الفصل الثالث
السفر إلى فرنسا (١٩٥٦–١٩٦٦م)
عشر سنواتٍ في فرنسا غيَّرتني كُليَّة، وعمَّقَت تجربتي العلمية
والحياتية. كان الإصرار على السفر إلى فرنسا دون بعثةٍ أو تكاليفَ خاصة
يُحزِن الأسرة كُلها، وبالأخص الوالدة، كيف سأعيش؟ ومتى سأرجع؟ وأنا
أُعِدُّ عُدَّة السفَر مَلأتُ حقيبةً كبرى بكتب السُّنة، وفي حقيبةٍ
أخرى مُذكِّراتي التي كنتُ قد بَدأتُ كتابتها في الصلة بين الفكر
والواقع، وأحلامي التي كُنتُ أُدوِّنها بمجرد الاستيقاظ. كتب السُّنة
اشتراها لي أخي سيد حتى قبل أن يُعيَّن مُعيدًا، واكتَفَى بالباحث قبل
المُعيد بعشرين جنيهًا؛ فمعاش أبي الخمسة جنيهات كانت لا تكفي حتى
لإعاشة الأسرة، وكان هناك جِوالٌ به خبزٌ جافٌّ وعلبةُ جنبةٍ صفراء من
المعونة الأمريكية. حاوَلَتِ الأُسرة إقناعي بكل الطرق بعدم السفر،
وكان هناك طالبٌ أَعرِف أُسرته بدرب البزازرة بجواري اسمه عبد الحليم،
وكان بدينًا مثل أمه، وكان عقله كذلك، وأبوه ضعيفُ الشخصية مُقارنةً
بأُمه، وكان يأتيني بين الحين والآخر لِأشرحَ له كل مادةٍ عن طريقِ
وَضعِ نَسَقٍ له لِمُذاكرتها، أَوحَوا إلى أُمه لمنعي من السفر،
فأَخذتُ الحقيبتَين والجِوال، وأَصرَرتُ على السفر. وطلَب مُجمَّع
التحرير أن يأتي الوالد شخصيًّا ويُوقِّع أمام المُوظَّف المسئول على
موافقتِه على السفر،
فذَهبَ الوالد سعيدًا حتى أعلم أنه ما زالت السلطة بِيدَيه؛ فهو رب
الأُسرة مهما عاق الابن الجامعي المتعلم. وذهَب معي إلى مِيناء
الإسكندرية أخي سيد والوالد قبل السفر بيوم. وكان لنا قريبٌ للأُسرة
ترزي عربي بالمنشية، وهو أخ جدي حسانين تاجر الدقيق ببني سويف؛ فقد كان
النزوح دائمًا من الجنوب إلى الشمال، كما يتم النزوح الآن من الشرق إلى
السعودية والخليج أو إلى الغرب ليبيا أو إلى الشمال والأردن، وكما ينزح
الإخوة السودانيون والأفارقة من الجنوب إلى الشمال، وكما ينزح كل العرب
الآن إلى الشمال، أوروبَّا بَحرًا، وكان له ولد في شِبه سِني أو أصغر،
وكان اسمه رشاد، دخل قلبي من أَوَّل لحظة، كان طيِّبًا خجولًا مثلي،
وكُنَّا نسير إلى المِيناء وارتبطنا بصداقةٍ نادرة وأنا على وَشكِ
المغادرة. ولمَّا أخبرني أخي سيد أنه على صلةٍ بهم كما كان على صلةٍ
بباقي أقاربنا ببني سويف، أَعطَتني زوجة أخي رقم تليفون وعنوان شركته
«أولاد المصري» لمواد البناء عَرفتُ أنني سأستعيد صداقة رشاد والأقارب،
فاتصلتُ فرحَّب بي وسألتُ عن أفراد الأسرة فتُوفِّي معظمهم، وسألتُه عن
المواد التي تُقاوِم رطوبةً أكبر فقال بخشونة: «معرفش.» ظانًّا أنني
سأَستَخدِمه مجَّانًا بعد أن صرَّح لي أنه هو الذي جهَّز شقة أخي على
البحر وأنه تغذَّى معه، فحَزِنت.
كانت الأُسرة ترى المركب تُغادِر وأنا أرى الرصيف وعليه الأُسرة.
وغادَرَتِ السفينة يوم ١١ / ١٠ / ١٩٥٦م وهي تَبعُد شيئًا فشيئًا،
ووَصَلَت مارسيليا. وكانت الوالدة تُريد أن ترمي نفسها في البحر
لِحاقًا بابنها، ولكن منعوها. وفي الليل وبعد التوصية كانت تُوضَع لي
ملاية على كنب المطعم لأنام، وكُنَّا نَطعَم مما تبقَّى من موائد
الأغنياء. وفي الليل أرى النجوم في السماء وهي تَتقلَّب يمينًا ويسارًا
طِبقًا لحركة المركب. ولمَّا كانت المركب يونانيةً فإنها تبقى أربعًا
وعشرين ساعةً في ميناء بيريه في أثينا، يلتقي فيها البَحَّارة مع
أُسرِهم، وينزل من يريد، فنزلتُ بعدما رأيتُ شيئًا كسائح، الأكربولوس،
وسِجن سقراط، ورأيتُ أثينا الحديثة وميدان الشهيد الذي به البرلمان.
وكانت منظمة أيوكا تعمل من أجل استقلال قبرص، وكانت جزءًا من نضال
العالم الثالث، وكُنَّا نهتِف باسمها باعتبارنا طلبةً وطنيين.
وفي اليوم الثاني مرَّت السفينة من مضيق مسينا الذي كُنتُ أقرأ عنه
في الجغرافيا في الثانوية. وكان همي الوصول من مرسيليا إلى باريس،
وتَعرَّفتُ على فرنسيةٍ كبيرة في السن وأقرضَتني مائة فرنك، ما قيمته
عشرة جنيهات، ثمن تذكرة القطار من مارسيليا إلى باريس. ولمَّا تأخَّرتُ
عليها في السداد هدَّدَتني في خطاب بأنها ستشكوني إلى رئيس جامعة
باريس. وردَدتُ إليها ما اقتَرضتُه منها في أول دخلٍ لي من تدريس اللغة
العربية للإخوة الجزائريِّين.
ولمَّا وصل القطار محطة باريس نزلتُ منه وأنا لا أدري أين أذهب.
وقابلَني أحد الفرنسيِّين وسألني إن كنت أُريد سكنًا، فوافقتُ، وأخذَني
معه إلى منزله، غُرفةٍ صغيرة يُؤجِّرها كي يعيش منها. وأعطاني هذه
الليلة طبق شربةٍ ساخن حتى أَستمِر في السكَن معه ومع زوجته العجوز
مثله. وبدأ الهوام يهرشني؛ فالملابس ما زالت في الحقيبة لم أُغيِّرها
منذ أن غادرتُ القاهرة. ودفَعتُ له ليلةً وطلَبتُ الانتظار للباقي حتى
تستقر أموري في الجامعة. وما زلتُ أَذكُر الحَسَاء الساخن في الليلة
الباردة.
وكانت القضية الثانية أين سأقضي الليلة، فذهبتُ إلى بوَّاب السفارة
المصرية في الحي السادس عشر؛ فهو لن يرفض أن أسكُن معه عِدَّة ليالي
حتى أجِد مسكنًا لي. وأخبرني أنه ممنوعٌ لأن بواب السفارة مُوظَّف في
الخارجية، ولا يجوز استضافة أحد عند بوَّاب السفارة. وهناك بيت السفير
المُجاوِر المكون من عِدَّة غرف، ولكن سيكون نفس الرد، فاستغربتُ،
ألَّا يقبل بواب السفارة طالبًا سيغير العالم بأفكاره، وهو مشروع
«التراث والتجديد». فذهبتُ إلى مسجد باريس كي أُقِيم فيه على عادة
الطلاب القُدامَى، فأخبرني الإمام أنه ممنوع؛ فهو مُستَخدَمٌ للصلاة
فقط، وسَلَّمَني إلى أحد الجزائريِّين كي أنام معه، وكانت غرفة في فندق
في الحي العشرين الذي يقطنه العُمَّال الجزائريون، ستة على سريرٍ واحد.
وطلَبوا مني أن أُعطيهم دروسًا في اللغة العربية؛ فقد كانت فرنسا تُريد
فرنستهم، استعمار اللغة بعد استعمار الأرض. وكنتُ أشربُ فنجانًا من
القهوة كل صباحٍ حتى لا يشعر صاحب الفندق أنه لا يستفيد مني شيئًا
ببقائي مع الإخوة الجزائريِّين. وكان في وجه أحدهم حَبُّ الشباب
يَهرُشها طَوال الوقت، وتواعدنا مرةً في محطة لوكسمبورج، وفجأة رأيتُه
قبل الموعد بيوم، وأخبرني أنه ظن أنني قد آتي اليوم؛ أي قبل الموعد
بيوم؛ فالزمن ليس له مسار، الأمس واليوم والغد يتساوَوْن.
وكنت قبل المغادرة من
مصر، أعطاني أحمد فؤاد الأهواني خطابًا لأحد تلاميذه في باريس يوصيه مخ
بي خيرًا، فذهبت إليه وأعطيتُه الرسالة، فكتب هو رسالة إلى مدام
رامبارك مديرة مكتب البعثات التعليمية الفرنسية بالسفارة المصرية
بباريس. ولمَّا قَرأَتِ الخطاب وضَعَته على مكتبها مُستغرِبةً أنها لا
تملك أيَّ سلطة في ذلك، هي فقط مديرةٌ إداريةٌ تنفيذية لما يأتي إليها
من تعليماتٍ من إدارة البعثات في مصر. وأدركتُ ما أسهلَ الكلام الشفهي
أو المُدوَّن وما أصعب الأفعال، فأحسَستُ بالحرَج أمامها وهي تقول لي
إنها لا تستطيع فعل شيء. وقد كنتُ أضَع أملًا كبيرًا فيها وفي خطاب
التوصية الذي كُنتُ أخشى أن يضيع ويضيع معه مستقبلي.
وفي الطريق إلى السفارة أوقفني شرطيٌّ طالبًا أوراقي، فأخرجتُ له
جواز السفر فنظر إليَّ مُستغربًا وهو يقول: ولكن وجهك الآن «معضَّم» أو
بتعبيرنا الشعبي «مقفَّع» أو «مفقَّع». فقلتُ له: لأني وصلتُ هذا
الأسبوع، ولم أَستقِرَّ بعدُ، فأَرجَع إليَّ جواز السَّفَر مُستغرِبًا،
بعد أن اطمأنَّ أنني لَستُ من المهاجرين غير الشرعيِّين كما يحدُث
الآن.
وبعد أسبوع في ٢٥ / ١٠ / ١٩٥٦م وأنا ما زِلتُ في مرحلة الاستقرار بدأ
العدوان الثلاثي على مصر حيث تَجمَّعَت أساطيل الدول الكبرى في البحر
الأبيض المتوسط. وبالاتفاق مع إسرائيل بدأ العدوان في أكتوبر، وهاجمت
إسرائيل من الشرق، فاحتلَّت سيناء وذلك لِحصارِ الجيش المصري بين فكَّي
الكماشة، إسرائيل في سيناء والقوات البريطانية والفرنسية في قناة
السويس بدعوى تأمين حرية الملاحة البحرية، وشَهِد الجيش تدميره. وقد
طالب الشيوعيون والإخوان عبد الناصر وهم في السجون بإخراجهم وتسليحهم
للدفاع عن بورسعيد التي لم يكن قد تم احتلالها نَظرًا للمقاومة الشعبية
في القضاء على جنود المظلات، ففعل عبد الناصر، ثُمَّ طالبوا بإعادتهم
إلى السجون من جديدٍ ففعل أيضًا. وكان الشعب معه لا فرق بين إخوان ووفد
وماركسيين ومصر الفتاة؛ فالكل واحدٌ لإنقاذ الوطن. وغادر معظم الطلاب
الدارسِين في فرنسا، بعد أن اجتمعوا في السفارة المصرية بباريس لمعرفة
ماذا عليهم أن يفعلوا؟ البعض قال يعود إلى مصر للدفاع عنها، فيرد
السفير عبد النبي مع المستشار الثقافي ثروت عكاشة: هناك من هم أَقدَر
منكم على الدفاع. وقال البعض الآخر نغادر هذه الدولة الاستعمارية،
ونَدرُس في ألمانيا. وبالفعل حزموا أمتِعتَهم، وغادروا إلى ألمانيا.
وفريقٌ ثالثٌ فضَّل استمرار الدراسة في فرنسا؛ فهذا أكبر ردِّ فِعلٍ
على الدولة الفرنسية. أمَّا أنا فلم يكن عندي إمكانيات للعودة إلى مصر
ولا إلى السفر إلى ألمانيا، ففضَّلتُ البقاء في فرنسا. وذهبتُ إلى
اللوفر ورأيتُ آثار مِصرَ ومِسلَّة الكونكورد في الواجهة وسط الميدان
المُسمَّى باسمها، وأنا أبكي مصر والعدوان عليها. وكنتُ أسير في
الشوارع وأنا أُغنِّي «لكِ يا مصر السلامة». وتذكرتُ تدمير الأسطول
المصري غرب الإسكندرية بعد حصاره من القوات البحرية الفرنسية
والبريطانية في موقعة نوارين الشهيرة لإسقاط محمد علي بعد أن أصبح قوةً
تُهدِّد القوى الغربية، تريد تجديد روح الإمبراطورية العثمانية والغربُ
طامعٌ في إرث الرجل المريض؛ فالتاريخ يعيد نفسه. ولم نسترح نفسيًّا إلا
بعد أن انسحَبَت جيوش الدول الثلاث من مصر. البعض يقول بفضل التهديد
الأمريكي بالتدخُّل أو تهديد بولجانين، أو قرار الأمم المتحدة بإيقاف
العدوان، كل طرفٍ يريد أن يأخذ الحق في جانب الانسحاب الذي تم في
ديسمبر من نفس العام. والبعض الآخر يقول بفضل الإنذار الروسي. وفي كلتا
الحالتَين يظل رنينُ خُطَب عبد الناصر في الأزهر «سنُقاتل». وطالَب
صلاح سالم عبد الناصر بتسليم نفسه لقوات الاحتلال واتهام زملائه له
بالخيانة العظمى.
وكان هناك أَحَد الأنظمة الإسكانية للطلاب؛ ففي ١٥ شارع سوفلو Souflant في الحي اللاتيني هناك مَكتبٌ
جامعيٌّ يُقدِّم خدمةً سكنية للطلاب يقوم على أساس التبادُل
Au Pair سكنٌ مجَّاني في مقابل
خِدمةٍ طلابية لأَحَد أطفال الأُسرة، وهي غُرفةٌ فوق السطح كانت
مُخصَّصةً للشغَّالات. ولمَّا لم يعُد نِظام الشغَّالات يتبع كل شقةٍ
سكنية قائمًا قدَّمَت الأُسرة غُرفة السطح إلى أَحَد الطلاب أو
الطالبات. وكُنتُ أستيقظ في الصباح الباكر وأسير من الحي العشرين حيث
كُنتُ أَسكُن مع الجزائريِّين كي أكون أَوَّل من يقرأ قائمة الغُرف
المُعطاة للطلاب في مُقابلِ التدريس لأَحَد أطفال الأُسرة أو مقابل
أجرٍ زهيدٍ لا يتعدَّى فرنكاتٍ في الشهر للطلاب الفقراء. ونجَحتُ مرةً
في الحصول على غُرفة السطح مُقابل تدريس العربية والإنجليزية لِطفل
الأسرة. وفي يومٍ وأنا عائدٌ من الجامعة وَجَدتُ غُرفة السطح قد كُسِر
بابها، ونُقل عَفشُها وكُتبها إلى غرفةٍ أخرى في فندقٍ مع دفع ليلةٍ
واحدة! فاستَغربتُ، وذهبتُ إلى صاحب الشقة، فأخبَرني أنهم في مصر
طَردُوا أخاه، وكان مُوظَّفًا في شركة قناة السويس، وليس من المعقول أن
يبقى مصريٌّ في غرفة تَبعه، وأنا مصري وأَخوه مطرود من مصر، مع أن
الطفل فرح بمُدرِّسٍ له مصري. وبعد الفَرح بحل قضية السكن المجاني
حَزِنتُ، وسألتُ مكتب الطلاب في الجامعة ما العمل؟ فأخبروني أن هذا
عَملٌ غيرُ قانوني، وعليَّ أن أرفع قضيةً على صاحبها في قصر العدالة Palais de Justice في الحي.
وبالفعل بالرغم من أنه لم يكن معي إلا أربعون فرنكًا وهو ثمن القضية،
كَسَبتُها، وأَخذَني صاحب الشقَّة جانبًا واعتذر، وعليَّ بعد ذلك أن
أذهب إلى المحكمة، وهذا يَتَوقَّف على مَهارة المُحامِين، عندي وعنده!
وأنا ما زِلتُ أبحث عن الطعام والسكن. وحدث ذلك في إليزيا Alesia بجوار دانفير روشيرو Danfere Rocherot، وأَسَدِها
الذي في الميدان الذي نَحتَه نفس المثَّال الذي نَحَت أَسَدَي كوبري
قصر النيل في عصر إسماعيل. وأَدركتُ أن الحق فوق القوة أو أن العدل فوق
أهواء البشر.
ومرةً أخرى وجدتُ غرفةً رخيصة في محطة رانلاج Ranlagh بجوار غُرفة تَشوين الفحم في البدروم بلا
نوافذ، وكُنتُ لا احتاج إلى تدفئة. وكانت جارتي على الشارع موظفةً في
المترو الذي آخذ محطَّته كل يوم، وهي تختم لي البطاقة الأسبوعية، ولا
أُكلِّمها لأني لم أكن قد تَجرَّأتُ على مخاطبة النساء بعدُ، وأنا
الإخواني القديم. وفاجأتني هي بالحديث مرة: أَلستَ جاري؟ قلت نعم، ولم
أستمر في الحديث بالرغم من مُحاولتها مع صديقةٍ في زيارةٍ لها إسماعي
صوتها لي ليلًا، ثم فقدُت الأمل مع أن الأمور مُيسَّرة. كانت غرفتها
بجواري بها نافذةٌ تُطِل على الشارع، أجمل وأفضل عندما كنتُ أجد الباب
مفتوحًا. كانت الأسرة مالكة حجرتي لطيفةً وودودة، تُرحِّب بالطلبة
الأجانب، تسألني كل مرة عندما أحضر لدفع الإيجار وهو أربعة جنيهات
شهريًّا إذا كنتُ أحتاج شيئًا أو إذا كان هناك شيء ينقصني، فأشكُر
ربَّة الأسرة. ورأيتُ المِصعَد الحديدي مثل المصاعد التي في الأبنية
التي على ساحل الإسكندرية مثل فندق سوفيتيل أو المعهد السويدي، وكُنتُ
أُحِس به تدريجيًّا أنني في فرنسا، بالإضافة إلى المترو المُريح الذي
يُغطِّي كل شوارع باريس في أنفاقٍ تحت الأرض بحديده المشغول على فتحات
النزول والخروج، والأبوابِ التي تُغلَق آليًّا إذا وصل المترو إلى
الرصيف ثم تُفتح بعد ذلك بعد المُغادرة بلا زحام أو خطورة. وأَجِد
أحيانًا على كنبات الاستراحة الخشبية مُتشرِّد Clochaet وفي يده زجاجة النبيذ الأبيض والأخرى
الرغيف الفرنسي الطويل باجيت Paguette
لا يسأل إلحافًا. وأحيانًا أَجِد بين الدهاليز تحت الأرض الموسيقيِّين
يعزفون أو بعض الفنَّانِين يرسمون، وقُبَّعته مقلوبة على الأرض بجواره،
والناس تقذِفُ فيها الفرنكات المعدنية. وأحيانًا أَجد في هذه الدهاليز
بعض الشعارات السياسية لبعض الأحزاب. وفي نفس الغرفة حاوَلَت صديقة أحد
المصريِّين إغرائي لمَّا عَرفَت أنني أيضًا في الكونسرفتوار، ولكني لم
أكن بعدُ قد تعلَّمتُ مخاطبة النساء. وقالت لي مرةً وهي في زيارةٍ لي
أُريد أن أَقضيَ الليل هنا، ولم أفهم ما تُريد كما أفهم الآن، ورجوتُها
الذهاب إلى سكنها الذي كان على التبادُل في حيٍّ آخر باعتبارها طالبةً
في الكونسرفاتوار. وبعد عِدة سنوات ذهبتُ إليها في غُرفتها بعد أن
تعلَّمتُ كيفية الخروج من ثقافتي الإخوانية الإسلامية الأُولى. وفي هذه
المرحلة الرومانسية كنتُ أركب المترو من رانلاج في الحي السادس عشر،
وأُغيِّر المترو إلى آخر محطة دانفير روشيرو. وكان الباريسيون يُتقِنون
فن التغيير لاختصار الوقت، فإمَّا أن يركبوا القطار من الأمام إذا كانت
محطة التغيير بالقرب منه أو من الخلف إذا كانت محطة التغيير بالقرب
منه. وأَحسنتُ هذا الفن، وكُنتُ أركبُ عربة المترو الأخيرة لأن التغيير
كان من هناك. وكانت هناك فتاةٌ فرنسية بيضاء ذاتُ وجهٍ جميل بالرغم من
أنها قصيرة ألتقي بها كل يوم، وفي نفس المعاد، وفي نفس المكان، ينظر
كلٌّ منَّا إلى الآخر، كانت تنتظر أن تأتي المبادرة مني كالعادة، ولكني
لم أفعل. ولمَّا أتت الفترة الواقعية عام ١٩٦٠م تركتُ المكان والزمان
إلى المدينة الجامعية في الحي الرابع عشر، وأدرس في منزلي وآكل في مطعم
المدينة الجامعية، فحزِنَت لتأخَّري. وكانت تَرِنُّ في أُذني آية
وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا.
فأطمئن إلى ما فَعلتُ. بعد ذلك وُفِّقتُ في السكن في المدينة الجامعية
في الحي الرابع عشر في غرفةٍ مُزدوَجة مع أمريكي في منزل الولايات
المتحدة الأمريكية، وكان بالقرب من محطة المترو بهذا الاسم، وعلى
الشارع بِضَجَّته، وسألتُ زميلي بالغرفة: كيف تنام في هذه الضجة؟
فأجاب: أنا أسكُن في شيكاغو فوق محطة القطار؛ فأنا مُتعوِّد على ذلك.
لا يُوجد منزلٌ للمصريِّين، بل هو نُزلُ الطلبة الأرمن عندما كان نوبار
باشا الأرمني وزيرًا للتعليم في مصر؛ فبناه على نفقة مصر باسم الطلبة
الأرمن. وقانون الإسكان في المدينة النصف من البلد الذي بنى. والنصفُ
الآخر من باقي الجنسيات حتى يتحقق الترابُط العالمي، كما لا يسمح قانون
الإسكان بأكثرَ من أربعِ سنواتٍ حتى يسكن الجميع. وبعد عامٍ انتقلتُ
إلى البيت الألماني لأني أدرس الفلسفة الألمانية؛ ولا بد أن أعيش مع
الطلبة الألمان كي أكسب مزيدًا من المهارة في اللغة الألمانية. ومكثتُ
في البيت الألماني ثلاث سنوات (١٩٦٠–١٩٦٣م)، وبالفعل زادت مهارتي في
الحديث باللغة الألمانية، وانتخبَني الطلاب رئيسًا لاتحاد الطلاب
الألمان. وجاءت زيارة الرئيس الألماني لوبكه Lübke ورحَّبتُ به باللغة الألمانية، فاستغرب!
مصريٌّ رئيسٌ لاتحاد الطلبة الألمان يُلقي خطابًا بالألمانية ترحيبًا
بالرئيس الألماني! ورَدَّ عليه الدكتور شتيفن Steffen مدير المنزل: هذه هي الديمقراطية. وفي المدينة
الجامعية حيث يقطُن طلاب العالم كُلِّه تطوَّرَت شخصيَّتي وتفتَّحَت،
فانتقَلتُ من المرحلة الرومانسية إلى المرحلة الواقعية بعد عدة
صَدَمات؛ ففي غُرفة الدراسة في بيت الولايات المتحدة، كانت هناك طالبةٌ
في غاية الجمال تجلس بجواري على المائدة المُجاوِرة وبيننا الباب، ينظر
كلٌّ منا إلى الآخر دون حديث، وفي يوم رأيتُها وقد التقَطَها طالبٌ
مغربي، وكانت هي من فنلندا، فنَدِمتُ على تأخُّري في التعرُّف عليها.
بعد ذلك تَعرَّفتُ على أمريكيةٍ كبيرة في السِّن ضخمةِ الجُثَّة
ودعوتُها إلى غُرفتي في بيت ألمانيا، فقَبِلَت بسهولة. ولما دَخَلتِ
الغُرفة ورأت حالي المتواضع، لا عربة ولا منحة ولا سكن وبمجرد جلوسي
بجوارها على الكنَبة قَذفَت بالملابس، وقرَّرَت المُغادَرة،
فاستَغرَبتُ. ومرةً رأيتُها مصادفةً بشارع راسباي Raspail في تقَاطُع بول ميش وهي تسير مُعجَبةً بنفسها
لَعلَّها تُرزَق بصديق، فذهبتُ إليها وهي تَعبُر الشارع ودون أن أشعر
لَكَمتُها، وأنا الشرقي الذي لا يُطيق الهُجران، فرآني أحد الفرنسيِّين
المارِّين الرياضيِّين، هُرعِ إليَّ وضربني لَكْمةً كادت أن تُخرج
فكِّي من وجهي قائلًا: هكذا أنتم يا أهل الشرق تضربون نساءكم، أمَّا
هنا في فرنسا فذلك جريمةٌ كبرى، وتحاوَرنا نحن الثلاثة حول هذا الدرس.
ومرةً أخرى رأيتُها مع فيتناميٍّ قصيرٍ رفيع، فسألتُ من هذا؟ فقالت
لديه موتوسيكل وسكن ومال وسنجوب فرنسا محافظةً محافظةً سَويًّا، فتمنيت
لها التوفيق. وكنتُ مُعجبًا بطالبةٍ ألمانية أخرى ذاتِ أنوثةٍ أخاذة،
وانتَظَرتَ هذا المصري الألماني أن يُبادر، فلم أفعل، فالتقَطَها
لبنانيٌّ كان أخوه معنا في المنزل، ووعدها بالزواج ثم خَدعَها، وتركها
في أثينا حيث أَخَذ الباخرة إلى بيروت، وعادت إلى ألمانيا كَسيرةَ
القلب، لديها فكرةٌ سيئة عن العرب الخادعِين، وحزِنت. وفي هذه المرحلة
الرومانسية كانت تدعوني بعض العائلات الفرنسية للعشاء عشَمًا في زواج
ابنتها، فكنت أَذهبُ وآخُذ الورد مما كان يُكلِّف الكثير، وعلى العشاء
في الساعة السادسة تنتهي منه في العاشرة. والابنة ذهابًا وإيابًا إلى
المطبخ كما هو الحال في الأفلام المصرية تُحضِر صينية القهوة دون أن
ترتبك. واعتَرفَت لي الوالدة مرةً بأزمة الزواج في فرنسا، فإذا وَضَعت
المال في كفَّة وابنتها في الكفَّة الأخرى لِشابٍّ لاختار كفة المال،
ونظل نرغي في مثل هذه الموضوعات التي تهمُّ الأُسرة ولا تهمُّني هذا
الوقت الطويل، وأُصاب بالصُّداع، وتقول والبنتُ وهي تُودِّعني إلى
الباب: نرجو أن نَراك مرةً أُخرى، فأقول: إن شاء الله، آمُل كذلك، ولا
يَرونَ وجهي بعد ذلك، مع أن العروس تجمع بين المال والجمال. حدَثَ ذلك
أكثر من مرة، وأحتار بين قَبول الدعوة إلى العَشاء وما يتعلَّق بها أو
الاعتذار، وقُلتُ في نفسي: ليتها عَرفَتني فتأخذ فكرة عن الشهامة
العربية. وتَعرَّفتُ على طالبةٍ ألمانية نشِطة، كانت تُريد الزواج، وهو
ليس في ذهني، فتَركَتني إلى طالبٍ ألماني فصُدِمت، وبعد خمس سنواتٍ أتت
إلى باريس، فدَعَوتُها إلى غرفتي، وانتظرت هي عريس المستقبل فلم تجِد
إلا شابًّا شقيًّا، يفعل ما يفعله جميع الطلاب، فخَرجَت ولم أَرَها
بعدها؛ فلم تَعْلم أنني قد تغيَّرتُ، وأنني لم أَعُدِ الشاب الرومانسي
القديم، ثم كَتبَت لي بعد عودتي إلى القاهرة بعد أن قَرَأَت عني في
الصحف الألمانية، فردَدتُ عليها بالذكريات الجميلة التي انتهى عصرها.
وكان مَبدئي في ذلك الوقت: صادِق أجنبيةً وتزوَّج مصرية، وإلا فلِمَن
تُترَكُ المصريات؟ ثم عَرفتُ ألمانيةً أخرى من البيت الألماني كان
يحُوم حولها الكثيرون، وظلَّت معي لمدة عام، لم تكن ذكية، عادت بعدها
إلى موطنها الأصلي في ساربروكن Saarbrücken ثم عادت إلى باريس بعد عامٍ لتعرف موقفي،
وبعد أن بيَّنتُ لها أَنْ لا موقف لي إلا العلم، قالت: يا عبيط! وعادت
إلى ألمانيا، ولم أَرَها بعد ذلك. والألمانية الأخيرة التي عرفتُها
وأنا في باريس ظلَّت معي حتى عُدتُ إلى مصر، وجاءت بعدها إلى مصر
لزيارتي، وطلبت من والدتي أن أتقدم لها ووافقَت والدتي، فأجابتها:
ولكنه لا يريد، وذَهبَت بمفردها إلى الأقصر وأسوان، ثم رأيتُها في إحدى
زياراتي إلى باريس، وتصوَّرَت أنها ما زالت صديقتي، فاستَغربتُ؛ فإن
الزمن قد وَلَّى، ثم تلقَّيتُ منها رسالةً أخيرة بعد أن قَرأَت عن فكري
في إحدى الصحف الألمانية، ذاكرةً إيَّاي بالاسم بأنني أصبحتُ من كبار
مُفكِّري الوطن العربي من خلال مشروع «التراث والتجديد». ردَدتُ عليها
وشكرتُها، ولا أظن في العمر بقيةً حتى نَتذكَّر ما مضى. وقد ازدادت
معرفتي باللغة الألمانية منها على مدى أربع سنوات، وزُرتُها في
هيلدسهايم Hildesheim، وتعرَّفتُ
على أخيها المزارع ومُربي الخنازير. زُرتُ معها أرجاء فرنسا في الصيف
وألمانيا وإسبانيا، تَسُوق عربتها، ثم نقتسم باقي المصاريف مُناصفة.
وفي ليلةٍ استيقظتُ على ضَجَّة في المزرعة، فأيقظتُها وسألتُ: ما هذه
الضَّجَّة؟ فقالت: مجرمون لُصوصُ الخنازير. فقلتُ: ولماذا لا يطاردهم
أخوك؟ قالت: لأنهم مُسلَّحون قتَلَة، والأفضل أن نَفقِد خنزيرًا أو
اثنَين على أن نفقد أخي، فتساءَلتُ في نفسي: أين الشجاعة
الألمانية؟
وبعد أربع سنواتٍ إقامة بالمدينة الجامعية أقمتُ سنتَين بِغرفةٍ
مزدوجة مع مبعوثٍ مصري في القانون الدستوري، وكان لديه صديقةٌ روسية
يقضي لدَيها عُطلة نهاية الأسبوع، وأخرى فرنسية التي كان يراها وسَط
الأُسبوع والتي زارته في مصر رغبةً في الزواج منه، وكانت جميلةً شقراء.
وكانت لها صديقةٌ فرنسية حاولتُ مُصادقتَها فلم أفلح بالرغم من جمال
تسريحتها الأسبوعية؛ فلم أكن أستطيع التعرُّف عليها ولو حتى الصداقة.
وكانت له صديقةٌ طياري ثالثة جاءته مرة لزيارته. ولم يكن موجودًا،
فقالت وماذا أفعل الآن؟ فأجبتُ أنا موجود، فأجابت أيكما يقضي الأمر،
ويقوم بالواجب. وأَدركتُ حاجة المرأة للجنس بصرف النظر عمَّن يقوم به.
وكانت الصديقة الروسية تَوَد الزواج به بعد أن كان يقضي عُطلة الأسبوع
في منزل والدَيها، وتُقدِّمه لهما على أنه صديقها، ولمَّا لم يحدث ذلك
قاطَعَته، فحَزِن حزنًا شديدًا، ولم يُفرغْ حُزنَه وهمَّه إلا صديقتُه
الفرنسية. وبعد أن استنفدت جميع حقوقي كطالب في المدن الجامعية، سكنتُ
من جديدٍ في دانفير روشيرو آخر عامٍ في غُرفة السطح، وما زال اسمي على
لوحة أسماء السكان للبريد؛ فالصداقة لها حقوقها مثل الزواج في بلادنا؛
فلا تجوز خيانتها. وفي السنة الأخيرة تَعرَّفتُ بالمصادفة على فتاةٍ
فنزويلية قصيرة سمراءَ ولكنها مملوءة بالحيوية، تعلو فوق وَجهِها
ابتسامةٌ شرقية. ولمَّا كُنتُ من أنصار لاهوت التحرير في أمريكا
اللاتينية دَخلَت قلبي في التَّوِّ واللحظة. دعوتُها إلى غُرفتي
فاستَجابَت، وكانت على علاقةٍ بفرنسيٍّ يبدو أنه وعدها بالزواج.
عَلَّمَتني الحياة. كَوَّنَت شخصيتي التجارب. ولا أدري إذا كنتُ قد
أَحسنتُ.
وبالرغم من أنني تَزوَّجتُ عن حب وكُنتُ مُوفَّقًا في زواجي، وكانت
زوجتي مَوضِع ثقةٍ وتملأ عليَّ حياتي إلا أنني كُنتُ أشعر بين الحين
والآخر ببعض الضعف تجاه الجنس الآخر، فأتذكر قول الرسول «إن قلب المؤمن
بين إصبعَين من أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء.» عندما شَعَر بشيءٍ
تجاه امرأةِ زيدٍ ابنه المُتبنَّى، فأَسرَعَ بالخروج. حدث ذلك لي
عِدَّة مراتٍ عندما بَهرَتني مُخرجةٌ مسرحية بشخصيتها وفنها بل
وعقليتها في المسافر خانة، فكُنتُ أذهب للعرض المسرحي كل يوم، وأَنفعِل
كفنَّانٍ بالغناء المسرحي وأنا الموسيقيُّ القديم، ثم اكتشفتُ
استغلالها مُقدَّمًا. أتاها ضيوفٌ أجانب فدَعَتني، وأخذنا العَشاء على
النيل، وطبعًا دفعتُ التكاليف، كانت تَستغِلُّني، فأخبرتُ زوجتي التي
كانت تُضحِّي بنفسها من أجلي. ومرةً أُخرى دَعَتني جامعة الإمارات على
العَشاء في قَبوِ فندق يسيل الماء من أعلاه، وكانت بجواري فلسطينيةٌ
ذاتُ رداءٍ بلا أكمام، أرى ذراعها الأبيض وصَمْتها كالمَلاك، وفي نفس
الليلة كان تلميذي قد دَعاني إلى العَشاء بمنزله على خروفٍ مشويٍّ
واقف، وفاجأني بالدعوة ليلتها طبقًا للتقاليد، وكان ذراع الفلسطينية
الأبيض الغَض يَجذِبني أكثر من الخروف الذي لا أراه. وهنا أدركتُ أهمية
الإدراك الحسي كما لاحظ ميرلوبونتي في «ظاهريات الإدراك الحسي»، فغَضِب
مني الطالب، ولم تَشعُر بي الفتاة الفلسطينية. ومرةً ثالثةً جذبتني
امرأةٌ بيضاءُ ضاحكة بالرغم من قِصَرها تعمل في الإعلام، حاوَلتُ أن
أراها عِدَّة مرات، ولكن لم يعُد لدَيَّ ولا لدَيها وقتٌ لذلك، فأخذ
الزمان ما أَحضَر؛ فكلما رأيتُ امرأةً حتى لو كانت شغَّالةً أو امرأةَ
بوَّابٍ أكون لطيفًا معها، أُمازِحها بلا أي هدف مما كان يُغضِب زوجتي
أحيانًا، فأقول لها هذا هو الطابع الفرنسي، اللطيف مع النساء ومغازلة
المرأة من حيث هي امرأةٌ دون أي قصدٍ أو هدف. وعلى النقيض من ذلك كُنتُ
عندما أزورُ باريس أذهبُ إلى شارع القدِّيس دينيس Saint Denis وأرى النساء واقفاتٍ على الصفَّين.
شجَّعَني أحد تلاميذي مرةً فتَعرَّفتُ على واحدة، وكانت عربية؛ فالدم
يحن، ومرةً أخرى فرنسية، أدَّت دورها بحرفيةٍ دون عواطفَ أو انفعالات.
وكنتُ أستمع إلى اللغة العامية الفرنسية الشعبية فأَتعلَّم مُصطلحاتِها
وشتائمها إذا ضايقَني أحد، مُجرَّد فُرجةٍ بلا شِراء. وقد يكون الغَزَل
بالكلام تعويضًا عن العَجز بالفعل.
حزِنتُ لِوضعِ الطالبات المصريات وحِصارِهنَّ بين التقاليد القديمة
ومُتطلَّبات الحياة العصرية؛ فلا هن يستطعن أن يُقلِّدن الطالبات
الغربيات وسَط زميلاتهن الغربيات، ولا هن يستطعن أن يُقلِّدن زميلاتهن
الغربيات وسط زميلاتهن المِصريَّات. ومن حاولت ذلك — الصمود بين القديم
والجديد معًا — أُصِيبت بمرضٍ عقلي؛ فمع مَن ستقضي نهاية الأسبوع؟ لم
يَبقَ لها إلا حُجرتها ذات الأربع حيطان تُحادِث نفسها؛ فلو خَرجَت
بمفردها وسارت في الطريق أو جَلسَت في مقهى يَتقرَّب إليها الشباب، إن
حادثت يطلبون المزيد، وإن صَمتَت يهجرونها إلى غيرها. وقد حدَث نفس
الشيء للشباب أيضًا الذين لا يريدون التوافق مع ضرورات العصر، كما حدَث
لِشابٍّ عندما رأى ابنة أستاذه مرةً وهو يزوره، فتَصوَّر أنه يُحبها
وأنها وَقعَت هي الأخرى في حُبه، وانتهى من الرسالة وناقَشَها وعاش
أَعزَبَ، فإذا سُئل: لماذا لم تتزوج؟ قال: إنه ينتظرها. هل تحادثتَ
معها أو راسلتَها أو تعلم بوجودك؟! قال: لا؛ فالحبيبان يشعر كُلٌّ
منهما بالآخر. وقد تزوَّجَت وأَنجَبَت، وهو ما زال أَعزَبَ، في
الانتظار.
كنتٌ آكل بمطاعم المدينة الجامعية، ويقتضي ذلك كارنيه مع صورة، وكان
يقتضي شهادة نجاحٍ، مدته ثلاث سنوات يُجدَّد مرةً أخرى. ولمَّا كُنتُ
أُعِد رسالة فكان ريكير يكتب شهادةً بخط يده أنني أُعِد معه رسالة، ولم
تنتهِ بعدُ، فأحصل على الكارنيه. وكانت تذكرة الطعام بسبعة قروش ونصف،
فإن كنت طالبًا فقيرًا أعطَوني تخفيضًا لِتُصبح التذكرة بأربعة قروش
ونصف، وإن كُنتُ فقيرًا جدًّا أعطَوني تخفيضًا ثانيًا وتُصبِح التذكرة
بثلاثة قروش ونصف. وكنتُ آكُل مرةً واحدة في اليوم، هي وجبة الغذاء،
وأَذهَب في نهاية الفترة التي تبدأ في الحادية عشرة والنصف وتنتهي في
الواحدة والنصف عندما يُترك ما تبقَّى من طعام، يأخُذ منه الطالب ما
يشاء. وكنتُ أَبيعُ التذكرة التي كان ثمنها ثلاثة قروش ونصف على باب
المطعم بسبعة قروش ونصف، وهو السعر العادي، وأَكسَب كل يومٍ أربعة
قروش. ومرةً أَحرجَني طالب فرنسي قائلًا: أنت تاجرٌ جيد، وهو لا يعلم
أنني أفعلُ ذلك بدافع الفقر. ومرةً رأيتُ طالبًا يَبيعُ تَذاكِر المطعم
بنصف الثَّمَن، وأنا تذاكري بنصف الثمن عن طريق المشرفة الاجتماعية
التي كانت تَرى مَلابسي، فتُوافِق على الفَور. سَألتُه: كيف؟ فقال إن
الموظف الذي يأخُذ التذاكِر قبل أن آخُذ صينية الطعام يضعها خرقًا في
عامودٍ معدني طويل كي يرميها بعد ذلك، وكان لا يرميها، بل يضع قليلًا
من الماء مكان الخُرم، ثم يكويها، فتعود صالحةً للاستخدام مرةً ثانية،
وكأنها جديدة، فعَرفتُ أن الفساد عند الأوروبيِّين أيضًا، وليس كما
نَتصوَّرهم أُمناءَ شُرفاء، ولم أشأ أن أقول للطالب الذي يبيع التذاكِر
المُستعمَلة كما قِيل لي: «أنت تاجرٌ ماهر.»
وكانت المطاعم نوعان:
الأَوَّل مطاعمُ عاديةٌ للأَصِحَّاء. والثاني مطاعمُ خاصةٌ للمرضى
الذين يحتاجون رعايةً خاصةً زائدة
Diedetique. وكانت الأَخِصَّائية
الاجتماعية هي التي تُقرِّر لأي نوعٍ تُستحَق؟ وما إن تراني بِوَجهي
المُعظَّم حتى تُوافِق على إعطائي بِطاقةَ المرضى. وكانت نوعان من
البوفيه المفتوح: آكُل كُلَّ ما أشاء من لحوم أو أسماك، وأشرب اللبن
وليس الماء كما أشاء. وكان مُعظَم الرُّوَّاد من الأفارقة
المتمارِضِين. وكان المَطعَم يُقدِّم لحمًا آخَر غيرَ لحمِ الخنزير إذا
قلتَ للتي تغرف إنكَ من المُسلمِين. وكانت تتعرَّف عليهم بِسَمارِهم أو
سَوادِهم؛ فلم يكن يُوجد مسلمون بِيضٌ في هذه الأيام. فإذا قال طالبٌ
أبيضُ إنه من المسلمين لأنه لا يحب لحم الخنزير نظرت إلى عينَيه
وابتَسمَت؛ أي إنها تعرف أنه من غير المُسلِمِين ولكن «معلهش»، فأعطته
ما يريد إذا كانت «بنت حلال». أمَّا إذا كانت قاسية القلب فإنها ترفُض،
وتطلب منه أن يَتقدَّم بسرعة ولا يُجادِل لأن الطابور وراءه طويل. وكان
ذلك بداية ظهور «كَرشِي» الذي لم أستطع التخلُّص منه إلا وأنا في حالة
مرضي الحالية حتى نقَص الهيموجلوبين، وأُحاوِل رَفْعه من جديد. وكان
مطعم المرضى في محطة لوكسمبرج للمترو قبل أن يتم تجديدها بالتذاكر
المُمغنَطة وليس بعاملةٍ تَخرِقها. كانت مطاعم الجامعة تُقدِّم الغَداء
والعَشاء دون الإفطار، فكُنتُ لا أُفطر، وأكتفِي بكوبٍ من الشاي واللبن
في أنبوبةٍ كالدواء. وكانت الكوب مُستعمَلةً لا أغسلها إلا إذا حضر أحد
الضيوف. وكنت أترك درَّاجتي مربوطةً على باب المبنى في عامود. وفي مرة
في الصباح وَجَدتُ أن العجلة الأمامية قد سُرقت كما يحدث في مصر دون
جِسمِ الدراجة المربوط. وأَفهَمَني الزُّملاء كيفية ربط العَجلة من
الأمام أو العجلة الأمامية مع جسم الدراجة في العامود؛ فالسرقة
تَتعدَّى حدود الأوطان. والوطن يبقى في القلب وإن هاجَر الجسد.
وفي نفس الوقت الذي أُدبِّر فيه حياتي الشخصية كنت أَكتُب مشروع
الدكتوراه، الرسالة الكبيرة أو الأُولى «المنهاج الإسلامي
العام» La Méthode Islamique Générale. وقَدَّمتُه إلى هنري لاوست الذي كان أستاذًا
بالكوليج دي
فرانس Collège de France والتي كانت تُعطي العِلم دون الدرجات العلمية،
والتي كانت نشأتها منافسةً للسربون وراعيةً للفِكر الحر في مُقابل
الفِكر التقليدي. كان فيها برجسون وميرلوبونتي ورينان وماسنيون. فقرأه
وأُعجِب به، ولاحَظَ نقص المُصلحِين؛ فهو مُؤرِّخ، يهتم بالتاريخ، وليس
فيلسوفًا تجذبه الأفكار. وكُنتُ قد كَتبتُ مُقدِّمةً تاريخيةً طويلة عن
مُفكِّري الإصلاح الديني؛ فقد كُنتُ أعتبر نَفسي امتدادًا لهم مع
مَزيدٍ من الجرأة والشجاعة، فعَرضتُه على ماسنيون، وكان أيضًا أستاذًا
بالكوليج دي فرانس فأُعجِب بالأفكار وسألني: ألم تقرأ أصول الفقه الذي
أَوصَى عندكم مصطفى عبد الرازق بقراءته؟ ودَعاني إلى منزله كُلَّ يومٍ
في مكتبته للاطلاع على علم أصول الفقه؛ فبحثي «المنهاج الإسلامي العام»
أَقربُ إلى مُحاولةٍ في عِلم أصول الفقه. وكان يقوم على تَصوُّرَينِ،
ثابت Statique ومُتحرِّك Dynamique. والثابت يتكون من
عُنصرَين، التصوُّر Concept
والنظام Ordre. والنظام يتكون من
شيئَين، الطاقة Énergie والحركة Movement. وأدركتُ فيما بعدُ أنَّ
التصوُّر هو علم أصول الدين، والنظام هو علم أصول الفقه. أمَّا الطاقة
والحركة فيقَعان في التصوف. وكانت قراءتي الشاطبي في «المُوافَقات»
فتحًا جديدًا، ثم «المستصفى» للغزالي الذي تغيَّرت صورته في ذِهني من
الصوفي إلى المنطِقي الأصولي. وكُنتُ قد سَمِعتُ عن العلم ولكني لم
أقرأه، وسَمِعتُ عن رسالة علي سامي النشار في «مناهج البحث عند
المسلمين»، رسالته للماجستير بتوجيهٍ من أستاذه مصطفى عند الرازق،
ولكني لم أقرأها. وذَهبتُ إلى كوربان Corbin الذي كان يجمع بين الفلسفة والدراسات
الإسلامية والتصوُّف الشيعي. ولاحظ أن الموضوع هو «التأويل». وكان هو
المُستشرِق الذي يَتخصَّص في التشيُّع والفيلسوف الذي كان أَوَّل من
تَرجَمَ أَجزاءً من «الوجود والزمان» لهيدجر إلى الفرنسية، ثم حَذَّرني
ماسنيون من كوربان قائلًا: حَذارِ من التأويل الشيعي الباطني الذي قد
تتُوه فيه، ونَصحَني أن أظل في عِلم أصول الفقه؛ فهو عِلمٌ عقليٌّ
مضبوط. واتفَقنا على أن يكون الموضوع «مناهج التأويل: دراسة في علم
أصول الفقه» Les Méthodes d’Exégèse, Essai sur la
Science des fondements de la compréhension, Ilm Usul
Al Fiqh، ثم طلَب من برنشفيج مدير مركز الدراسات
الإسلامية أن يُسجِّل الموضوع تحت إشرافه لأنه جزءٌ من السربون. وقرأ
الفلاسفة الخطَّة، فقال جان فال: إني أُحب الإسلامَ ولكني لستُ
مُتخصِّصًا فيه. وقرأ جان جيتون الخطة فقال هذا برجسون، الطاقة
والحركة، ولكنه ليس مُتخصِّصًا في الإسلام، لا يستطيع أن يُشرِف عليَّ،
وحَوَّلني إلى رينان الذي جمع بين الاستشراق والفلسفة الهيجيلية.
ولمَّا رأى ماسنيون هيئتي المُتواضِعة سأل: كيف أعيش؟ فقلت له: بلا
شيء. وكانت العلاقات بين مصر وفرنسا مقطوعةً بسبب العدوان الثلاثي عام
١٩٥٦م، ومع ذلك كتَب إلى أندريه ميكيل بالعلاقات الثقافية بوزارة
الخارجية أن لدَيه طالبًا ممتازًا يُحِب أن يَحصُل على منحةٍ دراسية.
ولما كان ذلك ممنوعًا رسميًّا أُعطِيَت لي نِصفُ مِنحة عشرون جنيها،
بدلًا من أربعين عام ١٩٥٩م، ثم تَحوَّلَت إلى منحةٍ رسمية بعد أن
أُعيدت العلاقات مع مصر عام ١٩٦٠م حتى عام ١٩٦٤م. وفي نفس الوقت
عُيِّنتُ مُدرِّسًا لِلَّهجةِ المصرية في مدرسة اللغات الشرقية الحية
مع كساب، سوري الجنسية، لتدريس اللهجة الشامية، مع لوسيرف Le Serf. وكُنتُ أَذهَب إليها كل يومٍ
لِعِدةِ ساعاتٍ في الأسبوع، بالإضافة إلى ما كُنتُ أُترجِمه من وثائقَ
صغيرةٍ من العربية إلى الفرنسية، التي كان يَتركُها حاجب المحكمة
الفرنسية كوثائقَ مُقدَّمة إلى القاضي، ثم يدفع إليَّ ثمنها في المرة
التالية، دون أن ينتظر بوَّابُ المبنى أي «بقشيش». وكُنتُ أُخصِّصها
لِشراءِ النُّصوص الفلسفية. وكان تعليم اللهجات يتم عن طريق سَماعِ
الطلاب مقتطفاتٍ لعبد الحليم حافظ أو أم كلثوم أو لمشاهير المُغنِّين
الشعبيِّين المصريِّين أو السوريِّين. وكانت هذه أَوَّل مرةٍ أُحِب
فيها الغناء الشعبي بينما كنت مُتعوِّدًا على الموسيقى «الكلاسيكية»
الغربية مثل بيتهوفن وشرقية مثل سيد درويش. ولمَّا أتى المشير إلى
باريس ١٩٦٥م، وشَكَونا إليه قَطع المِنَح أعطت مصر العشرين جنيها حتى
عُدتُ عام ١٩٦٦م. وكُنتُ أَعبُر نهر السين من مدرسة اللغات الشرقية حتى
المكتبة
الوطنية Bibliothèque National مارًّا بمسرح الكوميدي فرانسيز Française Comédie إلى المكتبة
الوطنية حيث كُنتُ أقرأ مخطوطاتِ علم أصول الفقه، وأتغدَّى في مَطعَم
الجامعة المجاور، وأركن رأسي على ذراعي على المنضدة مُستلقِيًا بعض
الشيء، أقوم بعدها للوضوء والصلاة في دورة المياه النظيفة، وأستمر بها
حتى السادسةِ مساءً، وهي أغنى بكثيرٍ من مكتبة السربون؛ أي كلية
الآداب. وكان الطلبة يذهبون إلى المقهى المُجاوِر أمام المكتبة لِشُرب
القهوة بعد الغداء وأنا لا أستطيع دَفْع ثَمنِها. وعَرفتُ مصطلح
القهوة السوداء Café Noire. أما
Cappuccino فلم أَجرؤ الاقتراب منه
أو طلبه لأنه أغلى ثَمنًا. وكان المقهى مكانًا لِلتعارُف بين الدارسِين
لِلصَّداقات الوقتية أو الدائمة مثل مطاعم الجامعة.
وبالنسبة للرسالة الثانية كَتَبتُ خطَّة تُقارِن بين الدين العقلي
والدين الوجودي عند كانط وكيركجارد، ثم أتينا مع بول ريكير فيما بعد
أنَّ فِكري أَشبَهُ بظاهريات التأويل وتأويل الظاهريات، فسجَّلتُ
الرسالة الثانية بعنوان «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل».
ولمَّا قرأ دي جاندياك De Gandillac
الخُطتَين قال إنه مُتخصِّصٌ في فلسفة العصر الوسيط، ورفض أن يكون
الإسلام جزءًا منه لأن له مساره التاريخي الخاص. وتَكوَّنَت لجنة
المناقشة من مُستشرِقَين؛ لاوست الإصلاحي، وبرونشفيج الفقيه،
وفيلسوفَين غربيَّين؛ بول ريكر الظاهرياتي، وجان جيتون البرجسوني،
ورئيس اللجنة دي جاندياك الذي يجمع بين الفلسفة والاستِشراق. وهَدَّدهم
جيتون إن لم يُناقشوني كفيلسوف ويُحاورونني كمُفكِّر وليس كمُؤرِّخ
فسيُغادر اللجنة، فاقتنَعوا ولم يجرؤ أَحَدٌ على أن يقول لي هذا ناقص
أو ذاك زائد. واستَمرَّت المُناقَشة من الواحدة حتى السابعة مساءً مع
نصف ساعةٍ استراحة بين الرسالة الأولى والرسالة الثانية. وأقام
مركز ريشيليو Centre Richelieu في
ميدان السوربون، وهو مركزٌ ثقافي كاثوليكي، حفل استقبال للأساتذة
المناقِشِين الخمسة والطلاب. وحضر إتين جيلسون مُؤرِّخ فلسفة العصر
الوسيط الشهير، وكان تقليديًّا محافظًا مثل أستاذنا جان جيتون؛
فالحقيقة لديه في العصر الوسيط. كل ما قاله العصر الحديث بالنسبة
للمسيحية انحرافٌ عن توما الأكويني، وهو الحق ودونه الباطل. وأنا على
العكس، ما قاله العصر الوسيط عن المسيحية اجتهاداتٌ للقضاء على اغتراب
المسيحية في العصر الوسيط. لم يبتسم ولم يجلس حتى النهاية؛ فالجو ليس
جوه، والعالم ليس عالمه. بَدأَت مناقشة الرسالة الأولى «مناهج التأويل
في علم أصول الفقه»؛ بدأها لاوست بإبراز معلوماته عن الحركة الإصلاحية
ثم برنشفيج المُشرِف بإبراز معلوماته في الفقه، ثُم عُقِدَت الاستراحة
والحضور يصيحون عجبًا، ولا تُقدَّم مشروباتٌ أو مُرطِّبات لِلحُضور أو
للمنصَّة أو تُوضع الورود كما هو الحال في مصر، ثم بدأت مناقشة الرسالة
الثانية «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل» ناقشها ريكير بهدوئه
وعِلمه ودِقَّته في اختيار المُصطلَحات، ودي جاندياك رئيس اللجنة بين
الحين والآخر يُعلِّق على ما يسمع، ثم انسحبَت اللجنة كالعادة وعادت
لِتُعلِن حصولي على دكتوراه الدولة Tres Honorable
Doctorat d’Etat وهي أعلى تقدير. وقالت إن هذه
رسالة بمعنى الكلمة؛ أي تحمل قضيةً مثل رسالة الأنبياء.
كنت أُريد تسجيل المناقشة منذ
البداية وأَحضرتُ جهاز التسجيل للقسم في ذلك الوقت، فمنع رئيسُ اللجنة
التسجيل لِأَن هذا ضد قواعد المناقشة، فرَجَوتُه أن يتركه للذِّكرى
ففَعل. وتَوقَّف التسجيل في منتصف المناقشة فأغلقه الصديق رشدي راشد،
فأَعدتُ تشغيله، راجيًا رئيس اللجنة أن يتركه لِلذكرى، وما زال عندي في
مكتبتي الضخمة، يجده من يبحث عنه من الجيل الجديد. وتم الاحتفال
بالدرجة العلمية، وأُفرِغَت الزجاجات. وكانت السوربون قرَّرَت لأَوَّل
مرة أن تُطبع رسائل دكتوراه الدولة (الرسالة الأولى) قبل مناقشتها،
والدولة الفرنسية تُساعد الطالب الفرنسي على طباعتها، أمَّا الأجانب
فتُعاوِنه فرنسا في إحدى دور النشر؛ المطابع الجامعية الفرنسية.
وكَتبتُ إلى المجلس الأعلى لِلثقافة في ذلك الوقت برئاسة يوسف السباعي،
فوافق على طباعة الرسالة الأولى في المطابع الفرنسية الأميرية، وأَرسَل
لي زوج أختي الكبرى سيد حامد مائة نسخة بحرًا كما طلبتِ السوربون قبل
المناقشة، وقد كان القائم بأعمال الأسرة كُلِّها. وكتَبَ لها برونشفيج
مُقدِّمةً يُقارِنُني بالفاروقي، وكانت هذه أَوَّلَ مرةٍ أسمع عنه قبل
أن أُقابله في مصر أولًا مَدعُوًّا إلى قسم اللغات الشرقية عام ١٩٧٠م،
ثم بالولايات المتحدة حيث عِشتُ أربعَ سنواتٍ معه. ثم طبعتُ أنا
الرسالة الثانية بالفرنسية في مصر بعد العودة في الأنجلو المصرية «من
تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل» في جزأين، ومهداة إلى بول ريكير
مثال الأستاذ العقلاني المُتأمِّل الهادئ،
١ ثم تَرجمتُها بنفسي إلى العربية. وقد انتشرت الرسالتان في
الغرب لِكل من يريد معرفتي، وبسرعةٍ جعلوني أنتسب إلى المنهج
الظاهرياتي عند هوسرل. وعندما قَرءُوا كتابي بالإنجليزية «الإسلام في
العصر الحديث» (جزءان) والحضارات في صراعٍ أم في حوار، انتشرت أفكاري،
ونسبوني إلى لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وآسيا، طِبقًا لمنهج
الأثَر والتأثُّر، من المركز للأطراف.
وقد كتبتُ رسالتي الأُولى مرتَين: الأُولى كانت مُركَّزةً للغاية،
وتصل درجة التركيز إلى درجة الألغاز؛ فلا يفهم العبارة إلا من كان يفهم
الموضوع من قبلُ، فلمَّا قرأها المشرف برنشفيج قال: غامضة، وضِّح
وفصِّل أكثر، فكتبتُها مرةً ثانية، فجاءت ردَّ فعلٍ على الصياغة
الأولى، مُفصَّلةً للغاية بحيث أَفَضتُ في الفِكرة التي أُريد
تَوصيلَها وسَطَ الرُّكام الهائل من التنسيق، وهو ما أُعاني منه حتى
الآن. وتم حَلُّ هذا الصراع الطويل بين المستوى العلمي في التحليل
المُسهِب الطويل والمستوى الثقافي المباشر الذي يدخل في الفكرة مباشرةً
دون جُذورها وتطوُّرها وغايتها. وقد استغرب السيد يس من هذا الطالب
الذي يكتب رسالتَيه مرتَين، وهو لا يستطيع كتابتها ولو لمرةٍ واحدة.
وكتبتُ هذه الرسالة الثانية بهذه الطريقة العلمية المُوثَّقة، فخَرجَت
في جزأين «تأويل الظاهريات» و«ظاهريات التأويل». الأَوَّل شَرحٌ للمنهج
الظاهرياتي عند هوسرل وتلاميذه، وبيان كيفية تطبيقه في ظاهرة الدين
انتهاءً بالتأويل. والثاني «ظاهريات التأويل، محاولة لتأويلٍ وجوديٍّ
ابتداءً من العهد الجديد».
وإذا كان ماسنيون هو
الذي أَرشَدني إلى علم أصول الفقه، وكوربان الذي اقترح موضوع «التأويل»
وريكير هو الذي وضَع يدي على الظاهريات، فإن جيتون هو الذي علَّمني
الفلسفة وتاريخها. هو مثل عثمان أمين في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة،
يدخل كلامه إلى القلوب، الفلسفة لديه تجاربُ حيةٌ يعيشها الأستاذ
وينقلها إلى الطالب. وهو من تلاميذ برجسون، كان يعطي ثلاث محاضراتٍ
أسبوعيًّا: الأُولى لطلاب الفلسفة وتاريخ الفلسفة، ولم أفقِد واحدةً
منها. كان أوغسطينيًّا، فكانت رسالته للدكتوراه «الزمان والخلود عند
أوغسطين وأفلوطين»؛ فالزمان موجودٌ لا يتجزأ. منه تعلَّمتُ تاريخ
الفلسفة، وكان يوم الإثنين صباحًا. والثانية حلقة بحث للدراسات العليا،
يتكلم فيها الطلاب، ويعترض الأستاذ، كان ذلك يوم الإثنين من العاشرة
حتى الثانية والثالثة. ومحاضرةٌ عامة يوم الأربعاء مساءً لمحبي
الفلسفة، وكان يعرض ما يأتيه من رسائلَ من المُستمعِين؛ فالفلسفة رسالة
وليست مهنة. طلَب مِنِّي مرةً أن أَعرِض موضوعا لطلاب الليسانس وهو
بجانبي، عن إسبينوزا، كما فعلتُ مع تلميذي علي مبروك فيما بعدُ،
فعَرضتُه داخل إطار الفلسفة الغربية، والفلسفة الغربية داخل إطار
الفلسفة العامة ومنها الفلسفة الإسلامية، والفلسفة داخل مسار الحضارات،
والحضارات مُتغيِّرة، تنهض وتسقط مثل الحضارات الشرقية الصينية
والهندية والفارسية ثم اليونانية والرومانية ثم الإسلامية ثم الغربية،
وسطى وحديثة، وهو ما أصبح فيما بعدُ «مقدمة في علم الاستغراب». أُعجِب
الأستاذ بِسَعة أُفق الطالب، واتخذني صديقًا له، وليس فقط طالبًا. وكان
لوي ألتوسير مُؤسِّس البنيوية أحد تلاميذه وموجودًا في مستشفى الأمراض
العصبية، فأخذني معه لزيارته، وكانت معه صديقته، وقارَنتُ بسرعةٍ بين
مرضانا ومرضاهم وحقوقنا وحقوقهم. ظنَنتُ أننا سنتكلم في البنيوية
ولكنها كانت زيارةً وديةً خالصة، وفضَّل الذهاب مع صديقته عن البقاء
معنا، وتطَوَّرَت الصداقة بيننا حتى بعد أن عُدتُ إلى أرض الوطن في
يونيو ١٩٦٦م. قدَّمني إلى الدوائر الفلسفية الباريسية خاصة ١٠٤ شارع
تورنون وهي جماعةٌ فلسفية أَخرجَت كتابًا عنه. وهو الذي قدَّمني إلى
البابا يوحنا بولس أثناء انعقاد الدورة الرابعة للمؤتمر الفاتيكاني
الثاني، وقد كان صديقًا له عندما كان الكاردينال مونتيني كاردينال
ميلانو، وكان ذلك في عام ١٩٦٤م. وطلَب مني البابا بولس السادس أن أجلس
مع الجماعات المُتخصِّصة لكتابة بيان الكنيسة عن الديانات غير
المسيحية، ولِأَوَّل مرة أجلس مع الكرادلة بأروابهم الحمراء في بدروم
الفاتيكان، ونحن نتناقش في الموضوع. ورأيتُ انفتاحًا اشتُهر به المؤتمر
الثاني والعشرين الذي بدأه يوحنا الثاني قبل أن يُتوفَّى. وسألتُ أحد
الكرادلة الأفارقة: كيف تُناقش موضوعًا وأنت غير مُتخصِّص فيه؟ فأجاب:
إن الرُّوح القدس تُجيب بدلًا عني! وأنا عندي العلم وليس الرُّوح
القدس. ومع ذلك خرج بيان الديانات غير المسيحية يعترف لأَوَّل مرة ربما
بالأديان الأخرى، مُوحًى بها أو غير مُوحًى بها. وأُنشِئَت سكرتاريا
لِغير المسيحيِّين كان جيتون أَوَّل من يرأسها، ويفخر بأن تلميذه
يُشاركه فيها. وأُعطيتُ مِنديلًا أبيضَ عليه شعار البابا هديةً من
المؤتمر، وأقمتُ في روما عند عائلةٍ إيطالية، وأهديتُها مُجلَّدًا عن
مصر الفِرعَونية. وأهداني البابا بولس السادس الأناجيل المتقابلة
وكَتبَ عليها: «فليكن الله معك.» Que le Seigneur soit avec Vous وقد دعاني جيتون إلى مَسقَط رأسِه
بِوسَط فرنسا لإحدى الاحتفالات بعيد ميلاده في كليرمونفيران Clermont-Ferrand. ولمَّا
توَفَّت زوجته ماري تيريز، قامت بالعناية به بعدها شابةٌ بولندية
شقراء. وفي كل مرة أكون في باريس أزوره في منزله ١ ش فليريس Fleuris على جانب حديقة لوكسمبورج حيث
كان يقطن أيضًا برجسون وبيير دي شاردان، وهما على طَرفَي نقيض. وظلَلنا
نتراسل حتى قرأ في الجرائد الفرنسية تأسيس لاهوت التحرير
الإسلامي Théologie Islamique de la Libération الذي تعلَّمتُه من جنوب أفريقيا في عصر
التحرُّر من النظام العنصري الأبيض، وما كُتب عنه في الولايات المتحدة
الأمريكية. وكانت الكنيسة ضِده، وتتهمه بالماركسية بعد أن انتشر في
أمريكا اللاتينية عند الرُّهبان الشُّبَّان مثل كاميليو توريز، والذي
عُرِضَت أعماله في مصر، الذي كان يُمثِّل اليسار المسيحي مثل مونييه
وريكير. وقد أسَّسَا مجلة روح Espirt
معًا، ثم أقام مونييه الشخصانية التي دَرسَها المُفكِّر المغربي محمد
عزيز لحبابي ثم هشام جعيط من تونس فيما بعدُ، وبَدأَت مراسلاتُنا تقِل
تدريجيًّا، وكنت أنقُد مشروعه الضخم «الفكر المعاصر والكاثوليكية» (١٢
جزءًا) دون توثيق لأنه كتب وهو في المعتقل في ألمانيا بعد أن أسره
الألمان واحتلالهم باريس. كان من أنصار المارشال بيتان Pétain الذي تقهقر حتى وسط فرنسا في
مُقابِل تَركِ باريس مدينةً مفتوحة، في مُقابل ديجول الذي انتقل إلى
لندن وأَسَّس المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، أخذ إلى فريبورج
وحيث كان يعيش الفيلسوف الألماني هيدجر المتهم بالنازية. كان يرى أن
يترك باريس مدينةً مفتوحة للألمان في مُقابِل عدم تحريرها والإفراج عن
نصف المُعتقلِين من المُقاوَمة شفاعةً لهم بدلًا من إعدامهم كُلِّهم.
وبعد نقدي له ونقده لي كانت آخر رسالةٍ منه صورةً له وفي ظهرها تَبريرٌ
لموقفه. وما زالت ترن في أُذني آخر عبارة له: «كان يجب الرهان» Il faut parier. وما زالت هي
الذكرى الأُولى من أساتذة باريس التي ما زالت في القلب، وإن بقي غيرهم
في العقل مثل بول ريكير.
وفي إحدى زياراتي إلى ألمانيا على درَّاجة في هيدلبرج صَعِدتُ إلى
أعلى «طريق الفلاسفة» حيث كان يسكن جادامر، فتَناقَشنا سويًّا في
الهرمونطيقا. كان مُبتسمًا مُرحِّبًا، يُريد الإطالة في الحديث،
وصَّلني إلى الباب، وأخذتُ درَّاجتي نزولًا في المدينة. رأيتُ البساطة
والوضوح والتواضُع والكرم. صحيحٌ أنه لم يُقدِّم لي شيئًا أشربه كما
كنتُ أتوقَّع، ولكن كان يكفي استقبالي وأنا لست شيئًا، وهو كل شيء.
ورَجَعتُ إلى بيت الشباب، وكتبتُ ذِكرى اللقاء.
وكُنتُ في ألمانيا أبحث عن بيوت الشعراء والأدباء والفلاسفة
والموسيقيِّين فأجدها جميعًا قد تَحوَّلَت إلى متاحفَ في ذكراهم أو
انهَدمَت تمامًا مثل الكلية الحربية في فرانكفورت التي تخرَّج منها
الشاعر شيللر. ورأيتُ منزل بيتهوفن في بون وفيينا، ونُزُل موزار في
سالزبورج بالنمسا، أصبح مصنعًا للشيكولاتة؛ حيث وُضِعَت صورته على
غِلاف القِطَع والعُلبة الخارجية. وذهبتُ إلى فرايبورج حيث عاش هوسرل
وهيدجر. ومالبورج مكان المدرسة الفلسفية الشهيرة. ورأيتُ نورنبرج حيث
تمَّت المحاكمات الشهيرة. من المدن من حافظ على طابعها التاريخي مثل
المدن المذكورة، ومنها ما تم تجديده تمامًا مثل فرانكفورت وبرلين.
استهواني الجنوبُ أكثر من الشمال، وبافاريا أكثر من همبورج.
وكُنتُ أَستمِع إلى فلاسفة فرنسا في ذلك الوقت، وكان الحضور عامًّا أو
خاصًّا؛ إذ أعطى جان بول سارتر محاضرةً عامَّة استَغرقَت ثلاث ساعاتٍ
بأكملها، وهو يتكلَّم ويتأمَّل في قاعة موبيرميتيواليتيه Maubert Mutualite،
وسُمِّيَت محطة المترو المُجاوِرة على اسمها. كانت نظريةً مجردةً
للغاية، وصعُب على الحضور فَهمُه. وبعد المحاضرة ذهبتُ إليه على
المنصَّة، وأعطيتُ ما معي من كتابٍ كنتُ أقرأ فيه وهي بعض أعمال مارتن
لوثر، فلمَّا نظر إلى الكتاب قبل أن يُوقِّع عليه قال لي باستعجاب
وباستهجانٍ لا أدري: لوثر! وحَضرتُ محاضرات ميرلوبونتي في الكوليج دي
فرانس بجوار السوربون والتي أنشِئَت لِمُنافستها. العلم للعلم وليس
للدرجات العلمية، وحرية الفكر وليس للفكر التقليدي، والاتجاهات الجديدة
وليس لتاريخ الفلسفة. وكان يُدخِّن ويستبطن نفسه وكأنه في مكتبه، بلا
جمهور، فلا يُثير شَوقَ أَحَد. وحضرتُ في منزل جابريل مارسل كل يومِ
جمعةٍ لقاءه بجوار مسرح الأوديون، وكان يمينيًّا خالصًا يدافع عن
احتلال فرنسا للجزائر، ولم أَرَ فيه شيئًا يثير الانتباه، ولا
تدخُّلاتي أثارت انتباهه. وحَضرتُ سيمينار بول ريكير المشرف على
الرسالة الثانية، وكان يغلِب عليه الصمت والأدبُ الجَمُّ والصوت
المنخفض إذا تكلم. يحضر حلقةً بحثية في السربون ما يزيد عن الثلاثين،
وكانوا هم الذين يتكلمون، ويَعرِضون شُروحهم وآراءهم في النصوص التي
يقرءونها باليونانية واللاتينية والألمانية والإنجليزية والفرنسية
بطبيعة الحال؛ فمن تنقصه لغةٌ يدرسها عِدة أشهر، ثم يعود كي يكون على
نفس المستوى. يُعلِّق ريكير على منهج الطالب وتأويله للنصوص في جُملٍ
قصيرة دون تَعالُمٍ أو استعلاء. زرته آخر مرة في شاتناي ما لابري Châtenay-Malabry، وأنا
أَعرِض عليه الرسالة الثانية والثالثة لأنها من جزأَين، فاستمع إليَّ
بكل انتباه دون تعليقٍ؛ أي إنه موافق على منهجها ونتائجها، تأويلي
للظاهريات وتطبيقها في فلسفة الدين عند هيرنج Hering البروتستانتي، وديميري Dumery الذي كان راهبًا ثم خرج من الكنيسة.
أوَّلتُها من خلال علم أصول الفقه، وقرأتُ عِلم أصول الفقه من خلالها،
وهما ما كوَّنا شعوري الفلسفي حتى الآن. واستَمعتُ إلى ماكسيم شول في
الفلسفة اليونانية، كان أبيضَ أشقرَ مُبتسمًا فيلسوفًا، يقرأ الفلسفة
اليونانية من خلال الفلسفة. واستمعتُ إلى جانكلفيتش أستاذ الأخلاق،
وكان من أوروبا الشرقية مُحمَرَّ الوجه، يتكلم بإتقان، يُوقِظ
النائمِين والسارحِين من الطلاب. واستَمعتُ إلى جان فال أستاذ تاريخ
الفلسفة والميتافيزيقا، كان فيلسوفًا مهنيًّا أمامه أوراقٌ كثيرة،
يبتسم وهو ينظر إليها، يُحبه الطلاب المِهنيُّون مثل كلكل Kelkel مترجم «بحوث منطقية» لِهوسرل،
وشاتل Chattel المنطقي
الميتافزيقي، الفيلسوف ذو الشَّعَر المنكوش الواقف والذي كان يُخيف.
وجاك دريدا الذي كان أقرب إلى الصمت، ربما كان يستمع كي يعرف كيف
يُفكِّك ما يسمع، وهو مُترجِم «أصل الهندسة» لِهوسرل، وقد ظل عشر
سنواتٍ يَدرُس كيفية إعادة بناء العلوم الإنسانية، وهو موضوع رسالته
للدكتوراه، فكَتَبَت له السربون رسالةً رقيقة دون تهديدٍ بشطب رسالته
من سِجِل الدراسات العليا كما يحدث عندنا بعد خمس سنواتٍ وسنةٍ إضافية،
أنه تجاوز الوقت المُحدَّد، وسيُعطى عشر سنواتٍ أخرى، فلمَّا انقَضَت
كَتبَت له السربون أن العشر الثانية قد انتهَت ولا بُد أن يُقدِّم
الرسالة، فكتبَها في شهرَين، وحصل على الدكتوراه بدرجة
Tres Honorable. وكان الأستاذان
الأقلَّ إغراءً هما كانجييم أستاذ فلسفة العلوم والذي عَمِل معه رشدي
راشد، وأوصَى به كي يكون باحثًا بالمركز
الوطني للبحث العلمي Centre National de Recherche Scientifique (CNRS). ودي جاندياك وهو أيضًا أستاذ
فلسفة العصور الوسطى، وكان مجرَّد عارضٍ لتاريخها كما فعل يوسف كرم
عندنا في «تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط». وكان يتكلَّم
وكأنه يحمل حِملًا ثقيلًا على كتفه، مُطأطَأ الرأس، مُقوَّس الكتفَين،
مُكفهِرَّ الوجه، خاصةً وأنه كان قصيرًا لا يُرى من وراء المنصَّة لو
جلس، لم يَستمرَّ معه كثيرٌ من الطلاب. وأمَّا المستشرقون فلم يكونوا
يُثيرون فيَّ شيئًا، مثل هنري لاوست في الكوليج دي فرانس الذي كَتبَ
أُطروحَته للدكتوراه عن ابن تيمية، والذي اعتَبرني مثلَه مُؤرِّخًا
للفكر الإصلاحي ليس مُطوِّرًا له أو مُبدعًا فيه. وروبير برنشفيج الذي
كان مُتخصِّصًا في الفقه الحنفي. أمَّا بلاشير Blachere فكان أقرب إلى الأدب العربي، يُدرِّس معه بعض
الأساتذة من شمال أفريقيا، وهو الذي تَرجَم القرآن إلى اللغة الفرنسية،
وطَبعَه طِبقًا لأوقات النزول، وهي الدعوة التي نادى بها خلف الله أحمد
خلف الله من مدرسة أمين الخولي مثل سيد قطب الثاني، الناقد الأدبي
(الأول هو الشاعر والقصَّاص، والثالث هو المُفكِّر الإسلامي الاجتماعي،
والرابع هو صاحب «معالم في الطريق») اعتقادًا أن ترتيب القرآن من توقيف
عثمان لإبراز الجانب الإنساني في التدوين. وكان هناك رودنسون صاحب
«الإسلام والرأسمالية» زُرتُه بين رُفوفِ مكتبته، واعتذر أنه لن يُطيل
معي لأن صديقته ستأتي، وأنه لا بُد أن تكون له صديقةٌ تُخفِّف عنه
عَناء الكتابة.
وإذا كان وعيي قد ازدهر مع جان جيتون، فإن وعيي السياسي قد تَكَوَّن في
مظاهرات الحي اللاتيني مع الطلبة المُسلمِين من شمال أفريقيا
Mena ومقره ١١٥ شارع سان ميشيل
B4 Mich 115 ضِد الاحتلال الفرنسي
للجزائر، ثم ضِد انقلاب بو مدين على الرئيس بن بِلَّا بعد الاستقلال،
ومظاهراتٍ أخرى ضد قَذفِ أمريكا فيتنام بالقنابل بعد أن خَرجَت فرنسا،
وكانوا بؤرةً لِتجمُّع طلاب العالم الثالث بالاشتراك مع طلبة أمريكا
اللاتينية والطلبة العرب. وكان المطعم الإسلامي مكانًا للتجمُّع خاصةً
يوم الجمعة، يوم «السكسك» Socsoc
وبتعبير المصريِّين «الكسكوسي» باللحم والخضار. ومكانٌ آخر للتجمُّع هو
مسجد باريس، وكان أقرب إلى التجمُّع اليميني وجماعة البشير الإبراهيمي؛
فالوطن قد جمَّع الجميع بالرغم من الشِّقاق بين المجموعتَين، قبل
الشِّقاق بين حماس وفتح الآن في المقاومة الفلسطينية؛ فالوطن لا شقاق
أو فرقة فيه. وفي المظاهرات تعَرَّفتُ على علي شريعتي الذي كان ينادي
بالثورة الإيرانية ضد الشاه، وكان أستاذه جاك بيرك يشكو منه ومن ضَياعِ
وقته، ولا يُنجِز رسالته
الجامعية Doctorat d’université دون التطلُّع إلى دكتوراه الدولة. وعند
الأستاذ برونشفيج مُشرفِ رسالتي الأُولى تَعرَّفتُ على محمد أركون الذي
كان يُعِد رسالته لدكتوراه الدولة Doctorat
d’etat عن الأخلاق عند مسكويه، كما
تعَرَّفتُ على ناصف نصار في المطعم الجامعي، وكان قد أوشك على الانتهاء
من رسالته لدكتوراه الدولة ويُعِدُّها للطباعة في المطابع الجامعية
الفرنسية Press Universitaire De Francais (PUF). وتعَرَّفتُ على كمال يوسف الحاج اللبناني
الذي قُتل أثناء الحرب الأهلية، وكان مُفكِّرًا بالإضافة إلى كونه
باحثًا، وانتقل إلى بيروت. وقد تَكوَّنَت الآن جماعةٌ في بيروت
للاحتفال بعيد مِيلاده المئوي ولِلحفاظِ على تُراثه. وتَعرَّفتُ على
حميد الله، العالم الهندي الذي كان مطلوبًا في حيدر آباد بعد رَفضِها
التنازُلَ عن استقلالها لصالح الهند، وكان يسكُن مع امرأةٍ فرنسيةٍ
عجوز، وكان يُعِدُّ مخطوط «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري.
ولمَّا علم برنشفيج ذلك الذي كان يُعِد نفس المخطوط للطباعة مع طالبَين
له، أنا ومحمد بكير من تونس، تنازل لحميد الله عن العمل. واحترمتُ
أخلاق المُستشرِق الذي تنازَلَ عن عملٍ يقوم به زميلٌ له في نفس الوقت.
وكانت البحوث العلمية غيرَ مُسيَّسة. وطُبِع في جُزأَين في المعهد
الفرنسي للآثار الشرقية في دمشق عام ١٩٦٤م، ثم صَوَّرَته دار التراث في
بيروت في طبعةٍ جديدة دون أن تأخذ إذنًا من أحد. وقد تُوفِّي حميد الله
الذي كان يعمل باحثًا في المركز
الوطني للبحث العلمي Centre National de Recherche Scientifiques (CNRS). وبكير أستاذ الأدب العربي في
جامعة تونس، وتُوفِّي ولم يَبقَ إلا أنا.
وكان نظام حياتي اليومي هو الاستيقاظ مُبكِّرًا، وبعد كوب الشاي مع
اللبن المُسكَّر في الأنبوبة أبدأ في القراءة والتعليق على ما أقرأ على
هامش الكتاب؛ لذلك كنتُ لا أقرأ إلا الكتب التي اشتريتُها. وظُهرًا
مُتأخرًا أذهب للغَداء لسببَين: الأول أني أستلقي بعد الغداء قليلًا.
والثاني أن مطعم الجامعة في آخر الوقت، حوالي الواحدة والنصف، يترك
الصواني لمن يُريد أن يستزيد، وأنا منهم طبعًا لأني كنتُ لا أتناول
العشاء مع أنه موجود في مطاعم الجامعة. وأعمل حتى التاسعة مساءً برغم
محبتي للنوم. وعجبتُ كيف يُروى عني في القاهرة أنني في باريس كنت أقضي
النهار في اللعِب من الصباح إلى المساء إلا بدافع الغَيرة بعد أن عمَّت
الجميع. وقد كان يُضرب بي المثل في العمل من الصباح إلى المساء، وكنت
لا أُرى في المقاهي أو الشوارع، وأنا المجتهد الذي لا يسمح بِضَياعِ
وقته على المقاهي، مع أن المقهى في باريس جُزءٌ من الحياة الثقافية؛
ففيه يتم التعرُّف على المُثقَّفِين، ولقاءُ من يُريد غير الثقافة.
أمَّا بعد التاسعة مساءً فأفعل أي شيء. وما زال هذا النظام اليومي
سائدًا حتى الآن.
وفي عام ١٩٥٩م عندما كانت العلاقات بيننا وبين فرنسا ما زالت مقطوعةً
منذ العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦م. كان أخي وزوجه في طريقه إلى
كولومبيا بأمريكا اللاتينية بحرًا مُتوقِّفًا في مارسيليا، فذهبت مع
صديقتي الألمانية كي أراهما؛ فليس من المعقول أن يكون كِلانا على
الأراضي الفرنسية ولا يرى بعضُنا بعضًا. وكان في عُرف قبطان السفينة أن
يهبط إلى أرض فرنسا من يريد، ولكن لا يجوز لِمصريٍّ على أرض فرنسا أن
يُغادِرها ويصعَد السفينة، فقُلتُ له هذا حق، لكن من حق أي راكبٍ أن
يُغادِر السفينة لمدة ساعة ثم يستكمل الرحلة فيما بعدُ، وأَرَيتُه
بطاقتَي السفر إلى كولومبيا فاقتَنَع، فغادرنا إلى باريس، وزُرنا
سويًّا أشهر معالم باريس؛ بُرج إيفل، كنيسة نوتردام، قَوس النصر،
مسلَّة الكونكورد، مُتحف اللوفر، قصر فرساي، حي منمارتر، مقبرة
نابليون، السربون، البانثيون. وأخذ أخي معه تسجيل أم كلثوم «أنت عمري»،
وكانت أَوَّل أُغنيةٍ يُلحِّنها لها عبد الوهاب، وكانت فيها كلمة «اللي
شوفته»، وكانت صديقتي الألمانية عندما أَسألُها ماذا تُحبِّين أن تسمعي
من الموسيقى العربية تقول «اللي شوفته»، ثم أوصلناهما إلى السفينة
بمارسيليا لِيُكمِلا الرحلة إلى أمريكا اللاتينية. وجاء إلى زيارتي بعض
الأصدقاء مثل الطاهر مكي من مدريد وإبراهيم راشد من القاهرة. وزارني
علي إسماعيل، فأخذتُ تصريحًا من المستشفى بالخروج ولو لِسِت ساعات،
فأخذته لشراء بعض الهدايا المشهورة من باريس مثل رابطة العنق «أرجانس»
بجوار الأوبرا. وكُنتُ في
المستشفى في الصيف آكل وأشرب وأستريح بعد اشتباهٍ في مرض السُّل في
الرئتَين في مراحله الأُولى، وهو التهاب الرئتَين. ورفض مدير المستشفى
إخراجي، ولو لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة. ولمَّا شَرَحتُ له السَّبَب،
وصول أخي وزوجه إلى مرسيليا وافق، وعُدتُ إلى المستشفى كما
وَعَدت.
وفي صيف ١٩٥٩مكنتُ قد شَعَرتُ بإرهاقٍ شديد وأنا أصعَد أيَّ سُلَّم.
فلمَّا ذهَبتُ إلى عيادة المدينة الجامعية وكشفوا عليَّ بالأَشعَّة
وجدوا التهابًا في الرئتَين، وهو مقدمة لمرض السل، فحجزوني في العيادة
لمدة أربعة أَشهُر بعد مقاومةٍ طويلة. شَرحتُ للطبيب كيف أعيش: آكل
مرةً واحدة في اليوم ظهرًا، وأُجهِد نفسي في العلم والفن؛ فأنا طالبٌ
في السربون أدرس الفلسفة، وطالبٌ في الكونسرفتوار أدرس الموسيقى، في
الصباح في الجامعة، وبعد الظهر في معهد الموسيقى، وفي المساء أقرأ في
أَوَّله، وأَعزِف مع كاتم الصوت على الكمان في آخره، فاستَعجَب أنني
أحيا حتى الآن، وطلب مِنِّي أن أبقى في العيادة أربعة أشهر، آكُل أربعَ
مراتٍ في اليوم، وأشرب العصائر، وآكُل الفاكهة بين الوَجبَات، وأُغذَّى
بالمحاليل في الشرايين لأنه عندي مرض
BBC، وهي المرحلة السابقة على
السل، فسأَلتُ: وماذا عن حُجرتي في بيت ألمانيا؟ فقِيل: تُخلِيها
وتستعيدها عندما تَخرُج. قلتُ: وماذا عن كُتبي التي أشتريها كل شهر،
النصوص الفلسفية؟ قال: نشتريها لك وتقرؤها في العيادة. ولمَّا حان وقت
الخروج وزاد وزني، قال: عليك أن تكتب تعهُّدًا بالاستقالة، إمَّا من
الجامعة وتتَخصَّص في الموسيقى أو باستقالتك من معهد الموسيقى
وتتَخصَّص في الجامعة؛ أي الفلسفة. وإن لم تفعل فسنُرسلك إلى جبال
الألب حيث تعيش في قِمَّتها حيث الهواء النقي. وإن لم تفعل هذا ولا ذاك
فستنتحر وتقضي على حياتك بنفسك. وكانت لحظة اختيارٍ قاسية. وكيف أترك
إحدى معشوقاتي؟ الموسيقى بلا فكرٍ لحنٌ خالص، والفكر بلا موسيقى تجريدٌ
خالص. وأخيرًا اخترتُ الجامعة؛ فلِلفلسفة أَتَيت، وكتبتُ التنازُل عن
المعهد المطلوب وقلبي ينفطر حزنًا. وأنا حتى الآن عندما أسمع موسيقى
شرقية أو غربية أَحِن إليها، وأتساءل: هل أحسنتُ الاختيار؟ وبعد
انقضاءِ العُمر وجدتُ نفسي قد وقَعتُ في الفلسفة الرومانسية، هيجل،
فشته، شلنج، برجسون. وقد تكون الظاهريات؛ أي الفينومينولوجيا، التي
يُقال إنني وقَعتُ فيها هو جَمعٌ بين الفلسفة والفن، بين العقل والذوق
كما يفعل الصوفية المتأخرون حتى محمد إقبال. وما زالت آثارُ هذا المرض
موجودةً على الرئتَين كلما قُمتُ بكشفِ إشاعةٍ على الصدر.
وكانت هناك مُشكلة كارت الإقامة الذي يجعل وجودي في فرنسا شرعيًّا في
حال قام شرطيٌّ بطلب أوراقي. وأخبرني المخضرمون في باريس بأن هذا أَمرٌ
سهل، عليَّ أن أفتح حسابًا في أحد البنوك، وأضع فيه أي مبلغ، وآخذ دفتر
شيكات، فإذا سُئلتُ في المحافظة عن مصادر المعيشة قلت لهم عندي دفتر
شيكات، ولا يسألون كم رصيده. وبالفعل فتحتُ حسابًا في
Société Générale ووضَعتُ فيه
فرنكًا واحدًا، وأَخذتُ كارت الإقامة الذي يتَجدَّد كل عامٍ بنفس
الطريقة.
وبعد أربع سنواتٍ عُدتُ إلى مصر لحضور حفل زواج شقيقتي المتوسِّطة
فاطمة؛ إذ إن الشقيقة التي كانت بعدي، سعاد — أطال الله في عمرها — لم
تكن قد تَزوَّجَت بعدُ. أمَّا الشقيقة التي بعدي فقد كانت ما زالت
تُعِد الدكتوراه. أمَّا الصغرى فكانت ما زالت طالبةً في مدرسة التجارة
المتوسِّطة وليس المُعلِّمات التي تَخرَّجَت منها جميع الإخوة البنات.
فقرَّرتُ أن أعود إلى القاهرة في صيف ١٩٦٠م، وتركتُ غرفتي بالبيت
الألماني للإيجار حتى أُعفَى من إيجارها الصيفي. وكان عليَّ أن أشتري
هدية لأُختي العَروس وباقي الأَخَوات وأخي والوالدَين. وجاءت سامية
أسعد من قسم اللغة الفرنسية التي كانت تسكن ببيت الطالبات بشارع بول
ميش، يولفار سان ميشيل، وذهبنا إلى السوبر ماركت لافاييت عند سيفر
بابليون، واشترينا أقمشةَ فساتين للبنات. وكان أحد الطلبة الألمان،
كبير السن، قد قرَّر أن يذهب إلى مارسيليا بالسيارة، فذهبتُ معه كي آخذ
السفينة من هناك إلى الإسكندرية، وكان يقود ليلًا وبسرعة، فأرى الأشجار
يمينًا ويسارًا تتوالى في ضَوء كشَّافات العربة. أمَّا أنا فكنتُ أنام
بين الحين والآخر، فيُوقِظني غاضبًا حتى لا ينتابه النوم هو أيضًا.
ووصلنا في الصباح، وذَهبتُ إلى ميناء مارسيليا، وأَخذتُ السفينة إلى
الإسكندرية. وكان أخي بانتظاري والوالد والوالدة وزوج شقيقتي الكبرى
سيد. ووصلنا إلى القاهرة، وكانوا قد غيَّروا السكن من باب الشعرية إلى
العباسية، من شارع البنهاوي درب الشرفا إلى شارع أحمد سعيد في فيلَّا
ذات دَورٍ واحد بحديقةٍ مكثتُ فيها شهرَين، وحَضرتُ العرس. وأردتُ
توزيع الهدايا على إخوتي فردًا فردًا، فأخذتها أختي العروس كُلَّها
بحجة أنها هي التي تحتاج إلى الأقمشة، ولم يحزن أَحَد. وفي ليلة العرس
لبِسَت شقيقتي الأكبر من العروس فستانًا عاريَ الصدر، فرفض والدي وأخي،
وأقنعتُهما أن هذا طبيعي؛ فالأصغر منها تتزوج وهي الأكبر لم تتزوج؛
فلَعلَّ في هذا العرس يأتيها من يطلب يدها، وأنا قادمٌ من باريس ولا
حرج. وفي طريق العودة حيث كانت السفينة تتوقف ليلةً في أثينا حيث يرى
البحَّارة ذَوِيهم، رأيت عبد المعطي شعراوي الذي كان يَدرُس فيها،
وقضيتُ الليلة معه حتى عُدتُ في الصباح إلى السفينة لاستئناف الرحلة
إلى مرسيليا، ومن هناك أخذت القطار السريع إلى باريس، ولا يتوقَّف إلا
في ليون بعد اختراع القطارات فائقة السرعة، أربع ساعات بدلًا من
ثمان.
وبعد العودة إلى فرنسا عام ١٩٦٠م، والرجوع من مصر بعد رؤية العائلة،
وحضور حفل زِفاف شقيقتي فاطمة أَحسَستُ بِتغيُّرٍ في نفسي في طريقة
رؤيتي للعالم وسلوكي في الحياة؛ فبدلًا من أن أبدأ بالفكر بدأت
بالواقع، وهو ما سمَّيتُه بعد ذلك «من النص إلى الواقع». وبعد أن كنتُ
مثل باقي الإخوة المسلمين أتطلَّع إلى أعلى أصبحت أتطلع إلى الأمام.
وهو ما سمَّيته فيما بعد «من الفَناء إلى البَقاء». وبَدلًا من حرصي
على الشعائرِ كمظاهرَ أبقيتُ على مضمونها الاجتماعي وهو ما سمَّيته
فيما بعدُ «من أحكام الشريعة إلى أحكام الوجود». وبدلًا من أن أَهَاب
وأخشى المرأة بدأتُ بالمغامرة معها والتعلُّم من التجارب معها. وبدلًا
من قراءة النصوص بدأتُ أعيش الحياة، التجربة الحية. وبدلًا من حرصي على
الصلاة اليومية أو الأسبوعية أصبحتُ حريصًا على زيارة الأوبرا باعتباري
طالب كونسرفتوار مجانًا؛ فكان لِطلَبة الموسيقى بنوار خاصٌّ لخمسة
أفراد. كنتُ أرى الطالب يأخذ صديقته الطالبة، تخلع حذاءها وهو يَهرُش
لها قدمَيها، وأنا أبكي على حالي، وأحزن لثقافتي. ورأيتُ جميع
الأوبرات، وشاهدتُ جميع المسرحيات، واستمعتُ إلى مقطوعات الموسيقى
السيمفونية مجانًا باعتباري طالبًا في المعهد. ومرةً وأنا أسمع حفلةً
موسيقيةً وضَعتُ ما معي من كتب اشتريتُها على الأرض، وأُزيحها بقدمي
تحت جاري، وهو يُرجِعها بقدمه تحتي حتى شَخطَ فيَّ، فأدركتُ قُبحَ ما
فَعلتُ.
وعرفت طبيعة الأوروبي دون تعميمٍ على كل أوروبي؛ فقد عرفت جاك
فاندنبرج عندما أتى إلى مصر في كتابة رسالته عن الاستشراق، ولمَّا عاد
إلى هولندا واحتجتُ أعمال هوسرل التي طُبِعَت في هولندا، فأرسلَها لي،
وكان ﻟ «الفلوران» العملة الهولندية سعران، واحدٌ رسمي وآخرُ في السوق
السوداء، أَصرَّ على موقفه، السوق السوداء، وأَصرَرتُ على موقفي، السعر
الرسمي. ولمَّا ذهب إلى مصر حاول أخي إعطاءه المبلغَ بالسعر الرسمي
فرفض، فجمع له بعض العملة الهولندية وأعطاها له، ومن بعدها وقد سقَط من
عَيني، مع أنه أصبح من كبار المُستشرقِين الآن، ويعمل في سويسرا،
وبذَقَنه السوداء الطويلة، وشفتَيه الحمراء تخيَّلتُ أنه دراكولا،
مصَّاص الدماء.
وطالبٌ آخر كان جاري في مدينة أنطوني الجامعية التي كنَّا نذهب إليها
بالصيف حتى تقوم المدينة بإصلاح ما عاب من منازلها، سمعت أنه مريض،
فأخذت بعض الفاكهة لزيارته لأن الحائط في الحائط، فشكرني وقال لي للأسف
لا يستطيع أن يُقدِّم لي شيئًا لأن عُلبة السكَّر بها ثلاثون مِلعَقة،
واحدةٌ كل يوم، وعلبة الشاي بها ثلاثون مِلعَقة، ولا فائض له كي يعمل
كوب شايٍ لي، فاعتذرت أنني لا أشرب الشاي، وتذكَّرتُ المَثَل العربي
«اصرِف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب.» فما الضامن أنه سيعيش إلى آخر
الشهر وهو مريض؟
كانت ألمانيا وبرلين في ذلك الوقت مُقسَّمةً إلى قسمَين: الغربية
والشرقية، وبينهما حائطٌ من الجهة الغربية مكتوبٌ عليها كل ما ينكر
حرية الغرب واستبداد الشرق، قبل أن يتحطم حين انهيار الكتلة الشرقية في
أوائل التسعينيات. وكان هناك تِرامٌ يربط بينهما من خلال فردرش شتراسه.
وبعد أن زرت المتحف الذي به رأس نفرتيتي الشهير داخل صندوقٍ من الزجاج
والذي يقف أمامه الألمان طوابيرَ من الصباح، ورأيتُ باقي الآثار
المصرية القديمة ذهبتُ إلى برلين الشرقية كي أرى جزيرة المتاحف التي
بها كمٌّ كبير من الآثار الفِرعَونية والبابلية والآشورية. ورأيتُ
أَهمَّ شارع، وهو طريق ستالين، بِعَرضه وطُوله ومنازله المتشابهة على
خطٍّ واحد. وكان المارك الغربي بستة دراهمَ شرقيةٍ تقريبًا، مع صعوبة
نقل أعمال ماركس وإنجلز، فاشتريتُهما مع صورته، ونقلت ذلك على الدراجة
عائدا إلى باريس. ولمَّا توجَّهتُ وأردتُ العودة إلى باريس أَخَذتُ
القِطارَ من ستراسبورج عائدًا إلى باريس، وهي المدينة التي عليها خلافٌ
بين الألمان والفرنسيِّين. ولمَّا كنتُ مُغرمًا بالألمان فقد لَفَفتُها
بالدراجة ثلاثَ مرات، من الغرب إلى الجنوب حتى منشن والتي يُسمُّونها
ميونخ، ومن الغرب إلى الوسط حتى فرانكفورت ونورنبرج، ومن الغرب حتى
الشمال حتى همبورج حتى حفِظتُها عن ظهر قلب. وما زالت آثار الحرب
والتدمير في ذِهني ومنها تسمية كنيسة الذكرى Gedächtnis Kirche.
وكنت أُريد أن أذهب إلى برلين بالدرَّاجة، فأَوقفَتني شرطة ألمانيا
الشرقية عند الحدود في هلمشتت وسألوني: إلى أين؟ قلت: إلى برلين.
قالوا: ممنوع تمر عبر ألمانيا الشرقية إلى برلين كمدينةٍ مفتوحة. قلتُ:
وما المانع؟ قالوا: لا يمُر إلا من كانت سرعته مائة كيلومتر. كم سرعة
درَّاجتكَ؟ قلتُ: عشرين! قالوا: إذن ممنوع. ولا تمُر إلا من ثلاثة طرقٍ
دولية، من الجنوب ومن الغرب ومن الشمال. فتركتُ الدرَّاجة في المدينة
الحدودية، وأوقفتُ عربةً ذاهبةً إلى برلينَ وركِبتُها أتوستوب Autostop، والرجل لا يتكلم فهو في أرض
العدو، وقد عبَّر لي عن ضيقه بهذا الكَبت للحُريَّات. وبعد شهر في
برلين عُدتُ إلى المدينة الحدودية بنفس الطريقة، وأخذت الدرَّاجةَ
راكبًا القطار من ستراسبوج الفرنسية عائدًا إلى باريس. وقد ساعدَني على
اكتشاف الحياة الصداقاتُ التي أخذتُها من الحب الرومانسي، وسكني ببيت
ألمانيا، وصديقتي الألمانية والإغراء بها. وكانت العادة القيام بحفلة
رقصٍ كلَّ يوم جمعةٍ مساءً، وإظهار المهارات في هذا الفن الذي يعتبره
البعض غير رفيع، تُظهر كل فتاةٍ ممارستها، ويُظهر كل فتى براعَته،
فكنتُ أعمَل مِثلَهم خاصة أنني كنتُ رائد اتحاد الطلبة في المنزل
الألماني. وكانت هناك ثلَّاجةٌ بها جميع المشروبات خاصةً البيرة، لا
يُوجد أمامها بائع ولكن مُجرَّد صندوق، يكتب كل شاربٍ ما يشرب في
بطاقةٍ باسمه، ويدفع آخر الشهر من نفسه. ولمَّا كنتُ مِصريًّا متعودًا
على وجود بائعٍ أدفع له مباشرة، فإنني كنت أشربُ ما أريد دون تسجيل
بطاقة، وكان من يجمع الحساب آخر الشهر من كبار الشاربِين يجد المجموع
أقلَّ من المُستهلَك، وأولهم هو، ليس لأنه لصٌّ ولكن لأنه سِكِّيرٌ لا
يدري ما يفعل، وكان المنزل يدفع ما نقَص من ميزانية البار المفتوح
«اخدم نفسك بنفسك» Self-Service.
وكنتُ أُشارِك في حفلات رأس السنة بتزيين المنزل وزُجاجه بالألوان.
وكانت الموسيقى بالبدروم، فكنت آخذ كماني ليس فقط لأعزف ولكن أيضًا
للتعرُّف على باقي العازفات، وكانت إحداهن تعزف تشيللو، ومرةً توقفَت،
وقالت: زَهِقتُ، قلتُ لها: وأنا أيضًا، فتركنا الآلات وقمنا نعزف شيئًا
آخر. وكان معنا في المنزل طالب تمثيل «بانتوميم» جاء لِيَدرُس مع جان
لوي بارو أشهر ممثل للبانتوميم في العالم، وكان يدخُل خشبة المسرح في
المنزل، ويقوم بالتمرين، ولكنه كان يُريد من ينظر إليه، فكان يُناديني
باعتباري فيلسوفًا فنانًا: يا حسن تعالَ انظُر، فأَحسَستُ بضرورة وجود
إدراك الذات حتى يتحقَّق الموضوع.
وكنت أفتعل مُناسبةً للتعرف على الجنس الآخر بالمطاعم الجامعية
والمقاهي والأندية الرياضية؛ ففي المطاعم أفضل وسيلةٍ لِلتعرُّف على
جارتي الطالبة هو سؤالها: هل تريدين أن أصُبَّ لك الماء؟ هل تُريدين
قطعة خبز؟ فدورق المياه وسلة الخبز مشتركان على المائدة. ولمَّا طلَبتُ
من جارتي: هل تُريدين كوب ماء؟ وهي تعلم قصدي، قالت: أنا لا أُعاشر،
واللفظ الفرنسي أكثر وضوحًا je ne pense
pas. ومرةً أخرى بعد الغداء ذهبتُ إلى المقهى أسفل
المطعم بعد أن سألتُها ونحن في المصعد: أتشربين القهوة معي؟ قالت: إلى
اللقاء، وهي تنظر إليَّ بحبٍّ أنها شَرِبَت قهوةً على حسابي دون أن
تُعطيني شيئًا. مرةً ثالثة تقابلنا وأعطتني موعدًا على ناصية شارع بول
ويش وشارع المدارس، وأتيتُ في الموعد تمامًا، وانتظرتُ ولكنها لم تأتِ
وبتعبير المصريِّين «فرقعَتني» أو «ادتني زومبة» أو «ادتني بومبة».
وكان حمَّام السباحة في الدور الرابع تحت الأرض في بيت الرياضيِّين
الذي سكَنتُ فيه في غرفةٍ مزدوجة، وكانت حارسة الحمَّام سيدةً جميلة،
ذات صدرٍ بارز، والسباحون ذوو عضلاتٍ بارزة؛ فأين أنا من هذه المنافسة
غير العادلة، فعُدتُ إلى الرومانسية من جديد مثل نجيب الريحاني مع ليلى
مراد في «غزل البنات».
وفي برلين الغربية
زُرتُ جامعة فون همبولت وبحيرة البط، وسكنتُ ببيوت الشباب، وكنَّا في
الإفطار أنا والشباب نجمع من الموائد المُتبقِّية الخبز والبيض ونُفطر
به. وما تَبقَّى يكون طعامًا لليوم. وعلى الخروج من محطَّة مُتحف دالم
كانت عربة واقفة تبيع السجق والمسطردة مثل عربات الفول عندنا على نواصي
الشوارع والطرقات. وكان أحد الأصدقاء الألمان في باريس قد قَدَّمني
لأحد أصدقائه في برلين، فدعاني الصديق في برلين إلى العَشاء واستقبلَني
هو وزوجته احتفاءً بالضيف الباريسي. ولمَّا نَفِدَت النقود ولا أعرف
أحدًا، ذهبتُ إليه أطلُب قرضًا، فنظر إليَّ كيف تحوَّلتُ من ضيفٍ إلى
سائل! وأعطاني ما طلَبْت. وأخبرني أحد الطلبة ببيوت الشباب أنه يمكنني
العمل بالمعارض، وما أَكثرَها في ألمانيا! أَفرِدُ السجاجيد أو أُنظِّم
الكراسي، واليومية عشرون ماركًا، فعمِلتُ وأَرجَعتُ ما اقترَضْت.
ولمَّا كان العمل ممكنًا نهارًا وليلًا، فقد كُنتُ أزور برلين صباحًا
وأعمل ليلًا، وأنام في أحد حوائط المَعرض كما يفعل الآخَرون، ورأيتُ
الألماني وصديقته يفعلان ذلك، ولا أحد ينتبه إليهما؛ فقد جمَعَهما الحب
والفقر.
أمَّا فرنسا فقد زُرتُها مقاطعةً مقاطعة مع صديقتي الألمانية
بالعربة؛ غربًا وشرقًا، وجنوبًا وشمالًا. ورأيت نيس وكان، وهما ما
كُنتُ أسمع عنهما في المهرجانات الدولية للسينما. وأذهب إلى الأحياء
القديمة التي لم تطُلها يد التدمير في الحرب. وفي طولون تَذكَّرتُ
المدينة التي خَرجَت منها الأساطيل الفرنسية والبريطانية لهزيمة محمد
علي غرب الإسكندرية. ومرةً ذهبتُ إلى سافوا العُليا Lu Haute Savoie الشهيرة بجبال
الألب، ومكان للاستشفاء، ورأيتُ الثلج في قمَّتها صيفًا وشتاءً. وذهبنا
إلى لوزان وجنيف لرؤية بُحيرة لوزان الشهيرة والقُصور على ضِفافها،
وفيها قَصْرا الرئيسِ المخلوع ونَجلِه في زيارتي لجنيف.
وقد زُرتُ إنجلترا بدعوةٍ من جامعة أكسفورد، ووَصَلتُ إليها عن طريق
النفَق البحري تحت الماء الذي يربط فرنسا بإنجلترا، وكُنتُ أخشى في
البداية، ولكني لم أخشَ في النهاية، وتذكَّرتُ نفس النفق في إستانبول
الذي يربط بين الجانبَين الأوروبي والآسيوي. وأخيرًا زُرتُ الكوبري
المُعلَّق الذي يربط بين الجانبَين، وعَرفتُ أن التكنولوجيا ليست
وَقفًا على الغرب، وكانت تركيا حليف الألمان في الحرب العالمية الأولى،
وفيها امتَد قِطار الشرق السريع من برلين إلى بغداد.
كنت أَجِد نفسي
نائمًا في محاضراتِ الطلاب المسلمِين بشمال أفريقيا؛ فكانت عِلميةً
سياسية، في حين عند حميد الله علميةً خالصة. وكنتُ أَشعُر أنني طليق
اللسان عندما أتحدَّث عن الاستعمار والاستقلال والحرية للشعوب، ومع
زميلي رشدي راشد. وفي صيف ١٩٦٥م أتى المشير عبد الحكيم عامر إلى باريس
للإعداد لزيارة الرئيس جمال عبد الناصر إلى باريس للقاء ديجول، وأعدَّت
له السفارة المصرية في باريس استقبالًا، وكُتبت اليافطات، ورُفعت
الأعلام، ونظَّم السفير عبد المنعم النجار استقبالًا، وكان من الضباط
الأحرار، وجاء الطلاب من كافَّة أرجاء الدول الأوروبية للمشاركة في هذا
الاستقبال. وذهبتُ وجلستُ في الصف الأول أمام المنصة. وكان عليها
المشير، ود. محمود فوزي رئيس الوزراء، ولطفي الخولي الصحفي بالأهرام،
ورئيس تحرير مجلة الطليعة الماركسي المعروف. وبمجرد ما انتهى المتحدث
الأول من إلقاء كلمته بعد أن راجع السفير كل الكلمات خَشيةَ أن يكون في
إحداها ما يُغضِب النظام، أَحسَستُ بشيءٍ يدفعني، فأَخذتُ الميكروفون
وقلت: سيادة المشير، كل هذه الزفَّة واليافطات والكلمات مُزيَّفة؛ فقد
راجعَها السفير، ولا تُعبِّر عما يجيش في نفوس الطلاب، ما يدور في
نُفوسِنا جميعًا هو منعُ تجديد جوازاتِ السفر للبعض مِنَّا، وعدم تجديد
المِنَح الدراسية لأننا مُصنَّفون بأننا ضد النظام. وسرعان ما اختطف
الميكروفون المتحدِّث الثالث من ورائي وأكَّد ما قُلتُ، ووقف الطلاب
طابورًا للحديث في نفس التيار، وأَنزلوا اليُفَط التي تُرحِّب، وعلَتِ
الأصوات بالمنع من السفر، والحرمان من حضور جنازة الوالد، فأُخِذ
المُشير على غِرَّةٍ، ولم يعرف كيف يَرُد، وطلَب من لطفي أن يَرُدَّ
على هؤلاء الطلبة العاقِّين الذين لا يعرفون أحوال بلادهم، فَرَدَّ
لطفي أنه اعتُقل وعُذِّب، وما زالت آثار التعذيب والكرابيج على ظهره،
وكان د. محمود فوزي يبتسم ليعلن عن سُروره العميق بخطابِ الطلَّاب وأنه
ما زال في مصر رجال.
وعاد المشير إلى القاهرة لِيُخبِر ناصر بما رآه وسمِعه في باريس،
فطلب منه دعوة ممثلي الطلاب الدارسين في أوروبا ليناقشهم بنفسه في
القاهرة في الصيف القادم، وهو ما سُمِّي «مؤتمر المبعوثين». واستدعاني
السفير في باريس كي يستفسر مني عما فَعلْتُ، فأخبرته أني قُلتُ كلمة
صدق، وبدأ في تكوين جماعةٍ طلابية تجتمع في السفارة أسبوعيًّا لندرس
فيها أحوال البلاد استعدادًا للقاء عبد الناصر في الصيف القادم في
القاهرة. واستعدادًا لذلك كُنَّا نجتمع في السفارة «مجموعة باريس»،
وأسَّسنا نادي الطلبة الاشتراكيِّين من: حسن حنفي، رشدي راشد، حسام عيسى،
٢ السيد يس، محمد عمران، فكُنَّا نُمثِّل الطلبة الدارسِين
في فرنسا، اثنَي عشر طالبًا، ثمانيةٌ اشتراكيون وأربعةٌ لا يهتمون إلا
بمصالحهم الخاصة مثل الإعفاء من جمارك العربات، توفير سكنٍ مناسب أو
سرعة التعيين. وقد اختِير هذا الوفد بناءً على انتخاباتٍ عامة من جميع
الطلاب الدارسِين في فرنسا، وحدَث نفس الشيء في ألمانيا وإنجلترا، وكان
التجمُّع الرئيسي في فرنسا، ومنها الطائرة التي نَقلَت الطلبة من باريس
إلى القاهرة في يونيو ١٩٦٦م وأعادتهم إليها، ينتقلون بعدها بالقطار إلى
مَقارِّ دراساتهم في فرنسا أو خارجها؛ فما أَسهلَ المواصلات الأرضية
داخل أوروبا!
وفي هذا العام قُمنا بنشاطٍ سياسي في الموضوعات التي تَحدَّثنا فيها
مع المشير مثل الطبقة الجديدة في مصر، طبقة كبار الضباط والمُديرِين
ورجال القطاع العام، واتساع الهُوَّة بين الأغنياء والفقراء، والخوف من
هذه الطبقة أو تضخُّمها. وكان تجمُّعًا لِلطلبة التقدُّميِّين، نستعد
فيه للقاء جمال عبد الناصر، وكان كلٌّ منا يكتب بحثًا في تخصُّصه في
أحوالِ مصر الاقتصادية والسياسية والثقافية؛ فكتب حسام عيسى عن أحوال
مصر السياسية، ومحمود عبد الفضيل عن أحوالها الاقتصادية، والسيد يس عن
أوضاعها الاجتماعية،
٣ ورشدي راشد عن أحوالها الثقافية، وحسن عبد الحميد وأبو زيد
رضوان ومحمد عمران عن أوضاعها القانونية، وأنا عن استقلال الجامعات،
وكان البعض الآخر يُجهِّز نفسه لخطابٍ شفاهي دون أن يكتب. وكان سيد يس
في إحدى الجامعات الإقليمية مثل ديجون، وكان يأتي إلى باريس فأترك له
غُرفتي ليقضي الليلة فيها في البيت الألماني، وكنتُ أذهب لآخر الليل في
مكانٍ آخر، يقول هو مع صديقتي. والجوهري كان مُدرِّس الطبيعة النووية.
وأعددنا مِلفًّا كاملًا عن أحوال مصر لإعطائه إلى الرئيس عبد الناصر في
الصيف عندما نُقابله، ونُحذِّره فيه من أي مواجهةٍ مع إسرائيل لن تكون
في صالح مصر. وكنا نغني: «لكِ يا مصر السلامة، وسلامًا يا بلادي، إن
رمَى الدهرُ سِهامه، أتقيها بفؤادي، واسلمي في كل حين.» وكان اللقاء في
أغسطس ١٩٦٦م في أكبر مُدرَّج بجامعة الإسكندرية، وهو في قصر الطاهرة،
واستَمرَّ لمدة أسبوع، انتهى بتصويرنا معه صورةً تَذكارية أمام قصر
الطاهرة. وكان من أبرز التساؤلات: هل ما يحدث في مصر اشتراكيةٌ غربية
أم تطبيق عربي للاشتراكية؟ فالاشتراكية واحدة نظريًّا، وإن كانت متعددة
عمليًّا. وهو نفس السؤال الذي سأله سيد قطب في مرحلته الأخيرة: هل هم
المسلمون أم جماعةٌ من المُسلمِين؟ وسلَّمناه مِلفَّ الدراسات عن أحوال
مصر، فأتانا اليوم التالي يُعبِّر عن إعجابه بها، ولكنه يخشى من
التطرُّف من الاشتراكيِّين كما يُقال الآن عن تطرُّف الإخوان. وطلبنا
منه أن يُعاد كتابة الميثاق حتى لا يسمح بالفارق الطبقي أكثر من ١:١٠
والذي هو الآن واحد إلى عدة ملايين بل مليارات. وفي نهاية المؤتمر نشأ
بيني وبين رشدي راشد حوار؛ أنا أستعد للعودة إلى مصر، وهو مُصمِّم على
البقاء في فرنسا حتى أصبح عالمًا كبيرًا في تاريخ الرياضيات، وحصل على
الدكتوراه لأبحاثه
Sur Travaux. وحاول
إنشاء معهدٍ لتاريخ العلوم بمكتبة الإسكندرية، ولكن لم تنجح الفكرة
لغياب صاحبها. وحاولتُ إقناعه بتأسيس شيءٍ في جامعة القاهرة من الجوائز
التي يحصل عليها الطلاب ولكنه لم يَستسِغِ الفِكرة على خلاف مجدي يعقوب
وأحمد زويل، بالرغم من توفر المال لديه من الجوائز التي نالها خاصة
جائزة فيصل الإسلامية، بينما تقدَّم ناشر «من النص إلى الواقع، محاولة
لإعادة بناء علم أصول الفقه» لِنَيلها فحُجِبَت الجائزة هذا العام.
ودعوتُه أستاذًا زائرًا بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، فكان بينه وبين
الطلبة فرقٌ شاسع في المستوى. ودعوته إلى إلقاء محاضرةٍ عامَّة في
المجلس الأعلى للثقافة باسم لجنة الفلسفة، فحضر القليل، وغادر أمين
لجنة الفلسفة احتجاجًا على هذه المحاضرة التي يعلو مستواها على مستوى
الحاضِرِين. وتَذكَّرت كلمة جان جيتون التي كتبها في آخر صورةٍ بعثها
إليَّ: «يجب الرهان»
Il Faut Parier؛
فقد راهنتُ على مصر والجامعات العربية والإسلامية، ونِلتُ أعلى الجوائز
في مصر، جائزة الدولة التقديرية ٢٠٠٧م ثم جاءت جائزة النيل ٢٠١٦م
والجائزة البولندية من رئيس جمهورية بولندا، وجائزة الشيرازي من الرئيس
خاتمي في إيران. وهو راهن على فرنسا، ونال أعلى الجوائز من السعودية،
فيصل، وأصبح من أشهر عُلماء تاريخ الرياضيات في الغرب — أطال الله في
عُمرَينا لمزيدٍ من العطاء. لا نتراسل كثيرًا ولكني أراه كلما أتى في
اجتماع مجلس إدارة مركز المخطوطات العربية بمكتبة الإسكندرية؛ فكِلانا
عضو في الإدارة السابقة. وكان قد أتاني مرة في مكتبة مدرسة اللغات
الشرقية يعرض عليَّ إذا كان يحجز لي من دَخلِه الشهري الذي كان يُحوَّل
إليه جزءًا، وأخرج من يده ورقة فرنكاتٍ وقعَت على الأرض، فاعتذرتُ،
وشَكرتُه.
وكان الطلب الوحيد الشخصي من وزير التعليم حسين كامل بهاء الدين هو
نَقلَ مكتبتي من باريس إلى القاهرة بعد أن كنتُ سلَّمتُ مِفتاح غُرفة
السطح التي كنت أسكن فيها إلى السفير؛ لأنني سأغادر بالطائرة، فطلَب
مني الوزير أن يُوافق عبد الناصر، فانتظرتُه وهو خارجٌ من المُدرَّج
وشَرحتُ له الأمر، فوافق ومضى على الطلب على الفور، وانتظرتُ حوالي ستة
أشهر، من يونيو حتى ديسمبر. وعاد الزملاء في مؤتمر المبعوثين إلى باريس
في سبتمبر ١٩٦٦م، وتخلَّفتُ أنا في مصر بعد أن كنتُ قد ناقشتُ رسالة
دكتوراه الدولة في السربون في يونيو من نفس العام. ولأوَّل مَرة بعد
المناقشة أسير في شارع بول ميش خاوي الوِفاض من هُموم العلم وكأني
سائح، كان همي فقط شراء النصوص الفلسفية التي تنقُصني من مكتبات النصوص
الفلسفية خاصة عند فران Vrin
وأوبيي Aubier والمطابع الجامعية
الفرنسية Press Universitaire de France (PUF). وغيرها، وكنتُ آخذ قوائمها وأُعلِّم عليها
باليد وأَجمَعها وأُعطيها لمكتبةٍ في شارع فورجيرار Vaugerar تعطي تخفيضًا ٢٠٪، جاء صاحبها مصر ليزورني،
وهو الذي دعاني إلى الغداء. وتم شحن الكُتب في ثلاثة صناديقَ خشبيةٍ
ضخمة ووَصلَت للإسكندرية، وذهبتُ مع والدي وأخي لاستلامها، وفي الجمرك
انتَظَر الموظف «بقشيشًا»، ولمَّا فتحَها ووجدَها كتبًا قال: كتب! حزن.
واكتفى بصندوقٍ واحد ووقَّع بالموافقة على كتاب أورتيجا إي جاسيه «ثورة
الجماهير». وبعد شحنها إلى القاهرة ساعدَني زوج أختي الكبرى سيد حامد
في شراء ألواح الأخشاب ونِجارتها من قريبٍ لي تُوفِّي أخيرًا هو علي
النجار لِعَمل مكتبةٍ لتصنيف الكُتب عليها في غُرفةٍ من شقة الأسرة في
شارع الجنزوري بالعباسية التي ما زال يقطن فيها ابن شقيقتي بعد أن
تُوفِّي الوالدان والخالة. وفي هذه الأشهر الستة كتبتُ «التراث
والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، وهو مُجرَّد مقدِّمة لرسالتي
الأولى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» التي كُتِبَت عام ١٩٦٥م قبل
«نحن والتراث» لمحمد عابد الجابري الذي ظهر عام ١٩٨٠م والذي يُسمِّيه
تلميذي أنور مغيث «مانيفستو حسن حنفي». وقد ظهر عام ١٩٨٠م في دار نشر
محمود الشنيطي رئيس الهيئة العامة للكتاب السابق والمؤسِّس لها، بعد أن
جَمَعنا من شلَّةٍ من المُثقَّفِين حوالي ستين ألف جنيه لِبناء مُلحَق
في فِلَّته بمدينة نصر وإحضار آلات الطباعة، والبداية بتصوير النصوص
القديمة مثل مُذكِّرات أحمد عرابي، وأَمدَّه أخوه فتحي بآلات الطباعة
التي كان يُريد الاعتماد عليها في إنشاء مطبعته الخاصة في بدروم
فِلَّته. وبعد مدةٍ توقف المشروع، وضاع رأس المال، وأَخَذ فتحي آلاته،
ورَدَّ لي محمود خمسائة جنيه من خمسة آلاف تعويضًا عن خسارة المشروع،
وقال لي إن ذلك من ماله الخاص.