الأستاذ الجامعي (١٩٦٦–١٩٧١م)
ولا يعني الأستاذ الجامعي هنا درجة أستاذ، بل تعني بداية التدريس بالجامعة كمدرس ١٩٦٧م ثم أستاذًا مساعدًا ١٩٧٣م ثم أستاذًا ١٩٨٠م. ولا يعني نهايته عام ١٩٩٥م بل التعيين كأستاذ متفرغ حتى عام ١٩٨٠م، يُجدَّد التعيين مرةً كل سنتَين بطلب القسم حتى الثمانِين وكفَى. أُلغي الفرق بين المُتفرِّغ وغير المُتفرِّغ، ويستطيع الأستاذ أن يستمر أستاذًا سواءٌ درَّس أم مَنعَته صحته عن التدريس على ما أَذكُر. وقد يكون القانون قد تغيَّر.
تعرَّفتُ على سامي النشار بالإسكندرية وسعاد عبد الرازق ابنة علي عبد الرازق صاحب «الإسلام وأصول الحكم»، وكان من أشهر أساتذة الفلسفة بآداب الإسكندرية، وطَلبَ مني أن أُزامِله في قسم الفلسفة بالإسكندرية، فاعتذرتُ لأن الشوق كان لجامعة القاهرة بعد حرمانٍ طويل، عشر سنوات، وظلَلنا نتعاون علميًّا في فلسفة العصر الوسيط، وساعدني في تقديمي لدار الكتب الجامعية، ونَشرِ أَوَّل كتابٍ لي «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، يحتوي على ترجمات «المعلم لأوغسطين»، «أومن كي أعقل لأنسليم»، «الوجود والماهية لتوما الأكويني». وقد كُلِّفتُ بتدريس الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى بجامعة القاهرة، بعد أن تركها فتحي الشنيطي لأنه لم يكن راغبًا فيها. وعندما عُدتُ من الإسكندرية واقتربتُ من قسم الفلسفة بآداب القاهرة كان رئيس القسم أحمد فؤاد الأهواني الذي كُنتُ قريبًا منه وأنا طالب، واصطَحَبني معه إلى مكتبة عيسى البابي الحلبي في الأزهر الذي كان نسيبًا له، وكان يُعِد لأن ينشر مخطوطًا كلَّفني بنقله أولًا بخط اليد، ولم يكن هناك كومبيوتر في ذلك الوقت، وحَزِنتُ عليه عندما غادر إلى الجزائر ولم يَلقَ معاملةً طيبة، ثم تُوفِّي بعد نَشرِ رسائل ابن سينا في النفس، وكتب كتابًا مُقرَّرًا عن الفلسفة الإسلامية، وكان أوَّلًا في وزارة التربية والتعليم، فسُرَّ بعد لقائي بعشر سنوات، وأراد أن يُعيِّنني بالقسم بلا إعلان، ولكن الإدارة رفَضَت؛ فلا بد من إعلان، والإعلان عن درجة، والدرجة لا تُوجد، ولا بد من نقلها من قسمٍ آخر مما يستدعي موافقةَ القسم صاحب الدرجة، وطلَبَ القسم الذي يُريد الدرجة، وعميد الكلية، ورئيس الجامعة، ووزير المالية! وهذا يحتاج عامًا للحصول على كل هذه المُوافَقات دون أن يعترض أحد. وقابلتُ عبد الرحمن بدوي وكان في طريقه إلى إيران، ويُريد مَن يحل محلَّه، وأُعلن عن درجةٍ علميةٍ شاملة في تاريخ الفلسفة حتى ينطبق عليَّ الإعلان، فوافقتُ وأنا ليس لي عمل. وتَقدَّم اثنان؛ عزمي إسلام في المنطق تلميذ زكي نجيب محمود وأنا، وبالطبع فضَّلني بدوي. ولما طلب مني القيام بإجراءات التعيين اللازمة لم أكن أشعر بأي شيءٍ تجاه المبنى، مبنى كلية الآداب، جامعة عين شمس بالطوب الأحمر والمعمار الهندسي الصوري الشكلي، فذهبتُ إلى بدوي وأخبرته بأن الحيطان لا تُكلِّمني، فسَخِر مني قائلًا: وهل الحيطان بتتكلم يا أستاذ؟ واعتذرتُ له، فأخذ عزمي إسلام. وذَهبتُ إلى سهير القلماوي التي كانت رئيسة قسم اللغة العربية لأرجوها مُسانَدتي في مجلس الكلية في نقل درجة من قسمٍ إلى قسم الفلسفة، فقالت بجفاء وهي تنظُر إلى الكتاب المفتوح بين يدَيها: «عندما أُعيِّن طالبي أولًا.» وتقصد عبد المنعم تليمة. رَدَدتُ عليها في سِرِّي: ولكن طالبها لن يرفض؛ فأنا وهو واحد. وهي زوجة يحيى الخشاب الذي أحالني إلى التحقيق وأنا في السنة الرابعة لأني رفضتُ أن أدعو العميد، السيد العميد لأنه لا سيد إلا الله، وقول الرسول: «لا تُسيِّدوني.» وكانت فِيلَّتها في ميدان الجيش حيث أسكن في الشارع بجواره، شارع الجنزوري.
وطلَب مني رئيس القسم أن أقوم بتدريس الفلسفة في العصور الوسطى مُنتدَبًا، وكان فتحي الشنيطي يقوم بها وهو لا يُحبها، ففَرِح لأن أحدًا غيره سيقوم بذلك، ولم تعرف الحسابات كيف تدفع لي أجرًا؛ فأنا لستُ مُنتدَبًا من جهة حتى تُعاملني بِالمِثل. وفي هذا العام زادت معرفتي بمصطفى حلمي، وكنتُ أَذهَب إليه كي أَصحَبه إلى الجامعة، كما كان يفعل أحمد مرسي مع عبد الحميد يونس، وعَرَّفني بابنته ربما لغايةٍ في نفسه، وما زلتُ أذكُر معركتي معه عندما كان يُعطيني بحث قسم الامتياز وأنا في السنة الرابعة، طلَب مِنِّي أن أكتب بحثًا عن نظرية المعرفة والسعادة عن الغزالي، وهو موضوعٌ تقليدي، ولم أكن أُحِبُّ الغزالي ولا التصوُّف، وفي الخاتمة بعد عرض البحث كَتبتُ رأيي عن «السقوط والانعراج»، وعَنَيتُ به السقوط السياسي والاجتماعي في عَصر الفِتنة الكُبرى ثم ردَّ الفعل عليه بالتصوُّف بالصعود إلى أعلى، وهو ما شَرَحتُه بعد ذلك في «من الفَناء إلى البَقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوُّف»، فلمَّا قرأه قال لي اقطع هذه الخاتمة لأنها خارج الموضوع، فاعترضتُ بأن هذا هو رأيي الخاص، فرفض، وأعطاني المِقَص، وقصَصتُ الخاتمة وكأنني أقطع قلبي. رزَعتُ الباب بقوة، لا أدري إراديًّا أم لا إراديًّا، شعوريًّا أم لا شعوريًّا، وخَرَجتُ وكنتُ أخشى أن ينكسر الزجاج من وراء الحاجز الحديدي. لم ينتقم مني كما يفعل آخرون، وأعطاني امتياز، ثم حَدثَت هزيمة يونيو ١٩٦٧م وكنتُ خَجولًا للسعي في مصلحةٍ شخصية، والوطنُ كُلُّه في نكسة، ومع ذلك تمت إجراءات تمويل درجة مدرس، وتم الإعلان، وتقدَّمتُ، ولم يكن هناك منافسٌ غيري، وعُيِّنتُ رسميًّا مدرسًا بقسم الفلسفة بآداب القاهرة بثلاثين جنيهًا شهريًّا، وكنت أدفع نصفها للأسرة تكلفةَ إقامتي معها، والنصف الآخر قسط موبيليات أختي الصغرى حتى الزواج؛ لذلك كنت أكتب في «الفكر المعاصر» بعشرة جنيهات و«المجلة» بثمانية جنيهات و«تراث الإنسانية» بعشرين جنيهًا، و«الكاتب» بستة جنيهات، وكان المجموع مُواصَلاتي وثَمَن كتبي بالعربية، وحصيلة ذلك نُشِر بعد ذلك في «قضايا معاصرة» (جزءان): الأول «في فكرنا المعاصر». والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، أسلوبٌ ثقافي سياسي عام ١٩٦٨م، ١٩٧٠م. وحذَّرني رئيس القسم: إياكَ أن تصبح مثل أنيس منصور؛ أي تترك الفلسفة إلى الصحافة، و«التراث والتجديد» لم يكن قد ظَهر بعدُ إلا في الرسالتين بالفرنسية، فكان التحذير ليس في مكانه. وكان الموضوع الغالب فلسفة الدين، وفلسفة السياسة، والواقع العربي المعاصر، وهي الأضلاع الثلاثة في مشروع «التراث والتجديد». ووصلتني دعوة من المعهد الفرنسي في روما برياسة كاستيلِّي لحضور مؤتمر عن التأويل والهرمونطيقا في يناير ١٩٦٨م، ورفضت السلطات الأمنية بالمجمع سَفَري، فأرسلتُ برقية إلى عبد الناصر أُخبره بالأمر، فتم الرَّدُّ مع راكب موتوسيكل بعد أربعٍ وعشرين ساعة بالمُوافَقة على سفَري، وقدَّرتُ الرئيس، وأدركتُ خطورة أجهزة الأمن الموازية لسلطة الرئيس.
ودرَّستُ مُعظَم الموادِّ تقريبًا: الفلسفة العامة للسنة الأولى، وفلسفة العصر الوسيط وعلم الكلام في السنة الثانية، والفلسفة الحديثة في الثالثة، وفلسفة التاريخ، والفكر العربي المعاصر في السنة الرابعة؛ فقد كنت شابًّا مُتحمِّسًا يشعر بالخجل من الهزيمة ١٩٦٧م، ويقرأ تاريخ الفلسفة من خلال المُقاوَمة ابتداءً من الدوناتيِّين ضِد أوغسطين، ضِد سلطة دِفاعًا عن الإمبراطورية الرومانية حتى فشته ونداءاته للأمَّة الألمانية ضد احتلال نابليون لألمانيا، وكان يَحضُر محاضراتي جميع الطلاب من جميع الكليات ورجال الأمن.
وكانت قُبة جامعة القاهرة تبدو لي من شارع الجامعة وأنا داخل إليها مثل معبد البانثيون وقبة السربون. وكنتُ أَشعُر بالفرح داخلي أنني في حضرة العِلم والعُلماء في الصباح، وأَحزَن وأنا أُغادِرها في المساء، ولِسانُ حالي يقول: هذه هي الجامعة التي تعلَّمتُ فيها منذُ عشر سنوات والآن أنا أُدرِّس فيها «عَود على بَدء»، أعود إليها منتصرًا بعد أن غادرتُها مهزومًا ومتهمًا بِقلَّة الأدب في مخاطبة العُمداء، أُعطي مثلًا جديدًا للطلاب بدلًا من تقليد الجيل القديم، يكفي الارتجال دون كتابٍ مُقرَّر وإعطاء الأسئلة من أول العام مكتوبةً بالطباشير الأبيض على السبورة السوداء، وجامعًا بين الفكر والواقع، ومُعطيًا خطابًا من القلب إلى القلب يجمع بين العقل والوجدان. ومن هنا بدأ مشروع «التراث والتجديد»، كُنتُ أشعر بانتمائي المُطلَق له؛ لذلك جَعلتُ وديعةً باسم كلية الآداب للصرف من عائدها على البحث العلمي والمؤتمرات التي تربط بين الأقسام مثل اللغة، «النص والتأويل»، وتشجيع الأقسام على عَقدِ مؤتمراتها السنوية للخروج من العلم إلى الثقافة، وأنا سعيد بذلك، وما زِلتُ حتى الآن أَتوحَّد معها، ولا أدري إذا كانت هي تتوحَّد معي أم لا.
وكان الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ظاهرةً تَنتقِد الأوضاع السياسية، وتدعو إلى المقاومة لِمَا بعد الهزيمة. استمعتُ إليه لأَوَّل مرة في كلية الحقوق خاصة «جيفارا مات» التي كان يُنهي بها الغِناء. وكانوا ثلاثةً بعد أن انضم إليهم محمد علي الطبال، كانوا فقراء لأنه لا وظيفة لهم، وكانوا يسكنون في حوش آدم بشارع المعز لدين الله حيث نشأ نجيب محفوظ بالجمالية، وحيث نَشَأتُ أنا بباب الشعرية بجوار باب الفتوح. كان يُحيِّي الطلبة والعمال مثل لجنة الطلبة والعمال التي تكونت في عام ١٩٤٦م ضد الإنجليز والقصر، والمناداة بالاستقلال التام أو الموت الزؤام. وكان أمن الجامعة يود القبض على هذا الثلاثي الثائر وعلى حشد الطلاب، ولكن لم يكن قادرًا؛ إذ كان يختبئ في عَربَة دخول الجامعة وفي الخروج منها، فكتَبتُ لأول مرة عن هذه الظاهرة مقالًا في «الكواكب»، المجلة الأسبوعية التي كان يرأسها رجاء النقاش، وكان المقال بعنوان «الشيخ إمام إمام المُثقَّفِين»، ولكن رئيس التحرير غَيَّر العنوان إلى «الشيخ إمام والمُثقَّفون»، وكأنه قد استكثر عليه أن يكون إمامًا، وكان أَوَّل مقالٍ أكتبه، وكان مثل الشيخ سيد درويش في ثورة ١٩١٩م. وكلاهما له لقب الشيخ، وكانت أَلحانه يُغنِّيها الطلاب معه أو بدونه مثل «يا بهية»، وانضَمَّ إليه زين العابدِين فؤاد بأشعاره الثورية مثل:
وكنت أشارك في تهريبه وإحضاره إلى كلية الآداب في إحدى المدرَّجَين الكبيرَين ٧٤ أو ٧٨. وكان العميد لا يستطيع أن يفعل شيئًا أمام حَشدِ الطلاب وشُعورهم بالهزيمة والقهر والفقر.
وكان هناك نظام الأُسَر الطلابية ومنها أُسْرة مصر التي كان يغلب عليها الطابع الشيوعي. وكان لا بد لكل أسرة من عضو هيئة تدريس يكون مسئولا عن نشاطها، وكان رضوان الكاشف هو رئيس أسرة مصر، ولا تجد رائدًا لها حتى تُصبح شرعية، فتطَوَّعتُ لذلك. وكان نشاطها يتعلق بتحرير مصر واستقلالها كما كانت الحركة الوطنية في الأربعينيات. وكان رضوان الكاشف قد اختار عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية موضوعًا للماجستير وأنا المُشرف عليه. وكانت الخطَّة في صياغتها وأُسلوبها مثل خُطَب النديم، فطلَبتُ منه أن يحول الخَطابة إلى برهان، ويبدو أن الطلب كان صعبًا، فتَوجَّه إلى معهد السينما، وتخرَّج منه، وأَصبَح مُخرجًا ناجحًا، له عدة أعمال يُشار إليها بالبنان مثل «عرق البلح». وأَنوِي الكتابة عنه إذا أمَدَّ الله في العُمر، كما فعلتُ مع المُخرج توفيق صالح إعجابًا وتقديرًا لأفلامه الجادة مثل «درب المهابيل».
واستدعاني صوفي أبو طالب رئيس الجامعة وسألني: هل أنت شيوعي مثل هؤلاء الذين تجلبهم للجامعة؟ فأجبتُ لا، ولكني مثل جمال الدين الأفغاني، فرَدَّ قائلًا: الشيوعي! وهو نفس السؤال الذي سَألَني إياه الرئيس السابق محمد مرسي عندما استَدعَى بعض المُثقَّفِين إلى قصر الاتحادية لمناقشتهم، وسأل: أين د. حسن؟ فقمت، فقال: يقولون عنك شيوعي! وكان يظن أني من الإخوان، وقد سافرنا سويًّا في مجموعة حِوارٍ في ألمانيا قبل أن يصبح رئيسًا، فأَجبتُ: لا، بل أبو ذر الغفاري. فأجاب أحد الحاضرين: شيوعي! فقد كانت صورتي في الإخوان أني شيوعي، وصورتي عند الشيوعيين أني إخواني، وصورتي في أجهزة الأمن أني إخواني شيوعي. ولم يكن «اليسار الإسلامي» قد انتَشَر بعدُ لِيحُلَّ التناقض بين الإسلام والشيوعية أو الاشتراكية أو الأيديولوجيات العلمانية كالليبرالية والقومية. وما زالت أغاني الشيخ إمام تَرِنُّ في أذني كلَّما اكتأبتُ أو شعَرتُ بالإحباط.
ولمَّا كنتُ ما زلت أَعزَب، وقَرُبتِ التزاماتي الأسرية على الانتهاء حتى أُفكِّر في نفسي، ومنذ أن عُدتُ من فرنسا وعُيِّنتُ بقسم الفلسفة بآداب القاهرة التقيت بمجموعةٍ من الشباب مثلي وعلى رأسهم عبد المنعم تليمة، ومنهم عبد الغفار مكاوي، وعبد المعطي شعراوي، والنعمان القاضي. كان مَن ينظم الشعر، ومَن يكتُب القِصص، ومَن يُترجِم عن الآداب الأجنبية، ومنا من يُنظِّر للثورة وهو عبد المنعم تليمة الذي استفدتُ منه كثيرًا في استعمال المُصطلَحات الثورية ومناهج التحليل الثوري. وكُنَّا نقضي ليلةً أسبوعيًّا في منزل أَحدِنا، نُحاول التعرف على أسباب الهزيمة ومُقوِّمات النصر. وفي نفس الوقت كُنَّا نحتاج إلى الحب، ومن أَقربُ إلى الحب من مُعيداتِ الكلية اللاتي ربما يعشن نفس القضية؟ وكن ثلاثَ مُعيداتٍ تَخرَّجنَ من قسم الإعلام عندما كان ما زال جزءًا من كلية الآداب. كانت أَكثرُهنَّ جمالًا ونشاطًا وحيوية ورياضةً وسباحةً في حمَّام نادي التوفيقية مُتزوجةً من ضابطٍ شاب، وتريد الانفصال عنه، وكان أكثرُ المُرتبطِين بها زميلًا من قسم الفلسفة، وكان يُعِد رسالة ماجستير في عِلم الجمال عند كانط في «نقد مَلَكة الحكم»، كان يسكن في غرفةٍ في شبرا، وليلة لا تُنسَى قضيناها، وهي تَرقُص لنا، وأنا أقول في نفسي ما أحلى الحب والزواج! ولكنَّ هاتفًا داخليًّا كان يقول لي دائمًا احذَر من المُطلَّقات وانتَظِرِ العَذراء، ومن جرَّب الطلاق أوَّلَ مرة لا يُستبعَد أن يمر به مرة ثانية. وكان الارتباط بالعذراء من بقَايا الرومانسية القديمة، وقد تَزوَّج الرسول مُطلَّقةً، خديجة، وأَحَب عائشة العذراء؛ فلا تعارُض بين الاثنَين. ومن منَّا قادرٌ على أن يكون مثل الرسول؟
وقد بدَأتُ التفكير في الزواج بعد أن بَدأتُ في تَسديدِ آخرِ قِسطٍ في جهاز شقيقتي الصغرى نادية، خمسة عشر جنيهًا شهريًّا، ولم يَبقَ إلا خمسة عشر جنيهًا؛ فقد كان مُرتَّبي ثلاثين جنيهًا كُنتُ أُساعِد بها الوالد والوالدة لأن معاش والدي، خمسة جنيهات، لا يكفي. وكان أخي سيد قد تكفَّل بزواج باقي أخواتي، سعاد وفاطمة وعلية، بعد أن تزوَّجَت أختي الكبرى نبيهة على اسم والدتي قبل أن يَتوظَّف أخي. وكنتُ أعيش من دخلي من المجلَّات الثقافية، «الفكر المعاصر» و«الكاتب»، و«تراث الإنسانية»، و«المجلة»، وبعض الأحاديث التلفزيونية أعيش من دخلها وأعولُ أُسرَتي منها وما تَبقَّى لشراء الكتب، نصوص الفكر الإسلامي؛ فقد كان لديَّ من الفكر الغربي الأوروبي ما يكفي. وكان البيت مرةً خاويًا من أي نقود، ورجَعتُ من التلفزيون بأربعة جنيهات، ومَرَرتُ على والدتي ووالدي، فقالت الوالدة: «عاوزين نبيض الشقَّة يا أبو علي.» فأعطيتُها ما معي، وعُدتُ إلى المنزل خاوي الوِفاض كما نَزلتُ، وكانت زوجتي تفعل نفس الشيء مع أسرتها، ولكن كُنَّا سُعداء، ونعيش بأربعة جنيهات في الأسبوع بما فيها المواصلات، وكانت الأشياء رخيصةً وليس كما هو الآن. كنت سعيدا بشبابي وبشبابها، وكان الحُب بيننا هو المانع من أي شِقاقٍ نَسمَع عنه في الأُسَر الحديثة التكوين وكما تُصوِّر الأفلام المصرية.
وسافرتُ إلى مرسى مطروح في رحلةٍ مع بيوت الشباب، وراسلتُها شوقًا إليها، وجاءتني بهديةٍ صغيرة لِلذكرى أشبه ما يكون بالإناء العربي، أَرضِيَّته خضراء وعليه زينةٌ ذهبية صفراء، ثم دَخلَت مستشفى هليوبوليس لعمليةٍ جراحية، وذهبتُ لزيارتها مع أخي سيد، وقمنا بما يقوم به المُحبون في الواقع أو في السينما. واتفقنا على موعدٍ رسمي لِلقاء الأسرتَين، كان والدها مُتوَفى ولها شقيقةٌ مطلقة ولديها ابنٌ وبنتان والكُل يسكن في شقةٍ واحدة بالقرب من ميدان الحجاز بمصر الجديدة، وكنتُ أنا من مواليد باب الشعرية قبل أن ننتقل إلى العباسية، وكانت هي من مواليد ميدان الجامع قبل الانتقال إلى ميدان الحجاز، فكُنَّا متقاربَين من حيث أصولنا الاجتماعية. كانت المشكلة هو الرصيد المالي، لم يكن لديَّ إلا مرتَّبي، وهي أيضًا مُرتَّبها الذي كان يبلغ ضعف مرتَّبي، هي تعول أسرتها، وأنا أعول مع أخي سيد أسرتي، فأين لي بالشبكة والمهر والسكن؟ وأين لي بتكاليف الخطوبة وكتب الكتاب والزفاف؟ أخبرها أحد أصدقائها الذي يعمل في الإعلام والسياسة بوجود شَبْكةٍ للخطوبة بثلاثة جنيهاتٍ مثل الماس تمامًا، وذهبنا إلى الصاغة، واشترينا دِبَل الخطوبة، وكنا بها فرحَين. وعدنا إلى مقهى أعلى سينما ريفولي للاحتفال بها، والنادل ذهابًا وإيابًا ينظر إلينا وهو يحمل الطلبات، ثم أقمنا ليلة الخطوبة في منزلها، وكان معظم المدعوين من كلية الآداب وفي المقدمة أحمد مرسي وهو يرقص الرقص الشعبي. وجاء أحد أقربائها، قريب عمر مكرم، وكان هو رجل العائلة الحاضر شاهدًا على كتب الكتاب، وقد تم في نفس الليلة الخطوبة. وأُحيط الدَّور الأرضي بساترٍ من محلَّات الفراشة، وكانت ليلة، الكل فيها سعيد، الوالدان وأخي وزوجته والأخوات المتزوجات وأزواجهن وأولادهن، وشقيقتها وأولادها وأم العروس التي طالما انتظَرَت زواجَ ابنتها، وطبعًا أنا والعروس. كان الحفل بسيطًا، ولم يُقدَّم إلا المشروبات والجاتوه. وقبل انتهاء الحفل رأيتُ ربما من الأفضل أن آخذ عروسي للسهر في مكانٍ ما. ولمَّا كان جيبي خاويا طلبتُ من زوج أختي علية د. محسن الطبيب إذا كان معه نقود، فأجاب: خمسة جنيهات، أخذتها سَلفًا، وذهبتُ والعروس إلى شارع الهرم في باريزيانا، ورقَصنا ثم عاد كلٌّ منا إلى منزله.
وكان عليَّ أن أُدبِّر بعض المال للمهر ثم لتأسيس شقة السكن دون أن أَفقِد الوقت. وكنتُ قد قرأتُ «رسالة في اللاهوت والسياسة» لإسبينوزا وأنا في باريس. وكنت أقبل نفس أفكارها خاصةً عن العنوان الفرعي «في أن حرية الفكر ليست خطرًا على التقوى، ولا على سلامة الدولة، بل القضاء على حرية الفكر فيه قضاءٌ على التقوى، وسلامة الدولة.» وكنتُ آتي بهذا العنوان الفرعي كسؤال آخر العام في مادة الفلسفة الحديثة، للسنة الثالثة أطلب فيها شَرحَ العبارة. وقُمتُ بترجمتها، وكانت ترجمةً جيدة بفضل الصديق فؤاد ذكريا الذي راجع وصحَّح الترجمة، فكانت من أفضل الترجمات. وله عَشَرات الطبعات التي لا أعلم عنها شيئًا، ومُقرَّر على معظم الجامعات في درس الفلسفة الحديثة. وكانت المكافأة أربعمائة جنيه لم تُصرَف إلا بعد الزواج والإنجاب بمناسبة حرب أكتوبر ١٩٧٣م. وكانت الخطوبة عام ١٩٦٩م، والزفاف في ٣٠ أبريل ١٩٧٠م في نادي التوفيقية حول موائدَ وأطباقٍ في كلٍّ منها إصبعُ مَوز وبجواره زجاجة كوكاكولا، وفي الطبق قطعةٌ من الحلوى، وتورته دورين أحضرها أخي سيد. وأنجبنا حازم الطفل الأول عام ١٩٧١م، وهو الآن وزيرٌ مُفوَّضٌ وقنصلُ مصر في بورتسودان بالخارجية. وقد غنَّى فيه العزبي الذي كان زميلًا لنا في الثانوية، خليل أغا، مع أبو زهرة، وغنَّت مها صبري بدون «نقطة» لأن أخي سيد كان أستاذًا لِشقيقتها، وطَلبَت فقط أربعين جنيها للعازِفِين دفعها أخي سيد. وصاحَبَنا مُصوِّرٌ إلى منزل الزوجية في عدة أوضاعٍ منها العريس يحمل العروس. ولولا أخي سيد ما كان الفرح قد تم. كان معظم الحضور من الأقرباء وزملائي في كلية الآداب وزملاء العروس في الجامعة الأمريكية، وأُقارِنه الآن بالأفراح في الفنادق خمسة نجوم والتي تُنفَق فيها عشرات الآلاف.
وكانت الشقة السكنية على ناصية شارع الحجاز وميدان الحجاز كبيرة، أربع غرف وصالة، قفَلنا البلكونة فأصبحَت خامسة منها حجرة مكتبي، كانت مشغولةً قبلي، وأعطاني صاحب المنزل أُسبوعَين مجَّانًا لو شئت لبياض الشقة لمَّا علم أننا عروسان، كان الإيجار أحد عشر جنيها طِبقًا للجان تقدير الإيجارات منذ أيام عبد الناصر، وكان يملك مصنعًا بشبرا الخيمة، وجاءني مرةً وهو حزين لأن أخاه قد قُتل، والعائلة تُطالِبه بالثأر من القاتل وعائلته، وهو في حيرة، هل يفعل أم لا يفعل، وطلب نصيحتي باعتباري أُستاذَ فلسفة، فنصحتُه بألا يفعل لأن الثأر حلقةٌ لا تنقطع، وأن هناك قانونًا يأخد له حق القتيل من القاتل، فاستَمَع الرجل إلى النصيحة، ولكن صورته أمام أهله لم تكن كريمة، فاغتَمَّ ومات. وتركتُها بعد خمسة وعشرين عامًا، وفيها وُلِد الأولاد الثلاثة، حازم ١٩٧١م، حاتم ١٩٧٦م، حنين ١٩٧٩م، وفيها ظهرت «قضايا معاصرة» (جزءان)، الأول «في الفكر العربي المعاصر»، والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، كما ظَهرَت «من العقيدة إلى الثورة» (خمسة أجزاء)، «من النقل إلى الإبداع» (ثمانية أجزاء)، و«الدين والثورة في مصر» (ثمانية أجزاء)، وما زلتُ أحن إليها كلَّما مَررتُ بها، وقد أصبَحَت مرةً محل كاوتشوك ومرةً كوافير. وندِمتُ على تغيُّر رسالة المكان، وقد ملأتُ طرقاتها بالرفوف لوضع كُتبي حتى تراكمت على الأرض، وأَحسَست بضرورة توسيع المكان، وتركتُ الشقة لأصحابها دون أن أتقاضي مليمًا واحدًا (خلو رجل) لأنه لم يطلب مني شيئًا عندما سكنتُ فيها، واحدةٌ بواحدة، رجاني فقط أن أُسلِّم الشقة لوالدته لأنها ستكون كبيرةَ السن، ولا تستطيع صعود السلَّم في منزلٍ ليس به مِصعَد.
وكان أقرب الأقسام إليَّ قسم اللغة العربية حيث كان يُدرِّس أخي سيد وأصدقائي الأوائل مثل عبد المنعم تليمة ونعمان القاضي، ونَبتَت أفكاري الثورية معهم عندما صُفِّيَت المُعارَضة من الجامعة عام ١٩٨١م، كان ستةٌ منها من قسم اللغة العربية حيث كانت تَدرُس زوجة الرئيس، وأنا من قِسم الفلسفة وأمينة رشيد من قِسم اللغة الفرنسية وزوجة رشدي راشد السابقة، ثم قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، والشباب فيه مثل عبد المعطي شعراوي وأحلامنا في عمل سلاسلَ للأعمال الأدبية اليونانية واللاتينية المترجمة، ثم كلية دار العلوم حين كانت عمادته في يد محمود قاسم عندما كانت الكُلية في المنيرة، وتعرَّفتُ على شباب الأساتذة هناك، قلبي مع دار العلوم، وعقلي مع الآداب، ولكن كلا الطريقَين يُؤدِّيان إلى نفس الغاية، وبلغة العصر الوسيط المسيحي «أُومن كي أَعقل»، منهج دار العلوم، «وأَعقل كي أُومن»، منهج كلية الآداب. يعرفون الحقيقة ويبرهنون عليها، وأنا أبحث عن الحقيقة كي أبرهن عليها. يدافعون عن الله وأنا أدافع عن الناس. لا خلاف بين الإثنين؛ فالله هو رب الناس، ملك الناس، إله الناس. ومن دار العلوم تَخرَّج إبراهيم بيومي مدكور، وسيد قطب، ومحمد غنيمي هلال. وقد تبَرَّعتُ بجائزة الدولة التقديرية، ربعها لقسم اللغة العربية باسم أخي سيد، والربع الثاني لقسم الدراسات اليونانية واللاتينية، والربع الثالث للجمعية الفلسفية المصرية، والربع الأخير وزَّعتُه على الأقارب الذين كانوا يَستحقُّون العون.
وكنت أَعجَب من الأساتذة الذين يُدرِّسون من كتابٍ لهم مُقرَّرٍ على الطلاب، والطلبة لا حيلة لهم إلا حفظ الكتاب واستذكاره، فإذا جاء السؤال خارج المُقرَّر اعترضوا؛ فكانوا يذاكرون الفلسفة على أنها واجبٌ للحفظ. أمَّا أنا فكنتُ أتساءل مع الطلاب عن إشكالات الفلسفة والتي لا إجابة لها عندي أو عند أحد؛ فعندما كنت أُدرِّس أوغسطين في الفلسفة المسيحية كُنتُ أتساءل: هل العلم يأتي من الخارج أم من الداخل؟ (محاورة المُعلِّم). هل المسيحية ديانةٌ وطنية أم ديانةٌ عالمية؟ (دوناتوس). هل أومن كي أعقل أم أعقل كي أومن؟ (أنسليم). هل الوجود له ماهية أم الماهية لها وجود؟ (توما الأكويني). وكنت أُعطي الأسئلة أَوَّل العام حتى يفكر فيها الطالب. وعندما كنتُ أُدرِّس الفلسفة الحديثة للسنة الثالثة: هل حرية الفكر خطر على الإيمان وعلى سلامة الدولة أم إن القضاء على حرية الفكر فيه قضاءٌ على الإيمان وسلامة الدولة؟ (إسبينوزا). هل الشكُّ له استثناءاتٌ أم شكٌّ في كل شيء؟ (ديكارت). اشرح معنى العبارة الآتية: «كان لِزامًا عليَّ هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان» (كانط). وفي السنة الرابعة في فلسفة التاريخ: كيف ظهرت فلسفة التاريخ في الغرب؟ لماذا غابت فلسفة التاريخ في تراثنا القديم؟ في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش؟ ولم تكن هناك إلا نصوصٌ يقرءونها كديكارت، وإسبينوزا، وكانط، ولسنج، وابن خلدون. والآن في الجامعة المفتوحة أصبَحتِ الجامعة وسيطًا بين الأستاذ والطالب في الكتاب المُقرَّر، تشتري الكتاب من الأستاذ وتطبعه وتعطيه للطالب، وتأخُذ المكسب المُقرَّر للناشر، ويظل الطلاب في هذه الدائرة، وكُنتُ أحسبهم مثلي.