كل نفسٍ ذائقةُ الموت (٢٠١٨م–…)
والآن وقد اكتملت ذكريات الماضي دون الحاضر، فماذا عن المستقبل؟ لم يتحقق المستقبل بعدُ، ولكن هل يمكن للاستباق أن يحل محلَّه؟ هل يمكن بناءً على ذكريات الماضي وربما الحاضر التنبُّؤ أو على الأقل الإحساس بما سيحدُث في المستقبل قبل أن يتحول إلى ذكرياتٍ قد لا يعيش صاحبها؟ فالماضي مستقبل الحاضر، والحاضر والمستقبل هما الماضي قبل أن يتحققا، والمستقبل لا يمكن تحديد نهايته ولا بدايته؛ فالبداية هو الحاضر، ونهايته الموت، ولا يتحول إلى ذكريات إلا يوم الحساب. ومع ذلك يمكن مراجعة الماضي، هل حقَّق كل ما أراده «التراث والتجديد» بمستوياته الثلاثة: العلمية الفلسفية، والثقافية، والسياسية الشعبية؟ صحيح أنني أسمع صداه في كل مكان، وعند عدة أجيال، والواقع يسير في منطقه الخاص، لم يغير مساره في شيء؛ فالصراع بين أنصار القديم، الإسلاميِّين، وأنصار الجديد، اليسار، ما زال قائمًا من أجل الاستيلاء على السلطة في الحاضر. أنصار الماضي هم السلفيون، وأنصار المستقبل هم المدنيون، ما زالوا يتصارعون على الحاضر. والشعب الفقير هو الذي ضاعت مصالحه، ويحتاج إلى خدماته، ولم ينفع في ذلك لا المستوى العلمي للعلماء، ولا المستوى الفلسفي لِلمُثقَّفِين، ولا المستوى السياسي الشعبي للجماهير. ربما عليَّ الانتظار حتى يكتشف التاريخ أهمية «التراث والتجديد»، ويُحرِّكه، وينقله من مرحلةٍ ماضية إلى مرحلةٍ آنية، من مرحلة السقوط في القرون السبعة الأخيرة إلى مرحلة النهوض في القرون السبعة التالية لِحاقًا بالقرون السبعة الأولى، من الأول إلى السابع، مرحلة النهضة الماضية الأولى إلى مرحلة النهضة الثانية الحديثة من القرن الرابع عشر حتى الواحد والعشرين، وابن خلدون علامةٌ فارقة بين الاثنَين.
استرسلتُ في الذكريات قَدْر المستطاع. قد أكون نسيتُ بعضها أو أوَّلتُ البعض الآخر، ولكني لم أظلم أحدًا، ومن يُحسَّ بالظلم بعد قراءتها فليرُدَّ عليَّ، وتُجمَع هذه الردود وتُطبَع في نهاية الذكريات في الطبعة الثانية. الذكريات تسيل كنهرٍ دافق، أكتبها كي أستريح من الكتب العلمية المُوثَّقة في أجزاء «التراث والتجديد»، وتنتهي براحةٍ نفسية بعد التخلِّي عن ثقل التاريخ وهمومه. هو علاج نفسي أعطيه لنفسي عن طِيبِ خاطر، وأُجرِّبه لعلي أعود إلى «الروح الطائر». كنتُ أظن أنها ستأخذ مني سِنينًا، ولكنها أخذت مني شهرَين في صياغتها الأُولى، ثم شهرًا ثالثًا في الصياغتَين الثانية والثالثة. وأنا أَكتبُ كل يومٍ مرتَين، صباحًا ومساءً، لَعَلِّي أترك للأجيال القادمة قصةَ حُب مُفكِّرٍ لا يُفرِّق بين هموم الفكر وهموم الوطن. الحمد لله أنني لم أُسجن أو أُعذَّب، ولكن السجن كان إراديًّا؛ سجن البدن بين أربعة جدران، وسجن الروح وعذابه في حمل الهموم دون التخلي عنها لحسابِ نظامٍ سياسيٍّ أيًّا كان. لقد كُنتُ أشعر دائمًا بواجب العلماء، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد مناقشتي لعبد الناصر في مؤتمر المبعوثِين صيف ١٩٦٦م في المُدرَّج الكبير بجامعة الإسكندرية. ولم أستطع أن أفعل ذلك على من خلَفه في معرض الكتاب لأني اعتبرتُه قد تخلَّى عن الأرض بمعاهدة كامب دافيد واتفاقية السلام مع إسرائيل، ولكني ناقشتُ من أتى بعده في معرض الكتاب مُبيِّنًا أهمية حرية الفكر والاستقلال الوطني للبلاد ضاربًا المثل برمسيس، وصلاح الدين، وعبد الناصر، فسأل: وأين السادات؟ فلم أشَأْ أن أرُدَّ قائلًا إنه عقد السلام مع العدو قبل أن ينسحب من الأراضي المحتلة. وكان عبد الناصر يقول دائمًا: ليست القضية سيناء؛ فأنا أستطيع أن استرِدَّها في أربع وعشرين ساعة، ولكن عيني على الضفة الغربية والجولان.
والآن وقد اكتمل المشروع، وقاربت حياتي على الانتهاء؛ إذ لمَّا سمِع أبو بكر آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، قال: «إن الرسول ينعَى نفسه.» ولم يَبقَ لي إلا هيجل واليسار الهيجلي أو الهيجليين الشبان؛ لبيان أهمية هذه الفترة من الفلسفة الغربية؛ فقد استطاع هيجل أن يُحوِّل الدين إلى فكر، والعقائد إلى حياة؛ فالتثليث هو الجدل الهيجلي، والتجسُّد هو الروح في التاريخ، والمُطلَق في الدولة. والدين والمثالية قرينان منذ كانط، وهيجل في النهاية هو أحد تلاميذه جمع بين كتبه النقدية الثلاثة، نقد العقل النظري، ونقد العقل العملي، ونقد ملَكَة الحكم في عقلٍ واحد، لا يُفرِّق بين الظاهر والشيء في ذاته؛ فالعقل والغائية في التاريخ؛ فالماركسية هي التطوُّر الطبيعي للدين، من العقائدية إلى المثالية إلى الإنسانية إلى الواقعية الاجتماعية. ولا فرق بين الإيمان بالمسيحية والإيمان بهيجل؛ فهيجل هو المسيحية العاقلة، والمسيحية المثالية هي هيجل التاريخي. ثم جاء تلاميذه ونقَدوا مِثاليَّته، مثالية الأستاذ والتي لا فرق بينها وبين الدين المسيحي؛ فالحقيقة تحت المثالية في الواقع، في المجتمع وحياة الناس، الفرد عند شترنر، والوعي الذاتي عند باور، والإنسان عند فيورباخ. ثم جاء تلميذ آخر، كارل ماركس، فنقد التلاميذ، العائلة المُقدَّسة؛ فهم ما زالوا مثاليِّين مثل الأستاذ. أمَّا الحقيقة لدَيه فهي الحياة المادية، الصراع بين الفقراء والأغنياء، بين من لا يملكون ومن يملكون، بين الحرية والاستعباد.
كُنتُ أَوَدُّ أن أُنشِّط اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية، كما فعلتُ مع الجمعية الفلسفية المصرية، وبعد الاجتماع الأَوَّل، بَدأَت الصعوبات؛ أَوَّلها عدم وجود جمعياتٍ فلسفية إلا في تونس والمغرب والأردن ولبنان، وعدم وجود التمويل اللازم لِنفقات سفَر الأعضاء أو الإقامة، وعدم وجود النية الصادقة والحماس اللازم للعمل الجماعي. وكنتُ أَودُّ أن أُحوِّل قسم الفلسفة عندنا إلى مركزٍ للتفلسف، وخَلْق مدارسَ فلسفيةٍ يُحاوِر بعضها بعضًا، بدلًا من الخصام والتوتُّر والمقاطعة بين الأساتذة. كما كُنتُ أَوَدُّ أن أجمع أقسام الفلسفة في مصر في مؤتمرٍ سنويٍّ من خلال الجمعية الفلسفية المصرية أو بدونها بدلًا من هذا التشتُّت الذي جعل بعضنا لا يعرف البعض الآخر. كُنتُ أود أن أضع لكل قسمٍ خطَّة بحثٍ علميٍّ للماجستير والدكتوراه بدلًا من الاختيار العشوائي والمُكرَّر. وكنتُ أَوَدُّ أن يظهر أثَر هذه الرسائل في الواقع المُعاش حتى لا يكون مكانها مُجرَّد وضعها على الرفوف؛ فالفلسفة ليست بأقلَّ أثَرًا من الأدب، بل إن استمرار غالبية المؤتمرات السنوية في جامعة القاهرة بدأ يشُقُّ على النفس، وتظُن باقي أقسام الفلسفة أنها استكبارٌ بالقاهرة على باقي المدن. ولم تتَردَّد الجمعية الفلسفية المصرية ولا كلية الآداب في أن تستضيفها إحدى الجامعات المؤتمر السنوي تدعيمًا لنشاطها كما فعلَت جامعة الإسكندرية، وجامعة بني سويف، وجامعة المنيا، وكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وما زال الباب مفتوحًا للجميع، وإلا فإن قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة يُشرِّفه أن يكون بؤرة النشاط الفلسفي في مصر والوطن العربي والجامعات العربية.
كنتُ أَوَدُّ أن أقرأ أكثر وأكتُب أَقلَّ خاصة من مكتبتي الزاخرة بكل فروع الفلسفة، تاريخها اليوناني والروماني والوسيط والحديث والمعاصر، والفكر الشرقي القديم وفلسفة الدين، والفلسفة العامة وفلسفة الفن، وباقي العلوم الإنسانية، المنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع. كنتُ أَوَدُّ إكمال ثقافتي في الفلسفة السياسية وأن أقرأ العلوم السياسية والاقتصادية. وكنتُ أَوَدُّ أن أُكمِل ثقافتي في تاريخ مصر وتاريخ العرب الثقافي. وكنتُ أَوَدُّ إكمال ثقافتي للعالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وكُنتُ أود الكتابة عن «أمريكا، الأسطورة والحقيقة» بعد أن أعددتُ مراجعها ولم ينقُصْني إلا الوقت والناشر الجيد. كنتُ أَوَدُّ أن تُجمع مُؤلَّفاتي في دارِ نشرٍ واحدة، أعمالًا كاملةً أم مُجزَّأةً حتى يَسهُل الحصول عليها كما هو الحال مع أعمال الجابري الموجودة في مركز دراسات الوحدة العربية؛ فقد تناثَرَت دراساتي بين دار الفكر العربي، دار الكتب الجامعية، الهيئة العامة للكتاب، دار عين، مركز الكتاب للنشر، مدبولي، الأنجلو المصرية، مركز الكتاب المصري الحديث، وغريب، وقد طبَعتُ على نفقَتي الخاصة منعًا لهذا التشتُّت ظانًّا أن ذلك يجمع المُؤلَّفات في مكانٍ واحد مثل: «الحكومة الإسلامية»، «جهاد النفس»، «اليسار الإسلامي»، «من النقل إلى العقل»، الجُزءان الرابع: «علوم التفسير»، والخامس: «علوم الفقه»، و«محمد إقبال»، «من النص إلى الواقع»، «وطن بلا صاحب». وما زلتُ أنوي طباعة «هيجل واليسار الهيجلي»، «ذكريات» على نفقَتي الخاصة؛ فأنا لم أعُد قادرًا نفسيًّا على التسوُّل أمام أبواب الناشرِين، بل هم الذين يأتون إليَّ سائلِين. وكيف لي أن أستمر في التعامل مع رجالٍ أو نساءٍ لا هَمَّ لهم سوى الربح، ولا شأن لهم بالثقافة الجادة ونَشرِها؟ لقد انتهى العصر الذي تم فيه تكوين اللجنة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر التي أَسَّسها زكي نجيب محمود وأحمد أمين وثالثٌ لا أذكره، ولم تستطع الهيئة العامة للكتاب أن ترثها؛ فقد تغيَّر عصر الثقافة إلى عصر التجارة.
كنتُ أتمنَّى ألا يُعادِيَني أَحدٌ في القسم غَيرةً أو حسَدًا يتحولان إلى كراهيةٍ مستمرة وعداوةٍ ظاهرة. لم أفعل شيئًا يضُر أو يؤذي أحدًا، بل كنت طيِّبًا وكريمًا مع الكل، إلا أن الأهواء البشرية كثيرًا ما تطغى على طيبة القلب وصفائه، والأخطر من ذلك تكوين محورٍ ضِدِّي في مجلس القسم حتى لا يكتمل النصاب، فتبطُل قراراته. وكانتِ العداوة تَظهَر في اللجان المشتركة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدِين من أجل تكوين محورٍ معادٍ للمُتقدِّم أو في صفِّه بِغضِّ النظر عن الأعمال العلمية وتقييمها. وفي إحدى جلسات المجلس الأعلى للثقافة عندما قرَّرتُ مناقشة كتابي عن «فشته فيلسوف المقاومة» ووُزِّع الكتاب على أعضاء اللجنة، أخذ أحد الأعضاء الحاسِدِين النسخة ورماها أمامه، وكان يبيع كتبه المُقرَّرة على معظم الجامعات التي يُنتدب إليها، ويُوزِّع الدرجات العلمية، الماجستير والدكتوراه، على الأصدقاء بتسجيلها في الجامعات الإقليمية التي يدور عليها، ولمَّا نِلتُ جائزة الدولة التقديرية عام ٢٠٠٧م سعى بالواسطة إلى أن ينالها هو الآخر. ونجح في ذلك، وقضى نحبه وهو خارج من أحد معاهد التدريس.
كنتُ أتمنى أن أكون أكثر نشاطًا في العمل العام، وأكثر فاعليةً في تضحياته، ولا أكتفي بالعمل العلمي في «التراث والتجديد» أو العمل الثقافي: في «قضايا معاصرة»، «هموم الفكر والوطن»، «حصار الزمن»، «حوار الأجيال»، «دراسات فلسفية»، «دراسات إسلامية»، ولا بالثقافة السياسية الشعبية مثل «الدين والثورة»، «من منهاتن إلى بغداد»، «جذور التسلُّط آفاق الحرية»، «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى»، «الواقع العربي المعاصر»، «نظرية الدوائر الثلاث»، ولا أكتفي بانضمامي إلى الإخوان المُسلمِين في الخمسينيات أو بحزبٍ يساريٍّ «التجمُّع» في السبعينيات، ولا اكتفائي بالتنظير السياسي في «اليسار الإسلامي» في الثمانينيات. وتأتيني الآن خطاباتٌ عديدة من تياراتٍ مجهولة كي أكون عضوًا مؤسِّسًا فيها مثل الحزب الشيوعي المصري، وحركة شباب الإخوان، فأَرُدُّ بالاعتذار لِكِبَر السن، واكتفائي بالعمل النظري. و«اليسار الإسلامي» ما زال ضعيفًا على مستوى الممارسة العملية، وإن كان موجودًا في حزب النهضة في تونس وحزب الاستقلال والتنمية في المغرب وفي تركيا، وهو موجودٌ أيضًا في رؤية ماليزيا وإندونيسيا. والأهَمُّ من ذلك أنه موجودٌ في قلوب الناس وتمنياتهم بدلًا من صراع التيَّارَين الإسلامي واليساري على السلطة التي يستولي عليها العسكريون.
كنتُ أتمنَّى أن تُحكم مصر حكمًا ائتلافيًّا بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد؛ الإسلامية (الإخوان)، والقومية (الناصريون)، والليبرالية (الوفد)، واليسارية (الماركسيون) من أجل خلق برنامجٍ سياسيٍّ وطنيٍّ مُوحَّد للقضاء على المشاكل الاجتماعية التي لا يختلف عليها اثنان مثل: التحرُّر الوطني، والحرية الفردية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، والهُوية، وحشد الجماهير؛ فما زالت مصر تُحكَم في عصرها الحديث بِطرفٍ واحد قبل الثورات العسكرية أو بعدها، إمَّا الوفديون أو العسكريون، إمَّا العسكريون أو الإسلاميون، إمَّا قريش وإمَّا الجيش. أحدهما وطني، والآخر خائن. أحدهما ناجٍ، والآخر هالك. فهل الحقيقة واحدةٌ يمتلكها فردٌ واحد أم هي وجهاتُ نظر لأفرادٍ مُتعدِّدِين، والحقيقة افتراضٌ نظري يعمل عليه الجميع؟
كنت أتمنى أن تكون مصر كما كانت في الستينيات زعيمةً للأمة العربية وقائدةً لنهضتها القومية والاشتراكية، قادرةً على تجميعها، وتُكوِّن العالم حولها، كما فعلت في تكوين دول عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ودول العالم الثالث، والشعوب الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، تكون لها الأغلبية في الأمم المتحدة، ولا يجرؤ أحد على المساسِ بها أو غَزوِها أو تكوينِ قواعدَ عسكريةٍ فيها أو إدخالها في أحلافٍ مثل حلف بغداد أو حلف القاهرة والرياض وتل أبيب أو صفقة أو صفعة القرن التي يتم تنفيذها الآن بعد تغيير اسم الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير تكون إسرائيل مركزه بديلًا عن مصر. وكما كنا في الستينيات بؤرةً للعالم الثالث مركزه مصر والهند ويوغسلافيا، ناصر ونهرو وتيتو، نكون الآن بؤرةً لتحالُفٍ جديدٍ بين مصر وتركيا وإيران، نملأ الفراغ في الشرق الأوسط بدلًا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي تملؤه أمريكا وإسرائيل، فلا نَخسَر دولتَين لنا معهما إرثٌ ثقافي وسياسي مشترك بسبب وجود الإخوان في تركيا والثورة الإسلامية في إيران، فيعود الخيال السياسي ليتحرك في مصر بدلًا من أن تظل يدُها ممدودةً غربًا وشرقًا كي تعيش. تركتِ العراق مُجزَّأة، وسوريا مُدمَّرة، وليبيا متقاتلة، واليمن مُشتَّتة الصف. وقد تُوفِّي عبد الناصر وهو يُصالِح الأردن مع المقاومة الفلسطينية من كثرة الإجهاد للذهاب للمطار لاستقبال الرؤساء وتوديعهم، بدلًا من أن يذهب رئيس أكبر دولةٍ عربية لاستقبال ولي عهد دولةٍ عربية أخرى مُخالِفًا قواعد البروتوكول السياسي. تخلَّت مصر عن دورها المركزي في قلب الوطن العربي، فانهالت عليها الضربات من الشرق، روسيا، ومن الغرب، أمريكا، ومن الشرق، إيران، ومن الجنوب، الحبشة.
أَتمنَّى أن أعيش عامًا أو عامَين لِأُكمل «هيجل والهيجليون الشبان» (اليسار الهيجلي)؛ وبالتالي أكون قد أدَّيتُ مهمتي للفكر وللوطن، للجامعة والمجتمع. لا أغضب من أحد، وأسامح الجميع، وأشعر بالسيد المسيح في قلبي يدفعني إلى التسامُح والمحبة، عفا الله عما سلف، وأُحاوِل أن تنتشر هذه الروح في القسم؛ المصالحة. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ. وضَعتُ وديعةً باسمي في الكلية للصرف من ريعها السنوي على النشاط العلمي للكلية والأقسام في إقامة ندواتٍ ومؤتمراتٍ حتى لا يعيش كل قسمٍ في عزلةٍ عن الآخر، وكلها تُدرِّس نفس الموضوع «اللغة»: اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية واليابانية والصينية، أو العلوم الإنسانية، علوم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، كما جَعَلتُ للأقسام ودائعَ أخرى، قسم اللغة العربية ذكرى لأخي سيد، وقسم الدراسات اليونانية واللاتينية الذي رشَّحني لجائزة الدولة التقديرية، وربما قسم الفلسفة الذي عِشتُ فيه أستاذًا خمسين عامًا منذ ١٩٦٦–٢٠١٨م، وقبلها أربع سنواتٍ أخرى طالبًا (١٩٥٢–١٩٥٦م)؛ لأنه لم يُرشِّحْني لأي شيء، ومن رشَّحَه القسم لم يَنَلْ إلا صوتًا واحدًا أو صوتَين في مجلس الكلية. ووَزَّعتُ الربع الأخير على عمَّال الكلية بالتساوي. واكتشفتُ بعد أن قرَّرَتِ الدولة التعامُل بالفيزا أن الفرق بين المُرتَّب والمعاش لم يصلني منذ هذا النظام؛ أي منذ أكثر من سنتَين. وحوَّلَتني الشئون المالية بالكلية إلى إدارة المعاشات في أول شارع الهرم لأن ذلك ليس من اختصاصهم. وذهبتُ مع سائق تاكسي حدثني عن صدقه وأَمانتِه ونسيان أحد أثرياء العرب لفَّةً بها الملايين من الجنيهات أو الدولارات لا أذكر، ووَجَد فيها بطاقته، وذهب إليه لِيُعطيه إياها، وعَرضَ عليه المكافأة الكبرى التي رفَضَها وطلَب فقط نسبته الشرعية وهي ١٠٪، وهو سائقُ لواءٍ بالجيش، ولا يعمل سائقًا، وقادرٌ على تصليح كل شيء؛ نجارة وحدادة وسباكة وكهرباء. ومكثتُ في إدارة المعاشات دقائقَ معدودةً لأن إدارتي في كوبري القبة، ورأيتُ سائق التاكسي في انتظاري مع أني لم أطلب منه ذلك، وأوصلني إلى مدينة نصر، وأعطيتُه ضعف الأجر لأنه بلا عدَّاد، وطلَب المزيد فأعطيتُه ما أراد. وطلَب بيتَه، وكان يتكلم في المحمول ولم يشعر أن العربة التي أمامه قد توقَّف صاحبها فجأةً لوجود مطبٍّ على الكوبري، فاصطَدمَت عربتُه بالعربة الخلفية. وإلى الآن ما زالت الإدارة المالية تُحيل من يذهب إليها بخصوصي إلى المعاشات مع أن المعاش يُحوَّل إليَّ عن طريق البنك بانتظام. وأخشى أن يكون في الأمر فسادٌ بعد أن أصبح هو المصدر الأول للرزق للفقراء والأغنياء على حدٍّ سواء، فسادٌ بالمئات أو فساد بالآلاف أو فسادٌ بالملايين أو فسادٌ وتهريبٌ إلى الخارج بالمليارات كما حدث من المخلوع وأنجاله وصحبه، وأقاربه. ثم عَرفتُ أنهم كانوا يُحوِّلون الفرقَ بين المرتب والمعاش إلى البنك عندما تكاثَرَت عليه الأسئلة من الزملاء.
كنتُ أتمنَّى أن أعيش أَطولَ ولو أني راضٍ من أني تجاوزتُ الثمانين، كي أُعطيَ أكثر مما أعطيتُ، وأن أقوم بواجبي تجاه حقوق الشعب وواجبات الدولة وأمانة الوطن. وكنتُ أُسَرُّ في رحلاتي إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي عندما أرى أجيالًا جديدةً قَرأَتني وهي في الثانوية حتى قبل الجامعة وأَسعدَتها رؤيتي، تُريد أن تتصوَّر معي وكأني أحد النجوم، وكأنني أحد المشايخ، ورئيس طريقةٍ صوفية. وأنا وزوجتي كذلك؛ فزوجة مولانا مثل مولانا في الاحترام والتقديس، وتُقارِن بين فكري الثوري وشخصيتي الهادئة، كيف يُعاديني المحافظون وأنا أَرُدُّ عليهم في هدوءٍ شديد وبمحبةٍ لهم وعُذرِهم، وتمنياتي أن يفتح الله عليهم، وأن يُنير عقولهم، يُحيون أوطانهم، ويُعبِّرون عن عصرهم؛ فكل إنسانٍ هو ابن وقته كما يقول الصوفية. ومع ذلك إني راضٍ تمام الرضى في هذه الثمانين عامًا. والحمد لله أنني أعطيتُ وأخذتُ، ولي أسرةٌ وأحفادٌ وأصدقاءُ ومُحبُّون. والأهم، أَثَري على الناس وفي التاريخ والذكرى الطيبة.
أتمنَّى أن أُدفَنَ بجوارِ من أحببتُ طيلة حياتي، توفيق في الاختيار وسعادة في طولِ البقاء. ولن يحزن مَن في مقبرة أبي وأمي وأخي وزوجته وشقيقتي وخالتي وحماتي وزوج أختي وعلي النجار من أقربائي؛ فالروح لا مكان لها، تتزاور بين البساتين وطريق السويس. أَتمنَّى أن تكون ضغطة الموت خفيفة؛ فقد تعِبتُ في حياتي، وأرجو ألا أَتعَب في وفاتي. وأَتمنَّى أن ألقى من كتبتُ عنهم، فشته وبرجسون، والأفغاني وإقبال. وأتمنَّى أن ألقى أساتذتي عثمان أمين وجان جيتون وطلابي، نصر حامد أبو زيد وعلي مبروك. وأتمنَّى أن أرى أولادي حازم وحاتم وزوجته وحبيبة الأسرة مروة وحنين وأحفادي، أنس وعلي وخديجة ولارا. أَتمنَّى أن يغفر الله الذنوب، ويعفو عني، وأن آتيه بِنيَّةٍ صافية يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. أتمنَّى ألا تكون في القبر وحشة بل أُنس. أَتمنَّى أن أرى النور في الظلام، نور القلب في ظلام المكان. أتمنَّى أن أشم رائحة الورود بدلًا من رائحة الجسَد المُتحلِّل. أتمنَّى أن يكون اللقاء الأخير معك أنت دون رؤيةٍ بصرية، بل يكفي حضورك وحديثك. أتمنَّى أن تعفو عني في جميع من آذيتُهم عن غير قصد، وأعود إليك صافيًا مثل آدم ومحمد. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.