الطفولة: الكُتَّاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (١٩٣٥–١٩٥٢م)
أنا من مواليد ١٩٣٥م حي باب الشعرية الذي به جامع الشعراني الذي كان يُؤذِّن فيه محمد عبد الوهاب. ومن شارع الجيش الشارع الرئيسي في باب الشعرية الذي يربط بين العتبة والعباسية، يتفرع منه شارع البنهاوي الذي به جامع البنهاوي الذي يصل إلى باب الفتوح ثم باب النصر. وتتفرع من وسطه تقريبًا حارة درب الشرفا ثم عطفة العبساوي والمنزل رقم ٤ الدور الأول فوق مخازن السحار للبقالة. عنوانٌ طويل مُقارنةً بالعناوين الطبقية الأخرى، رقم المنزل واسم الشارع ثم اسم الحي كما حدث بعد ذلك في ١٦٧ شارع الحجاز، مصر الجديدة. وكنت أستحي من هذه العناوين الطويلة التي بها الدُّروب والعطفات. وكنت أذهبُ إليه بين الحين والآخر؛ أذهب لرؤية البيت الذي وُلِدتُ فيه، والشقَّة التي قَضيتُ فيها طفولتي وصِباي قبل سفري إلى فرنسا. وما زلت أحلم بها وبِسُطوحها الخاص وجَملُوناتِه الخشبية التي كانت سَقفَ مخازن السحار للبِقالة. وكنت أَنزعُ قعدتها الخشبية السوداء لعمل «عوَّامة» التي يسير بها الأطفال. رِجلٌ فوقها، ورِجلٌ أخرى على الأرض ترفعها بعد تركيب عجلتَين صغيرتَين، أمامية وخلفية، ومتصلة بين العمود الرأسي والقاعدة الأفقية، تربطهما مُفصَّلةٌ — على أحسن تقديرٍ — للانحراف بها يمينًا ويسارًا مثل دريكسيون العربة.
وكان أَوَّل وعيٍ بالناس بعد الأقارب هم الجيران؛ ففي مَدخل المنزل هناك غُرفةٌ واحدة في الحوش، وهي التي تَحوَّلَت في المنازل الحديثة إلى حجرة البواب، كانت تَسكُنها نساءٌ فقط؛ فهيمة الأم والتي كانت تلبس السواد طُول الوقت لتكشف عن ذراعَيها وساقَيها البيضاء، وصالحة الابنة الطويلة الفارهة، والتي كنتُ أشعر نحوها بشيءٍ ما لا أعرفه. ولمَّا ضاقت الحجرة، سكنوا تحت بير السلم المُظلِم الذي تَسكُنه العفاريت؛ فقد كان به الحوض ودورة المياه. وكانت صالحة تعمل وتعول الأسرة. ويُنظر إلينا على أننا من الأغنياء لأننا نسكن بالدور الأول ونذهب إلى المدارس والجامعات. كانت أرض الحوش من الطين؛ فلم يكن السيراميك قد عُرف بعدُ، وإن وُجد فمن يقدر على شرائه؟ وكان في مدخل شقتنا على يمين الحمَّام البلدي والمطبخ. وفي الواجهة غرفةٌ داخليةٌ مظلمة لا تُطِل على شيء إلا سطح المخزن على مستوًى أدنى والذي كان يُستخدم مَلعبًا «للعوَّامة». وعلى اليمين غرفة لأخي سيد وأنا الصبيان في المنزل. وعلى اليسار غُرفةٌ لأخواتي البنات الخمس: نبيهة، سعاد، فاطمة، علية، نادية، وكلهن من خِرِّيجات مَدارس المُعلِّمات التي كانت في ذلك الوقت أنسب تعليمٍ للإناث وأسهل وظيفةٍ لهن مُدرِّسات. وعليَّة الوحيدة التي تفَوَّقَت في دراستها، وأَخذَت الثانوية العامة من المنازل، ثم ليسانس الآداب من قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ثم الماجستير والدكتوراه حتى أصبحت رئيسة القسم، وسافَرَت إلى اليونان، وتَزوَّجَت وهي طالبةٌ صديقًا لي طبيبًا، د. عبد المحسن حسين عبد الله. أمَّا نادية الصغيرة فقد تخرَّجَت من مدرسة التجارة، وأصبحت موظفةً في بنك حيث تَعرَّف عليها زميلها محمد وتزوَّجها، وأصبَحَت رَبَّة منزل. وهي التي قمت بتكاليف الإعداد لزواجها بعد أن قام أخي سيد بتكاليف إعداد أخواتي الثلاث الأخريات نَظرًا لغيابي في فرنسا، وحَجَّج الوالِدَين مَرَّتَين. وكانت أكبر الغرف تُطل على العَطفة، وتحتها مخازن السحَّار. أمَّا الوالدان، فكان الوالد في غرفة الأولاد والوالدة في غرفة البنات. أمَّا الصالة الوُسطى فكانت غرفة المعيشة والاستقبال، وبجوارها شقة الجزار والكبابجي، وفوقها غُرفة الفَرَّان عم توحيد وابنه صلاح، وبجواره اللبَّان الذي كان أبناؤه في الدراسة، وكُنتُ أُعطيهم دروسًا في الثانوية العامة اتِّقاءً لِشرِّهم. وأمَّا جارتنا نعيمة فكانت جميلةً بيضاءَ وطويلة، وزوجها يعمل في «الأورنس»؛ أي الجيش الإنجليزي، كما يُصوِّر نجيب محفوظ في «زُقاق المدَق».
كان الوالد موسيقيًّا بالجيش بفرقة البيادة المصرية، يلعب الترمبون، يرفض اللعب في الأفراح لأنه كان يعتبر ذلك إهانةً له وللفن وللجيش، يشارك كضيفٍ نعم، أما كلاعبٍ فلا، باستثناء حفل التخرُّج السنوي لمدرسة الجزويت بالفجالة التي كان يُقدِّرها؛ ربما لحضورها الأجنبي أو لِلغتها الفرنسية أو لِلعَشاء الفاخر الذي كان يُقدَّم للموسيقيِّين، وكان يأخُذني لأتفرج على عالمٍ جديد غيرِ عالَم المدارس الحكومية الفقيرة والتي يَحرُم كل شيء فيها. وقد كان هو أستاذ الموسيقار الشهير لفرقة رضا، علي إسماعيل، ولمَّا رأى فيه النبوغ نصحه باللجوء إلى المعهد العالي للموسيقى الذي كان يشترط الحصول على التوجيهية؛ أي شهادة الثانوية العامة، فقُمتُ بالتدريس له، نظام الثلاث سنوات في سنةٍ واحدة. كنتُ أذهب إليه في حي الدقي. ولمَّا نجح أصبح أشهر لاعب كلارينيت في مصر. ظهر في أغنية «عاشق الروح» الأخيرة في فيلم «غزل البنات». ولمَّا أُنشِئت فرقة رضا للفنون الشعبية أصبح مُلحِّن أغانيها الراقصة الشعبية، وقائدَ فرقتها. وكُنتُ أذهب إليه أحيانًا في مسرح البالون أنا وصديقي محمد وهبي عبد العزيز، فيُدخلنا مجانًا، وكان أخوه رجب مُجرَّد عازف للأبوا في الفرقة، وكان كلاهما يُحبَّان الجنس الآخر؛ رجب لابنة عمه، وعلي للفنانات شأن مُعظَم الفنانِين في ذلك الوقت.
وكانت ستي يامنة وخالتي أم عبد الله تحضران من بني سويف إلى القاهرة لحضور حادث الولادة. وكانت ستي من قبيلة بني مر في أسيوط، جنوب بني سويف، ثم نَزحَت إلى الشمال، وهي القبيلة التي منها الزعيم عبد الناصر. وكان جدِّي قد نزح من الأندلس إلى المغرب ثم انتقل شرقًا واستقر في بني سويف عائدًا من الحج، وأصبح تاجر دقيقٍ بجوار محطة القطار، وما زِلتُ أذكر شعره الأشقر ووجهه الأحمر. وأراد أن يُزوِّج أبي قبل الذَّهاب إلى التجنيد، فأخذ بيده إلى منزل ستي بجوار مدرسة زعزوع خلف المركز، وطلب من ستي يد ابنتها، وكانت نائمة، فرفَعَت الغِطاء من على وجهها ثم سأل جَدَّي أبي إذا كانت تُعجِبه فأجاب بالإيجاب. واستيقَظَت والدتي فوَجدَت نفسها قد تزوَّجَت وهي نائمة؛ فالاختيار ليس لها. ثم نزحا معًا إلى القاهرة، حي السيدة زينب، بجوار مدرسة السَّنِيَّة، ثم بعد ذلك انتَقلا إلى باب الشعرية حيث وُلِدنا أنا وأخي وجميع أخواتي. وما زلنا جميعًا نَحِنُّ إلى هذا الحي الذي أصبح رمزًا للأصالة كلما أَحسَستُ أنني انتقلتُ من طبقةٍ لأخرى، وكلما أَحسَستُ أنني اغتربتُ عن أصالتي وعن سُلوكي الشعبي.
وكانت خالتي لا تُنجِب، ولا تحتاج إلى أموال ستي أو أن تَرِثها، فكانت ستي تُعطي والدتي ما تَيسَّر من مالٍ لِيُساعدها على المعيشة. كان لستي عدة بيوتٍ ريفية قسمتها مناصفةً بين أمي وخالتي، ونحن في الجامعة وفي حاجة إلى مصاريفها. كانت والدتي تذهب إلى بني سويف وتَهمِس في أُذن ستي فتُوافِق على بيع أحد البيوت. بِيعت أربعة بيوت ونحن في أربع سنوات الجامعة، ثم اندَارَت سِتِّي وأَقنعَت خالتي ببيع بيوتها وهي عاقرٌ بالرغم من زواجها وطمع زوجها في صيغتها في يدَيها. ولمَّا اقتَنعَت وتوفت ستي أقنَعَت والدتي خالتي ببيع آخر بيوتها، وتأتي لتعيش معنا في القاهرة حتى تجد من يساعدها، وكانت عرجاء؛ رِجلٌ طويلة وأخرى قصيرة بعد أن وقَعَت من على السطح وهي تُطعِم الدجاج، فانزَلَق بها السُّلم، ولم يكن في ذلك الوقت أطباء، فاكتفت بالوَصفاتِ البلدية والجبيرة ولكن ظل العَظمان مُتفرِّقَين. وبالفعل عاشت خالتي آخر سنواتها معنا في ١٣ شارع الجنزوري بالعباسية بعد أن أصبح المنزل الذي وُلِدنا فيه مُعرَّضًا للانهيار. وبالفعل هُدِمَت الأدوار العليا الأربعة وبقي الدور الأول الذي وُلِدتُ فيه.
وكان أبي قد تُوفي فيها، ورأيتُه أنا وزوج أختي الكبرى في لحظته الأخيرة، ورأيتُ الروح وهي تَصعَد وأبي يتألَّم إلى أن فتح فمَه ثم تَوقَّف عن الحَراك. وما زلت أتساءل: هل الروح في لحظتها الأخيرة تخرج من الفم؟ وكنتُ أسمع وأنا صغيرٌ دون أن أشاهد أن الروح تبدأ بأَخمصِ القَدمَين وتنتهي تدريجيًّا إلى أعلى. وما إن خَلَت غُرفةٌ في الشقة حتى استَدعيتُ خالتي للعيش فيها، وكانت سعيدة، بينها وبين أفراد الأسرة مُنافسةٌ على الطعام. كانت تعتبر أولاد أختها أولادها، يأخذون منها العيدية في كل عيد. الوالدة ليس لها شهادة ميلاد؛ فلم يكن مطلوبًا منها ذلك، ولكنها كانت تقول إنها أصغر من الوالد بحوالي عشر سنوات.
والوالد وهو من مواليد ١٩٠٠م بسبب الخدمة العسكرية كان شاويشًا بالجيش في فرقة البيادة (المشاة) لِلمُوسيقى العسكرية، لاعب ترومبون الأَوَّل، ثم رُقِّي صول (شرف). وكان علي إسماعيل وهو قريبٌ لنا من تلاميذه. وكان يرفض دعوات اللعب خارج الجيش احترامًا لهيبته، وما كان يسود الأفراح من هِزار وتدخين الممنوعات لا يليق. ورفض أن ينتقل إلى أي مكانٍ آخر مثل السودان ليس فقط كي يَترقَّى بل أساسًا حفاظًا على البقاء في القاهرة مع أسرته. كان يحب الجلوس على المقهى مع زملائه في الجيش ويشرب الشيشة حتى كبِر أولاده، وظن أن ذلك عَيبٌ وهم على أبواب الجامعة. ولمَّا قامت ثورة يوليو ١٩٥٢م، أرادت إفساح المجال للشباب في الجيش، فأَخرجَته وحَوَّلَته إلى وزارة الشئون الاجتماعية، كما انتقلتُ أنا إليها عندما أَخرجَنا الرئيس المغدور بقرارٍ منه في سبتمبر ١٩٨١م خارج الجامعة مع الإعلاميِّين وعلى رأسهم هيكل وإبعاد البابا إلى دَيرٍ في الصحراء؛ لأنهم كانوا يعارضون سياساته التي انقَلَب فيها على عبد الناصر، والتي بَلغَت قِمتها في مقاومة مُظاهراتِ يناير ١٩٧٧م (انتفاضة الحرامية) بالقوة وزيارته إلى إسرائيل في نوفمبر من نفس العام، ثم اتفاقية كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في ١٩٧٩م والذي أدى إلى اغتياله في أكتوبر ١٩٨١م. ثم أُحيل إلى المعاش كموظف في الدولة ١٩٦٠م ثم تُوفي ١٩٨٠م، ومعاشه ستة جنيهات.
وبعد أن تَوفَّت خالتي، وكان أبي قد اشترى قبل أن يُتوفَّى مقبرةً بالبساتين كان هو أوَّلَ من دُفن فيها. كان أبي باستمرارٍ يُمازح خالتي ويَخطَف منها طبق الطعام وهي تمنعه من ذلك عن طريق البصق فيه، وتضحك عليه بأنها هي التي كَسبَت المعركة. وكانت والدتي ترجوه أن يتركها في هدوء «سيبها يا أبو السيد.» كانت تُحِبُّني وتعتبرني ابنها الوحيد؛ فقد حَضرَت ولادتي عندما أتت من بني سويف إلى القاهرة، وكنتُ أنا أقربَ إخوتي لها، كانت تُؤثِرني بالمصروف المدرسي اليومي قرشًا أو قرشَين عليهم. وكنتُ أُدافع عنها باستمرار إذا مسها أَحدٌ بسوء، وتحزن وتقول لوالدتي: «ياللي بيعتيني بيتي.» وأنها خَسِرَت كل شيء بسببها وأولادها، ولم أكن أدري هل هذا مزاحٌ أم جِد. لقد كانت تَحِن إلى بيتها الأخير في بني سويف، وحُجة والدتي أنه دخل في التنظيم؛ أي سيُهد عن قريب؛ لأنه بارز في الشارع عن صف البيوت الأخرى. وبَيتُ عصمت المقابل الذي يُحدث اختناقًا مع بيت خالتي، لا يُهَد لأنه أكثر جِدَّة، وعصمت ذو شأنٍ في المدينة، ولأَوَّل مرة أرى الحاجَّ وهو يضع كفَّيه في دِماء الضحية ويطبعها على الحائط كي يعرف الجميع أنه حاجٌّ ويُنادونه بلقب «حاج» في «الحاج عصمت»؛ لأن عصمت بمفردها أو عصمت أفندي لا تُعطيه حقه.
وأصبحت مقبرة البساتين مدفن العائلة؛ بها أبي وأخي وزوج أختي فاطمة وأمي وخالتي وحماتي وأحد الأقرباء لأمي وأخيرًا زوجة أخي، والموت ليس به ازدحام كالحياة، وربما أكون أنا أو أختي الأصغر مني أَوَّل زائريها. ومع ذلك فَكَّرَت أخت زوجتي في شراء مَقبرةٍ لهما بطريق السويس، لم يُدفن بها أحد حتى الآن، وربما أكون أول زَائرِيها، والأَمر متروك لزوجتي الحبيبة؛ إمَّا أن أُدفن في مقبرة العائلة حيث بها أمها أو في المقبرة الجديدة لآل مرعي. الأولى طُرقها غيرُ أَسفَلتيَّة وكلُّها مَطبَّات، وتتسرب إليها مياهُ عين الصيرة بين الحين والآخر. والثانية طُرقها أَسفَلتيَّة، نظيفة، أعدَّها الجيش. الأولى داخل القاهرة، والثانية خارج القاهرة.
وكانت شقَّة العائلة بالعباسية التي تُوفِّي بها أبي وأمي وخالتي مَطمعَ أختي لِتُزوِّج بها ابنها الأكبر الذي يسير بِعصَوَين، فلم يعترض أحدٌ نظرًا لحالته الصحية، فتزوج بها وأنجب، ورعت زَوجتُه والدتي في سنواتها الأخيرة، فكانت الشقة استحقاقًا لها بالرغم من تساؤل جميع البنات.
كانت الأخت الكبيرة «طيبة»، «بنت حلال» أنجبَت أربع بناتٍ وولدَين، يعِشونَ من معاش من أمي. وكانت مَن بَعدَها أيضًا طيبةً وفي حالها، تزوَّجَت وأنجبَت ولدَين وثلاث بنات. والثالثة كانت تعشق الدنيا، ثم بعد ذلك تَديَّنَت وقَرأَت القرآن، ومَسكَت بالمصحف، ولبِسَت البياض، وغطَّت رأسها، تعِظ الناس، تَزوَّجَت وأنجبَت، ولها ثلاثة ذكور وأنثى واحدةٌ شبيهةٌ بأُمِّها مثل أحد الذكور. والصُّغرى جَمعَت بين الطيبة وسلامة النية، وزادتِ الهَبالة فتزوَّج عليها زوجُها المُتديِّن امرأةً مُتديِّنة نصَّابة طَمِعَت فيه، وأخيرًا عاد إلى الحُب الأول. وأولاده أَربعُ إناثٍ تَزوَّجنَ وأَحببنَ إلا واحدة، أصابتها عُقدةٌ نفسية لِشدَّة الرقابة عليها من أبيها المُتديِّن. كلُّهن الآن جَدَّاتٌ لهُن أحفاد، أطال الله في عُمرِهن. تفوَّق الذكور والإناث جميعًا بين أستاذةٍ جامعية ومحاسبٍ ومهندس. وكانت أمي تُسمِّيها «من تُشاركني في حياتي» باعتبارها ابنتَها البكر.
وكانت الوالدة أُمِّيَّة، لا تقرأ ولا تكتب، ولكنها في الحياة عالمةٌ كبيرة، سواءٌ في شئون المنزل أو مع الأقارب والجيران والأصدقاء. كانت تَستيقِظ في الفجر مثل الوالد وتبدأ في إعداد شئون المنزل من عَجينٍ وطبيخ وغسيل وتنظيف. كان من عادة الأُسرة المصرية أن تَعجِن في المنزل؛ تشتري الدقيق وتَعجِنه وتُخمِّره وتَرُصُّه وتُقدِّمه على طاولاتٍ من الفَرَّان الذي يأخذه وينقله إلى الفُرن ويستخرجه طازجًا بِالعَدد. وكانت تعرف كم كيلو دقيقٍ يُستخرج منه رغيف، الطري والمُلدَّن، وكان هذا يتم مرةً في الأسبوع؛ فما دام هناك عَيشٌ في «المِشَنَّة» تكون الدنيا مستورة. وكنا نشتري الدقيق من السحار على باب درب الشرفا وشارع البنهاوي، وهو يُسجِّل التاريخ، ومرةً واحدة أخطأ في عَدد المرَّات في الشهر، ولكن الوالدة هي التي صَحَّحته بذاكرتها؛ فليس مقياس الصواب والخطأ المكتوب في دفتر البقَّال بل المُسجَّل في ذاكرتها. كانت تُعِد ثلاثَ وجباتٍ يوميًّا لتسعة أفراد؛ الوالد والوالدة، وأخي سيد وأنا، وخمس بنات: نبيهة، سعاد، فاطمة، علية، نادية. وكُلُّنا نأكل الصنف من طبقٍ واحد. ولم تكن هناك عادةُ أَطباق الغَرف المشتركة ولكلِّ فردٍ طَبقٌ يأكل منه بعد أن يغرف ما يريد. وكانت المشكلة ما بعد الطعام، تتكاسَل أخواتي البنات عن تنظيف الأطباق، والرجال؛ الوالد وأخي وأنا، ليس المطلوب منهم شيئًا، فيقع العمل كُلُّه على الوالدة، فتَعِبَت. ومرةً سمِعتُها تَصرخُ عاتبةً على أولادها البنات: «أصل انا العبدة اللي اشتراها لكم أبوكم»، فأَحسَستُ بِالظُّلم الاجتماعي الذي يقع على المرأة. أمَّا الرجل فلم يكن مطلوبًا أن يفعل شيئًا، عكس ما رأيتُ في أمريكا فيما بعدُ، عندما دعانا أستاذ الفلسفة إلى العشاء، زوجتي وأنا. ولمَّا انتهينا قام هو ولَبِس مَريلة المطبخ وظل يَغسِل الأطباق وزوجتُه تُسامِرنا!
وكان الوالد يَغارُ عليها من أيِّ رجل يأتي لزيارتنا؛ فقد كان يراها أجمل امرأة في العالم. كان يغار خاصةً من عم إسماعيل (والد علي) الذي كان يأتي لزيارتنا لرؤية بنت خالته مُتأنِّقًا، على شَعَره الناعم كريم يجعله يلمع لِيَجذب النساء إليه، في حين كان والدي بسيطًا في لبسِه بالجلباب ولا يضع فوق شَعَره أَيَّة مساحيق. وكان عم إسماعيل مُتكلِّما مُبتسِمًا في حين كان الوالد أقصر في الكلام، ولا يبتسم أو يضحك إلا عند الضرورة. والوالدة تُريد أن تُظهر قُدرتها على الكلام، فتتبارى مع عم إسماعيل، ووالدي لا يستطيع أن يُجاريها، فأحس بالغيرة، فقام وانتفض وصرخ في وجه أمي لأن الضيف ضيفٌ وعم إسماعيل يُهدِّئ فيه حتى تَهبِط نار الغَيرة منه. وكانت عائلة عم إسماعيل كُلُّها تحب النساء؛ علي، ورجب، وجمال. وهذا طبيعي. أمَّا بالنسبة للوالد فهذا غير طبيعي؛ فالنساء كُلُّهن في الوالدة. مع أن زوجة عم إسماعيل كانت بيضاء، وضاحكةً بالرغم من قِصَرها وبدانتها. وكانت ابنتها خديجة، هيفاء، بيضاء، في غاية الجمال، أَحببتُها عن بُعد، وحَضرتُ يوم زِفافِها على ابن عمها الذي أخذها في الحُجرة المجاورة وهي تصرخ، وقام بالواجب، وفي الخارج يُطبِّلون ويُزمِّرون. وعندما خَرجَت رأيتُ الأَلَم على وجهها، وحزِنتُ لها وعليها، على هذا الحبيب الذي انتُهِكَت كرامته، وعلى وجه الرجل علامات بؤسٍ وشقاء لأنه لم يجد أي لذةٍ أو سُرورٍ في ذلك.
أمَّا الأخ فهو سيد الذي كان أستاذًا للأدب العربي في جامعة القاهرة، وتلميذًا لشوقي ضيف، تلميذ طه حسين، ثم وكيلًا للكلية، ثم عميدًا لآداب بني سويف، ورئيسًا لقسم اللغة العربية، وبها كان إداريًّا ماهرًا، يُغلِّب مصلحة الطلاب على قوانين الإدارة. أمَّا الأخت الكبرى فكانت مُدرِّسة، بَدأَتِ التعيين في دشنا بمحافظة قنا، وكانت هذه أَوَّل مرة تبتعد فيها عن أفراد الأُسرة، وكان والدي يذهب لزيارتها بين الحين والآخر بزيه العسكري، وله صُوَر في آثار الأقصر. وبالرغم من قِصَر أختي الكبرى وسِمْنَتها فقد جاءها خطيبٌ من هناك، أحول العينين، طويلٌ وأَسمر، أكبرُ منها سِنًّا، يُسمُّونه «علي أفندي»، يُعوِّج الطربوش بزِرِّه الأسود المُتدلِّي، مُعجَبًا بنفسه كما هو الحال في الأفلام المصرية، وكانت الوالدة تقابله بالترحاب، وهو لا يتوانى في خدمة الأسرة لِيُبيِّن مهارته الاجتماعية، يعرف فلانًا وعلانًا من عِلية القوم؛ فكان على صِلةٍ بالدولة وإدارتها حتى إنه جَهَّز إجراءات دفن أخي الأصغر علي الذي مات وهو رضيعٌ بنزلةٍ معوية، وحَملَته جارتنا في البدروم على يدَيها وهي تَتَصنَّع البكاء، وذَهبتُ معهما مُصاحبةً إلى المدافن لا أدري أيها، ولو عاش لكان لي أخان. وتَقدَّم لخطبة أختي الكبرى، لا أدري رسميًّا أو غَيرَ رسمي، ورَفَضَت أمي. كيف تفارق ابنتها الكبرى إلى الأبد وتعيش في الصعيد؟ وكانت الجارة التي لم تكن على وِفاقٍ دائم مع أمي، وكانت جميلةً بيضاء، كلما تَعارَكَت مع أمي بالكلام، كما هو الحال في العادات الشعبية، تقول لها: «يا بتوع علي أفندي.» وتقول لها أمي بعد أن أَحسَّت بالإهانة: «اخرسي، قطع لسانك من لغلوغه.» وكان زوجها طيلة النهار خارج المنزل، ولا يخرج إلا في الصباح الباكر. وفي يومٍ خرج والدي لشراء خبز فتقابل معه ويبدو أنهما تَشاجَرا بالكلام، وأَحسَّت والدتي بتأخُّر والدي، فخافت أن يكون قد اصطدم بخروج جارتها، وعاد والدي مُكفهِر الوجه، وسألَته الوالدة: هل تقابلتَ معه؟ فقال لها: نعم، وتشاجرنا. فخرج الموضوع من أيدي النساء، ووقع في أيدي الرجال، ولكن بسلام. وفي يومٍ من الأيام وجَدتُ الشرطة على باب المنزل ثم على باب الشقَّة المجاورة لي ويأخذ جارتنا مُكبَّلة بالحديد. وكانت التهمة أنها خَلعَت بلاط الحمام، وعَمِلَت هُوَّةً تسمح بنزولها إلى مخزن البقالة وسرقة صفائح الجبن والزيت وأَشوِلة الأرز، ففَرِحتُ. وكنا نُعايِرها بعد أن رَجعَت إلى المنزل، بأنها «حرامية»، وهي تُعايِرنا بأننا «بتوع علي أفندي».
وأخيرًا تَزوَّجَت أختي الكبرى، وكانت تُدعى نبيهة واسم الدلع «بخاطرها»، وكانت أمي تُسمَّى «أم بخاطرها» نسبةً لها أو أم سيد نسبةً لأخي الأكبر سيد؛ تَزوَّجَت من قريبٍ لوالدتي، سيد حامد، مثالًا في الأخلاق والمساعدة الأُسرية. وهو الذي كنت أعتمد عليه دائمًا في مصالَحَتي مع الأسرة عندما كانت لا تستجيب لِطلباتي مثل شراء الكَمان أو في الاشتراك في حمَّام السباحة حتى لا أغرق، وكانت طريقتي في الخصام هي الصوم؛ لذلك كانوا يُسمُّونني «غاندي». هو الذي يُصمم لي المكتبة والرفوف لوضع الكتب. وهو الذي تابَعَ طبع رسالتي الأولى الفرنسية بالمطابع الأميرية بعد موافقة الأمين العام للمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في ذلك الوقت، ثم شحن مائة نُسخةٍ إلى باريس كما تَتطلَّب السربون في ذلك الوقت. وهو الذي جاء معي لمحل الموبيليات لِلتفاوُض على ثمن غُرفة النوم مع زوجتي وتخفيضها من مائتَين وعشرين جنيهًا إلى مائتين وعشرة جنيهات، وأَصَر عامل المحل على أن يأخذ خمسة جنيهات إكراميةً له لِوقوفه إلى جانبنا ضد صاحب المحل صدقًا كان أم نقاقًا. كانت حالتنا المالية لا تسر؛ فكان معاش الوالد ستة جنيهات، نأخذ الدقيق، وهو الأهم، من بقَّال على ناصية الحارة، وهو السحَّار، مع تأجيل الدفع حتى أول الشهر، حوالي أربع مرَّات؛ فالخبز أهم شيء في الأسرة، وكان الفرن قريبًا من المنزل على مدخل عطفة العبساوي، ويسكن صاحبه فَوقَنا.
انتَظرَت والدتي مرةً أختي الكبرى على باب المدرسة بعد أن سعت لنقلها إلى القاهرة بعد زواجها، ونَجحَت في ذلك، وعاتَبَتها على أنها تَركَت أُسرتها دون أي معونةٍ مالية، فقَصَّت أختي القصة إلى حماتها التي عايَرتنا بهذه الطريقة في الشحاذة مع أنها موافقةٌ على أن تعطي أختي والدتها جنيها أو اثنَين شهريًّا.
ولمَّا تَوفَّت زوجته وهي شقيقتي الكبرى لم يَستطِعِ العيش بدونها، وتُوفِّي هو بعد شهر، وكانت مَقبرته بجوار مَقبرتنا، وفي آخر الطريق مَقبرة علي إسماعيل، وتَركَ من بعده ذريةً صالحة، ولدَين وأربع بنات، تَزوَّجن جميعًا وأصبح لهُنَّ أحفادٌ يَحفَظون الوُدَّ لخالهم.
وكنتُ مُرتبطًا بأولاد شقيقتي الكبرى: سوسن، وسهير، وسهام، وسلوى، وأحمد، ومحمد. وكنت آخذ سوسن وسهير سَيرًا على الأقدام من باب الشعرية إلى شبرا لإرجاعهما إلى والدَيهما بعد أن تكونا قد قضَتا الليل عند جَدِّهما وجَدَّتهما وخالَيهما. وكُنَّا نطوي المسافة طيًّا دون أي ألمٍ في الأقدام خشيةً من ركوب المواصلات العامَّة، مثل التِّرام، الذي كان في ذلك الوقت خيرًا مما هو عليه الآن. كما كنتُ آخذ شقيقاتي؛ سعاد، وفاطمة، وعليَّة، إلى سينما مصر، وكنَّا نَرقُص على سُلَّم المنزل ونقول: «رايحين السيما.» ولمَّا كبِرَت شقيقاتي، ووالدي محافظ، كن يُقصِّرن الرداء بالحزام فوق الركبة تقليدًا للكِبار.
أمَّا الأقارب فأَتذكَّر تاجر الجلود بالصنادقية الذي كان قريبًا للوالدة، وكنا بين الحين والآخر نذهب إليه لاقتراض بعضِ المال، خاصة في أوائل العام الدراسي، سيرًا على الأقدام خلال شارع المعز لدين الله الفاطمي وخلال القاهرة القديمة. وكانت أخت الحاج حسنين جَدِّي أفقر منا، تعيش أسرتها من عمل اللُّعَب، الوز المُلوَّن المتحرك؛ الأب يقطع الأخشاب، والابن يبيع في الأسواق، والثالث غادر هذه الحياة البائسة ليبحث عن رزقٍ أوسع نجَّارًا، ويأتي لزيارة الأسرة بين الحين والآخر. لم يَتزوَّج بائع اللعب، ومَرةً أتانا إلى المنزل مُصاحَبًا بامرأةٍ مدهونة بالأصباغ وعلى رأسها قُبَّعةٌ ظانًّا أن ذلك أعلى قيمةً في الحداثة، وقدَّمها على أنها زَوجتُه التي يتباهى بها. وكان له أخٌ آخر سائق بين القاهرة والإسكندرية، أتانا مرةً وانفجر بالبكاء لأننا أُسرةٌ مُفكَّكة، فقَدَّمنا له العَشاء والمنامة حتى ضَحِك وجفَّف دموعه، ولم نَرَه بعدها! وكان أبي له أخٌ علَّمه الموسيقى فكوَّن فرقةً موسيقية متواضعة يُشارك فيها في الأفراح. وكان يزورنا في هذه الفترة «عم إسماعيل» أنيقًا لامعَ الشعر لزيارة الوالدة قريبته، فكانت تلقاه بِالحَفَاوة المطلوبة ولكنَّ الوالد كان يَغَار منه على والدتي ويَفتعِل خناقة مع الوالدة، ثم تَتِم المُصالَحة، وكان الوالد لا يُحب كثيرًا أن يأتي. وكان عم حسين حما شقيقتي النابغة يُحب الحديث مع الوالدة، هو كثير الكلام وهي تسمع، وكان حُلو الحديث. لم يكن أبي يغار منه لأنه لم يكن مُتأنِّقًا مثل عم إسماعيل، كان بِجِلبابٍ فَضفَاضة، أَهتَم الأسنان. كلاهما تجاوزَا السبعين؛ الوالدة، أمَّا عم حسين فقد جاوَزَ الثمانين. اثنان من كبار السن لا خَطَر من أن يتحادثا لِشَغل أوقات الفراغ.
وكان الجيران على أنواع: الصديق، في الظاهر والباطن، والمُنافِق؛ أي الصديق في الظاهر والعدُو في الباطن، والعدُو في الظاهر والباطن؛ فالصديق في الظاهر والباطن في الشباك الذي أمامنا، وكانت صالحة على مستوًى مُعيَّن من الجمال، بيضاء هيفاء، قليلة الكلام، وعينان برَّاقتان، وفمٌ ضاحك، وقلبٌ نابض. والصديق في الظاهر والعدُو في الباطن من فوقنا، زوجة الفَرَّان، التي لديها ابن (صلاح) الذي كان مُتقدِّمًا في شئون المرأة عنا، وهو الذي علَّمني كيف أُعاكِس المُطلَّقة التي في السطح، بإطفاء نُور السُّلَّم وتقبيلها. ولمَّا كان ذلك كثيرًا عليَّ، انتظرتُها وهي خارجة من المنزل وأنا في الشباك وقَذفتُها بالماء، وهي حركة عدُوٍّ لا صديق، فمَسحَت قَدَمها بِمِنديلها وواصَلَت السير. نَظرَت إلى أعلى ولِسانُ حالها يقول: هل هكذا يفعل العاشقون؟ ونَدِمتُ وعَرفتُ أنه ليس كذلك تكون المُعاكَسة؛ أي الغزل. وبعد كل فَشلٍ تَرِنُّ في أذني أغنية محمد عبد الوهاب «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات»: «وعشق الروح ما لوش آخر، لكن عشق الجسد فانٍ.» فهل هناك عِشقٌ صادق أم تعويضٌ عن الفشل؟ وقد كان صلاح غَيرَ مُوفَّق في دراسته وليس له في العلم رغبةٌ لأنه هو الذي سيرث أباه في الفُرن. اختلف مع والده مرةً عندما عاتبه أنه ليس ناجحًا مثل مَن تحته، وهم نحن، فسكب على نفسه الجاز فأَشعلَها، ثم أَطفأَته الجيران، وبقي تأثير الحريق في وجهه، وذهب إلى قريبةٍ له في مدخل درب الشرفا حتى يتصالح مع والده. وكان الوالد فُتوَّة، يَدخُل المعارك بالعَصا بين الأُسَر أو الأحياء عندما يبدأ الصراع بين درب الشرفا حيث أسكن والعطوف. وعادةً ما تكون الغارة علينا لأنهم هم الأقوى، قوةً وعددًا، وكما صوَّر نجيب محفوظ في «التوت والنبوت» في الحرافيش. وكانت أخته ليلى جميلةً ذات صَدرٍ بارزٍ يكاد يقَع من بُروزِه. وتَثْنِي ظهرها بدعوى التنظيف والكنس.
وكان في وَسَط الحارة امرأةٌ فُتوَّة، نفيسة، يخشاها الجميع، ولم أكن أعرف لماذا؟ وهي طويلةٌ بيضاءُ مثل تحية كاريوكا في فيلم «سمارة» و«عفريت سمارة». في يديها صِيغةٌ من اليد إلى الكوع، تجلس على باب المنزل أكثر مما تعيش في شقتها. وكان في آخر العطفة ميدانٌ مُغلَق، سكانه أكثر رقيًّا، كان لي فيه أصدقاء لم يعيشوا طويلًا في صداقاتهم. وكان جمال إسماعيل في الخديوية الثانوية يأتينا لزيارة فريق التمثيل في خليل أغا الثانوية، وكان أخي أحد أعضائها، يتحدثون عن التمثيل، وكان العزبي يُغنِّي، واستَمرَّ جمال إسماعيل في التمثيل، وتحوَّلَت الهواية إلى مهنة، أمَّا أخي فاستمر في السلك الجامعي، وكان أبو زهرة مع هذا الفريق، وأنا مثله تركتُ الموسيقى إلى الدراسة.
وكنا ونحن صِغار في سِن ما قبل المدرسة نلعب في الحواري والشوارع. وكانت اللُّعبة المُفضَّلة لدينا في ذلك الوقت «العوَّامة» وتتكون من عمودَين من الخشب؛ واحدٍ أفقي نضع عليه رجلًا والأخرى تدفع بها على الأرض، والثاني رأسي في آخر خشبةٍ أخرى أصغر مثل (الدركسيون) وعجلتَين رولمان بلي؛ الأولى أمامية والثانية خلفية. وإذا كان الطفل ميسور الحال وضع عجلةً أخرى، الأولى يمينًا، والثانية يسارًا. وإذا كان ميسورًا أكثر ربط العمودَين بِمُفصَّلةٍ حديدية تسمح بالتحوُّل يمينًا أو يسارًا. وكان في سطح المنزل الخاصِّ الذي تحته مخازن السحار جَمَلُوناتٌ للضوء مُحمَّلة على عواميدَ خشبية، فكنتُ أخلع عمودَين وبالتالي يكتمل جسم العوامة. وكُنَّا نلعب بها منذ ساعات الفجر الأولى، والشوارع خالية. وفي صباحٍ باكر قام شيخٌ جليل ذو ذَقَن بيضاء وفي يده شيشةٌ من على الكرسي على رصيف المقهى وجرى نحوي وأخذ العوَّامة ورَفعَها ثم ضربها على الأرض فتَفتَّتَت؛ فقد صلَّى الفجر وأراد أن يجلس على المقهى في هدوء ويُدخِّن الشيشة، وهؤلاء الأطفال يُسبِّبون الصَّخَب له. فمُنذُ ذلك الوقت كَرِهتُ المشايخ ونِفاقَهم، والدينَ الذي لا يرحم. وكيف لي أن أُصلح العوَّامة من جديد؟ واللعبة الثانية أن شقَّتنا كان بها غُرفةٌ تُطِل على سطح مخازن السحَّار، فإذا كنا مَيسورِين نلبس قباقيبَ عَجَل ونسير في السطح، وفي وسط العام الدراسي نأخُذ كُتبنا للمذاكرة هناك. وعندما قام الصراع بين الإخوان والثورة في ١٩٥٤م أخفيتُ منشورات الإخوان في إحدى مواسير الحائط حتى اكتَشفَها والدي وأَخذَها وحرقها خوفًا عليَّ، وانتابني حُزنٌ كبير.
وكنا نلعب في الحارة السباق جريًا بالعَرض من شرطي «امسك حرامي»، وهي مسافة لا تتجاوَز خمسة أمتار، وكانت بالنسبة لنا كافيةً للسباق. وفي لعبةٍ أُخرى نقذف بصفيحةٍ إلى أعلى ونَتلقَّفها باليدَين، ومن ينجح في ذلك يكون أبوه مَلِكًا. فَعلتُ ولم يُصبح أبويا مَلِكًا، بل دخلتُ أنا المستشفى لإجراء جراحةٍ عاجلة في الرقَبة ما زال أثرها حتى الآن، في شارع عبد العزيز تحت إدارة وزارة المعارف العمومية وهو الاسم القديم لوزارة التربية والتعليم. أمَّا كرة القدم «الكرة الشراب» فكنتُ أكرهها ولا أُحِب لَعِبها لأنني لم أعلم أين الفن فيها، وأحيانًا يكون الدفع فيها هو الأساس، وأين الحارة التي تغلق نفسها للاعبين؟ ومهما كبِرَت الكرة الشراب فلن تتجاوز قبضة اليد، وليس لدَينا مالٌ لِشراء كرة النفخ، وكانت الخسائر فيها كثيرة؛ الوقوع على الأرض وجروح الركبتَين، ووَلوَلَة الأم، وقَسمِها أني لن أنزل لِأَلعب في الحارة من جديد، ولكنَّنا كنا نجعلها تحنث بالقسم. ولُعبةٌ أخرى هي نَطُّ الحبل، ولكنها كانت للبنات أَكثرَ مما هي للصِّبية. ولُعبة «السيكة» التي كانت تُرسم على الأرض بالطباشير الأبيض عِدةَ مسافات، ووَضْع قطعةٍ من الطوب في كُل مسافة، ثم القَفز عليها من أجل زحزحة الطوب من خانةٍ إلى أخرى، وتُسمَّى أيضًا «النطَّة». ولم تكن الرياضة أمنية الأطفال في ذلك الوقت.
ثم وَقعَت كَنبةٌ على ساقي فانكَسَر، وتم تجبيره عند برسوم، طبيب الشعب، في ميدان رمسيس. وكانت والدتي تَحمِلني على كتفَيها كالحِصان من باب الشعرية إلى ميدان رمسيس لِتشتري السمك الطازج من رجلٍ مشهور هناك، في الخلفاوي أو الحلفاوي، كان يَقعُد «بِالمِشَنَّة» على الرصيف، وتعود والدتي إلى المنزل، وكنت أستغرب كيف حَملَت هذا الحِمل الثقيل ذَهابًا وإيابًا، وتَحمِل السمَك؟ ولما كبِرتُ عَرفتُ أن ذلك هو إخلاص المرأة المصرية لبيتها.
وكان والدي يُرسِلني إلى مَحل الطرشي بدرب البزازرة أمام جامع البنهاوي لشراء طرشي، وأُوصي البائع بمزيد من ماءِ اللفت، فكنت أذهب بطبقٍ مفتوحٍ وأعود وقد انسَكَبَت منه مُعظَم مياه اللِّفت على الأرض. وفي المرة الثانية أردتُ أن أعرف طعمَ ماءِ اللِّفت هذا الذي يُصِرُّ عليه والدي، فقُمتُ بتذوُّقه بدلًا من انسكابه على الأرض بفعل المشي، فوَجَدتُ طعمه لذيذًا، وذهبتُ إلى الوالد وماء اللِّفت ناقص أيضًا. ثم أرسلني الوالد إلى بائع الطرشي لأقول له إني أتيتُ من طَرَف عم حنفي، فزاده إلى الثُّمَالة. ولم نكن نعرف في ذلك الوقت أن طَبق الشراب في حاجة إلى غطاءٍ لكي يحفظه داخل الإناء.
وأرسلني والدي إلى الكُتَّاب في سن الرابعة لأن الحكومة لا تقبل في المدارس الأولية قبل الخامسة، وكان الكُتَّاب يُسمَّى باسم مدرسة «الشيخ سيد»، ويقع في آخر درب الشرفا، عطفة العبساوي. صالة في الدور الأرضي مفروشة بالحصير، تُستخدَم للصلاة أيضًا. وكانت التكاليف رغيف خبز وطبق مُخلَّلٍ بشرابه أو طبقَ سلطة. وكان التدريس بطبيعة الحال تحفيظ القرآن، وتعليم بعض قواعد اللغة العربية، وعلامات الإعراب. وكان الجلوس على الأرض تربيعًا وحافِين. والأطفال بالجلابيب مثل الشيخ بالجُبَّة والقُفطان والعِمَّة. وكان صوتُ الأطفال جماعيًّا مُرتفعًا حتى يُسمِع الحاضرُ الغائب. وبمجرد أن ينتهي الدرس يُهرَع الأطفال بالخروج إمَّا لِلَّعِب أو إلى أهله. وكانت عيون الشيخ تَروغُ يمينًا ويسارًا إذا ما أَحضَرَت الأُم طفلها بنفسها، وسَلَّمَته للشيخ كأمانةٍ فتقترب من الشيخ أَكثرَ فأَكثر، ولا ينسى الشيخ أن يُبلِغ السلامَ لأُم الطفل مع ابنها في نهاية الأسبوع أو بدونها. لم أَستسِغ هذه الطريقة، ولم أستطع أن أُكمل الكُتَّاب، ولا طريقة الشيخ في تحفيظ القرآن، ولا العصا (الخرزانة) التي في يده، ولا صَمْتَ الأطفال إلا من صوت ترديدِ آيات القرآن وراءه، ولا هذه العلاقة بين السيد والعبد؛ علاقة العصا. فقَدتُ اللعِب، ولم أجِد شيئًا أفضل منه؛ حارةٌ مسدودة، وعقلٌ شارد، ولكن القلب ما زال ينبض.
وتَروِي الوالدة أنني بعد الطهارة كنتُ كلما أتانا ضيفٌ أرفع الجلباب وأقول له: «أنا اطَّاهرت.» كنت فِرحًا بالحَدَث، وكنتُ أريد أن تُشارك الضيوف فَرحتي، وكان رِباط الشاش ما زال موجودًا، وكنتُ أسمع من يقول: «عيب يا ولد.» ولا أدري من القائل، ولكن لزِقَت في ذهني أن هذه المنطقة عيب أُعرِّيها، وأنني يجب أن أُغطِّيها، وهكذا بَدَأت التفرقة بين مناطق الجسد؛ بين «التابو» الذي يجب أن يختبئ، وباقي مناطق الجسد التي يمكن أن تُعرَّى. ورأيتُ ذلك في غُسل الميت فيما بعدُ، عندما كانوا يُخبِّئون هذه المنطقة بالمِنشَفة.
ولما بلَغتُ الخامسة في ١٩٤٠م انتقَلتُ إلى المدرسة الأولية، مدرسة سليمان جاويش، في شارعٍ موازٍ لدرب الشرفا من ناحية وشارع الحُسينيِّين من ناحيةٍ أخرى، ويفتح على باب الفتوح وشارع المعز لدين الله الفاطمي في وسَط زُقاقٍ ضيق. والمدرسة ذات فناءٍ واسع، وفصولها خَشبيَّة «داير داير» الفناء، والإدارة بعد الباب بِعدَّة سلالم يمينًا ويسارًا. وكان التلاميذ في الفسحة يخرجون من الباب لِيشتَروا الصميط من صابر الذي وضع بِضاعته على صاجٍ أسودَ كبيرٍ على الأرض، والتلاميذ يتسابقون للشراء؛ منهم من يدفع، ومنهم من يتظاهر بالدفع. ولا يستطيع صاحبُ الصاج في الزحام والصرُّاخ أن يضبط كل شيء، كل يدٍ ممدوةٌ إلى صاجه، وأحيانًا أكون واحدًا منهم ما دام الأمر سهلًا. يكفي صاحبَ الصاج أن يجمع التعريفاتِ في حجرِه، وهو كسبان في النهاية. وكانت الغاية من المدرسة ليس التعليم بل الحفاظ على التلاميذ من ألعاب الطريق. فإذا أكمل التلميذ سنوات المدرسة الأولية الخمس فإنه يكون في الطريق إلى المدرسة الأزهرية، وليس الجامعة. وكُنتُ أَلبَس البَدْلة والطَّربوش كي أكون أَفنديًّا، والطَّربوش كان مُغرِيًا كي يكون كرة قدم، فأرجع إلى المنزل والطربوش قد تَمزَّق، فآخذ درسًا في أن الطَّربوش رَمزُ النُّضج والكِبَر، فكيف ألعب به كرة في لُعبة كرة القدم؟ وفَرقٌ بين الطَّربوش المُطبَّق الذي يظهر من خُوصة فتحات القماش الأحمر والطربوش المكويِّ المُستقيمِ جنَباتُه، وأحيانًا تُضاف رابطة العُنق إلى البَدلة حتى تكتمل صورة الأفندي. واكتَشفَت الأُسرة أن عندي قِصَر نظَر لأني لا أرى إلا القريب دون البعيد، وقمتُ بعمل نَظَّارةٍ طبية. وكانت العَدساتُ في ذلك الوقت من الزجاج، ينكسر بسهولةٍ إذا وَقعَتِ النظَّارة على الأرض. ولمَّا كنتُ سريعًا ما أَصطدِم بصبيٍّ آخر لضعف بصري وأنا أجري فتقع النظَّارة على الأرض، ويَنكسِر الزجاج، ويَصرُخ الأهل ليس خوفًا من التكاليف ولكن قد يَدخُل الزجاج في عَيني، ولم أكن أدري ما العملُ لِلجمعِ بين النظَّارة واللَّعِب جريًا واصطدامًا؟ لم يكن هناك تلفزيون في ذلك الوقت، والذي دخل فقط عام ١٩٦٠م كي أَتشبَّه بأَفندِيته. وكُنَّا نذهب إلى بني سويف في الصيف خوفًا من غارات الألمان على القاهرة وأصوات المدافع. ولما تَوفَّت ستي نقلناها إلى مقابرنا في الضفة الأُخرى للنيل. أمَّا خالتي فدُفِنَت في القاهرة في المقابر التي اشتراها أبي، وساعدناه ماليًّا، أخي سيد وأنا، ودُفن فيها، وعليها اسمه حتى الآن حنفي حسانين أحمد. وبها، بالإضافة إلى خالتي، أمي، وحماتي، وشقيقتي فاطمة وزوجها فريد، وأخي سيد، وعلي النجار من أقرباء أمي، ثم أخيرًا زوجة أخي.
ولمَّا كانت المدرسة الأولية طريقًا مسدودًا إلا نحو مدرسة المُعلمِين العليا، ولا تُؤهِّل للثانوية والجامعة، انتقلتُ إلى مدرسة السلحدار الابتدائية في أَوَّل شارع المعز لدين الله الفاطمي من ناحية باب الفتوح، وهو جُزء من السور القديم، وكانت مملوءة بالآثار الإسلامية في النحت، نلعب بها، ولا ندري ما قيمتها، نختبئ وراء رءوس الرخام، وعواميد القصور. بها فضاءٌ فسيح نلعب فيه، وفيها بدأ التعليم. ومُدرِّسون يعطون مجموعاتِ تقوية بدلًا من الدروس الخصوصية بخمسين قرشًا في الشهر. وكنتُ التلميذ الوحيد الذي رفض أَولًا لأنني لا أحتاج. ثانيًا أن الثمن كان خمسين قرشًا، وهو كثيرٌ على مصاريف الأُسرة. أوقفني المدرس ووجهي للحائط عقابًا لي، وكأنني المسئول عن ذلك. كنا نَخرُج كل يوم ١١ فبراير كل عام في طوابير للذهاب إلى قصر عابدين، بقيادة مدرس اللغة العربية أو الدين، بالعِمَّة والقُفطان، جمعًا بين الدين والسياسة بدلًا من الجمع بين الدين والعلم والوطن؛ لِلهُتاف بحياة الملك، وهو النشيد الآتي:
وكان التلاميذ في ذلك الوقت وفي هذه السن المُبكِّرة يشاركون في المُظاهَرات دون انتظار حتى ما بعد الجامعة لو أمكن الصبر بالرغم من أن لِلصبر حدودًا. وسمِعنا أن في الجامعة مُظاهراتِ «لجنة الطلبة والعمال» فخرجنا من المدرسة في مُظاهَرة ونحن نهتِف، وذهبنا إلى باب الشعرية حيث كان يسير الترماي، وأَمَرنا السائقَ: «دوِّر يا أسطى.» إلى الجامعة، فذهبنا إلى جامعة القاهرة، وشاركنا في المظاهرات التي فتَح عليها القَصرُ الكوبري، كوبري عباس، فسقَط الطلبة في النيل واستُشهِد البعض الآخر برصاص الجنود، كما هو واضح في بداية فيلم «في بيتنا رجل»، قصة إحسان عبد القدوس. وسمِعنا باستشهاد عمر شاهين وعبد الحكيم الجراحي. وقد سُمِّي مدرجان بآداب القاهرة على اسمَيهِما قبل أن يَتَغيَّرا إلى مجرد أرقام ٧٤، ٧٨ حتى لا يَتذكَّر الطلبة الحركة الوطنية، ومع ذلك النصب التذكاري أمام بوابة جامعة القاهرة الرئيسية، وفي آخر كوبري الجامعة تمثال نهضة مصر. وأخفيتُ ذلك عن الأُسرة، وعُدتُ من نفس الطريق إلى المنزل وكأنني عائد من المدرسة. وكانت هذه أَوَّلَ مرة يكون لي فيها نشاطٌ سياسي في هذه السن المُبكِّرة. وقَضيتُ في مدرسة السلحدار الابتدائية ثلاث سنوات (١٩٤٥–١٩٤٨م).
وفي عام ١٩٤٨م انتقلتُ إلى مدرسة خليل أغا الثانوية بشارع الجيش، وكان بها أيضًا بعد الظهر «مدرسة تحسين الخطوط الملكية» في البدروم. ويُلاحظ أن أسماء المدارس كانت كلها تركية أو مملوكية مثل: سليمان جاويش، السلحدار، خليل أغا. وفيها ازدادت نسبة التعليم والنضج. وكان بها قِسطٌ من الرياضة البدنية، واشتركت في «الجمباز» وأخي سيد في المُصارَعة، كما اشتركت في فرقة الرسم، وكنت أَهوَى رسم «البورتريه» صُوَر الموسيقيِّين، مثل بيتهوفن وشوبان، أو الشعراء، مثل شوقي وحافظ. وكانت طريقتي هي تقسيم الصورة الصغيرة إلى مربعاتٍ أصغر، ثم أبدأ الرسم بتكبيرِ هذه المربعات عشر مراتٍ تقريبًا، ثم أبدأ برسم كل مُربَّع حتى تكتمل الصورة على فرخ ورقٍ كبير. وقد علَّقتُ صُوَر بيتهوفن وشوبان وشوقي وحافظ على حائط غرفتي أنا وأخي سيد، التي كانت تُطِل على السطح. وعندما غادرتُ إلى فرنسا في عام ١٩٥٦م لم أعرف ماذا أفعل بهذه الصور؟ أَتركُها مُعلَّقةً على الحائط أم أَخلعُها وأحتفظ بها في مكانٍ ما؟ السطح وفوق أحد الجَمَلُونات. وفعلتُ، وأَفسَدتُها مثل كل البلي. ويا ليتني احتفظتُ بها في مكانٍ أمينٍ كجزء من الذكريات المُبكِّرة والجلوس على المِنضَدة هذا الوقت الطويل كما فعلتُ ذلك فيما بعدُ من أجل الفلسفة. كان هَمِّي أن آخذ أوراق الأفكار المُتناثِرة التي أُدوِّن فيها أحلامي بمجرد الاستيقاظ! وأخذتُها معي إلى فرنسا عن الفكر والواقع، وتركتُها في حقيبةٍ في غُرفة الحقائب في بيت الطلبة الألمان بالمدينة الجامعية بباريس. كما اشتركتُ في فرقة الموسيقى وأخي في التمثيل مع أبو زهرة. أمَّا جمال إسماعيل فقد كان في المدرسة الخديوية، وكانت فرقتا التمثيل بالمدرستَين تلتقيان لتكوين فرقةٍ مشتركة. وتعلَّمتُ النوتة والصولفينج. وكنتُ أنا ورفيق العمر محمد وهبي عبد العزيز، الذي أصبح مستشارًا في جامعة الدول العربية، نذهب إلى معهد شفيق للموسيقى في عابدين والملاصق لِسُور القَصر، وكان عم وهبي — وهو عازفُ كمان في فرقة أم كلثوم — يدفع له المصاريف، وأنا لا أستطيع أن أدفع شيئًا ولو خمسين قرشًا في الشهر. وهناك تَعرَّفنا على العلمي عازف الكمان، ثم قدَّم لنا عم وهبي في معهد الموسيقى العربية في شارع رمسيس ببنائه العربي، وكان هناك امتحان قبول في مادتَي العزف والصولفينج، وأوصى عم وهبي المدرس الأرمني على وهبي فنجح، وأنا نجحتُ في العزف ولكني لم أستطع تقليد الأصوات؛ فقد كنت أسمع جيدًا نغمة البيانو ولكني لا أستطيع تقليدها، وذَهبتُ إلى علي إسماعيل لِيوصي عليَّ، ولم أَدرِ إذا كان فعل أم لا. حَزِنتُ انفعالًا، وقد تكون هذه التجربة إحدى علامات الاتجاه كُليةً نحو الفلسفة. وقد تكرر هذا الخيار بين الموسيقى والفلسفة وأنا في فرنسا بتجربةٍ مَرضِيَّة، إرهاق سنتَين بدراسة كِلَيهما واحتمال الإصابة بِالسُّل في الرئتَين. وتَذكَّرتُ أَلَّا تَعْدِلُوا. وقد حاولتُ العَدلَ ولكني لم أستطع. وتَذكَّرتُ تجاربَ أخرى دفعتني إلى الفلسفة طبقًا للمثل الشعبي: «أبو بالين كداب» وكان معنا أيضًا المغني الأول العزبي الذي غَنَّى في فرحي، وتردَّدتُ هل أعطيه أجرًا أم لا؟ وإذا أعطيت، خمسة أم ثلاثة جنيهات؟ وكان لدَينا نظام الثقافة بعد أربع سنوات؛ حيث لا تخصُّص، والتوجيهية بعد خمس سنوات؛ حيث يختار الطالب بين ثلاثِ شُعَب: علمي، أو رياضة، أو فلسفة. لم أكن أُفضِّل العلم؛ فهو دراسة للطبيعة. ويبدو أن اتجاهي كان دراسة الإنسان دون أن أعرف. ولمَّا كان أدبي به شعبتان أدبي رياضة وأدبي فلسفة، وكان العقل أحد مَلَكَات الإنسان، فاخترت أدبي رياضة. ودخل أستاذ الرياضيات، وكان أعرجَ عبوسًا، وملأ السبورة السوداء بِمُعادَلاتٍ بالطباشيرِ الأبيضِ لم أفهم منها شيئًا، فحَوَّلتُ في الحصة الثانية إلى أدبي فلسفة، ثم صَرَّح المُدرِّس بعد ذلك أنه قصَد أن «يُعقِّد» الطلبة؛ فمن كان هشًّا ترك، ومن كان صُلبًا بقي، ثم شرح هذه المُعادَلات التي هَرَّبَتني منه بعد ذلك مُعادلةً معادلة وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وذَهبتُ إلى أدبي واستمعتُ لِأَوَّل مرة إلى الشعر العربي فتَذوَّقتُه. بدأتُ أَتذوَّق الآداب، القصة والرواية والشعر. وكان أستاذ الأدب يتكلَّم من قلبه، يُريد أن يسمعه الطلبة ولا يكتبون وراءه شيئًا. وكان أستاذ الفلسفة عقلانيًّا، يَشرَح تاريخ الفلسفة، ويُعِيرنا كُتب أفلاطون وأرسطو، والبعض مِنَّا لم يشأ أن يُرجِع كتب الأستاذ بعد التخرُّج، فمَنَع تسليم شهادته حتى يُرجِع الكتب، وهو ما حدث بالفعل. وكان مُدرِّس التاريخ «أبانوب» ضخم الجثة ولكنه حلو الحديث، يبدأ الدرس بآخر نكتة، يضحك هو أولًا قبل التلاميذ حتى يضحكوا ويأخذون عليه. كنا نحبه إنسانيًّا واجتماعيًّا، ولكنَّ التاريخ لدَيه رصدٌ للحوادث، وهو ما لا تشتهيه النفس؛ لأنه خالٍ من النزعة الإنسانية. والعقل والفن — أي الفلسفة والفن — عوَّضاني حنيني للموسيقى، في حين أن هيجل هو الذي اعتبر الأوبرا أعلى الفنون لِجَمعِها بين الشعر والموسيقى. وفي هذه الأيام أُعلن عن مسابقة التوجيهية في الشعب الثلاثة، ومن الأدبي الفلسفة، فدخلتُ المسابقة وكان ترتيبي الأَوَّل على القُطر مما شجَّعني على دخول قسم الفلسفة بآداب القاهرة بالجامعة. وأقامت مدرسة خليل أغا الثانوية حفلا لتكريمي، دُعي فيه أستاذ الفلسفة عثمان أمين، وكنتُ أراه بوجهه الضاحك الأشقر، وكان هو الذي وضع سؤال المُسابقة عن مُقارنة الشك بين ديكارت والغزالي. وأحضر مدرس الفلسفة جاتوه وحلوى للمناسبة، وقُمتُ بعزف قطعة من الموسيقى الشرقية أمام الجميع، وسارت شائعاتٌ بأنني أخذتُ ما تبقى من الحلوى في عُلبة الكمان! ولا أدري كيف تدخل الحلوى داخل جراب الكمان وهي موجودة! ووُضِع اسمي في لوحة الشرف مع أوائل الطلَّاب والناجحِين في مسابقة العلوم والرياضيات على مدخل المدرسة بجوار حجرة الناظر. وأخذت مكافأة عشرين جنيهًا وزَّعتُها، خمسًا لوالدي، وخمسًا لإخوتي، واشتريتُ كمانًا بخمسة جنيهات، وساعةً بخمسةٍ أخرى. وكانت الجامعة ما زالت بمصاريفَ إلا للمُتفوِّقِين كما ثَبَت من مسابقة التوجيهية ثم من امتحان الثانوية العامة الذي حَصَلتُ فيه على ٧٧,٥٪. ثم قامت الثورة في يوليو ١٩٥٢م، وقرَّرَت أن يكون التعليم الجامعي مجانًا مثل التعليم العام الذي قرَّره طه حسين وزيرًا وفديًّا للتعليم بعبارته الشهيرة: «التعليم كالماء والهواء.»
واكتشافي المرأةَ كان تدريجيًّا. البداية بصالحة أخرى في الشباك الذي أمامنا بجمالها وبياضها وكانت لها أولاد، وأكبر مني سنًّا، لكنَّه كان حُب المراهقة. أمَّا التجربة التي هَزَّتني هي تجربة جارتي (الشابَّة) نعيمة بنت الكبابجي الذي على ناصية الشارع البنهاوي ودرب الشرفا. ولم يكن جَزَّارًا باللحم بل كان بائع كبدة يُعِدُّها في المنزل ويَقلِيها في الدُّكَّان فتجلب الزبائن. كانت الشقة السكنية بجوارنا، وقَلْي الكبدة في الحوش فتملأ المنزل كله، وكانت رائحة الثوم تُسيل اللُّعَاب على نقيض الكبدة الإسكندراني المطبوخة والتي لا يمكن التمييز فيها بين المطبوخ والنيئ؛ فكلاهما بدمه. كانت تُساعِد أباها مع أمها في إعداد الكبدة، وكانت الأُم تقوم بكل شيء، وتكون الشابة بمفردها في السكن، وكُنتُ أنا لا أذهب إلى المدرسة لإعدادي مُسابقةَ التوجيهية. وكان هناك شُبَّاك في الحائط الفاصل أَصعَد إليه لِأُناجيها. لا أدري إن كنت أُحبها أم أُحب صفاتها: البياض، الطول، الحيوية، الابتسامة، وربما لا أدري ما هو الحب إلا إحساسٌ باطني يدفع الإنسان إلى فعلٍ لا إرادي بِصرف النظر عن الخطأ والصواب وبصرف النظر عن الهدف والمستقبل، يرانا الطالع والنازل على السلم ونحن نتناجى، والشبَّاك الآخر الرئيسي بجوار شُبَّاكها نتكلم من خلالهما، ونحن مكشوفان للجار في الحارة ولأبي صلاح صاحب الفُرن الذي فوقنا، وفُرنُه أسفلنا على ناصية درب الشرفا وعطفة العبساوي؛ ففضحنا أنفسنا بأنفسنا إلى أن جاء يومُ زواجِها وانتقالها إلى بيت «العدَل»، غنَّت لي أنها تتركُني على عَينِها. وكان الجيران يُحذِّرونها من «يد الهون» ولم أَفهمِ الرمز وقتها كما يُحرِّم السلفيون الآن، بعضهم وليس كلهم، استعمالَ المِنقار لِتكويرِ الكوسة والبطاطس والباذنجان. وكانت فَترةَ حزنٍ شديد، رَجَف القلب آخر يومٍ لها في المنزل. خَرجتُ معها مرةً واحدة، هي بالملاية اللَّف وأنا بالبدلة والكرافتة يسير كلٌّ منا بجوار الآخر، ووَجهُها في الأرض، وأنا أسمع تعليقات المَارَّة: «مش كده يا أستاذ!» وذهبنا إلى المُصوِّراتي وأخذنا صورةً معًا، وكان هذا أقصى ما يستطيع الحبيبان الغُشم أن يفعلاه في الأحياء الشعبية. عَرفَ ذلك الوالد ومنعني، وقال إنه يخشى على أخواتي مني، وشتَّان بين الموقفَين، الأخت والحبيبة، عشق الروح وعش الجسد. كنت أُحِب الجمال والحيوية والظُّرف؛ أي القدرة على النكات مع المرأة، وأنا فنَّان، رسَّام وموسيقي. أَرسمها وأُلحِّن لها، ولو كُنتُ شاعرًا لَغنَّيتُها في قصيدة حسن ونعيمة. كان مصيري هو مصير نجيب الريحاني ومصيرها مصير أنور وجدي في «غزل البنات».
وكنت قد تَعلَّمتُ وأنا في الثانية الثانوية بعد البلوغ وبطريقةٍ تلقائية عندما احتك القضيب بفخذي فقَذَف، وبَلَّل البنطلون، وشَعَرتُ بِلَذةٍ فائقة. وما جاء مصادفةً تَحوَّل إلى فعلٍ قصديٍّ طَوال مرحلة الثانوية، ثم قرأتُ بعد ذلك عن عيوبها، وتوقَّف بعد مُغادرتي إلى فرنسا بأربع سنواتٍ عام ١٩٦١م عندما أدركتُ أن العمل الطبيعي أفضل من العمل الصناعي؛ فالعمل الطبيعي به أُنسٌ وضَحِك وتَعرُّف على الآخر، في حين أن العمل الاصطناعي خوفٌ ووحدةٌ وتأنيبُ ضمير.
وكان العمل السياسي ما زال مُستمرًّا؛ فقد كانت الأربعينيات هي الثورة الوطنية ضد القصر والإنجليز. وكان الأستاذ علاء مُدرِّس الرياضة البدنية في حَيرةٍ من أَمرِه مع الطلاب في المظاهرة أم مع النظام المدرسي والدفاع عنه؟ كان في مصر في ذلك الوقت أربعةُ تيَّاراتٍ رئيسية: الأول، الوفد وهو التيار الرئيسي الأول، وكان يقود المظاهرات. وكان اليسار الوفدي قد بدأ في الظهور وبه مصطفى موسى الذي كان يسير في شوارع باب الشعرية يُسلِّم على الناس في انتخابات عام ١٩٥١م، وهذا ما فعله معي وأنا سائرٌ على الرصيف، وتساءلتُ: هل لي هذه الأهمية الكبيرة؟ وهو ما يحدث حتى الآن من المُرشَّحِين بالإعلان عن ذلك تأييدًا لهم. الثاني، الإخوان المسلمون بشعار «الله أكبر ولله الحمد». والثالث، مصر الفتاة وكان مُتَّهمًا بإقصاء خصومه السياسيين عن الحكم. والرابع «حدتو» وهو اختصار للحركة الديمقراطية للتحرُّر الوطني شبه الماركسي الذي كانت تحية كاريوكا عضوًا فيه. وكان الطلبة لا يحبون الوفد لأنه حزب القصور والباشوات والتخلي عن ثورة ١٩١٩م وحادثة ٤ فبراير، ولا يُقدِّرون قيمة أحمد حسين ومصر الفتاة، ويخافون العنف والأعمال السريَّة، وكانوا تحت الفكرة الشائعة بأن الماركسية مادية وإلحاد، ولا تتفق مع المجتمع المصري، فلم يَبقَ لديهم إلا الإخوان المسلمون، فانضمُّوا تحت لوائهم، واستمعوا لِنداءاتهم في المُظاهَرات. وفي باب الشعرية كان هناك سيد جلال مرشَّحًا في انتخابات ١٩٥١م، بنى مستشفى باسمه، ولم يكن وفديًّا بل كان سعديًّا — على ما أَذكُر — مُناهِضًا للوفد، فكنت في صراعٍ أكون مع من ضد من؟ ولماذا عَارَض السعديُّون الوفد؟ هل صراعٌ على السلطة؟ وما عَيبُ يَسارِ الوفد؟ ولم تكن فكرة الائتلاف قد بَزغَت بعدُ. وهنا ظَهَر الإخوان المسلمون وكأنهم المظلَّة الوحيدة للعمل السياسي دون عِلمٍ بالخبايا والصراعات الداخلية والتنظيم السري ومقتل السيد فايز، وكُنا نسمع عنه أنه كان يُمثِّل يسار الإخوان أو على الأَقَل المعارضة العاقلة بوضع قُنبلةٍ على نافذته.
وفي عام ١٩٥١م ونحن على مَشارِف الإخوان بَدأَت حربُ الفدائيِّين في قناة السويس، وتَعرَّف الإخوان على كمال الدين رفعت الذي كان يقود حرب الفدائيِّين، وكان من الضباط الأحرار الذين قادوا ثورة ١٩٥٢م، وكان الشهداء يُنقَلون من الإسماعيلية للصلاة عليهم في جامع الكخية بميدان الأوبرا، وكان إخوان مدرسة خليل أغا يقودون المسيرة بلباسهم الكاكي والعصا وراء ظهورهم تشبيهًا بالسلاح. وكُنتُ أَسمعُ الناس يهتفون على الجانبَين «حماكم الله»، «حرسكم الله»، فكان ذلك امتدادًا للتعاون بين الإخوان والثورة منذ ١٩٤٨م في فلسطين؛ فليست العلاقة بين الاثنين صفحةً سوداء دائمًا. وكان عمري وقتئذٍ ستة عشر عامًا، وكان المُقاتِلون أنفسهم لا يظهرون، ولم يكن الضباط الأحرار معروفِين في ذلك الوقت. ونمَت فيَّ روح الوطنية استمرارًا للاشتراك — وأنا بمدرسة السلحدار الابتدائية — في مظاهرات جامعة القاهرة مع لجنة الطلبة والعمال عام ١٩٤٦م. وفي يناير ١٩٥١م وقع حريق القاهرة، ولم أكن أفهم معنى الحدث، لماذا؟ وما الهدف؟ هل ثورةٌ أم فوضى كما يُقال الآن؟ هل نضالٌ وطني أم «انتفاضة حرامية» كما وُصِفَت — فيما بعدُ بربع قرنٍ — انتفاضة يناير ١٩٧٧م ضد غَلاء الأسعار؟ هل لإقالة حكومة الوفد التي تُناضِل ضد القصر والإنجليز، من تدبير القصر والمعارضة؟ لم يكن هناك تلفزيون في ذلك الوقت كي أراها، ولكني نزلتُ شارع الجيش حتى ميدان الأوبرا سيرًا على الأقدام؛ فقد تَعطَّلَتِ المواصلات، ورأيتُ فندق الكونتننتال وهو يحترق، والناس تجري، معظمهم بجلابيب، وتساءلتُ: شعب أم لصوص؟ مع الشعب أم ضده؟ ولم أكن أفهم في التحليل السياسي كما يَحدُث الآن.
وفي صيف ١٩٥٢م في ٢٣ يوليو انقَلبَتِ الموازين، واندَلعَتِ الثورة المصرية، وكنا في بداية الصيف. وظهر لنا محمد نجيب زعيمًا وطنيًّا مصريًّا سودانيًّا، وحوله مجموعةٌ من الضباط الأحرار، فانتهت الحيرة بين التيارات السياسية الأربعة، وانضم الجميع تقريبًا إلى الثورة خاصة وأن بياناتها الأولى تتحدث عن القضاء على الاستعمار والإقطاع والملكية والتحقيق في اغتيال حسن البنا، وإعداد جيشٍ قوي، وإقامة حياةٍ ديمقراطية سليمة، فانضم الجميع إليها. وكان خطابه الأخير يتحدث عن وحدة الأمة الإسلامية وليس فقط وحدة مصر والسودان. وكان الإخوان مع الثورة في البداية لأنها أبقت عليهم، ولم تَحُلَّهم كما حلَّت باقي الأحزاب خاصة الوفد حتى لا يكون خَصمًا للثورة المباركة. وجاء نجيب إلى جامعة القاهرة، وأَلقَى خطابًا دعا فيه إلى الوحدة الإسلامية الجامعة، فضَجَّت القاعة بالتهليل والتكبير. وكان بجواره أو وراءه قليلًا ضابطٌ واضع يدَيه على صَدره، وهو يرى هذا المنظر ولا يُشارك في الإعجاب أو التصفيق أو يُحيِّي الطلاب، عرفنا بعده أنه عبد الناصر الذي استطاع تصفية مُعارضِيه من الضباط الأحرار، بما فيهم الإخوان، مع أنه كان قد جعل رشاد مهنَّا، وهو من الإخوان، وصيًّا على العرش. وكان أعضاء مجلس قيادة الثورة اثني عَشَر، نصفهم من الإخوان مثل كمال الدين حسين الذي عُيِّن وزيرًا للتربية والتعليم وصاحب شعار «مدرستان في يومٍ واحد»، ثم استقال عندما وجد عبد الناصر ينفرد بالحكم. وجاءت مأساة ١٩٥٤م، واتهام الإخوان بمحاولة اغتيال عبد الناصر بعد أن أَطلَق أحد أعضائهم في شعبة إمبابة النار عليه وهو يخطب في المنشية مُتطوِّعًا بنفسه دون أخذ أَمرٍ مُباشرٍ من مرشد الجماعة حسن الهضيبي والذي كان ضد استعمال العنف، فحُلَّت الجماعة، وفُكَّ التنظيم السري لعبد الرحمن السندي، وقُبِض على معظم قيادات الإخوان بمن فيهم المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد وسيد قطب، وحُوكِموا أمام مَحكمة الثورة، وهي مَحكمةٌ عسكرية، إمَّا بالإعدام مثل المُفكِّر القانوني المستشار عبد القادر عودة صاحب «التشريع الجنائي الإسلامي»، وكانت كل جريمته أنه استقبل المُتظاهرِين في ميدان عابدين، ورفع قميصَين مُلطخَين بالدماء تنديدًا بهذا الفعل الوحشي. وكان حسن الشافعي أحد أعضائها وبرياسة جمال سالم، وما زال الشافعي يَتهرَّب من هذه الذكريات الأليمة. وفي السنة الثانية شاركتُ في مظاهرات ١٩٥٤م بعد أن كان عبد الناصر قد وقَّع مع بريطانيا اتفاقية الجلاء التي تَخرُج بريطانيا طبقًا لها من قاعدة التل الكبير ومن منطقة القناة، وتُجلي معسكرها الأحمر على ضفاف النيل مكان الجامعة العربية حاليًّا، ولكنها تسمح بالعودة إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى»، خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف. وما زِلتُ أَذكُر الشهيد عبد القادر عودة وهو يَهزُّ قميصًا مُلطَّخًا بالدماء من شُرفة عابدين قائلًا إن هذه هي أخلاقهم. كنا نهتف في المُظاهَرات: «يا جمال للصبر حدود.» وأَتذكَّر أغنية أم كلثوم «للصبر حدود»، وفيما بعد قَرأتُ آية فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ. وكان هذا هو أحد الدوافع التي جعلتني أتحدَّث عن ذلك في «من الفَناء إلى البَقاء». وقد اختفيتُ في فندق سيمراميس الذي كان يُطل على ميدان التحرير الذي كان قبل الثورة يُسمَّى ميدان الإسماعيلية نسبة إلى الخديوي إسماعيل في القاهرة الخديوية، وسط البلد. وفَرِحنا بالثورة وبقوانين الإصلاح الزراعي، والقضاء على الإقطاع، وتحرير الفلاح، وإعطاء كل فلاح خمسة فدادين مِلكًا له والقضاء على الملكيات الكبيرة وأَوَّلُها أراضي القصر وأَبعَديَّات الباشوات التي كان يسير فيها القطار بالساعات، مجتمع النصف في المائة. وكان القصد ليس فقط تميلك الفلاح الأرض بل تحرير الفلاح من عبوديته للباشا والمَلِك عن طريق مِلكية الأرض. فإذا قيل لقد تفتَّت الملكية وأصبح من الصعب «ميكنة» الزراعة قيل إن هناك الجمعيات التعاونية التي نَشأَت من أجل ذلك. وقرَّرنا أنا وبعض الأصدقاء: عبد المحسن حسين عبد الله الذي أصبح طبيب عظام وزوجًا لأختي علية، محمد وهبي عبد العزيز صديق العمر من الجامعة العربية، العطار أستاذ الرياضة البدنية، فيما بعدُ، الذهاب من القاهرة إلى الإسكندرية سيرًا على الأقدام، نرى الريف قاع المجتمع، والفلاح عماده. واتفقنا على أن المبيت في مَقارِّ هيئة التحرير، التنظيم السياسي الجديد للثورة والذي طلب عبد الناصر من سيد قطب أن يرأسه فرفض. وأَخَذ كلٌّ منا حقيبةً صغيرة فوق ظهره، وكانت أول محطة بنها، وسألنا عن مقر هيئة التحرير، فأشاروا إلى بدروم عليه يافطة «هيئة التحرير» تحوط به المياه الطافحة، حتى جاء رجل، وحَسِب أننا من الحكومة فارتعَد، وطمأنَّاه أننا لسنا من الحكومة بل طالِبو معرفة بأحوال الريف حُبًّا في الثورة، ونمنا الليلة على الأرض، ولم نجد أحدًا نُحادثه أو نسأله عن شعور الفلاحِين بعد الثورة. وفي الصباح استَأنفْنا السير حتى طنطا، وسَألْنا نفسٍ الشيء: أين مَقرُّ هيئة التحرير؟ فأشاروا علينا بدورٍ أَوَّل في مبنًى فارغ ليس به أَحدٌ إلا اليافطة. واستأنفنا السير في اليوم الثالث من طنطا إلى كفر الزيات، وهنا أشاروا علينا بمصنع زيت وصاحبه بلا يافطة. ولمَّا ظن أننا من الثوَّار انتابه الفزع والفرح في آنٍ واحد، وأمر بالكباب، وكان يُسمَّى ناشد، وطلب مِنَّا أن نستريح ليلةً لدَيه بدلًا من الاستئناف إلى كفر الدوار ثم إلى دمنهور، فوافقنا لإجهادنا، وقلنا له إننا سنُخطِر القيادة في مصر بحسن الاستقبال حتى تتأكَّد رياسته لهيئة التحرير، ثم صعوده بعد ذلك إلى أعلى سياسيًّا. واستأنفْنا السير إلى دمنهور، وهناك أَحسَسنا بالتعب بالفعل، وبَدأَت أقدامنا تلتهب، ومع ذلك وصلنا إلى الإسكندرية، وذهبنا إلى هيئة التحرير في ميدان المنشية، فوَجَدنا أخا عبد الحكيم عامر، فرَحَّب بنا، وتركنا ننام في شُرفة ميدان المنشية الذي تمَّت فيه محاولة اغتيال عبد الناصر. وبعد الاستراحة عدة أيام، أَخَذْنا القطار عائدِين إلى القاهرة، وكانت ذِكرى علاقة التنظيم السياسي الذي لا وجود له بالشعب الذي لا يعرف عن هيئة التحرير شيئًا، والدولة التي لا تعبأ بشيء. وعلمنا في هذه السن المبكرة أنه لا يُمكِن بناء تنظيمٍ سياسي من فوق على عكس الإخوان أو حتى قيام نخبةٍ عسكرية بالثورة.
وكنتُ أذهب إلى شعبة الإخوان بباب الشعرية مساءً بين الحين والآخر، ثم تَعلَّمتُ كيف أذهب إلى المركز العام بالحلمية الذي أصبح الآن قسم الدرب الأحمر. وهناك تَعرَّفتُ على سيد قطب وسألتُه أنني أريد أن أحول الإسلام إلى منهاجٍ إسلاميٍّ عام، فنصحني بقراءة أبا الأعلى المودودي. وتَعرَّفت أيضًا على علال الفاسي الزعيم والمُفكِّر المغربي، وسَمِعتُه بلهجته المغربية، ورأيته بلباسه المغربي. وكانت المحاضرة الأسبوعية كل يومِ ثُلاثاء، وكنتُ صغيرًا، وكانوا كِبارًا. وكنتُ وأنا ذاهبٌ إلى الشعبة بباب الشعرية أَحمِل كَماني معي فيقول لي أَحَد الإخوة: ألا تعلم يا أخ حسن أن الموسيقى حرام؟ كيف حرام وهناك موسيقى القرآن؟ وقد استقبل الأنصارُ المُهاجرِين بالدفوف والغناء كما حفِظنا ونحن صغار، وكما يُنشَد في الأفلام المصرية:
ولمَّا قامت ثورة مصدق عام ١٩٥٣م ضد الشاه وأمريكا لتأميم البترول، وهَربَ الشاه، اعترض الإخوان في شعبة باب الشعرية وهاجموا مصدق، ووصفوه بأنه شيوعي، وأيَّدوا آية الله الكاشاني صديق الشاه، وعلَّقوا على جريدة الحائط الهجوم على مصدق ومَدْح الكاشاني، فغَضِبتُ وطلَبتُ الكلمة بأن هذا اتجاهٌ يميني، وأن الإسلام مع التأميم وضد حكم الملوك، وأن الأفضل جعلُ الشِّعار كتابًا وقلمَين وليس مصحفًا وسيفَين؛ فالمصحف والسيفان دعوة للقتال، والكتاب والقلمان دعوةٌ للعلم.