التعليم الجامعي (١٩٥٢–١٩٥٦م)
وأُعلِن عن مجانية التعليم في الجامعة، فحَصَلتُ على المجانية في الجامعة لثلاثة أسباب: الأول، مجموعي في التوجيهية كان ٧٧,٥٪ أي فوق السبعين مما يُؤهِّل للجامعة. والثاني، أنني كنت الأول على القُطر في مسابقة الفلسفة التي تُؤهِّل للمجَّانية. والثالث، قرار الثورة بمجانية التعليم الجامعي أُسوةً بالتعليم العام. ولم يكن هناك تَردُّدٌ في الالتحاق بكلية الآداب، قسم الفلسفة، وكان قسمًا واحدًا مع علم النفس والاجتماع في السنتَين الأولى والثانية، ثم انفصل الاجتماع عن الفلسفة بعد السنة الأولى، ثم انفصل علم النفس عن الفلسفة ونحن في السنة الثالثة. وبقِي كلا العلمين كمُقرَّرَين دراسيَّين بحيث يُدرَّس علم الاجتماع في السنة الثانية وعلم النفس في السنة الرابعة. ولم يُخبرني أحد من أساتذة علم الاجتماع وعلم النفس أو حتى الفلسفة حتى انفصال الفلسفة في السنة الثالثة عن القسمَين الآخرَين، ربما لأن القرار لم يكن قد اتُّخِذ بعدُ. وهنا استرعي انتباهي عثمان أمين الذي كان يُدرِّس الفلسفة الحديثة خاصة ديكارت، وكانت طريقته التعليق على ديكارت وتطبيقه على الواقع العربي المعاصر، وكان يقول «بين قوسين» كان ضاحكًا مبتسمًا، يُركِّز على «مقال في المنهج» و«التأمُّلات في الفلسفة الأولى»، وفي الفصل الدراسي الثاني كانط. وكان يُطيل في شرح معنى كلمة ترنسِندِنتال والفلسفة الترنسِندِنتاليَّة، والتقابُل بين البَعدي والقَبلي. وفي «نقد العقل العملي» كان يُركِّز على الواجب والأخلاق عند كانط، وكناقدٍ فني في «نقد مَلَكة الحكم». في السنة الثانية في علم الأخلاق، ويقوم بتدريسه توفيق الطويل الأستاذ الثاني الذي استرعى الانتباه من على المنصَّة، بينما عثمان أمين كان يقف في أسفلها في منتصف القاعة، يُدرِّس واقفًا وسائرًا على الأقدام، ينقد الأخلاق الوضعية بجميع أنواعها، ويدافع عن الأخلاق المثالية بجميع أنواعها وفي مُقدِّمتها كانط. وكان يسمح بالاختلاف في الرأي وتبادُل وجهات النظر، وإذا قرَّر كتاباتٍ في الفلسفة الخُلقية فإنه يطلب قراءته ومناقشته بابًا بابًا أو فصلًا فصلًا في المُدرَّج.
وكانت الجامعة بالنسبة لي عالمًا جديدًا، سواءٌ من حيث العلاقات الاجتماعية المفتوحة أو من حيث التعليم الذي كان يتراوح بين الإملاء والكتب المُقرَّرة من ناحية والتفكير الحر دون إملاء أو تقريرِ كتابٍ من ناحيةٍ أخرى، وهم غالبًا من الشبَّان، الجيل الجديد؛ مثل أستاذ الاجتماع الذي كان يرتجل وُيناقش، وكان ماركسيًّا يُسمَّى شريف، وتم تطهيره من الجامعة مثل محمود أمين العالم، ولويس عوض، وعبد العظيم أنيس، أو الإخوان مثل توفيق الشاوي من الحقوق في أزمة مارس ١٩٥٤م. وكان يُدرِّس واقفًا أيضًا زكريا إبراهيم الذي عاد من فرنسا عام ١٩٥٥م، وفي صوته بحَّةٌ أو انسدادٌ سرعان ما ينفتح. وكان السؤال الباطني الذي يدور في نفسي: وما عيب الجمع بين العلم والأيديولوجيا، يسارية أو إسلامية؟ وهل ينفع تدريس العلوم الإنسانية كالاجتماع والقانون والفلسفة دون أيديولوجيا؟ وما العَيب إذا ما أَدَّت الأيديولوجيا إلى العمل السياسي؟ وما العيب في أن يسمع الطالب أيديولوجياتٍ مختلفة ويُفكِّر فيها بدلًا من أن يحفظ كتابًا مُقرَّرًا؟
في السنة الأولى كُنَّا في مدرج ٧٤ أو ٧٨، مُدرَّجٌ كبير مُتدرِّج مَهيب جدير بالجامعة، ومنصَّةٌ طويلة عريضة تَضطَرُّ الأستاذ المُفكِّر أن يقوم وراءها، ويتمشى وهو يُلقي الدرس. أمَّا الأستاذ الذي يُملي فيكفيه الجلوس؛ فضَعف الجسَد من ضَعف العقل. وكانت التقاليد لا تسمح بالاختلاط الكلي؛ فالطالبات في ناحية، والطلبة في ناحيةٍ أخرى، ومن يُخِل بالتقاليد يُنظر إليه على أنه يَتَحرَّش بالبنات أو إليها أنها تَتَحرَّش بالصبيان. وكان أستاذ الاجتماع أحمد الخشاب شابًّا أبيضَ قصيرًا عازبًا يُملي ببطء، ويكتب الطلبة والطالبات وراءه، والكل سعيد. وكان ينظر بعين الإعجاب إلى فتاةٍ بيضاءَ جميلة اسمُها إيفون، باستثناء بعض المُراسَلات العَلَنية، حادَثَها مرةً عَلنًا؛ قال لها بحنانٍ بالغ: «اسكتي يا إيفون.» فردَّت عليه بدلال: «مش أنا يا أستاذ.» بالنسبة لي كانت حُبًّا بلا رُوح في حين أن مُواصَفاتها كانت تجمع بين الروح والجسد معًا وهي الصفات التي أُحِبها. وتساءَلْتُ: ماذا كان جمال حواء؟ وهل أُغرِم بها آدمُ وهي الوحيدة الموجودة على الساحة ولم يُقارِن بينها وبين غيرها حتى يختارها، أم إنها كانت مفروضة عليه؟ وكانت هناك فتاةٌ فلسطينية طويلة بيضاء، بنت عم الأولى، ذات وجهٍ مُشرق وصَدرٍ بارز، ولها ضحكةٌ أنثوية لدرجة أنني تساءلتُ فيما بعدُ: هل أحببتُ الذات أم الصفات كما تَساءَل علماء الكلام والصوفية بالنسبة للذات الإلهية؟ ولما سألتُ عرفت أنها مسيحيةٌ من فلسطين، فأَهديتُها في عيد ميلاد السيد المسيح نُسخةً من كتاب «عبقرية المسيح» للعقَّاد مع إهداء فأَرجعَته لي مع صديقٍ كنت أجلس معه مع قَطعِ مُربَّع الورقة الأُولى التي عليها الإهداء، فحزِنتُ؛ فإلى هذا الحد كان البُعد ولا أقول الكراهية. حاوَلتُ فلم أُفلِح، كانت مُتكبِّرة، تعرف قيمة نفسها، شغلت قلبي، ولكن كيف الوصول إليها وكأنها كانت تهربُ كلما اقترَبتُ. وكان يأتيها قريب أو خطيب من كلية الحقوق ليصاحبها؛ فقلبها مشغول، فتَدبُّ الغَيرة منه، كانت أقرب إلى الصمت منها إلى الكلام. وبعد أن انفصل القسمان، الفلسفة والاجتماع، في السنة الثانية لم أعُد أراها كثيرًا، وكانت كلما رأتني فرَّت، لا أدري ما السبب: هل كراهية لي، أم لا تعرفني، أم لأنها مخطوبة لزميلها أو قريبها أو حبيبها الحقوقي، أم للتقاليد الاجتماعية؟ وفي السنة الرابعة علمت أنها النهاية؛ فستُغادر إلى فلسطين وتتزوج هناك، وأُغادِر أنا إلى فرنسا، وتنتهي قصة هذا الحُب الصامت. وبعد خمسين عامًا كنت بِعَمَّان وعَرفَت إحدى صديقاتي الأردنيات أنها هنا، فدَعَتها إلى المقهى، أتت لحظاتٍ في المقهى ومعها زوجها، مع أني كنت أُعِدُّ قصة حياتي منذ أن افترقنا؛ فلا خوف مني. وهَربَت كالعادة وهي تنظُر إلى الوراء بأن هذا موضوعٌ انتهى، وأنا أنظر إلى الأمام بأن حُبَّ وعِشق الروح لا ينتهي كما غنَّى عبد الوهاب في غزل البنات: «وحب الروح ما لوش آخر لكن عشق الجسد فانٍ.» ثم انتهى كل شيءٍ في زحمة الحياة التي هي أَوسعُ كثيرًا من دائرة الحب كما تُصوِّر الأفلام المصرية.
وكانت مجموعات الإخوان تقعُد في حلقاتٍ على الحشيش الأخضر في حَرَم الجامعة قبل أن تُحاط بِسياجٍ حديدي كما هو الحال الآن، يتدارسون، وكان يمر عليهم حسن دوح خطيب الجامعة المُفوَّه، ويُلقي التحية، وبالمثل كان عبد المنعم أبو الفتوح الذي أصبح مُرشَّحًا رئاسيًّا منذ سِنين. وفي يومٍ داخل الحرم الجامعي انقَلبَت سيارةٌ مشتعلة نارًا، ولا أدري إذا كانت سيارة الأمن الذي كان لا يُسمَح له بدخول حرم الجامعة أو سيارة الإخوان بها نواب صفوي زعيم حركة فدائيان إسلام الإيرانية، وهو تنظيمٌ ثوري سابق بإيران على الثورة الإيرانية في فبراير ١٩٧٩م، فأدركتُ منذ البداية العلاقة بين الإخوان والعنف كما رأيتُ، وليس كما سَمِعتُ، فتراجعتُ قليلًا لأن حَرْقَ عَربةٍ داخل حرم الجامعة لا يدخل ضمن النشاط الفِكري لِلحَرَم. وقُبِض على كل زُملائي الإخوان بالجامعة؛ منهم فلسطينيٌّ في قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، وقُضِي على مُستقبَله بعد أن أَخَذ مُؤبَّدًا لاشتراكِه في المُظاهَرة، ولم أَرَه حتى الآن، ولا أدري إن كان حيًّا أو ميتًا. وتساءلتُ: لماذا لم يُقبَض عليَّ أنا أيضًا؟ صحيحٌ أنني لم أكن نشِطًا إلى هذا الحد، واختَرتُ الإخوان اختيارًا فكريًّا أكثر منه سياسيًّا. كان هناك ضابطان بالكلية: الأول مُبتسِمٌ أبيض البشرة، طويل ونحيف نسبيًّا يُصادِق الطلاب ليأخذ منهم المعلومات عن زملائهم بدافع الصداقة والحِماية. والثاني أَسمَرُ عَبوسُ الوجه، مُكفهِرٌّ، مملوء وقصير يُخبِرنا الأول عنه أنه خَطرٌ على أمن الطلاب، ومن الأفضل أن يكونوا ضِدَّه، وهو يُساعِدهم في القبض عليهم. وأخبرني الأول أنهم بحثوا عني، واقتفَوا أَثَري، وتَتبَّعوا حَركاتي وسَكناتي، فوجدوني إخوانيًّا مُسالِمًا، ولستُ خطرًا، وأن جمع التبرُّعات لِأُسرِ الشهداء والمُعتقَلِين ليس عملًا مُضادًّا لأمن الدولة بل إنه يُخفِّف عنهم هذا العبء. هذه رواية. وافتراضٌ آخرُ أنهم لم يقبضوا عليَّ لأن أخي من الضبَّاط الاحتياط؛ ومن أجل بَسالته «وعشان خطره» تُرِكتُ حُرًّا بشرط ألا أعود إلى المُظاهَرات من جديد. وبالفعل لم تكن هناك مظاهرات حتى عام ١٩٥٦م سنة التخرُّج والمغادرة إلى فرنسا بحرًا. وظَلَلتُ صامتًا، كاتمًا الخوف في قلبي وفي سلوكي، ومُقسِّمًا العالَم إلى أبيضَ وأسود، حقٍّ وباطل، صوابٍ وخطأ، كما فعل سيد قطب في مرحلته الأخيرة بعد أن كان شاعرًا، قصاصًا ناقدَا أدبيًّا ثم إسلاميًّا اشتراكيًّا ثم إسلاميًّا إخوانيًّا.
لقد كان الجو مُتوتِّرًا بين الإخوان والثورة على مدى سنتَين منذ اندلاع الثورة. وحَدَث الانفجار في عام ١٩٥٤م بمناسبة رفض الإخوان المُعاهَدة التي عَقدَها عبد الناصر مع بريطانيا بالانسحاب من قناة السويس ولكن لها الحق في العودة في حالة «الضرورة القصوى». وكان خوف القوى الوطنية من عبارة «الضرورة القصوى» التي يمكن أن يكون لها عشراتُ التفسيرات؛ فهو جلاءٌ مشروط. كنت أُوزِّع نَقدَ المعاهدة في الجامعة، وفي مظاهراتٍ كُبرى خَرجَت من الجامعة إلى كوبري الجامعة وهي تهتف بسقوط اتفاقية الجلاء. ويَهتِف الطلبة السودانيون يسقط «صلاح الرجَّاص» ويقصدون صلاح سالم من أعضاء مجلس قيادة الثورة، والذي هو اسمُه على طريقٍ جديد يربط بين شمال القاهرة وجنوبها، والذي يُعزى إليه فصل السودان عن مصر، وجنوب الوادي عن شماله كما فُصل أخيرًا جنوب السودان عن شماله. وسُمي «رجَّاص»؛ لأنه لبس سُودانيًّا، وركب حِصانًا يرقص على إيقاع الدفوف. وكان عبد الناصر وزيرًا للداخلية في ذلك الوقت وعَينُه على السلطة فأَمَر بإطلاق النار على الطلبة المُتظاهرِين على كوبري الجامعة فتَفرَّقوا وأعادوا التجمع في ميدان عابدين، وكان ذلك عام ١٩٥٤م، وكُنتُ في السنة الثانية. وشاركتُ في مظاهرات ١٩٥٤م بعد أن كان عبد الناصر قد وَقَّع مع بريطانيا اتفاقية الجلاء التي تَخرُج بريطانيا طِبقًا لها من قاعدة التل الكبير ومن مَنطِقة القناة، وتُجلي معسكرها الأحمر على ضفاف النيل مكان الجامعة العربية الحالي. ومع ذلك تسمح بالعودة إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى»، خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف.
كنت فرحا بالجامعة ليس فقط بما يُلقَى في المُحاضَرات التي كان يغلُب عليها الطابع المدرسي، ولكن أيضًا بالنقاشات خارجها، على الحشائش في الحرم الجامعي، هايد بارك أخرى. وإذا كان فكري بارزًا في المُحاضَرات فإنه يُستحسن في مناقشات الحرم الجامعي. وظلَلتُ أُفكِّر كيف تكون حديقة الأورمان ساحةً يتناقش فيها الطلاب إن عَزَّ على الجامعة ذلك، كيف تكون «هايد بارك» القاهرة وكلها أراضي فاطمة إسماعيل بما فيها الجامعة وحديقة الحيوان؟
خَرجتُ من السنة الأولى خاوي الوفاض، لم أتعلَّم شيئًا. وفي السنة الثانية نظرًا لغياب زكي نجيب محمود في أمريكا درَّس نيابة عنه مصطفى سويف المنطق. ولما كان أستاذًا لعلم النفس وليس المنطق إلا أنه اختار موضوعًا هزَّني لغويًّا وهو «المفاهيم العلمية وضرورة الدقة في استخدامها» مثل الفرق بين التقدُّم والتطور، وكان يرتجل. كان جادًّا عَبوسًا لِدرجة أن أحدًا لا يستطيع أن يمزح معه، وكان يمشي في الطرقات مُستكبِرًا مع أنه لم يكن قد أخذ الدكتوراه بعدُ. وقد تُوفِّي منذ عامَين، وحضر العَزاء كثيرٌ من طلابه ومُريدِيه. وهو الذي بنى أكاديمية الفنون، وقام باختباراتٍ نفسية لِلقَبول، وهو مؤسس علم النفس الاجتماعي. أمَّا درس الفلسفة الإسلامية فكان يُلقيه علينا — وهو جالس — أحمد فؤاد الأهواني، وهو دَرسٌ تقليدي في الفلسفة الإسلامية، يرُكِّز على الفلسفة بالمعنى الدقيق، الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. كان ضاحكًا مبتسمًا اجتماعيًّا «ابن نكتة»، ولكنه لم يُثِر في ذهني أي مشكلات، ولا رَبطَ بين الماضي والحاضر. كان قريبًا لعيسى البابي الحلبي صاحب المكتبة الشهيرة بالأزهر، يُمدُّه بالنصوص التقليدية، وقريبًا من الأب جورج قنواتي، وهو من نفس الروح، وهي روح يوسف كرم التي كتب بها «تاريخ الفلسفة اليونانية»، و«تاريخ الفلسفة في العصر الوسيط»، و«تاريخ الفلسفة الحديثة»، روح جيلسون؛ فالفلسفة عمل الفلاسفة، ولكل فيلسوفٍ منهج، مع أن جيلسون قد تجاوَزَ هذا المنهج بكتاب «روح الفلسفة في العصر الوسيط»، ولم تكن هناك فلسفةٌ مسيحية أو يهودية، ولم تُؤثِّر في أحد من أساتذة الفلسفة تأثيرًا كبيرًا، وهي نظرةٌ استشراقيةٌ للفلسفة الإسلامية. كانت روحه أقرب إلى وزارة التربية والتعليم؛ فقد كانت رسالته للدكتوراه «التعليم عند القابسي» بين التعليم والتراث الإسلامي.
وكنت طالبَ قِسم امتياز، وهو القسم الذي يدخله الطلبة الحاصلون على جيد جدًّا أو أكثر في السنة الثانية، ويأخذون فيه مادةً زائدة، ويكتبون بحثًا، وكان لا يتجاوز عددهم طالبَين، وأحيانًا لا أحد. فإذا حافَظَ عليه الطالب بعد الحصول عليه في السنوات الثالثة والرابعة يُعِدُّ الماجستير مُباشرةً دون سنةٍ تمهيدية، ويكون مُرشَّحًا كي يكون مُعيدًا بالقسم، وهو شيءٌ مهيب كالضابط في الجيش أو الشرطة، وهو مثل أمين الشرطة اليوم.
وفي السنة الثالثة بدَأت اليقظة الفلسفية مع عثمان أمين الذي كان يعشق الفلسفة ويعيشها، وكان يبتسم ويريد أن يُوصل الفلسفة للطلاب بسهولة ويسر. كان حبيبه ديكارت، وترجم له «التأملات في الفلسفة الأولى»، وكان «مقال في المنهج» قد تُرجم من قبلُ، وكذلك «مبادئ الفلسفة»، وكان يطيل في شرح النصوص، ويُطبِّقها على الواقع العربي، وهو ما كان يُسمِّيه «بين قوسَين»؛ أي خارج الموضوع، بينما هو في صلب الموضوع. وفي الفصل الدراسي الثاني كان يُدرِّس كانط، ويُطيل النظر، ويشرح ويضرب الأمثلة في معنى «الترنسِندِنتال» في مقابل «الترنسِدِنت». وهو ما سمَّاه فيما بعدُ في فلسفته الخاصة «الجوَّانية» في مقابل «البرَّانية»، العقلي في مقابل الحسي، القلب في مقابل العقل، الباطن في مقابل الظاهر. كان يُركِّز على «نقد العقل الخالص» لكانط وبدرجةٍ أقل على «نقد العقل العملي» باعتبار أنه موضوع علم الأخلاق، ولا يذكر تقريبًا. و«نقد ملكة الحكم» عن الحكم الغائي والحكم الجمالي باعتبار أن ذلك موضوع علم الجمال في السنة الرابعة. وبعض الدارِسِين يُرجعني إلى الظاهريات أصلًا ومرجعًا خارجيًّا، مع أنه من الأسهل إرجاعي إلى الجوَّانية كإطارٍ مرجعي داخلي. كانت كلماته تدخل في قلبي مباشرة، فتُوقِظه، وتزيد من حرارته، وهو أحد معاني «ذكريات» إهداء الكتاب. وما زالت ذكرياتي معه هي الذكريات، ليس فقط في المُدرَّج الجامعي بل في ساحات الحسين حتى الفجر، ونحن نطلب منه أن يتصل بزوجته الفرنسية كي تطمئن عليه، وهو يقول: لو اتصلتُ بها لَقَلِقَت؛ فالأفضل ألا أتصل حتى تطمئن. ولا غرابة في أنها ترَكَته وأَخذَت أولاده، وعادت إلى فرنسا، موطنها الأصلي، واعتَنَت به شقيقته، ولكن شتَّان بين الزوجة الأقرب إلى القلب والشقيقة الأقرب إلى العقل. وعندما كُنتُ أزوره في الفيلا التي يقطن فيها في ميدان أعضاء هيئة التدريس بالدقي كُنَّا نتسامر حتى الصباح. زوجته تعرف عادته فتنام وابنه، أمَّا الشقيقة فكانت تُذكِّره دائمًا بأن الوقت قد تأخَّر فيقول لي: «سيبك منها.» وعَلِمتُ بعد ذلك أنها كانت تُريد السيطرة عليه عندما زُرتُه عام ١٩٦٠م أثناء زيارتي للقاهرة آتيًا من باريس وأَهديتُه «نقد العقل الجدلي» لجان بول سارتر الذي صدر حديثًا. وبَقِيَت ترجماته لتأمُّلات ديكارت آيةً في الإبداع والجمال اللغوي. كان يعرف قَدْره، يجمع بين الفلسفة والحياة، بين علمه وذِكرياته. كان يُعظِّم محمد عبده أكثر من اللازم، وهو موضوع رسالته للدكتوراه في باريس، وأنا أنقده لأنه يعتبر أن العقل في حاجة إلى وصيٍّ وهو النبي كما يُصرِّح بذلك في «رسالة التوحيد»، وكُنتُ قد كتبتُ على السبورة مرة: «أُحِب محمد عبده ولكن حُبي لِلحق أعظم.» وهي العبارة الشهيرة التي قالها أرسطو عن أستاذه أفلاطون. وكُنتُ وما زِلتُ أقرب إلى الأفغاني الثوري أستاذه والذي كان يُمسِك بتلابيبه ويقول له: «والله إنك لَمُثبِّط.» ومع ذلك كان بالنسبة لمشايخ الأزهر من يُغرِّد خارج السرب.
وأخيرًا أتى زكريا إبراهيم، وكان قد عاد من فرنسا عام ١٩٥٥م مُشبعًا بِرُوح الظاهريات والفلسفة الوجودية. ولما سألناه من الذي أَثَّر فيه وهو في فرنسا كتب على السبورة السوداء: هيدجر، ياسبرز، مارسل. وكُنتُ أسمع عن هوسرل والقصد المتبادل، وعندما يخرج أنظُر من النافذة وأشعر بهذا الإيحاء المتبادل بيني وبين الطلبة في الفِناء. سَمِعتُ عن التجربة المشتركة لأَوَّلِ مرة منه. وكان لا يقرأ من ورق أو يُقرِّر كتابًا مع أن له — فيما بعدُ — عدة مُؤلَّفات عن مشكلاتٍ فلسفية مثل مشكلة الفَلسَفة، مشكلة الحب، بأسلوبٍ سهلٍ شعبيٍّ لِدارسي ومُحبي الفلسفة على السواء. أَحَبَّه الطَّلبة، وكان منزله في مصر الجديدة مفتوحًا لهم جميعًا. ولم يَنسَ الفلسفة الإسلامية؛ فكتب عن البيروني وآخرِين. وكان هو الفيلسوف بعد عثمان أمين، تمَّتْ إعارته إلى جامعة الخرطوم، فرع جامعة القاهرة وإلى الأردن حيث كُتِبَت عنه عدة رسائل، وإلى المغرب مثل نجيب بلدي وحبيب الشاروني. لم يَعِش طويلًا، ولو عاش لكان أَثَرُه في مصر والوطن العربي أكبر، وأشدَّ وأَعمَقَ كما حدث معي.
وبقَدْر ما كنت فَرِحًا في السنة الرابعة بدراسة الفلسفة المعاصرة مع زكريا إبراهيم حَدثَت عدة أحداثٍ قاسية. أعطانا يوسف مُراد درسًا في «علم النفس الصناعي»، وكيفية استعمال علم النفس في إدارة المصانع، فاعتَرضتُ على المُقرَّر، وأنه استخدام العلم لخدمة المجتمع الرأسمالي، وقياس قُدرات العمال لاختيار أحسن عاملٍ لأحسن آلة. وأتانا سؤالٌ آخر العام في الموضوع، وأَجبتُ بنفس الطريقة فعَرفَ ورقتي وأعطاني ١٢ / ٢٠. وكان لا يُوجد أستاذٌ لعلم الجمال، وكُلِّف الأهواني بتدريسه، وكان السؤال: كيف تختار رابطة العنق؟ وكنت ثائرًا على هذا النوع من علم الجمال؛ فقد كُنتُ أنتظر علم الجمال عند هيجل وكانط، فعرف ورقتي وأعطاني ١٢ / ٢٠. وكان عثمان أمين يُدرِّس محمد عبده في الفلسفة المعاصرة، وكنتُ ناقدًا لحركة الإصلاح بأنها لم تُطوِّر نفسها، وأن محمد عبده ليس عقلانيًّا كما يُقال لأن العقل يحتاج إلى وحيٍ ومعه النبي. ولمَّا كان محمد عبده إلهًا، وبالنسبة لي يُمكن تحويل الإصلاح إلى ثورة، فعرف ورقتي وأعطاني أيضًا ١٢ / ٢٠. وبدلًا من أخذ ١٨ / ٢٠ في ثلاثِ مَوادَّ خسرت ١٨ درجة في السنة الرابعة. وبدلًا من أن أنجح بامتيازٍ في السنة الرابعة وأكون طالب امتياز نَجحتُ بدرجة جيد. وكان لديَّ ست عشرة درجةً وفرًا في الموادِّ الأخرى أُضيفت إلى الناقص فبَقِيَت درجتان تُبيح لجان التعويض منحها. وكان الأَوَّل في السنة الرابعة هو أخي وصديقي رشدي راشد الذي أصبح عالمًا كبيرًا في تاريخ الرياضيات، ونال العديد من الجوائز العربية، وهو الآن باحثٌ بمركز البحوث العلمية في فرنسا قبل أن يُحال إلى المعاش، أتمنى له الصحة وطُول العمر والبقاء. وقبل أن تُعلَن النتيجة النهائية قابلَني رئيس القِسم يوسف مراد وهو قبطيٌّ مصري على السُّلَّم الرئيسي وأنا صاعد وهو نازل: أين ستذهب يا حسن بعد التخرُّج؟ قُلتُ: سأطلب تعييني معيدًا بالقسم، ثم أعاد السؤال: في أي موضوع؟ قلت: أُحوِّل الإسلام إلى منهجٍ عامٍّ للفرد والجماعة. فسأل لماذا؟ قُلتُ لِأُصلح به حال الأمة، وأُنهِض من شأنها، وهو مشروع الأفغاني ولكن على المستوى الفكري أَوَّلًا. فرَدَّ قائلًا: «كده، طيب.» لا أَتَّهِم أحدًا بالطائفية ولكني سمعتُ — فيما بعدُ — أنه أُقيل من الجامعة مُحالًا إلى المعاش بِتُهمة تغيير نتيجة أحد الطلاب المسيحيِّين؛ فأعطاه درجاتٍ أعلى من طالبٍ مسلم كي ينجح بِتفوُّق، وهذه تهمةٌ أخلاقية أشنعُ ما يُتَّهم بها الأستاذ الجامعي.
كما حَدثَت لي صدمةٌ كبيرة في حرية الفكر في الجامعة، وهي الصدمة الثانية. كانت في امتحان اللغة الألمانية التي كانت مُقرَّرةً عليَّ في آخر سنتَين باعتباري طالبَ امتيازٍ يأخذ لُغةً أخرى ومادةً زيادة. كان مُقرَّرًا أن آخذها مع الدراسات العليا في قسم التاريخ بينما وضَعَتنا إدارة الامتحانات بالكلية مع قسم اللغة العربية. وفي الامتحان وجَدتُ الأسئلة مختلفة، فطلب مني المُراقِب، وكان قبطيًّا من حرس الجامعة، أن أكتُب طلبًا للعميد أشرح فيه الموقف. وبالفعل أَخذتُ اكتب طلبًا للعميد وبدأ بعبارة «الأخ الفاضل» عميد كلية الآداب، فانتزع مني المُراقِب الورقة مُعترِضًا: هل يُكتَب لِعميد الكلية بأنه الأخ الفاضل، وليس السيد العميد؟ فقلت له: «إن البشر جميعًا إخوةٌ لا سائد فيهم ولا مَسود.» ويبدو أنه أراد إخراجي من القاعة فلمس قلم الحِبر ذِراعَه وترك أَثَر الحِبر فيه، وحَوَّلَني إلى العميد، وكان هو يحيى الخشاب (زوج سهير القلماوي)، فحَوَّلَني إلى رئيس الجامعة بِتُهمة «قلة الأدب»، الذي كوَّن مجلس تأديبٍ من خمسة أساتذة من ضمنهم أساتذة حقوق طبقًا للقانون. وسألني أحد أعضاء اللجنة: هل العميد أخوك؟ فأجبت بحديث الرسول نعم «وأنا شهيدٌ على أن عباد الله إخوانٌ.» ثم سأل: هل تعتقد ذلك قولًا وعملًا، فكرًا وسلوكًا؟ فأجبتُ نعم، أنا لا فرق عندي بين رئيس الجمهورية وجامع القُمامة في الشارع؛ فكلاهما يُؤدِّي وظيفة طبقًا لتقسيم العمل في المجتمع. فسأل: هل ستَبقَى على هذا الاعتقاد طُول العمر؟ قُلتُ نعم. وأنا الآن في طريقي إلى فرنسا لإتمام دراسة الماجستير والدكتوراه، فطالبوني بالقيام مع التوفيق والنجاح بالموافقة. وعلى هذا الأساس أخذتُ الورقة البيضاء وهي تُعادِل تأشيرة الخروج. وبعد عدة استطلاعاتٍ وجَدتُ أن أرخصَ طريقةٍ للذهاب إلى فرنسا هي المركب من الإسكندرية على ظهرها ٥٨٨٢٢٢. وكان ثمنها اثنَي عشر جنيهًا استَطعتُ توفيرها. وكان معي في ذلك الوقت بهاء طاهر بقسم التاريخ، والسيسي عازف البيانو من قسم اللغة الإنجليزية، وعبد الجليل حسن الذراع اليُمنى لتأسيس مجلة «الكاتب»، وكان في قلبه «اليسار الإسلامي»، والذي غادر إلى ليبيا، وربما هو الذي كتب «النظرية الثالثة» بأجزائها الثلاثة للقذافي — وهو تلميذ عبد الناصر — قبل أن يستبد ويَتَجبَّر فيعود عبد الجليل إلى القاهرة، ويموت في وطنه. وقد سبقني بدفعة نبيل زكي الكاتب الصحفي بجريدة الأهالي، وجاء بعدي حلمي النمنم الكاتب الصحفي الذي أصبح وزيرًا للثقافة، ومكرم محمد أحمد الصحفي الشهير ونقيب الصحفيِّين السابق، وطه حنفي المليجي الذي كان مُدرِّسًا لِلغة الفرنسية في وزارة التربية والتعليم ثم أصبح مُوجهًا عامًّا لها. جاء لزيارتي بالكلية مرةً وأنا أمين اللجنة العامة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدِين برئاسة الجوهري، وكنا نَدْرس موضوعًا هامًّا لا أستطيع أن أترك الجلسة، وما إن انتهتِ الجلسة وخَرجتُ وَجدتُه قد غادر. خَطئي أنني لم أطلب منه الانتظار في الغُرفة المُجاوِرة للعميد، ولم أَخرُج لتحيته أولًا وسط الجلسة، وحزِنتُ حزنًا شديدًا لأنني لم أَرَهُ منذ أن غادرتُ إلى فرنسا. يبدو أنه شَعَر بالإهانة لأني لم أخرج على التَّو. وقَرأتُ نعيه في الأهرام بعد شهر. يبدو أن التاريخ كان يريد أن يَجمَعنا من جديد، ولكن الإرادة البشرية عاقَت دون ذلك. وكان أقربَ الأصدقاء إليَّ في الجامعة في سنوات الدراسة الأربع. ونظَر إلى عينيَّ مرةً وأنا في المسجد قبل السفر إلى فرنسا وقال لي: «عيناك تَبرقَان.» وربما كان ذلك من الحزن لِما حدث في الجامعة، والفَرحِ لِلسفَر إلى فرنسا. أمَّا أحمد الكاشف فقد بدأ بهيئة التحرير وانتهى إلى سكرتير محافظ القاهرة. ذهبتُ إليه مرةً لِأحُلَّ بعض مشاكلِ رُخصةِ بناء بيتي العربي. بعد أن امتَلأَت شقتي بشارع الحجاز، وملَأتُ الحوائط رفوفًا لاستيعاب الكتب، بنيتُ منزلًا عربيًّا بمدينة نصر الفارغة في ذلك الوقت؛ بنَاه نجل شقيقتي علية، وهو المهندس محمد عبد المحسن بعد أن جرَّبتُ مُهندسِين ومُقاولِين آخرِين؛ منهم من استولى على كتابي عن المدينة العربية ولم يُرجِعه. وكُنتُ قد اشتريتُ الأرض من مُفتِّشةٍ في وزارة التعليم التي كانت تمتلك الأرض وتُقسِّمها على مُوظَّفِيها بستين قرشًا للمتر، واشتريتُها أنا حسَب إعلان الجريدة بقيمة ١٨٠ جنيهًا للمتر، وكانت تُريد المبلغ فوريًّا ونقدًا، فأَخَذتُ المبلغ، وظلَّت هي وأختها يعُدُّون هذا المبلغ الكبير في الحجرِ وأنا أريدهم أن يقوموا بذلك في المنزل، ثم طَمِعت في المبلغ والأرض معًا، وذَهبَت إلى كل الهيئات الحكومية لإبطال العقد: المياه، الكهرباء، رصف الطرق، تنظيف الأرض. ولمَّا ظلَّت تُماطِل رفعتُ عليها قضية، فكسَبتُها، وجَعَلتُ الدَّور الأرضي (البدروم) كُلَّه لتنظيم مكتبتي في دواليبَ جديدة، وأُضيف إليها قِسمٌ من الدور الأول وبينهما سُلمٌ خشبي داخلي. وفي هذا القِسم العُلوي وَضَعتُ الفكر العربي والإسلامي المعاصر؛ مصر، والوطن العربي والعالم الإسلامي، ثم في الجانب الآخر العلوم الإسلامية؛ أصول الدين، وأصول الفقه، وعلوم الحكمة. ولم يَبقَ مكان لعلوم التصوُّف فنَزلَت إلى الطابق السفلي، وفيه الفلسفة الحديثة والمعاصِرة ابتداءً من الفلسفة اليونانية ثم العصور الوسطى، المسيحية واليهودية ثم الإصلاح الديني، ثم عصر النهضة؛ القرن السابع عشر، ثم القرن الثامن عشر، ثم القرن التاسع عشر الذي استغرق جناحًا بأكمله، ثم القرن العشرين؛ منهم من قضى نحبه، ومنهم ما زال حيًّا، ومكتبي وسط هذا التاريخ للفلسفة. وفي طُرقةٍ أخرى فلسفة الدين بدايةً بالاستشراق، ثم الفكر الشرقي القديم ثم المسيحية. وفي آخر الطُّرقة العلوم الإنسانية؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وما تبقَّى من العلوم الفلسفية؛ المنطق، وفلسفة العلوم، والفلسفة العامة، وعلم الجمال. وفي الطُّرقة الأخيرة التي يجلس فيها مُساعِدي الأول تُوجد العلوم السياسية والاقتصادية، ومصر والوطن العربي وأمريكا؛ حيث كنت أُزمِع الكتابة عنها «أمريكا، الحقيقة والأسطورة»، ثم فلسطين وإسرائيل، ثم تأتي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وأخيرًا بجوار الحديقة الأدب؛ الرواية، والقصة، والشعر، ثم النقد الأدبي. ومنذ عدة سنواتٍ عندما بدأ العمود الفِقَري يَضعُف وتغيير بعض مفصلات الفَخذِ خصَّصتُ غرفةً بِدَور السكن، الدور الأول، للبقاء بجوار الأُسرة، ولأنني لم أعُد قادرًا على نزول السُّلَّم الخشبي الداخلي أو صعوده. ولمَّا أَوشكَت أجزاء «التراث والتجديد» على الاكتمال، ولم يَبقَ إلا الجزء الأخير، «الجبهة الثالثة» «النص والواقع»، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي أَكتُبه في الغرفة المأخوذة من شقَّة السكن، وبعد إلقاء الأساس الأَسمَنتي وشَرعتُ في بناء الدَّور الأول رَفَض مهندس الحي إعطائي التصريح لأنني بعد أن رخَّصتُ الأساس كان يجب أن أُرخِّص الأدوار فوقه، «إلا إذا» ولم أفهم. وأنا لم أكن قد بَدأتُ إلا في البدروم حسب نصيحة المقاول، فجاء معي اثنان للموقع للتحقُّق من صحة أنني لم أَبنِ بعدُ الدَّور الأوَّل، فطلب مساعده أن يدخل دورة المياه، فأَشرتُ عليه في المنزل المُقابل، ووقف ينتظرني، يُشير بيدَيه، كما فعل حسن يوسف مع نادية لطفي في فيلم الخطايا؛ لأنه يُريد أن يأخذ منها موعدًا للقاء حبيبها عبد الحليم حافظ نظرًا لاعتراض الأب الذي ربَّاه وليس أنجبه، فلم أفهم ماذا يُريد. فهمتُ بعد ذلك أنه كان يُريد رِشوةً للإمضاء، فلمَّا لم أفعل رَفَض إعطاء الترخيص. ورفَعتُ الأمر إلى القضاء مرةً ثانية. فكسَبتُ القضية وخَسِر. أمَّا موظفة الحي فقد طَلبَت مني أن أسعى في مِنحةٍ من معهد الخدمة الاجتماعية لابنتها، وكنت على صلةٍ بأساتذتها، فسعيتُ ونجحتُ، ولم تفعل شيئًا، كما أشار مهندس الحي الذي بيده الموافقة من عدمها إلى مِفتاح عربته وهزَّه؛ مما يعني أنه في حاجةٍ إلى تكاليف الطريق من منزله إلى الحي، فلم أفهم الإشارة، ولم يُرخِّص البناء.
وكان معنا كامل يوسف سلامة من كلية الحقوق. وفي الصيف كنا نجلس على المقهى للعب الطاولة، وبمشروبٍ واحد (حاجة ساقعة). نجلس طُول المساء نتحدث عما سنفعل بعد التخرُّج. كامل كانت له رؤيةٌ واضحة في أن يُصبح وكيل نيابة، وكان هذا اللقَب في جيلنا له هيبةٌ كبيرة. وبيَّنتُ أنا أنني سأُصبِح مُعيدًا لتكملة الدراسات العليا في الداخل أو في الخارج. وطه لم يكن له رؤيةٌ واضحة؛ فالأمر يتوقَّف على مجموع درجاته حتى التخرُّج. وقد سكنتُ الدَّور الأول ومكتبتي في البدروم، وأبنائي فوقي، لكلٍّ دَور. وبعد أن اكتمل بناء البيت العربي وانتقلتُ إليه عام ١٩٩٤م، كتبت على الحائط في البدروم «المكتبة الفلسفية المُتخصِّصة». وفي يوم من الأيام جاءتني مصلحة الضرائب كي تعرف كم مكسبي في اليوم منها، فشرحت لها أنها خدمةٌ عامة، فطلبوا إزاحة العنوان، كما أتى مندوب الضرائب العقارية الآن كي يُبلغني كذبًا، مع أنه بذَقَن واطمأنَنتُ إليه، أنه هناك لجنةٌ أتت وقرَّرَت ضرائب ألفين وخمسمائة جنيه على كل ساكن، وعلى البدروم الذي به مكتبتي اثنَي عشَر ألفًا ونصف جنيه باعتبارها مَخزنًا، فاستغربتُ لأن السكن ليس عليه ضرائبُ عقارية، ومكتبتي أين أضعها بعد أن اتسَعَت على مدى ستين عامًا؟ فأخبرني أن الموضوع في «حاجة إلى فلوس» وفَركَ إِصبعَيه، أَدفَع له النصف والباقي بعد الطعن. ثم جاء مرةً ثانية يطلب صراحةً الفلوس فطَردتُه من المنزل صائحًا «لعن الله الراشي والمُرتشِي.» وأَبلغتُه أن الأمر في يدِ المحامي الآن وأَعطيتُه اسمه ورقمَ تليفونه. فخرج مُنكَّس الرأس أن الحيلة لم تنفع بعد أن ظن أنني ميسور الحال وأن مكتباتِ الجامعة ليس بها مثل مكتبتي. ولم يُلقِ اهتمامًا إلى أن مصاريف المُوظَّفِين عندي؛ المُمرِّض، وربَّة المنزل، واثنَين من السكرتارية، والبواب، تبلغ اثنَي عشر ألف جنيه ومعاش أربعة آلاف جنيه، غير تكاليف الأدوية والأطباء والحياة اليومية وأنا عاجزٌ لا أَتحرَّك إلا على كرسيٍّ متحرك.
وفي يوليو ١٩٥٦م سنة التخرُّج، ونحن جالسون في شقَّتنا بباب الشعرية، وكانت غرفة الصبيان تُطِل على السطح الداخلي الذي هو سقف مخازن السحار، وكُنَّا ثلاثة: أنا وأخي سيد وصديق العمر محمد وهبي عبد العزيز، إذ سمعنا خطاب عبد الناصر في تأميم قناة السويس، فقَفَزنا من الفرح، وظل بعضنا يقذف بعضا بالمِخدَّات، ومن يومها أصبحنا ناصريِّين، ونَسِينا الخلاف بين الثورة والإخوان. وبدأت المؤتمرات؛ مؤتمر لندن وعلي صبري ممثلًا للثورة، ولم تنجح مُفاوضات القناة؛ فلا حلول وسط بين ملكية فرنسا وإنجلترا لها، وملكية مصر وهي على أرضها. وبَدأَت تَلوحُ في الأُفق بوادر الحرب.
كانت المرحلة الجامعية هي مرحلة الانفتاح على العالم، ورؤية عدة طُرق فأيهما أختار، مرحلة الضوء الجلي والمطلوب سلوك أيِّ طريقٍ فيه، وهي مرحلة اختيار أي الإمكانيات أنا مدفوعٌ إليها؟ لم يكن عندي اختيارٌ حُر، بل كنتُ مدفوعًا بمصيرٍ تحدَّد من قبلُ، من البداية إلى النهاية. لم أكن شقيًّا بل كنت سعيدًا لأن الطريق واضحٌ وما عليَّ سِوى السلوك فيه.