تطور فكرة المسؤولية في العصور المختلفة
يجمل بنا قبل أن ننظر في التاريخ — نستفسره عن الطريق الذي اتبعته فكرة المسؤولية في سيره وأين هي اليوم من هذا الطريق — أن نلخص هنا في بضعة أسطر ما ذكرناه في الكلمة السابقة عن هذه الفكرة وكيفية تكونها في النفس؛ وذلك لأن هذه الكلمة التي نكتبها اليوم ليست إلا بيانًا تاريخيًّا واجتماعيًّا لكلمتنا السابقة يقصد به توضيح تلك الكلمة وإقامة الدليل على صحة الأساس الذي قامت عليه.
فقد ذكرنا أن فكرة المسؤولية تدخل إلى ضمير كل فرد من الأفراد على الصورة التي تنعكس بها فيه وحدات الإيمان اللازمة لحياة الجمعية التي يعيش فيها ذلك الفرد، وإن وحدات الإيمان هذه هي القواعد والعقائد التي تستلزمها ضرورات الاجتماع على اعتبار أن الإخلال بها يضر بحياة الجمعية أو يفسد عليها طمأنينتها، وقررنا أن انعكاس هذه الصورة في الضمائر الفردية يكون تامًّا في الجمعيات الساذجة التي لا تزال على الفطرة أو تكاد، وفي الجمعيات الثابتة أركان العقائد فيها على نحو لا يحتمل الشكل، ولكن لمَّا كانت الإنسانية قد قطعت أجيالًا طويلة من مراحل حياتها فقد اعترى هذه الصورة شيء من الإبهام في الجمعيات التي امتدت إلى نظامها الفوضى العقلية والخلقية، كما أن أكثرية الأفراد إن لم نقُل كلهم في كل الأمم قد تأثرت نفوسهم بمؤثرات الوراثة وطوارئ الحوادث وتضارب العقائد القائمة في الوسط الزماني والمكاني الذي هم فيه، وأدَّى ذلك إلى أن انعكاس صورة الجمعية جعل يختلف ولو اختلافًا جزئيًّا في نفس فرد عنه في نفس الفرد الآخر، وقد بلغ هذا الخلاف عند أفراد قلائل حدودًا غطت على صورة الجمعية أو كادت، وهؤلاء الأفراد هم المجرمون بالخلق والمجانين العظماء، والأكثرين من هؤلاء الآخرين ومعهم طائفة المفكرين الذين لا يكتفون بقبول فكرة المسؤولية كما تصلهم من طريق الجمعية، بل يحللونها ويبحثون هل تضعف في نفسهم صورة الجمعية وما تلقيه في نفس كل منهم من بذرة فكرة المسؤولية، فتتقوى عند الأولين الملَكة العملية التي تدفع بعضهم لجذب الجمعية إلى إيمانه الجديد الذي أفاده من مضطرب العقائد التي تبعث بها الفوضى إلى مختلف أركان الاجتماع، وتقوي عند الأخيرين الحال الفكرية إلى حد يضعفهم دون العمل ويجعل منهم أساطير إيمان المستقبل يكتفون بالنظر إليه وتقرير ما يجب أن يكون فيه، وهؤلاء وأولئك يسعون بالجمعية إلى التقدم؛ لأن النزعة الفردية ليست إلا صيحة الجنس إلى الكمال، وأما المجرمون الذين يعملون على تدهور الجمعية فلا يبقى لعملهم أثر بعدهم، بل يموتون وتتخطى الجماعة ذكرهم دون الوقوف عند ما يحملون إلا وقوفًا وقتيًّا يقاس مبلغ زمنه بمقدار ما كان لهم في وسط الجماعة التي عاشوا فيها من سلطان وبطش.
هذه هي النظرية التي قررنا في كلمتنا السابقة، وظاهر أنها ترتكز على قانون اجتماعي لن تجد له تبديلًا، ذلك هو سلطة الجمعية المطلقة على الفرد وتحكمها في أمره تحكمًا، لا يجعل له من التصرف إلا بمقدار ما لا يتعلق مباشرة بحياتها.
ولقد رأيت في بعض كلمات اطَّلعت عليها أخيرًا كتابًا ينكرون هذا القانون، فناقشناهم فيه، فتبين لنا أن اعتراضاتهم مبنية على عدم دقتهم في الإحاطة به وفي تصوره، وكما أن سوء وضع حجر من أحجار الزاوية في بناء من الأبنية مهما كان ضخمًا يجر إلى تداعي هذا البناء وسقوطه على الرغم من زخرفه وروائه، كذلك فقد بنوا على تصورهم هذا نظريات طويلة عريضة ضربوا لها الأمثال وحسبوا أنهم أقاموا عليها الأدلة مع أن هذه الأمثال والأدلة هي إمَّا بعيدة عن أن تكون متعلقة بنظريتهم أو هي فاسدة الأساس المنطقي فلا يمكن أن تبقى.
وبلغ من غلوهم في تصورهم أن قرروا أن الجمعيات الأولى هي في سلطة فرد من الأفراد هو رئيسها يصرفها كما توحي له بذلك شهواته.
هذا الأب كان هو ذاته أثرًا من الجماعة التي يرأسها، أي أن كل مكونات شخصيته من عقائد وأخلاق ونظام تفكير وطرائق معيشه كانت مرتبة على النحو الذي كونته هذه الجمعية قبل وجوده بأجيال الأجيال، وفرد هذا شأنه لا يمكن أن يسير في الحياة إلا السيرة التي تملي عليه بها هذه المكونات، اللهم إلا أن يصيبه خبل في عقله يخرجه عن متعارف الناس، أما لم يصب بهذا الخبل فهو متأثر قطعًا بهذه المؤثرات التي كوَّنته هو في جميع وجوه حياته، فإذا أصيب بالجنون احتمله الناس زمنًا وقد يتأثرون به ولكن تأثرًا وقتيًّا ينتهي بقيام أحد تملأ صورة الجمعية نفسه فيقود الباقين ضد هذا الآخر المجنون ثم يحل غيره محله.
هذا هو ما شوهد دائمًا في الجمعية القديمة، ولا يرد عليه أن الشعب في اتباعه الصائح الجديد كان متأثرًا بفرد من الأفراد، ولأن هذا الفرد لم يكن إلا الصيحة الخارجة من أعماق قلب الجمعية لا تلبث الجمعية كلها أن تجيب نداءها وتنضم إليها كما تنضم قطرات الماء المتباعدة واحدة للأخرى لمجرد وجود قطرة أقوى وأكبر من سواها ولكنها متحدة في الخواص مع سائرها.
والمصلحون أنفسهم الذين يحدثون التغييرات في نظام الجماعات لا يحدثون من ذلك في الواقع إلا تغييرات في الشكل لا في الجوهر، أو هم — بكلمة أدق — ينظمون شيئًا موجودًا في قلب الجمعية ولكن في حالة التبعثر، ولا يخلقون شيئًا جديدًا ولا غير موجود، ولسنا نريد بذلك التصغير من شأن هذه المهمة، بل هي في نظرنا أكبر وأعظم ما يستطيع الفرد عمله في الحياة، كلا بل إن قيام رجل واحد بها دليل على أنه يستطيع أن ينتج بمجهوده الفردي ما قد تعجز مجهودات مجتمعه عن إنتاجه، ولكنَّا نريد أن نقول إن المبادئ والنظريات ووحدات العقائد والأديان وقوانين الظواهر الطبيعية والاجتماعية هي كلها أحياء من أنواع مختلفة موجودة في الجمعية وجود الخلايا المختلفة في جسم الفرد، ولكنها لا تشعر بها إلا عَرَضًا أو لمس الحاجة إليها كما لا يشعر الواحد بما يحويه جسمه من الخلايا، بل وكما يجهل الأكثرون بعض أعضاء مهمة ذات عمل حيوي من أعضائهم، ثم يحصل أن يقع أحد أفراد صدفة على أحد هذه الأعضاء أو يستلفت نظره أمر كما استلفت سقوط التفاحة نظر العالم الكبير نيوتين، ولكن الموفَّقين في الاستنتاج توفيق نيوتن قليلون، فيترك الأكثرون مشاهداتهم حتى يجتمع عدد منها تحت نظر أحد المفكرين أو المصلحين، يرتبها وينسقها حسب ما توحي له به ملَكاته التي أفادها إيَّاه الاجتماع والوراثة، فإذا تَمَّ له ذلك نادى بها فيشعر الناس جميعًا وقد تَمَّ في نفوسهم من قبل ذلك إحساس بملاحظات الأفراد السابقين ما تحويه هذه الصيحة من اتفاق مع مشاعرهم، وهنالك يسمون هذه الصيحة الجديدة حقيقة يأخذون بها وتصبح آية ظاهرة من أي إيمانهم، ويعتقدونها مذهبًا جديدًا مع أنها ليست في الواقع إلا هاتيك الأحياء المبعثرة المحسوس بعضها إحساسًا تامًّا، والمحسوس بالبعض الآخر عن طريق الحواس والوهم اجتمعت معًا وكوَّنت موجودًا جديدًا، كما تكون العناصر المختلفة عند اختلاطها الكيماوي عنصرًا جديدًا هو جماعها وإن اختلف عن كل منها منفردًا.
على أن هذا الموجود الحي الجديد لا تبقى حياته ولا يضمن استمراره إلا يوم تتفق الجماعة على التسليم به كائنًا بينها، فإن هي لم تسلم به فإمَّا أن تشهر عليه حربًا عَوانًا تنتهي دائمًا بانتصارها واستئصاله، وإما أن تهمله وتتركه فيبقى ضعيفًا ضئيلًا يتطلع للحياة ولا يصل إليه من شعاعها إلا مقدار ما يستمهله في الحياة حتى يموت أو حتى ينشر عظيمًا قويًّا، وإما تطول الحرب بينه وبين الجماعة بإسعاد بعض قوى تعارض الجماعة وتناضلها وتشغلها بعض الشيء عن إماتة هذا الخلق الجديد وإفنائه.
وهذا الحال الأخير هو شأن المبادئ والمدنيات التي يدخلها متحكم أجنبي في بلاد محكومة، تبقى روح الجماعة تناضل هذه المبادئ والمدنيات إلا ما كان منها متفقًا مع أي إيمانها الخاصة، أو مرتبًا لأحياء موجودة فيها ومستعدة للظهور، هذه الأجزاء من المدنية الجديد تبقى وتندمج في نظام الجمعية المحكومة، ولكن ما سوى ذلك لا يمكن أن يألفه الناس أو أن يدخلوه في أي إيمانهم؛ لتتحكم مدنية الغرب ما شاءت في أقطار الشرق، فلكل أمة من أمم الشرق عقائد وآي إيمان ومبادئ وأنظمة حيوية مهما قسرتها القوة فهي تبقى تناضل ولا يمكن أن تموت أبدًا؛ فإن طبيعة الأرض والجو وآلاف الأجيال التي مرت بالناس تضمن حياة هذه المبادئ. بلى، ولئن استئصل السكان الأولون وأحل محلهم سكان آخرون فإن بقايا مهما قلت من المبادئ القديمة تبقى وتقوى، ولكن إذا لم يتم الاستئصال فإن النواة لا يمكن تغييرها؛ ولهذا نرى الشرقي إلى اليوم مهما كان متورطًا في الربا أو في الخمر أو في بعض ما لا تشمئز منه المدنية الأوروبية، ولكنه محرم بقواعد اجتماعنا نحن يشعر دائمًا في أعماق قلبه كأن صوتًا يناديه: تعسًا لك أيها الشقي، أفما ترجع عن غوايتك! هذا الصوت هو الضمير المنطبعة فيه آي الاجتماع ويتوارثه الأجيال خلف عن سلف حتى آخر الدهر.
ولو أن المدنية التي تحمل الحرب الحاضرة بين جنبيها وهي تتمخض اليوم عنها ضمنت ما يقوله أنصار التقدم من حرية الشعوب؛ لقامت هذه المبادئ المضغوطة في الأمم المحكومة تستعيد نفسها وتضمن معها الأمم صاحبتها تقدمًا مبنيًّا على قانون التطور المعقول.
من ذلك كله يظهر أن احتجاجات بعض الذين يتقدمون للكتابة في مسائل الاجتماع، ويتعرضون لقانون سلطة الجمعية على الفرد منكرين هذه السلطة وحكمها العام ليست إلا صيحات شعرية مبنية على ملاحظات مبعثرة، لم يستطيعوا خلق الصلة بينها وبين غيرها فأخطأ استنتاجهم منها وفسد الأساس الذي أقاموا عليه رأيهم.
والآن نرجع بعض الشيء إلى إثبات نظريتنا المتعلقة بالمسؤولية من طريق النظر والتاريخ، وغرضنا من ذلك أن نصل إلى موقف فكرة المسؤولية الحاضرة في مصر وفي أوروبا، حتى إذا درسناه من طريق الفلسفتين الاجتماعية والجنائية تبين لنا أن حقيقة هذه الفكرة هي دفاع الاجتماع عن نفسه بالطرق التي يراها منتجة ومفيدة.
وخير ما يبين لنا الطريق الذي تطورت فيه فكرة المسؤولية تاريخ المبادئ الفلسفية وتطور قانون العقوبات؛ فالأول يدلنا على الاتجاه النظرى للفكرة العليا في الجمعيات المختلفة والثاني يبين لنا الطرائق العملية التي كانت تتخذها الجمعيات للدفاع عن نفسها ضد الأفراد الذين يخرجون عليها، وتصور هذه الجمعيات لمسئولية أولئك الأفراد.
ولسنا نرمي لوضع بحث مستوفي في كل من هذين السبيلين؛ فإن ذلك — فوق أنه ليس الغرض من أبحاثنا الحاضرة — هو ينزع بنا منازع تبعدنا عن الفكرة الأصلية فكرة المسؤولية، وإنما الذي نرمي إليه بيان بسيط للاتجاهات العقلية والعملية التي كانت تعد في الماضي، والتي تعد اليوم أساء بناء الاجتماع، وبكلمة أخرى الاتجاهات في هذين الوجهين التي كانت تحدد الصلة ما بين الفرد والمجموع.