أدب اللغة الفرنساوية
ربما كان من الصعب عليَّ، ولم أُعْنَ بدرس أدب اللغة عناية خاصة، أن أكتب شيئًا عن هذا الموضوع، ولكن ميلي الشخصي له وقراءتي كتبه ودرسي إياه درسًا عامًّا، وحرصي على أن أعطي لقارئ مذكراتي فكرة من الأدب ومنزلته عند قوم عشت بين أظهرهم ما يقرب من الثلاثة أعوام، كل ذلك يجعلني أُقْدِم على أن أكتب كلمة عامة في الموضوع أستسمح القارئ إن وجد فيها شيئًا من التقصير أو عدم الدقة.
وإنما يدفعني أكثر ممَّا تقدم لكتابتها ما أعتقد من أن الأدب في كل أمة من الأمم هو روح هذه الأمة، هو النفس المثالية الخالدة التي تمثل أخلاق الناس وميولهم وأهواءهم، وتُظهر لنا الصفات العامة المشتركة بينهم وبين غيرهم من الأمم، والمميزات الخاصة بهم المقصورة عليهم.
كما أن مقام الأدب عند الفرنساويين، هذا المقام الرفيع الذي يجعله التاج على رأس هذه الأمة القديمة يجذب النظر إليه ويجعل كل إنسان أيًّا كان حظه من العلم أو التربية مرغمًا أن ينظر إلى حياة البلد نظرًا خاصًّا من هذه الجهة؛ فإنك حيث سرت في شوارع باريس، وأي صحيفة من جرائدها قرأت، وفي أي مكان جلست، تجد آثار الأدب ظاهرة واضحة، تجد مراسح التمثيل وتجد الروايات في زجاج باعة الكتب، وتجد النقد الأدبي على صفحات الجرائد وتسمع الناس في القهوات والأندية والمنازل والبارات، وحيث كنت يتكلمون عمَّا ظهر ويظهر من القصص والروايات التمثيلية، ويتكلمون بلهجة المهتم بها المتتبع حركتها، فلا يسعك أمام ذلك كله إلا أن تأخذ بحظ قَلَّ أو كثر من هذا الميل العام، وتمد بنظرك وتلقي بسمعك إلى ما يكتب ويقال، وتذهب إلى التياترات لترى التمثيل وطريقته والآراء التي ينطق بها الممثلون، على العموم لا يسعك إلا أن تشارك في الحركة الأدبية.
من أول ذهابي إلى فرنسا وابتدأت أتعلم اللغة الفرنساوية أطالع في قصص وكتب أدبية، وأزور التياترات طلبًا للنطق العذب واللسان الفصيح، بين هذه الروايات والقصص وجدت ما كتبته أقلام كتاب معروفين لنا ممَّن لهم مكانة خاصة في نفسي مثل جان جاك روسو وفلتير، فقرأت ممَّا كتبوا ومما كتب عنهم، وتدرجت منهم إلى قراءة العصريين حتى جاء وقت كنت لا أقرأ فيه كتابًا لمؤلف قديم.
وقرأت كثيرًا، قرأت ممَّا كتبه شعراء القرن السابع عشر وكتابه وما ألف فلاسفة القرن الثامن عشر حتى وصلت إلى آخر الكتب التي ظهرت حديثًا، وفي أثناء قراءاتي كنت آتي على كتب مترجمة عن الروسية والألمانية، وكنت أقرأ بعض الكتب الإنكليزية كما أني اهتممت إلى حد ما بقراءة كتب النقد من قلم (تين) و(لمتر) و(فاجيه) و(أناتل فرانس) وغيرهم.
وما أكتب اليوم للقارئ عن أدب اللغة الفرنساوية إنما جاء نتيجة هذه القراءة فليس بحثًا خاصًّا مرتبًا مدققًا.
رابليه ومنتيني كاتبان مختلفان في الطينة كل الاختلاف، أولهما مضحاك عالي الصوت ترن قهقهته في الفضاء ويقهقه من كل شيء، يرى الوجود والحياة والعقل والسلطة وكل ما في الكون موضعًا لأن يضحك منه، وإذا مثل شيئًا ممَّا في الحياة مثَّله غليظًا قبيحًا، ويكتفي بذلك ليجعله مضحكًا، والحقيقة أنه يضحك لأن كل شيء بلغ الغاية في الغلظة والقبح يثير استهزاءنا به وضحكنا منه، أما الثاني فرجل يأخذ الحياة كما هي ويجاهد لينال خيرها ويتقي شرها، وقد اتفق أن حل البلاء والطاعون ببلد كان هو رئيسًا عليها، فبدل أن يظهر للناس من الشهامة ما يجعلهم يحتملون مصائبهم بالصبر، كان هو أول فارٍّ من الوباء مبتعد عنه، غير أن ذلك لا يمنعه أن يكون كثير الاستخفاف في كتابته.
الاستخفاف بالحياة وما فيها طبع من الطباع الفرنساوية، ومهما حارَ به بعض الكتاب فإنك تجده ظاهرًا من حين لآخر عند هذا الكاتب بشكل لا يحتمل الشك، يستخف بالحياة لأنه يرى المضحك منها كثيرًا أكثر ممَّا يجده أي إنسان آخر سواه.
ظهرت الأسماء والآثار اليونانية والرومانية بشكل واضح عند أدباء القرن السابع عشر كما قدمنا، وتصدوا لإحياء ذكر هذه الأمم مهد الفلسفة والشعر والفن الجميل، وأكبر من كان في هذا القرن السابع عشر راسين وكورني ومليير، والأول محيي ذكر اليونان، والتالي معيد تاريخ الرومان، والثالث شاعر فرنسا الضاحك، وظهر مع هؤلاء الفحول الثلاثة شاعر فرنساوي آخر نظم حكايات وما شاكلها في شكل جديد، هذا الشاعر هو لافونتين، وظهر من الكتاب مدام لافايت مؤلفة البرنسيس دي كليف، ولابريير صاحب «الأخلاق»، ظهر إلى جانب هؤلاء عدد كبير جدًّا من الكتاب والشعراء ولكن هؤلاء هم أظهر أدباء عصرهم.
للقرن السابع عشر أو القرن الأعظم كما يسميه الفرنساويون ميزة على غيره من العصور، تلك هي عظمته، هو عظيم في كل ما فيه، ملكته عظيمة، وملكه عظيم، وشعراؤه عظماء، وكتابه كذلك، وكل ما فيه وفرنسا نفسها … هذه الصفة أبرزها (تين) غير مرة في كتبه عن كتاب يومئذٍ وعن تاريخ ذلك العصر، فوضع أمامنا لويس الرابع عشر ومظهره وعظمته وما كان يدور في بلاطه وهيبته هو وإحساسه بتلك الهيبة ومحافظته عليها في كل وقت وفي جميع الظروف، «كان يمسك عصا البلياردو كما يجب أن يمسكها لويس الرابع عشر»، وكان يسير عالي الرأس في لباسه الفخيم تزينه الدنتلات من كل جانب وعلى هامته شعره المستعار يزيده فخامة وهيبة، والناس من حوله متأثرون بذلك الوسط الذي يعيشون فيه، يجيء الرجل الشريف منهم فينتظر على باب غرفة الملك من الصباح حتى المساء لا ضجر ولا ملال، ويفرح أكبر الفرح إن هو وصل لمحادثة خادم الملك، فإذا انتهى من هذه المقابلة ذهب بعدها ليقابل مدام دمنتنون ويمر بالرسميات عينها ليصل إليها … وهذا الترتيب المراعى فيه كسوة كل شيء بثوب العظمة كان يتصل إلى من حول الملك في معاملتهم لمن دونهم وللرعية بعد ذلك بما يشبهه.
هذه الميزة البارزة لهذا العصر وما كان يتبع بلاط الملك من مقتضيات الأدب والذوق واللياقة، وما كان يستلزمه الوجود فيه من رشاقة العبارة ودقة اللفظ … كل ذلك ظهر بوجه عام في كتابات يومئذٍ حتى لابريير وموليير مع أن أحدهما نقادة مُرٌّ والآخر ضحاك من كل شيء، أما لافونتين فكان ذا طبع مستخف جوال يكره حياة البلاط وكل حياة مرتبة، كما أنه عالي الأصل فهو لا يهتم بشيء؛ لذلك لم يكن يأنف أن يدخل في شعره عبارات كانت تمجها الأذن في تلك الأيام.
لكن أظهر من ظهرت آثار العصر في كتاباتهما وأخذتهما إليها واستحوذت على نفوسهما وجعلتهما يراعيان في الشعر ما كانا يراعيان أمام الملك، هذين هما راسين وكورني، فكلاهما مهوب في شعره جد في القول لا يبتسم إلا نادرًا، وإذا أراد أن يضحك ضحك عاليًا، وما أندر ذلك إذ ما أقل ما كتبه من الهزليات، وهذه ليست أحسن ما عملوا، وقد تصديا كما قدمنا لإحياء ذكر اليونان والرومان، لكنهما بالرغم من هذا القصد عندهما لم يكونا ليرجعا إلى هذه العصور السالفة فيحللان النفس اليونانية أو النفس الرومانية ويظهرانها أمامنا، بل كانا إنَّما يستعيران الأسماء والحوادث اليونانية أو الرومانية، ثم يكسوان ذلك من شخصيتهما؛ فإن أندروماك وهوراس والسيد وكل ما في هاته الروايات من الأشخاص لا يحيي أمامنا نفسًا رومانية واحدة، كلا بل ولا نفسًا معينة ولكنه يظهر الأفكار التي كانت تجول برأس راسين أو كورني، والعواطف التي كانت تهز قلب أيهما، وموجات الإحساس التي كانت تمر بخيال الواحد أو الآخر منهما؛ لذلك نقول إنهما لم يظهرا على المرسح شخصًا واحدًا أيًّا كان معين الصفات، محدد تموجات النفس يقول ما يدفعه إليه مركزه وعواطفه، بل أظهرا أصواتًا تنادي بما كان يجول بصدر هذين الشاعرين العظيمين.
حين نقرأ شكسبير نرى أمامنا أشخاصًا ذوي حياة يسيرون يروحون ويجيئون، ويتكلم كلٌّ كما يتكلم في الحياة، ذلك أيضًا ما نجده في موليير، وهو كذلك إحدى الصفات المميزة للافونتين، ولكنك لا تجده مطلقًا في أشخاص راسين وكورني، وإنما تلمح أفكارًا أو عواطف تمشي على المرسح وكلها المنطق الدقيق التحليل النفساني الذي لا يمكن وجوده في الحياة وإنما يوجد في رأس المفكر أو الشاعر ساعة يجلس في غرفته مسندًا جبهته بيده مستعدًّا للكتابة.
ولكنهم جاءوا بهذه الأفكار والعواطف في لغة وقالب من أجمل ما يكون؛ لذلك فما كتبوا خالد يقرأه ابن اليوم ويقرأه أبناء المستقبل بنفس اللذة التي كان يقرأه ويسمعه بها أهل القرن السابع عشر وما بعده، لغة جمعت مع السهولة موسيقى شعرية تصل إلى النفس وتأخذ بالقلب وتهز الجوانح، تقرأها فتسحرك عن نفسك وتبقى مأخوذًا بها كما يأخذك إليها فلسفة أفلاطون أو نقوش رفائيل.
هذه اللغة البديعة يحس الإنسان فيها بعظمة العصر كله وتترك في الذهن هذا الأثر الباقي الذي يخلده في نفوسنا منظر وحيد الجمال، ومهما اعتبر الإنسان أفكار كتابها وبأي عين نظر لها؛ فإنه لا يستطيع دون الاعتراف بأنها لبست أحلى الكلمات وأغناها، لا تجد لفظًا معقدًا ولا لفظًا مبتذلًا، وتراكيب منسجمة تسري إلى الفؤاد وتسبق إلى الذهن وتسيل في أجزاء النفس.
اقرأ أندوماك، اقرأ برنيس، اقرأ هوراس، اقرأ ما شئت من هذه الكتب (الكلاسيك) آيات الجمال في الكتابة وأنا الضمين أنك ستخرج منها بهذا الإحساس الذي قدمت لك.
يختلف راسين عن كورني في طريقة كتابته، فأولهما إنسان دقيق الإحساس ضعيف القلب يعجز أمام العواطف القوية فلا يستطيع مصادمتها ولا مقاومتها، بل هي تحتله وتسلبه إرادته وتتصرف فيه بما تشاء وتدفعه إلى أقصى درجات الجنون واليأس، وتصل به أغلب الأحيان إلى الموت، هذه هي صفته الظاهرة في كتاباته، كلما وضع القلب في كفة والعقل في أخرى رجحت كفة القلب وغلبت الثانية بشكل عجيب.
أما الثاني فهو رجل الواجب، ومهما كانت العواطف تهيج صدور أبطاله فإنهم دائمًا يخمدون نارها ويتغلبون عليها ويعملون الواجب الذي يعمله شخص لا حرب في نفسه بين الإحساس والواجب.
ولو لم يكن هذا العيب عند موليير لكان الشاعر المجلي بين شعراء فرنسا أجمع، بل وربما كان من أشعر شعراء العالم، وإن له أغلب الأحيان لدقة في ملاحظة الناس والأشياء حتى ليكاد يخترق بواطن ما تخفي نفوسهم ليظهره لنا على الورق، ثم هو يضحك مما يرى لأنه لا يرى في العالم شيئًا يستحق الإعجاب به أو التعصب له، أو بكلمة أخرى إن هذه الحياة التي يهتم الناس بها ويعنون بها إنما هي مجموعة سخرية من كل إنسان بالآخرين يأتيها أحيانًا من غير إحساس منه بها ويستحق من أجل ذلك أن يسخر منه.
إلى جانب مليير يجيء لافنتين، وإلى جانبهما يجيء الكاتب الثائر لابريير، ولكن هذين لم يكونوا في مركز الأولين الذين كانوا من حاشية الملك المقربين، ولا بريير أعرق في البعد عن البلاط من صاحبه ولكنه لاحظ كل ما يدور ويجري فيه، ولقد رأى صغار نفس هؤلاء المدعين العظمة المرتدين بلباس الشرف الذين يهفون ويرفون بدنتلاتهم تيهًا ودلًّا وهم مع ذلك المنافقون معدن الصغر والخسة، وبلغ به الاعتقاد بخستهم وعلو نفسه عليهم حتى انقلب ذلك إلى المضاضة المرَّة؛ لذلك كان كتابه (الأخلاق) مجموعة ملاحظات صادرة من قلم كاتب شديد القسوة صعب اللسان عظيم الاحتقار للناس، بل ربما بلغ به ذلك أحيانًا إلى الحسد، والحقيقة أن هذه بذرة ثورة يبذرها هذا الكاتب الذي عاش في عصر الملكية وهي في عنفوان قوتها وعظمتها يريد أن يظهر للناس أن هناك شيئًا آخر حقيق بالاحترام غير شرف المولد وكثرة المال، هناك العظمة النفسية والقوة العقلية، بل هذه أرقى مقامًا من الأولى، وهذه شخصية لصاحبها في حين الأخرى غير متعلقة به ولا فضل له في كسبها.
ولقد ابتدأت هذه الفكرة تظهر واضحة قوية عند كتاب القرن الثامن عشر، وأصبح رجاله يقولونها ناصعة لا تحتاج شكًّا ولا تأويلًا، ويكادون جميعًا على كثرتهم يضربون على هذه النغمة التي دخلت في الذوق العام يومئذٍ، وأصبح يتمدح بها في صالونات الإشراف والأمراء، كذلك انتقل إلى هذا العصر ممَّا قبله عادة الصالونات تقليدًا لصالون الملك، فكل سيدة شريفة تجاهد لتجمع حولها نخبة من الأدباء والفلاسفة ذوي الفضل والشعراء والعلماء؛ لتكون في ذلك كمدام دمانتنون في القرن السابع عشر، ومن شأن هذا الاحتكاك أن يزيد الفكر الثائر ثورة وأن يدعو أشد الناس هدوءًا للتفكير والنظر؛ لهذا سرت في البلد حركة عنيفة هزَّتها قامت على أقلام الكتاب وألسنة المتكلمين، وزاد عدد هؤلاء ودخل من بينهم جمع كبير من النساء الكاتبات وصرن يعددن في ميدان الأدب مئات كثيرة.
أظهر كتاب هذا العصر والمبرزين منهم ثلاثة، فولتير وروسو ومونتسكيو، وهم جميعًا يتحدون في اعتبار أيَّامهم أيام ضعة وفوضى ولكنهم يختلفون اختلافًا كليًّا في طريق تفسير ذلك، ولا بدع في اختلافهم؛ فإن هذا الهياج الفكري العام الذي كان موجودًا يومئذٍ كان من شأنه أن يخرج رؤوسًا تختلف اختلافًا كليًّا في طريق البحث والنظر، كما أن طبائع الكتاب الثلاث الشخصية وأخلاقهم تختلف، وكذلك حالهم ومولدهم والوسط الذي عاشوا فيه، فأحدهم باريسي خفيف الروح ميال لأن يسخر من كل شيء، وثانيهم سويسري الأصل وضيعه عاش في شبه التشرد طول شبيبته ولكنه رأى الترف والرفاه الذي يعيش فيه الأغنياء فحمله ذلك على النفرة منهم، والثالث يمت بنسبه إلى الإشراف ورجال الحكومة فهو دائم الفكر في أمور الحكومة.
هذه الحركة الشديدة التي يتصف بها هذا العصر من عصور تاريخ فرنسا تجعلنا غير قادرين على أن نحكم عليه حكمًا عامًّا مثل حكمنا على القرن السابع عشر؛ فإنَّا نرى أنفسنا أمام أدب يتشعب إلى نواحٍ شتَّى وأفكار تختلف اختلافًا ظاهرًا وعواطف غريبة متضاربة تجمع بين حب العظمة الملوكية والميل إلى الحرية والديمقراطية، وفي صالونات السيدات العظيمات يجتمع أقوام من أطراف متنائية في المولد، يجتمع أشراف أبناء أشراف ومعهم روسو ومن هم في طبقة ميلاد توازي طبقته، ويجلس الجميع وبينهم شبه مساواة تمكنهم من التفاهم والتعارف، لكن ذلك لم يمنع بعض الأشراف من الاعتصام بحصونهم والبقاء فيها والبعد عن العاصمة وعن الحركة الأدبية والبقاء على العقائد القديمة والاستمساك بعوائد عائلاتهم والإيمان بالفرق الذي بينهم وبين باقي الخليقة.
في هذا العصر، عصر الصالونات، حيث كان يجتمع الرجال المعروفون والسيدات النبيلات ظهرت العواطف في شكل جديد، فأصبحت في أحيان كثيرة مجرد لذَّة يتذوقها الرجل أو المرأة فإذا سئمها تركها حتى إذا شاقته عادَ لها وإن هو وجد شيئًا ألذ انتقل إليه؛ لهذا كنت ترى لكل رجل عددًا من المعجبات به المحبَّات له ولكل جميلة ذيلًا من المملقين المحبين، أما هذه العاطفة القوية المتينة التي تأخذ بالقلب والنفس وتستولي على الوجدان وتصرف على ما تشاء الحياة، هذا الحب الذي ينسينا وجودنا وأحزاننا ومخاوفنا ويجعلنا نفنى في ذكر المحبوب ونهيم به ولا نعرف سواه، ونهزأ بالحياة إذا فقدناه، فلم يك موجودًا في الأخلاق يومئذٍ ولا في العقائد، لذلك خلَتْ كتب الأدب منه إلى حد كبير وصار لا يجول إلا بخيال نفر لا يُعَدُّون.
أشد الكتاب الثلاثة الذين أخذناهم عنوانًا للعصر والمبرزين فيه، أشدهم ميلًا للعواطف وتقديسًا للإحساس وإعلاء لشأنه إلى حد أن يعده المصرِّف لنا في الحياة هو جان جاك روسو، وهو مع ذلك أكثرهم ميلًا مع الأهواء وتقلبًا أمام رياح الحب وانتقالًا للمحبوبات الجديدات، ولو شئنا أن نذكر جميع من أحبهم وتعلَّق بهم ولزمهم لذكرنا كثيرات، فمنهن مدام دفارنس ومدام دبناي وماداموازيل جرنفريد وغير أولئك ممَّن ورد ذكرهن في اعترافاته، وفي كل مرة كان يظهر نفسه الوامق المأخوذ التائه الرشد من شدة الحب، وفي كل مرة ينعقد لسانه ويعتريه الحصر أمام محبوبه فلا يقدر من عظيم ما به أن يبوح بمكنون صدره، ثم إذا هو بعد ذلك انتقل أن رأى سيدة أخرى أعجبته فمثل معها الدور عينه، هذا مع الاعتراف له بأنه كان أيام شبابه كلَّما أضناه التنقل رجع إلى دفارانس أول محبوباته وأسهلهن فقضى معها أيامًا يتمتع بمالها وبها بقدر ما يسمح له طبعه الحي وعلته الملازمة. فإذا شبع منها انتقل لباريس يبحث عن محبوبة أخرى.
وإنما نفسر هذا الطبع عند جان جاك بالنشأة التي نشأها وبما عنده من الخيال المتسع إلى حد الجنون وبميله إلى الترحل والبداوة.
ولد جان جاك من أب ساعاتي، وماتت أمه ساعة منحته الحياة فنشأ يتيمًا، وكان له أخ لم يكَد يبلغ سن الإدراك حتى فارق أهله وبلده ولم يسمع به أحد بعد، وعني بروسو عمٌ له، فلما بلغ الصغير سن التعليم أراد وصيه أن يلقنه صنعة وأودعه عند نجار فأبَتْ عليه نفسه أن يتعلم وجاءت حوادث فارق من أجلها بيت معلمه وهام على وجهه، ثم ألقى عصاه بعد ذلك عند عجوز عرَّفه بمدام دفارنس فعنيت هذه به وردته عن كاثوليكيته إلى البروتستانتية، وتركها بعد ذلك تدفعه نفسه الرحالة إلى أن يضرب في الأرض فاشتغل خادمًا على مائدة بعض الإشراف، ثم طرد فالتجأ إلى دير ولم يبقَ به إلا قليلًا حتى أراد أرباب الدير به السوء وأراد أحدهم ارتكاب المنكر معه، هنالك فَرَّ الشاب هاربًا وجعل يتعيش من بعض حرف يدوية فكان ينقل كتب الموسيقى بأجر زهيد ويشغل وقته بقراءات شتى، ولقد كان ولوعًا من أول أيامه بالقراءة، فلما أينع ذلك وظهر عنده أثره ابتدأ يكتب فأظهر أول الأمر أقاصيص لم تَحُزْ رواجًا، ثم حماه جماعة من السيدات الأشراف واهتموا له وبذلك ظهر فضله، وكتب بعد أن استقر به الأمر كتابه في التربية (اميل) وأراد نشره فصودر طبعه في هولاندة، فأمرته السلطة بالخروج من فرنسا، ثم كتب النوفل هلويز، وانقطع في أخريات أيامه بعد أن قضى شبيبة مضطربة وتزوج بابنة غسالة شنعاء، وكتب اعترافاته ثم «أحلام المتنزه المنفرد» التي نشرت بعد وفاته، وفي هذه الاعترافات والأحلام يرى الإنسان علائم الجنون بادية ظاهرة حيث يرى روسو شديد الاعتقاد أن الناس يريدون الفتك به وأنهم جميعًا يطلبون هلاكه لأنهم يحسدونه ويكرهونه، وأول كلمة في الأحلام «ها أنا وحيد في العالم هجرني الناس».
وألف غير الكتب المتقدمة كتاب «العقد الاجتماعي»، وقد كون فكرة هذا الكتاب عنده وجوده قنصلًا لفرنسا بالبندقية، كذلك كتب خطابه لدالمبرت عن الفنون، وكتب كثيرًا سوى هذا ممَّا هو أقل منه تداولًا وقيمة.
ولقد وضع في اعترافاته تاريخًا مطولًا لحياته كما قوَّى بها أساس (الرومانتيسم) فنقل الأدب بذلك خطوة إلى الأمام، وجعل الكتاب يرجعون عن مجرد قص الحوادث إلى التحليل النفساني لإبطالهم تحليلًا مأخوذًا من الواقع بوصف حالاتهم وعواطفهم وما يحيط بهم، كما أنه في «أميله» وضع مذهب الحرية المطلقة في التربية فقرر وجوب جعل الطفل معلم نفسه إلى أقصى الحدود، أما عقده الاجتماعي فمع أنه أقصد في الأدب من الاعترافات ومن الأميل فقد حاز شهرة أكثر منهما، ومبناه أن الناس أول ما ألَّفوا الجمعية تعاقدوا على ذلك، وقد أظهر النقاد فساد هذه الفكرة وخطأها، أما النوفل هلويز فهي الرواية التي ظهر فيها رومانتيسم جان جاك في أجلى مظاهره، رواية عواطف وإحساسات وهي كذلك مملوءة بالأفكار والآراء.
والفكرة الأصيلة في أفكار روسو هي أن الرجل طيب في أصله، وأنها المدنية هي التي أفسدت حاله وغيرت طيبة طبعه، لذلك كان دائم الدعوة للرجوع إلى ما يسميه «الحالة الطبيعية» شديد الانتقاد لكل ما يعده من مبتدعات المدنية، وربما كانت هذه الفكرة هي التي ساقته إلى الانتقاد المر للفنون الجميلة واعتبارها مفاسد للأخلاق وإن كان رأيه في ذلك جاء سابقًا إلى تقريره حسن «الحالة الطبيعية» بزمان.
ومع دعوته للرجوع إلى الحالة الطبيعية دعا كذلك للمساواة بين الناس وطلبها، ولا شك في أن الأسباب التي حملت لابريير في «الأخلاق» على انتقاد الأشراف كانت أقوى عند روسو وأدعى لتحمله على الثورة ضد كل شرف نَسَبي.
هذه أفكار روسو التي سادت زمنًا غير قليل والتي بنيت عليها مبادئ شتى، ثم التي ابتدأت تتقهقر بظهور النقد العلمي والنهضة الحاضرة.
ولقد كان روسو متحمسًا لها إلى حد مدهش، كان يناصرها كما يناصر نبي رسالته، ويتحمل من أجلها الضرر والهول، ويقاسي النفي والفقر، ويصيبه الويل من كل جانب، وهو مع ذلك لا يفتأ ينادي بها، كان من هؤلاء الذين تستولي عليهم الفكرة فتأخذهم عن نفسهم وتحقر الحياة أمام عيونهم وتجعلهم يعيشون لها ولإبدائها ولنصرتها، وهؤلاء يبقى ذكرهم في العالم عظيمًا لأنهم عاشوا للعالم لا لأنفسهم؛ لذلك كان روسو يستحق الإعجاب.
أعرق في الفرنساوية وأرق وأدق من روسو وأكثر كتابة وأرقى في أيام حياته مقامًا كان فولتير، فقد وُلد في باريس بالذات من عائلة باريسية قديمة سنة ١٦٩٤ وأعده والده لأعمال الكسب في الحياة فأبت عليه نفسه ذلك وأراد من أول أيامه أن يكون بين الأدباء، ولست في حاجة لأعرِّف فولتير فكل من يعرف أقل طرف من الأدب الفرنسي يعرف اسمه، ولكني أنقل هنا حكم (برنتير) عليه حكمًا صادرًا من رجل من كبار نقاد الأدب والذين درسوا تاريخه قال: «ليس بين رجال الأدب الفرنسي إلا ثلاثة أسماء أو أربعة أكثر عظمة من فولتير، وإذا كانت ثمَّت من هم أشرف منه وأكثر بحق احترامًا فلا أجد أعرق منه فرنسية، ويعكس لنا صورة صادقة من أنفسنا ولا أحد أظهر منه في أوربا بل أقول في العالم أجمع».
هذا هو حكم عالم أديب على فولتير، وربما لم أكن في حاجة لنقله فلا أحد يشك في عظمة هذا الكاتب الشاعر الفيلسوف الذي أخذ بيده رئاسة رجال الأدب والعلم في عصره، وكتب في كل المواضيع بنفس دقيقة لطيفة وذكاء نادر وسعة اطلاع مدهشة، ولقد كان ولوعًا بالعظمة متطلعًا إليها يعمل كل ما استطاع للوصول إلى غايته ولا يقف شيء أو اعتقاد في سبيله، وسافر وصحب كثيرًا من الأشراف وذوي الإمارة، وكان صديقًا للمعجب به أمير بروسيا الفيلسوف فرنند الثاني.
وهو من ملوك الكتابة كما أنه من ملوك الضحك، قلمه سيال لطيف عذب وتصويره حلو وروحه خفيفة، كتابته دائمة الابتسام لا تقطب حاجبيها ولا تصيح ولا تغضب، تحس وأنت تقرأه بابتسامة دائمة تطوق ثغرك حتى وأنت تقرأ قصص أشد الحوادث إثارة للألم، ولا تغضب أنت منه مهما كان كلامه يناقض اعتقادك، بل تكون أمامه كمتدين أمام مجوسية بارعة مهما حوى قلبها من العقائد لا يفتأ ينظر إليها ويستعيد نظرها ويود لو تكلمه، فإذا كلمته لم يفارقها وإن لم يعتنق عقيدتها.
هذا هو الأثر الذي يجده قارئ فولتير، وهو لا يخرج منه بمذهب جديد ولا بعقيدة معينة، كما أنه هو لا يدعو القارئ لمذهب ولا لعقيدة، ليس كروسو الذي يحسب ما يقول الحق من عند الله بل هو كرابليه ولافونتين يأخذ الحياة ضاحكًا منها لاهيًا بها عاملًا ليكسب من وجوده فيها قدر ما تستطيع هي أن تعطيه.
ولقد كان شاتوبريان أشبه في حملته وكبريائه بروسو منه بأي شخص آخر، فكما كان روسو يقول «إني أحسن الناس» كذلك كان شاتوبريان لا يفتأ يضع نفسه في كفة تقابل الكفة التي يضع فيها نابليون.
في هذا القرن التاسع عشر ظهر شعراء فحول بَزُّوا من قبلهم ومهدوا الطريق لنوع من الشعر جديد، أولئك هم لامرتين وفكتور هوجو والفرد دموسيه، وكلهم حقًّا فريد لا يشق لهم غبار، جاءوا بالخيالات القدسية العالية فوضعها في أجمل لباس من اللفظ وأرقه وأقواه.
ولكنهم يختلفون جميعًا في النزعة والخيال الشعري، فبينا لامارتين شاعرًا لطبيعة يتسمع على أصواتها ويجد في هزيم العواصف وحفيف الريح وفي الموج والجبال وصفحة الماء النقية وفي القمم العالية وقيعان البحور العميقة وفي الغدران والبحيرات والأشجار والزهر والسماء والأرض، بينما هو يجد في كل ذلك جمالًا يثير من نفسه ويهيج عواطفه ويبعث إليه أعذب الشعر، إذا دي موسيه في تعشُّقه وغزله تتغلب العواطف على أوتار قلبه فترسل إلينا منها رنينًا لذيذًا يخالطه اليأس والألم، وإذا هو يناجي الليالي في وحدتها فتجيبه أصداؤها بكلمات وآيات، ثم إذا هوجو العالي الصوت القوي الفؤاد رافعًا عقيرته يتغنَّى مرة فيطرب الخليقة ويأسى أخرى فيستبكيها ثم إذا هو أخذته رعشة غريبة فطار في الجو وملأه بندائه ناصرًا الحرية طاعنًا على الاستبداد ومستثيرًا من كل الناس إعجابهم وتصفيقهم.
هؤلاء هم الشعراء المعروفون في القرن التاسع عشر، أما الكتاب فكثيرون وأظهروا مبادئ في الكتابة جديدة انفصلوا بها عن روسو وعن الرومانتيسم الذي بقي معشوقًا في ألمانيا.
من أكبر هؤلاء الكتاب جوستاف فلوبير وأميل زولا وأناتل فرانس وبيير لوتي وبول بورجيه وكل أولئك قصصيون، ورنان وتين وفاجيه ولمتر وهؤلاء نقاد مؤرخون، أما الفلاسفة فقد انفصلوا مدرسة وحدهم وأكبرهم في العصر الحاضر ريبو وبرجسون ودركيم.
نترك جماعة الفلاسفة فليس هذا موضع الكلام عنهم، كما أنا نأخذ من النقاد والمؤرخين الجانب الذي يمس الأدب عن قرب، ونذكر كلمة عن كل من الآخرين بقدر ما يسمح به المقام.
لكن ميزة دموباسان هي حكاياته القصيرة، فلقد كتب من ذلك عددًا كبيرًا ضمَّنه أوصافًا وآراء وأخلاقًا شتى، وهو يمتاز في كل ما كتب بسهولة الأسلوب واللفظ بحيث تسري معه مأخوذًا بطلاوته غير شاعر بضجر ولا بملال، لكنه بعيد عن أن يدخل من جهة المعنى إلى باب العويص من الأفكار، بعيد عن ذلك لسبب أو لغير سبب، فربما كان الدافع له إلى ذلك إحساسه بالفناء الذي ينتظر كل موجود فهو لا يرى في العالم ما يستحق الفكر أو ربما كان بعيدًا بقواه وطبعه عن عويص الأفكار والمسائل.
لكن له أيضًا «رامنتشو وصياد أسلانده» وفيهما يظهر رجل عواطف وإحساسات وإن كانت صفته الغالبة في هذين الكتابين كصفته في غيرهما هي وصف كل ما تقع عينه عليه وصفًا مسهبًا جميلًا يبعث إلى الذهن خيالًا لطيفًا غير محدود ممَّا يصفه.
ولقد ساقه خوف العدم والمتاع بكل ما على الأرض واستباحة كل شيء إلى نفي الدين والإله والأخلاق، واعتبار ذلك كله أكاذيب وحديث خرافة لا صحة له ولا فائدة، ونصحه بوجوب الأخذ من هذه الحياة الفارة منَّا أحلى ما فيها.
ولمثل هذه النتيجة يريد أن يصل كاتب (الإتاب)؛ إذ بعد أن حلل أمامنا عائلة من العائلات الوسط التي وصلت بعض الشيء إلى مكانة في الجمعية بسعي ومثابرة رب العائلة أرانا هذه العائلة وهي تنهار ويحل بها الخراب والتعس يقبض على أكبر أبنائها بتهمة النصب طلبًا للمال، ويضيع شرف ابنتها الوحيدة لاختلاطها بوسط غير وسط آبائها، ويبلغ اليأس من نفس الأب ويحل الشقاء بالجميع حتى تنتشلهم يد بارة، يد رجل عريق الأصل متمسك جد التمسك بدينه لأنه يرى في ذلك الصلاح والخير.
ففي كل ما كتب بورجيه يرى الإنسان الفكرة الملازمة من أن الخروج على القديم والجهاد لمساعدة محدثي النعمة وصفهم مصاف الأشراف والاعتداد بالقوة المالية، كل ذلك داعٍ لتقويض دعائم المدنية دافع بالأفراد إلى التعس وبالمجموع إلى التلاشي.
ولا شك أن هناك شبهة من الحق فيما يكتب الفيلسوف الكاتب، ولكنه يتغالى ويصل في تغاليه إلى حدود بعيدة تجعل الغاية التي يرمي إليها تجيء بمنطق فاسد بعض الأحيان، وإنَّا لنتساءل إن كانت هذه النتائج التي أظهرها لنا كنتائج حتمية للأفكار والوسط الحاضر هي حقيقة نتائج حتمية، وهلَّا يوجد إلى جانب هذه الشرور التي تنجم عن الجهاد للمساواة بين الناس خيرات أخرى يساعد الوسط على نموها وتقوى بالزمان، ليس هناك شك في ذلك أيضًا ولكن بورجيه مذهبي حزبي.
لكن فكرة الوسط هذه لم تنتج عنده ما أنتجت عند بورجيه من (الترادسيناليسم) بل لقد كان على العكس من ذلك أكبر دعاة التقدم والمنادين والمعتقدين بأن العلم سيصل بالإنسانية إلى درجة عليا.
ويمتاز على بورجيه برشاقة تعبيره وطلاوته؛ فإن أسلوبه أشبه شيء في سلاسته بالماء الجاري فوق أحجار ثمينة يظهر من خلاله ألوانها وينم في صفائه عن قيمتها، أسلوب عذب ويكاد في رقته ينسيك اللفظ ليتركك تهيم بالمعنى كما تشاء وتحب، وأسلوب يستحيل أن يعتريك الملال لقراءته، فهذا الكاتب الفيلسوف الكبير قد جمع إلى جزل المعنى حلو اللفظ، وإلى رشيق التعبير بديع الفكر، وهو في ذلك يصل إلى درجات من السحر لا يمكنك معها أن تمنع نفسك من الإعجاب به إلى حد عبادته، ولا تكون في ذلك مغاليًا.
ولقد كتب فيما كتب (مذكرات عن باريس) ملأها بملاحظات ومشاهدات مما في العاصمة الكبيرة، وإني لأجد هذه المذكرات من أبدع ما كتب؛ ففيها من دقة الملاحظة وحسن العبارة وبديع التهكم ما يندر أن يجده الإنسان في كتاب آخر، ومع هذا فالقارئ ينتقل دائمًا في روض مختلف ألوانه كلما انتقل إلى صحيفة جديدة من الكتاب.
أما ملاحظاته عن إنكلترا فهي أكثر جدًّا؛ لأن له فيها غرضًا يرمي إليه هو مناصرة الأرستقراطية الحرة على الديمقراطية المطلقة؛ لذلك هو هنا أقل ابتسامًا وخفةً منه في باريس.
ولقد سلك في النقد طريقة أعدها أحمد الطرق، هو يعرض أمامك دائمًا صورة من العصر والوسط الذي عاش فيه الكاتب الذي ينتقد، والأفكار السائدة يومئذٍ وآداب الحديث والمقابلة، وكل ما يمكن أن يكون ذا أثر في ذوق الإنسان أو في رأيه، ثم هو بعد ذلك يشرح الظروف الخاصة بالكاتب الذي أمامه وعلاقة هذه الظروف بالأمور العامة التي قدم، وأثر هذه وتلك عليه كمفكر وكاتب، وينتقل متى انتهى من ذلك إلى ما هو أخص منه فيأخذ الكتاب الذي يريد الكلام عنه أو الفكرة التي يريد نقدها أو تمحيصها.
هنالك تتكون أماك فكرة معينة محددة عن الكاتب وعصره وكتابه، ويمكنك أن تشارك تين في الحكم عليه حكمًا مدققًا.
ها نحن استعرضنا أمام أنظارنا أسماء كثيرة من كتاب وأدباء فرنسا في العصر الحاضر فلوبير وزولا ولوتي وبورجيه وتين وغيرهم، ولكن أحب اسم بين القصصيين المعاصرين إلى نفسي، الاسم الذي أضعه إلى جانب اسم تين، وأعجب به إلى حد العبادة إعجابي بتين، ذلك هو أناتل فرانس، وإني لأختتم بكلمة موجزة عنه هذه الكلمة المقتضبة عن تاريخ الأدب الفرنسي.
أناتل فرانس هو أكبر كاتب في العصر الحاضر يمثل فرنسا، يرى القارئ في كتابته صورة صحيحة من هذه الأمة وحركتها الفكرية والروح السارية في نفوس الطبقات المختلفة من أهلها روح التهكم والاستهزاء، كما يقع في كل صحيفة على الأفكار العصرية في العلم والفن والنظرة المجردة، ويرى ذلك كله بلغة أصفى وأرشق ما يمكن.
والذي يدفع أناتل فرانس للابتسام والتهكم بكل شيء ذلك هو أنه يرى العالم يسير على قواعد طبيعية خالدة ليس في طاقة البشر تغييرها، فنداؤهم ضدها وصراخهم طلبًا لتغييرها وتبديلها واقتناعهم أنهم قادرون عليها يجعلهم أمامه كالطفل الضعيف يجاهد ليدفع بيده صخرة عظيمة، هو لن يصل لذلك ولكن جهاده وتوتر يديه الضعيفتين واحتقان وجهه وصياحه يسبها من وقت لآخر، كل ذلك يجعلنا نبتسم منه.
إلى جانب إحاطة فرانس بالأفكار العلمية الحاضرة وبالمضاربات النظرية القديمة، نجد دقته في الذوق والفن؛ فكل وصف من أوصافه يدل على نفس متشبعة بمعنى الجمال وقوانينه، يصف لك امرأة فتراها حية متحركة تسير وتبتسم وتدل وتغضب، وهي في ذلك كله جميلة أدق الجمال، وترى في (الزهرة الحمراء) ممَّا يثبت ذلك شيئًا كثيرًا، ترى بطلة الرواية (تريز مارتان) في كل حركاتها وسكناتها، تراها واقفة أمامك تنظر في المرآة وتقدر في نفسها جمال نفسها، وتراها في سريرها يسترها قميص نومها، وتبين من تحته خطوط جسمها النقية، وتراها في يد حبيبها تائهة في عالم الرغبة والشهوة، وتتسمع أثناء ذلك كله على نفسها وما يدور بباطن إحساساتها وفي أعماق قلبها.
في هذه الرواية البديعة ترى أفكارًا شتَّى عن الفن والمعمار والتماثيل وكل ما تريد أن ترى في العالم الجميل.
أما كتابه (على الحجر الأبيض) فهو كتاب فلسفي في نصفه الأول، يأخذ أبطاله بأطراف المناقشة في مواضيع نظرية كالحقيقة وتعددها والناس وحياتهم، وهو في نصفه الثاني عبارة عن حكاية المبدأ الاشتراكي المنتظر، وينتهي هذا النصف بتهكم على ما في الاشتراكية ممَّا ينافي الطبيعة البشرية.
وكتابه عن جزيرة البانجوان، حيث يحكي تاريخ فرنسا قد خصص منه قسمًا كبيرًا لقضية دريفوس…
لو شئت أن أكتب عن جميع كتبه، اضطررت أن اجتزئ على قليل جدًّا ما فيها؛ ولذلك أكتفي بما أوردت عن الأفكار العامة لهذا الكاتب المبدع الذي أكتفي في القول عنه بأنه أحسن كتاب العصر الحاضر.
انتهيت الآن من كلمتي الموجزة التي أردت أن أضع عن الأدب الفرنسي، وأعيد للقارئ أني إنما وضعتها كتكملة بسيطة لمذكراتي عن أوربا، وربما جاء وقت يتسنَّى لي فيه أن أكتب طويلًا عن فرنسا وأدبها.