذ، وتصحبه دائمًا قبلة لطيفة … لست أحكم … وربما كانت هذه التربية أضمن لتخريج جمهوريين.
ايزولا بلا … قصر وحديقة جمالها أبدع ما يُرى، وينبئان عن ترف ممتع مكسال، وهذه الجبيلات وهذه الحديقة القائمة على عشر درجات ترتفع كل عن الأخرى عشرة أمتار! … عن أي شيء تنبئ؟ … وايزولا ماورا وحديقتها الغريبة … إلا أن الإنسان ليجمل الطبيعة ويعطيها من الإبداع ما يفوق كل خيال. قفلنا راجعين من لونيو إلى بونتي تيريزا وكان إلى جانبي إيطالي ومعه بنتاه، وكبراهما جميلة، وهي فوق ذلك بديعة محبوبة، وإنها لتحمل في ناظرها من الحب والعطف مبلغ ما ينم عنه من الرغبة ثدياها الناهدين.
تورينو ٢٢ يوليو
قمت بالأمس من لوجانو بقطار الساعة واحدة وأربع وعشرين، وكان معي اثنين من الأمريكيين، فابتدأنا الحديث، وعرفت أنهما آتيان من لوسرن قاصدان فنيسيا (البندقية)، ويريدان أن يزورا مونيخ وهولاندة ولوندرة وايقوسيا ثم يرجعان من أرلندا إلى بلادهما، وقد اختارا هذه البلاد لأن لكلٍّ ميزة لا يشاركها فيها غيرها.
هما من غير شك مخطوب وخطيبته أو هما في شهر العسل، وإنها لفكرة جميلة أن يزورا العالم معًا ثم يرجعان إلى بيتهما وقد خلقا لنفسيهما في ذلك عالمًا عظيمًا من الخيال والذكر. دخلنا بعد كومو في سهل اللومباردي فتجلى أمامنا ناطقًا جميلًا الاختلاف المهول بين الألب والسهل، وظهر بعيدًا الأفق يترنح ثملًا تحت النور المبياض.
نحن الآن في إيطاليا الإيطالية، فمنازل من الطوب وإلى جانبها بيوت ترابية اللون كأنها من اللبِن، وكلها وإيانا يُنهكها الحر المفرط.
ميلانو
المحطة عظيمة، وأمامها ميدان كبير، والسماء تعكس من بياضها نورًا يعمي الأبصار، وقام القطار إلى تورينو فإذا عربات الدرجة الثانية قذرة دنيئة، أما عربات الدرجة الأولى فأحسن كثيرًا مع حفظ الفارق، وكان إلى جانبي إيطالي يحكي لي عن إيطاليا: هذه البلاد البديعة حسن قوله المبالغ فيه لا شك ولو بعض الشيء، فتلك عادة كل أوربي فرنساويًّا كان أو سويسريًّا أو طليانيًّا أو … حيث يظهرون وطنيتهم في هذا الشكل النافع والذي ربما كان أحسن الأشكال.
تورينو … ما أقربها في الشكل للقاهرة، القهوات، وبائعو الشربات في الشارع، والتراب، والذباب … غير أن الناس يظهرون أقل تعسًا وأكثر فرحًا وبهجة.
٢٣ يوليو
إيطاليا مهد الفن كما يقولون، فحيث تكون ترى تماثيل بديعة في الميادين وفي المعرض وفي كل مكان، ولقد ذهبت صباح الأمس أزور (الأكاديمية دلاسيانزا) فمررت بميدانين ما أحلى شكل تماثيلها.
وابتدأت في الأكاديمية بأن زرت القسم المصري، فماذا رأيت؟ رأيت ما أرى دائمًا عن مصر القديمة: موميات مكشوفة الوجه سوداء مفزعة، وإن هذه الرؤوس المؤلفة لتعطي بشكلها المخيف منظرًا جذابًا غريبًا.
على الحيطان أوراق قديمة تنزل فيها الكتابة أحيانًا من الأعلى إلى الأسفل، وتكون أحيانًا بشكل قطع شعرية أو في شكل النثر المعتاد وتصحبها الرسوم دائمًا والتشبيه أظهر صفات هذه الرسوم، وكأن هؤلاء القدماء كانوا لا يستطيعون تخيل الإنسان إلا في حالة غضب مفرط أو سكون مفرط، وإن تماثيلهم تظهر ذلك أكثر ممَّا تظهره الرسوم، ولكن هذه الأخيرة تدل عليه كذلك دلالة واضحة، فيجب أن يكون للرجل الهائج المغتاظ رأس هائل حتى يكون مغتاظًا، رأس بعض الحيوانات الآلهة، أما الإنسان الباقي برأس إنسان فإنما يكون في حالي سكون أو استسلام وضعف بعض الأحيان؛ وإذن تكون الأيدي المرفوعة علامة الخوف أو ادِّراءً لغضب إله، له رأس طير مفترس وفي يده عصاه.
في الدور الثاني صالة صور تحوي نحو الستمائة، من بينها قليل من ريشة مشايخ التصوير، وأهم ما يفيد هذا الدور الفكرة التي يعطيها من نشوء الفن وارتقائه وتسلسله، كما أن الفكرة التي نسمعها أحيانًا من أنه لا فن ممَّا يحوي الإبداع والعِظم بعد المشايخ القدماء، وأن كل شيء ينحط يُبين هنا فسادها، فإني وإن لم أكن عرافًا في الفن ولا درست شيئًا ذا قيمة منه أراني استنتج مما أمامي أن الانتقاد غربل الفن القديم، فأظهر لنا منه الصور ذات القيمة ومبلغ جمالها، أما الصور الحديثة فلم تَنَلْ هذا الحظ بعدُ، وكثيرًا ما يغطي رديئها الحسن، ويضل حكمنا عليها إنَّنا عائشين معها في جيل واحد فلا تقدر على الحكم بخلودها.
وإن الثورات في الفن الحاصلة اليوم والتي يناصرها جماعات شتى (والمستقلون بعضها) لتجعل الإنسان يتردد في اتِّباع المذاهب الجديدة، ويبقى عند إعجابه بالقديم، وهذا هو السبب الذي يحملنا على حب الماضي وتفضليه.
وذهبت بعد الظهر إلى المعرض، ما أعظمه! … وما أجمل تماثيله وأحلى بيوته، من الأشياء التي أخذت بنظري آلات النسيج وهي تشتغل يخدمها بنات ونساء يعملون في هذا الشغل المذهل … فهل يملكون عقولهم آخر النهار؟ … وأعجبني في القسم الإنكليزي أعمال ودجوود الفنية الجميلة.
وكما تمثل الممالك الكبرى نفسها بالأعمال الهائلة تمثل الهند وسيام وتركيا نفسها بما يثير في النفس الرحمة عليها والأسف من أجلها، لم يظهر الإنسان نفسه في مثل هذا الموقف الذي يجد به فيه أن يختبئ!
وألمانيا العظيمة تشتغل منازلها من ناحية، ومن الناحية الأخرى يرى الناظر النتائج التي جاءت بها ضمانات العمال فيها.
غريب كيف يظهر على معروضات كل أمة طابعها … فألمانيا بلد الرحمة والعواطف الجميلة هي كذلك بلد الضجة وحب الظهور، وفرنسا بلد العلم الصحيح بالجمال وأسراره علمًا جاء عن طريق النقد أكثر ممَّا جاء بالوحي والجبِلة، وإنكلترا وهي بلد الهدوء ومواصلة العمل تصل إلى نتائج مدهشة.
٢٧ يوليو
فلورنسا، الجميلة كما يسميها الطليان، هي حقيقة جميلة تحيط الإنسان فيها الآثار القديمة من ناحية وأجمل ما خلد الفن من الأخرى، ولكن الإيطاليين هم دائما الإيطاليون، بل يظهر أنه كلما أوغل الإنسان جنوبًا كانوا أقل مدنية، ولقد رأيت هنا مشاحنات أكثر ممَّا رأيت في تورينو؛ إذ قابلني في يومين خمس أوست، ولم أكن أخرج إلا نادرًا … أو أن ذلك إنما كان نتيجة الصدقة! …
وممَّا يأخذ بالعين حقيقة الكاتدرال والكمبانيلي والباتستير وكلها مجتمعة في ميدان القبر (الكاتدرال) مظهرة بذلك نظامًا فنيًّا معماريًّا بديعًا، وقد اتخذت جميعًا من الرخام، ويبين عليها توازن دقيق غير أن الكاتدرال فقيرة من الداخل ومظلمة، لا ككتدرال بيزا التي زرت هذا الصباح، والتي هي ذات مظهر أغنى بما فيها من التماثيل وما على جدرانها من النقوش وما في سقفها من الذهب.
أما كمبانيل بيزا فهو إحدى عجائب الدنيا، البرج المائل المشهور، وهو أقل جمالًا من كمبانيل فلورنس المربع البديع النقش.
وما أكثر المتاحف في إيطاليا! فقد زرت أربعًا منها في فلورنسا مع أني لم أبق بها غير يومين، وإن متاحف الأوفيزي والبني لبدائع يقصر دونها الوصف، قد حوت من نقوش أساتذة التصوير أبدعها، فيها من رفائيل وروبنس ودشي وبوتيشلي وريني ولبرن وكثير غيرهم من الكبراء، من ميشيل أنجلو وتسيانو البديع، كم من الدقة في عذارى رفائيل، وفي الصورة التي يخلد بها معشوقته، وكم من القوة في باباواته … ثم كم هن مكسالات عريانات تسيانو، وكم هي ناطقة صورة سوزانا لريني وصور دلشي … ورزايا الحرب لروبنس، كم هي متكلمة شاكية، فيها يحس الإنسان كأنما يسمع صرخة اليتم تشق قلوب النساء والأطفال ممثلي الإنسانية اللطيفة الهادئة المسالمة صرخة بأس وجزع …
وحدائق فلورنس، تلك الحدائق الهائلة العظيمة ما أبدعها!
ولقد زرت بعد الظهر فيزولي وهي الضاحية التي أحب أناتل فرانس من كل قلبه … ومن شرفاتها تتجلى فلورنسا تحت النظر وبين الضاحية والمدينة غرقت منازل صغيرة في خضرة السفح اليانعة.
لكن ضيقها والمرسى الروماني البالي الفقير وكنيستها العريانة التي تذكر بماضٍ ضئيل، شحاذوها الكثر ومظهرها البائس أو يكاد، كل ذلك يحمل العين بعيدًا عنها إلى هذه الشرفة البديعة حيث تتجلى جنة الأرض، دونها روما المهيبة العظيمة سيدة الزمن الماضي وروما الكبيرة بنت الزمن الحاضر، بين بعض ربوعها يحس الإنسان كأنه انتقل إلى بلد عظيم ميت يبعث النفس المهابة والوقار؛ فإذا انتقل فاختلط بالناس وجد دائمًا من هؤلاء الطليان بعض القذرين، بل إنه ليجد بين الآثار القديمة الوقت بعد الوقت شيخ بائس من الشحاذين تنم هيئته التعسة عن أنه انتقل هو الآخر إلى ملكوت الموت، ولقد كنت عند (الكولوسيوم) أزوره وأزور الآثار إلى جانبه فصادفت عيني مرارًا أشباحًا في أطمار تخرجها الأحجار المؤلفة ملقاة على الأرض وهي أنشف من الموميات العتيقة، وبين الآثار والأحجار والأشباح تسمع صرير الحشرات الساكنة في شجيرات سوداء، وامتد على الأرض عامود ينسب إلى (ديوكليسيان) وهو مكسور ثلاث قطع في حين قامت عمد كثيرة أخرى تدل على مكان (الفورو رومانو)، ودعيت بعد ذلك لأزور أماكن أخرى، ولكن الحر أرهقني فلم أذهب، وقابلت بالصدفة عند ميدان إسبانيا عربيًا عرفني وطلب إليَّ أن يكون دليلي، وألجأتني الحاجة أن أقبله، ولو رأى لومبروزو هذا الشكل لما تعب في أي وصف يضعه، ولقد ساعدني كثيرًا في تعريفي الطرق ومخازن البيع والشراء، أخذتني به الرحمة ومسني الإحساس ببؤسه.
تظهر روما بالليل في شكل القدم، خصوصًا في الأماكن الكثيرة الميادين الملأى بالعمد، القائم عليها تماثيل تراجان وقيصر وغيرهم ممن يستثيرون معهم ماضي عظمة الدولة، أما الميادين الجديدة فهي قليلة الطعم، ربما أحسست أنا بذلك لأنَّا نحمل للماضي احترامًا يحتل أعماق نفوسنا، أو لأن هذه الصبغة التي يعطيها للأشياء هذه الصبغة الترابية القديمة تجعلنا ننحني أمامه.
من روما إلى برنديزي … ما أقذر هؤلاء! هؤلاء الخنازير لا أنسى أني في الأربع المرات التي ركبت فيها سكة الحديد كانت مراتب الدواوين مقلوبة على وجهها، وأقل احتكاك بها يثير ترابًا عجاجًا، وتلك هي عربات الدرجة الأولى …
والطليان أنفسهم! يا حفيظ! … أول أيامي في إيطاليا حدثني أحدهم وجاء في الحديث أن وصف بلاده وعظيم ما فيها من جمال … وكانت كلمته الختامية: … إيطاليا جميلة ولكن يجب تغيير الطليان! … إنه لمحق وايم الله.
إنهم حقيقة لخنازير، يجيء ركاب الدرجة الثانية إلى الأولى فإذا اراد الكمسارى أن يأخذ منهم الفرق سبُّوه وصاحوا في وجهه، ثم يرضونه أخيرا بجرعة «كيانتي» فيقبلها مسرورًا وينصرف.
ومكتوب في العربات: «البصق على الأرض ممنوع»؛ ذلك أن الشركة تعرف مواطنيها ومبلغ نظافتهم، والمحطات الصغيرة يظهر فيها من حين لحين جماعة من الفلاحين الفقراء والبؤس يبين على وجوههم وفي ملابسهم، وتكاد تلمسه في هواء هذه البلاد الجنوبية، وأخيرًا ها أنا ذا وصلت إلى مصر هذه الليلة.