إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (١٩٧٦–١٩٨٢م)
أراد النظام السياسي الذي انقلَب على الناصرية، من القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن التحالُف مع روسيا إلى التحالُف مع أمريكا أن يُبيِّن أنه نظامٌ ديمقراطي في السياسة، كما أنه نظامٌ حُر في الاقتصاد؛ فالليبرالية ليست فقط في الاقتصاد بل هي في السياسة أيضًا، فأسَّس المنابر: الوسط واليمين واليسار. ولمَّا كنتُ صاحب اليسار الإسلامي فانضممتُ عام ١٩٧٦م إلى منبر اليسار ويُمثِّله حزب «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» برياسة خالد محيي الدين من الضباط الأحرار الماركسي الذي اختلَف مع عبد الناصر فأرسله إلى لندن، ثم عاد، ومنذ أن شَنَق زعماء العمال خميس والبقري الذين طالبوا بحقوقهم أثناء الثورة، وكان يمكن أن يكونوا نصيرًا شعبيًّا له، وكان يتكون من خمس قُوًى سياسية: الماركسيون، القوميون، الليبراليون، الناصريون، والإسلام المستنير. وبطبيعة الحال كنتُ في الإسلام المستنير، ولو أنني أُفضِّل الإسلام الثوري، عودًا من محمد عبده إلى الأفغاني. والفكرة كانت لكمال الدين رفعت من الضباط الأحرار وقائد المقاومة الشعبية في قناة السويس ضد الإنجليز في ١٩٥١م الذي كان إذا ذهب إلى العمل يَلبَس لبس العمال وهو في الوزارة. ذهبتُ إليه مع محمد عودة لعرض بعض أمور التجمُّع عليه، وكُنا قِلَّةً يرأسنا محمد أحمد خلف الله وأنا وزين العابدين السماك ومحمد عمارة الذي ترَكَنا بسرعة. وكان ضعيفَ الأثَر أمام الماركسيِّين الذين يُسيطِرون على قيادة الحزب بما فيهم رئيس الحزب؛ فكان الرأي الواحد هو السائد، وكان الاستبداد هي بنية المجتمع بما في ذلك الأحزاب الليبرالية والشورى الإسلامية. وكنتُ عضوًا بمجلس إدارة صحيفة «الأهالي» ولي فيها عمودٌ كل أسبوع، وكانت تُصادَر دائمًا من القاضي أبو سحلي. ومرةً زار رئيس البُهرة من الهند مصر وزار السيدة زينب، وحَوَّل مِقبَض المقصورة إلى جوهرة، والمقصورة نفسها طَلاها بالذهب، فكتبتُ «ذهب المقصورة أم جوع الفقراء»، وكانت قلعة الكبش خلف حي السيدة، وهي عشوائيةٌ أَوْلى بهذا الذهب، فأحزن ذلك الحزب التقدمي! وقال رئيس الحزب الذي كان مُسافرًا: لو كنتُ بالقاهرة لمنعتُ هذا المقال؛ فمعظم أعضائنا في الحزب التقدُّمي من قلعة الكبش، وهم يُقدِّسون السيدة! وبالتالي سنخسرهم، فكتبتُ: دور الحزب التقدُّمي في البلاد المُتخلِّفة، وطلبتُ مناقَشَته، وأعطاه إلى يحيى الجمل، فقرأه، ولم يُعلِّق شيئًا، وبعد ذلك خرج يحيى الجمل مثلي من الحزب. وفي نفس الوقت اعتبَر الحزب ثورة مصدق في إيران التي أمَّم فيها البترول وهرب الشاه إلى إيطاليا، اعتبرها ثورةً شيوعية لأن مصدق كان شيوعيًّا مع أنه قد صرَّح أنه تعلَّم الثورة من عبد الناصر؛ فلم يكن هناك فَرقٌ بين الإخوان والتجمُّع في رفضهم ثورة مصدق واتهامها بالشيوعية، كما اعتَبَر ثورة الجماهير بقيادة الخميني ثورةً رجعية «متأسلمة» بتعبير أحد قيادات الحزب الماركسيِّين رفعت السعيد. مع أن عبد الناصر كان يمد «مجاهدي خلق» بالسلاح عن طريق بغداد عندما كان أمين هويدي سفيرًا، وهو عضو بالحزب، وكان «مجاهدو خلق» مثل حماس في منظمة التحرير الفلسطينية، تُمثِّل يسارها، في حين تمثل فتح يمينها، فأوقفتُ نشاطي في الحزب دون أن أخرج رسميًّا منه، وما زال معظمهم أصدقاءَ ورِفاقَ نضال.
وهنا بَدأَت فكرة «اليسار الإسلامي» في الظهور. كيف أحافظ على التراث الإسلامي كثقافةٍ شعبية وفي نفس الوقت أستخدمه للدفاع عن مصالح الجماهير، وحقوق الفقراء، وكل ما يدعو إليه الإخوة التقدميُّون. وهو مشروع «التراث والتجديد» على مستوى الثقافة السياسية الشعبية. وهو ما رأيتُه في جنوب أفريقيا في لاهوت التحرير واللاهوت الأسود. وما رأيتُه في المشاريع النهضوية في ماليزيا وإندونيسيا. وما رأيتُه في جماعة ١٥ / ٢١، الجناح اليساري في حزب النهضة في تونس. وهو ما يحدث في تركيا بعيدًا عن أيديولوجية الجيش بعد ثورة كمال أتاتورك الذي أراد تقليد الغرب والقطيعة مع التراث الإسلامي، ثم التحوُّل إلى الضد، إلى الأيديولوجية الإسلامية مع أربكان، والقطيعة مع مظاهر تقليد الغرب، ثم الآن حزب العدالة والتنمية لأردوجان الذي يجمع بين التراث والتجديد، بين الإسلام والتقدُّم. وهو ما أُحاوِله في مصر إلا أنه لم يَجِد قبولًا لأن الصراع بين التيارَين شديد، ولا أحد يُريد أن يُحاوِر الآخر؛ فالتقدُّم عند الإسلاميِّين علمانية وتقليد للغرب، مادية وإلحاد. والإسلام عند التقدميِّين غيبيَّاتٌ واغترابٌ عن الواقع، ويمينٌ سياسي. ولا يمكن الجمع بين الاثنين، كما لا يمكن فصل تيار الإسلام المستنير عن حزب التجمُّع كقوةٍ سياسية عن القُوى الخمس المُكوِّنة له كما أراد كمال الدين رفعت صاحب الفكرة. كنتُ إخوانيًّا فخرجتُ بسبب موقفهم السلبي من ثورة مصدق، ثم كُنتُ يساريًّا وخرجتُ بسبب موقفهم من الإسلام التقدُّمي أو الإسلام الثوري. وبَدأتُ في تَصوُّر اليسار الإسلامي على المستوى النظري الخالص دون إمكانياتٍ تنظيمية أو رغبةٍ في السلطة والحكم، كما تريد كل الأحزاب.
وكان الرئيس قد صَفَّى الناصريِّين من الحزب ومن الدولة فيما سمَّاه ثورة ١٥ مايو عام ١٩٧٤م، كما صفَّى الرئيس الحالي بعد ٣٠ يونيو جهاز الدولة من الإخوان. وكان السؤال: هل الناصرية أيديولوجيةٌ فوقية يسهُل تصفيتها؟ أين جماهيرها التي نَزلَت لتوديعه إلى مَقَره الأخير؟ وهل الدولة كانت مستعدةً لهذا الانقلاب من الاشتراكية العربية إلى الرأسمالية الأمريكية؟ وهو الشعار المستمر حتى الآن والتي ولَّدَت الفساد والاستبداد والفقر والإحباط والتشاؤم انتظارًا لِثورة الغَلابة ثم ثورة الجِياع، وثورة «الجرابيع».
وقامت مظاهرات ١٨-١٩ يناير ١٩٧٧م ضد الانقلاب على الناصرية. ورَفعَتِ الجماهير صور عبد الناصر من الإسكندرية إلى أسوان، واستَولَت على الجمعيات التعاونية، وهي ثورة الفقراء ضد سياسة الانفتاح. واستعد الرئيس بطائرته إلى الهرب من أسوان، ولكن الجيش تَدخَّل، وقمَع المُظاهَرات، وأعاد الرئيس إلى قصر الرياسة. وخطَب الرئيس، وسمَّى المظاهرات «انتفاضة الحرامية»، وقبَض على زعمائها من قادة اليسار. ولمَّا شعَر بِضعفِ موقفِه في الداخل أراد الاعتماد على الخارج، فزار إسرائيل في نوفمبر ١٩٧٧م داعيًا للسلام، ثم ذهب إلى كامب ديفيد في الولايات المتحدة الأمريكية للقاء رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجن، رئيس جماعة أرجون الإرهابية في ١٩٧٨م، ثم عقد اتفاقية السلام عام ١٩٧٩م، والأراضي العربية في الضفة الغربية والجولان ما زالت محتلة، وسيناء منزوعة السلاح، فأصبح مغضوبًا عليه من كل القُوى الوطنية، إسلامية ويسارية في مصر والوطن العربي، وقاطَعَته جامعة الدول العربية والتي انتَقلَت من مصر إلى تونس. ولم يتَصوَّر المصريون وجود سفارةٍ إسرائيلية وسفيرٍ إسرائيلي على ضفاف النيل بالقرب من جامعة القاهرة مهد الوطنية والمقاومة ضد الاحتلال. واشتدَّت المقاومة للنظام حتى أصدر الرئيس قرارات سبتمبر ١٩٨١م الشهيرة بإخراج حوالي سبعين أستاذًا معارضًا من الجامعة، وتحويلهم إلى وظائفَ إداريةٍ في المصالح الحكومية مع خَصم كل الزيادات الجامعية. وحوَّلني إلى وزارة الشئون الاجتماعية، وكنتُ أستاذًا فأصبحَت درجتي وكيل وزارة، واحتاروا في الوزارة أين يضعونني، فطلَبوا مني البقاء في المنزل. وفُصل حوالي سبعين صحفيًّا، وحُوِّلوا إلى وظائفَ إدارية، وقُبض على محمد حسنين هيكل مع غيره من الصحفيِّين، وأُرسل الأنبا شنودة إلى دَيرٍ في الصحراء.
ومرةً أخرى سلَّمَني زوجُ أختي الصغرى كُتيِّبًا مكتوبًا من عدة مشايخ لتكفيري لخروجي من الإسلام، ويُوزَّع في المساجد، وكان هو من رُوَّادها، فقرأتُه، كُلُّه سبٌّ ولعنٌ في الكافر المُلحِد على طريقة المشايخ وليس حوارًا مُوثَّقًا مُطالِبًا اللقاء، ثم كَتبَت مجلة روز اليوسف تقريرًا عن محاولة اغتيالي؛ إذ قَبضَت المخابرات العامة على ثلاثةٍ من أصحاب الذقون، يحُومُون حول منزلي القديم، شارع الحجاز بمصر الجديدة، وكانوا تحت المراقبة؛ فقد كانوا مَطلوبِين في حوادثَ أخرى، فقُبض عليهم واعترَفوا بأنهم أتَوا للاعتداء عليَّ، وحُوكِموا، ولا أدري ماذا كان الحكم. وفوجئتُ يومًا بضابطٍ مدنيٍّ يأتيني كي يتَفقَّد منزلي الجديد بمدينة نصر من الداخل والخارج، ويتَفقَّد الأسوار وكل الأماكن التي يحتمل أن تُخترق للدخول إلى المنزل. وقال إنه كُلف من الداخلية بوضع حراسة دائمة على المنزل يوميًّا، صباحًا ومساءً، ليلًا ونهارًا، أربعة حُراسٍ في اليوم على التعاقُب، كلٌّ منها ست ساعات، مجانًا، فبنَيتُ لهم كُشكًا خشبيًّا بمقعدٍ داخله، داخل المنزل، وراء البوابة الحديدية مباشرة، وكانت الحراسة مُسلَّحة، وطبعًا أعطيتهم مكافأةً شهرية من عندي، فضلًا عن مُرتَّبهم من الداخلية، بالإضافة إلى ما أستطيع من طعام. وظلَّت هذه الحراسة حوالي تسع سنواتٍ كُنتُ أنام فيها أنا والأُسرة مطمئنِّين. وعندما كَتبتُ مقالًا عن «التوريث في القرآن الكريم» رُفعت الحراسة في اليوم التالي. وكان التوريث قد أصبح شائعًا لخلافة الرئيس الذي قامت ثورة يناير ٢٠١١م ضده. وكان الابن قد سيطر على أجهزة الأمن، وهو الذي أعطى أمرًا برفع الحراسة. والآن أستعمل كاميرات المراقبة الخفَّية بدلًا عنهم.
وفي خِضَم الحزن من أجل كامب دافيد ومعاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي اندَلعَت الثورة الإسلامية في إيران، وعاد الإمام الخميني من منفاه في باريس زعيمًا لها. وكان هذا حُلمَ حياتي أن تقوم ثورةٌ باسم الإسلام أو أن ينتشر الإسلام كثورةٍ للمُضطهَدِين. وهرب الشاه من جديد، ولم يجد مكانًا يُقِلُّه إلا مصر، ثم يُدفن فيه، ورئيس مصر أمريكي الاتجاه، استقبل الشاه أمريكي الاتجاه مثله. وكنتُ بالكويت مرةً على بُعد خطواتٍ من إيران، وكان فهمي هويدي هناك أيضًا، فطلبتُ منه أن أذهب إلى طهران، فتكلَّم مع المهري زعيم الشيعة في الكويت الذي راسل طهران، فرحَّبوا، وأرسلوا بطاقة سفر، الكويت-طهران، فذهبتُ وأنا طائرٌ من الفرح. وذهبتُ مباشرةً إلى حارةٍ داخل حارةٍ حيث يقطن الخميني، وكان يصعد فوق السطح ليُحيِّي القادمين جماهير أو بالموسيقى، ويخطب فيهم. ودخلتُ إليه وكان معه الشيخ إشراقي زوج ابنته والإمام تسخيري الذي يَوَد التقارب بين السنة والشيعة، فأنشأ لذلك مجلة «التقريب». كان الخميني يستمع وأنا أتكلم، فخَجِلتُ من نفسي. ألا أستمع إلى هذا الإمام الكبير والقائد العظيم؟ فقال لي مَن حوله: هو هكذا لا تنتظر منه أن يقول كثيرًا. طلبتُ منه أن أنشُر «الحكومة الإسلامية» في مصر فهل لديه شروط. قال: لا، انشُره في كل مكان. وطلَب مِمَّن حوله أن يكون اللقاء مع العلماء في المنزل المُقابل. وكان ورائي قائدٌ من القيادة الليبية يتكلَّم كثيرًا، والإمام الخميني يسأله سؤالًا واحدًا: أين الصدر؟ وهو الزعيم اللبناني الشيعي موسى الصدر الذي أخفاه القذافي سجنًا أم تعذيبًا أم قتلًا، والخميني لا ينظر إلا إلى الأرض. وذهبتُ إلى قم وقابلتُ علماءها، الشيرازي، ورَأيتُهم وهم يُصدِرون الموسوعات. ورأيتُ شابًّا عراقيًّا مهاجرًا من حكم صدام يُصدِر مجلةً إسلامية أعطيتُه فيها حديث: قم تسأل والقاهرة تجيب، مما أحزن العلماء؛ فكيف قم تسأل وهي كعبة العلم والقاهرة تجيب؟ وهل القاهرة أعلى من قم؟
وفي ذكرى فيلسوف الإشراق صدر الدين الشيرازي الذي توفي ١٠٥٠ﻫ الذي يعتز به الإيرانيون لأنه أتى بعد ابن رشد بأربعةِ قرون، ويعتبرون الإمام الخميني تلميذًا له، دعاني الرئيس خاتمي لزيارة طهران والاشتراك في هذه الذكرى. ولمَّا كُنتُ عقلانيًّا رشديًّا فجادلتُ العلماء في الإشراق وفي مسار الشيرازي: من الحق إلى الحق فناءً، ومن الحق إلى الخلق نزولًا، وليس من الخلق إلى الحق صعودًا ومن الخلق إلى الخلق تقدُّمًا، فنَقدتُ من الحق إلى الحق لأن أحدًا لا يعرفه، كما نَقَدتُ من الخلق إلى الحق صعودًا طبقًا لمحاولتي إعادة بناء التصوُّف في «مِن الفَناء إلى البَقاء»، ونقَدتُ من الحق إلى الخلق نزولًا؛ فهذا هو التنزيل، وقد انتهى زمنه بخاتم الرسالات، وأبقيتُ على مِن الخَلق إلى الخَلق، عالم الحياة، والخلاف بين الناس، فأعطاني الرئيس خاتمي جائزة الشيرازي خمسة آلاف دولار، وخصَموا منها ألفَين نتيجة استضافتي أنا وزوجتي. وسَأَل عني عندما أتى إلى القاهرة بدعوةٍ من هيكل ولكني لم أكن موجودًا بها. وظَللتُ أُعتبَر صديقًا للثورة الإسلامية في إيران بالرغم من معرفتي ببني صدر في باريس، ومجاهدِي خَلْق «اليمين واليسار في الثورة». وبَلغَتِ الصداقة القِمَّة في حرب حزب الله ضد إسرائيل، وإطلاق الصواريخ عليها عام ١٩٩٧م، ثم قاطعتُها لمَّا انحَرفَت، وتحَوَّلَت من ثورة إلى دولة بفعل الظروف، غزو صدام لها، ثم خاصَمتُها تأييدًا لشعب العراق وسوريا واليمن حتى الآن. وأَرفُض الذهاب إلى احتفال السفارة الإيرانية عندما أتلقَّى دعوةً للاحتفال بعيد الثورة في فبراير من كل عام. ودعاني رئيس الجامعة مرةً وسألني: ما هذه الثورة التي تدعو إليها؟ فقلت له: مثل جمال الدين الأفغاني. فأجاب: شيوعي! ولم أشأ أن أستمر في هذا الاستجواب على هذا المستوى.
وفي ٦ اكتوبر ١٩٨١م ووسط العرض العسكري بطريق النصر، وأمام المنصَّة، هَبطَت جماعةٌ من عربةٍ مدججة بالسلاح، وأَطلقَت النار على الرئيس فأردَوه قتيلَا، وجَرى مَن بالمنصة ومن هم خلفَه. وحُمل جثةً هامدة بالهليوكوبتر إلى المستشفى العسكري بالمعادي. وكانت جماعة الجهاد، وخالد الإسلامبولي قائد الفريق الذي صوَّب بمهارة نحو رقبة الرئيس؛ فقد كان بطلًا من أبطال الرماية، وتم إعدامه بعد محاكمةٍ عسكرية. ويَومَ الجنازة لم يحضر إلا بعض الرؤساء الأجانب، وكان الموكب عربةَ حنطور، ليس جنازةً عسكرية، وليس بها أحدٌ من أفراد الشعب. ومن يُقارِن جنازة الرئيس عبد الناصر وتابوته على أكتاف الشعب بالملايين وهذه الجنازة يُدرِك معرفة الشعب بالفرق بين الاثنَين.
وكان المفصولون أساتذةً وصحفيِّين قد رفعوا أَمرَ فَصلهِم بقرارٍ جمهوري من الرئيس المغدور بغير وجهِ حق إلى القضاء لِيدرُس الأمر. وأصدر الرئيس التالي في يناير ١٩٨٢م قرارًا بإرجاع «من ثبت ولاؤهم» إلى وظائفهم في الجامعة، ورفض هؤلاء العودة إلا مع الجميع وبحكمٍ من القضاء. وبالفعل صدر الحكم بأن الرئيس المغدور قد أخطأ في قرار الفصل، وتجاوَز حدود سلطاته لأن الجامعة بها نظامها الرقابي ولجانها القضائية، والصحافة حرة. وعدنا جميعًا في أبريل ١٩٨٢م، وأُرجِعَت إلينا مُخصَّصاتنا، وخرج المُعتقَلون من السجون إلى القصر الجمهوري لِيُحاوروا الرئيس في الحريات العامة، وكان فرحًا واستبشارًا بقدوم عصر الحريات. وفي هذا العام الذي فُصِلتُ فيه من الجامعة تَفرَّغتُ لكتابة «مقدمة في علم الاستغراب» ونُشر في عام ١٩٨٢م بين ناشرٍ وآخر، وكان يمثل الجبهة الثانية من مشروع التراث والتجديد وهو الموقف من التراث الغربي.
وبعد نشر «التراث والتجديد» و«اليسار الإسلامي» جاءني إعلانٌ من المحكمة بطلب من وزير الأوقاف محمد متولي الشعراوي، بأنني مُطالَب في قضية كُفر، ولم أكن قد دخلتُ المحاكم من قبلُ إلا مرةً واحدة إلى مجلس الدولة في مقاضاة رئيس الجمهورية الذي فصلني وزملائي من الجامعة والصحفيِّين ومحمد حسنين هيكل والبابا شنودة في مذبحة سبتمبر ١٩٨١م. وطلَب مني الشنيطي رئيس الهيئة العامة للكتاب الذي نَشَر «التراث والتجديد» أن آخذ فتحي رضوان محاميًا معي. أمَّا «اليسار الإسلامي»، مجلةٌ غيرُ دورية، فلم يصدر منها إلا عددٌ واحد، وقد نَشرتُه على نفقتي الخاصة، فرفَضتُ بأني قادرٌ على الدفاع عن نفسي. وذهبتُ باب الخلق، ودَخلتُ على قاضٍ شابٍّ ومدعي الاتهام محامي الحكومة. وشرحتُ «التراث والتجديد»، وأن هذا الكُتيِّب هو المُقدِّمة لهذا المشروع، وأنه محاولةٌ لإعادة قراءة التراث القديم في ضوء ظروف العصر. أمَّا مجلة «اليسار الإسلامي» فهي نفس الأفكار، ولكن على المستوى الشعبي السياسي المباشر، وهو ما حاول المصلحون جميعًا فعله؛ كيف أتقَّدم مُحافظًا على شخصيتي الإسلامية وفي نفس الوقت أُواجِه قضايا الاستقلال والتحرر والحرية والوحدة والهوية والتنمية، فسأل القاضي محامي الحكومة: لماذا تُريد أن تُصادِر هذَين الكتابَين؟ فأجاب: لأن الحكومة طلبت مني ذلك، ولم يقل كلمةً واحدة في الموضوع، فأصدَر القاضي حكمًا قانونيًّا ببراءتي، والإفراج عن كتاب «التراث والتجديد» ومجلة «اليسار الإسلامي». والحكم تاريخيٌّ فيه الإشادة بالمُفكِّرِين المصريِّين الشبان، وجُهدِهم الثقافي. وخَرجتُ من المحكمة وأنا في نفسي أُحيِّي القضاة الشبان المصريِّين ولعدم وجود دليلٍ لدى الحكومة ضِدِّي للمُصادَرة. وأعادَت الشرطة ما أخذوه من مطبعة الشنيطي التي كانت في خلفيةِ منزله. وسينشر الحكم مع وثائق أخرى في الجزء الثاني من هذه الذكريات «مقالات ممنوعة».
واقتَرحَت جريدة اليوم السابع أن تُجري حوارًا بيني وبين محمد عابد الجابري في رسائلَ مُتبادَلة تُنشَر في اليوم السابع، وقبِلنا الاقتراح، ونُشر الحوار بعد ذلك في «حوار المشرق والمغرب»، وله الطبعة المغربية الأُولى، ثم توالَتِ الطبعات له نظرًا لشهرته وصعوبة الحصول على نسخةٍ منه. وقد تُرجم إلى عديدٍ من اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية، وذاعت شُهرته لدرجة إجراء عدة رسائلَ علميةٍ عليه؛ فالفكر العربي ليس مُجزِّئًا، ولا ينعزل عن بعضه البعض؛ فهذه من الحوارات النادرة التي تربط الفكر العربي مَشرقًا ومغربًا؛ فقد تمَغرَب المشرق وتمَشرَق المغرب. لقد تعلَّم الجابري في دمشق. ودرَّستُ أنا بالمغرب، وكلاهما جناحَا الوطن العربي، ولبنان الرأس الذي حمل لواء الثقافة والصحافة العربية على مدى قرنَين من الزمان. ثم تَكرَّر الحِوار بيني وبين منصف المرزوقي صاحب «إصلاح العقل» من تونس، ولكن لم تبلُغ شُهرتُه شُهرة «حوار المشرق والمغرب». كان مُفتَعلًا، تقليدًا للحوار الأول، ليس له موضوع. ومع ذلك قامت حولهما رسالةُ دكتوره في الصين من د. فوزية عميدة كلية الآداب في جامعة بيكين، وكانت تلميذتي بالقاهرة بعد أن تُرجم الحوار الأول إلى الفرنسية والألمانية، وأُثيرت حوله عِدَّة دراسات. ومرةً ثالثة أُجرِي بيني وبين صادق جلال العظم من دمشق حول «ما العولمة؟» وظلَّتِ الحوارات التالية للحوار الأول تقليدًا له. ويبدو أن الفكر العربي لم يتَعوَّد على استمرار مثل هذه الحوارات.
ودُعيتُ مرةً إلى الجمهورية العربية اليمنية لإلقاء محاضراتٍ على طلاب جامعة صنعاء واستدعاني الشيخ الزنداني لقضاء أمسيةٍ مع جماعته، وكان رئيس جماعة الإخوان المُسلمِين اليمنيِّين، فذَهَبت، فوجدتُ جماعةً من ثلاثين فردًا تقريبًا في وسطهم الشيخ الزنداني وبيده «المَداعَة»؛ أي شيشة ذات خرطومٍ طويل ملفوف تدور حول أفواه الجميع، فرحَّبوا بي، وطلَبوا مني أن أُعرِّف بنفسي، فبدأتُ أتحدَّث عن مشروع «التراث والتجديد»، وكيف أنه يحاول إعادة بناء التراث القديم طِبقًا لظروف العصر، وهم يسمعون، فتبدو على وجوههم الموافقة وهز الرأس والترحاب بي، وظلُّوا يسألون وأنا أُجيب على مدى ثلاث ساعاتٍ أتجنَّب الدخول في الغيبيَّات والعقائديَّات وأضعها بين قوسَين، ولا أُجيب إلا على المسائل الاجتماعية من عدلٍ وظلم، وحريةٍ واستبداد، وفقرٍ وغِنى، وكانوا يمضغون القات، ولا يناقشون ووَدَّعوني. وفي الغد، وَجَدتُ عربةً مُصفَّحة أمام الفندق الذي أَسكُن فيه كي تأخذني إلى الجامعة، فسألتُ: لماذا؟ فقالوا: رئيس الجامعة أمر بذلك. واتضح فيما بعدُ أن الزنداني وأصحابه أعدُّوا بيانًا بتكفيري يبدأ باسم الله والصلاة والسلام على رسوله لأنهم بعد أن استمعوا إليَّ وقَرءوا، تأكَّدوا أنني كافرٌ مُلحِد، أستحق العقوبة، فخاف عليَّ رئيس الجامعة، وأمر بحراستي ذهابًا وإيابًا من الجامعة إلى الفندق، وأن أغادر في الغد ضمانًا لحياتي. وكان معي جابر عصفور، ونصَحَني بسماع كلام رئيس الجامعة، فغَادَرتُ في الغَد مُسلَّحًا حتى المطار.
وفي يومٍ استُدعِيتُ إلى قسم مصر الجديدة وأنا ساكنٌ بشارع الحجاز، فذَهبتُ، فقابلني ضابط، وظَلَّ يسألني أسئلةً لا معنى لها ولا هدف؛ فمن ضيقي كُنت أُحرِّك إصبعي السبَّابة في يدي اليمنى المسنودة على يد الكرسي. ويبدو أنه كان دارسًا لعلم النفس، فقال: تحريك إِصبعكَ يدُلُّ على أن فيه شيئًا تُخفِيه، فأجبته: أنا لا أُخفي شيئًا، وأنا أعترف أني من المَعارَضة، وهذا شيءٌ مشروع.
ودَعَتني وزيرة الثقافة في البحرين لإلقاء محاضرةٍ عن تجديد الفكر الديني، وقيل لي إنها من الأسرة الحاكمة، وكُنتُ أنا مع الثورة في البحرين، وفهِمتُ بعد الزيارة أن الثورة يقوم بها الإخوة الشيعة الذين يمثلون الأغلبية في البحرين. لقد كُنتُ مع الثورة في أي مكان وفي أي طائفةٍ مثل تروتسكي وجيفارا، ثم فهِمتُ أن الغرض من الثورة في البحرين ليس الثورة بل القضاء على عُروبة البحرين؛ وبالتالي تكون البحرين امتدادًا لإيران، فقلت إن عرب الأهواز لا يمثلون خطرًا على فارسية الجانب الشرقي للخليج، فشَرحُوا لي أن عرب الأهواز يمثلون أقليةً في إيران، أمَّا الشيعة في البحرين فهم الأغلبية؛ فهل من المعقول أن يكون الشيعة هم الثوار وأهل السنة العرب هم المطيعون للحاكم؟ ألا يُوجد سُنةٌ ثوار؟ وهو نفس الوضع في كل أنحاء الخليج حتى اليمن. أمَّا عُمان، الإباضية، فقد كانوا ثُوَّارًا في البداية مثل علي بن أبي طالب دون أن يكونوا شيعة. وعرفتُ جماعةً في البحرين يُسمَّون «الشراة»، يبدو أنهم ثُوارٌ على الثورة، وهم الذين شَرَوا أنفسهم للشهادة في سبيل الحق. وفي المرة الثانية توقفتُ في البحرين، ومددتُ إقامتي يومًا زائدًا، فأنكروا أنفسهم، فكنتُ أخشى أن تكون صفة الغدر أيضًا قد لحِقَت بهم كما لحِق بدار الأمير، دار نشرٍ شيعية ببيروت، وهي التي قدَّمَتني إلى العالم حسين فضل الله، مؤسس حزب الله، بعد أن غادره، وتبادَلنا المؤلَّفات. المخلصون منهم مَن هم في معهد الدراسات الفلسفية، للشيخ حراجي؛ حيث تعاوَنتُ معهم في وضع برنامج المعهد، وما زال غير مُعترفٍ به في نظام التعليم اللبناني، طبعوا كتابي «قضايا معاصرة» (الجزء الثاني) في «في الفكر الغربي المعاصر» للقراءة داخل المعهد، وليس للاتجار به مثل باقي الناشرِين اللبنانيِّين. أقمتُ لهم عدة مُحاضَرات، واستمعتُ إلى الشيخ حسن قائد الحزب بمناسبة تحرير أحد أسرى الحزب من السجون الإسرائيلية، وكان جمهورًا واسعًا، لم أَرَ تنظيمَ حزبٍ سياسيٍّ مثله. ورأيتُ ما قامت به إسرائيل من دمارٍ في جنوب بيروت، في المخيمات الفلسطينية. وتَصوَّرت نفسي هناك ينازعني الولاء بين الحزب والدولة، بين الإسلام والوطن. ورأيتُ السجون المنفردة التي أقامَتها إسرائيل في الجنوب، مترًا في متر؛ فيخرج المُقاتِل من السجون وقد انحنَى ظهره إلى الأبَد من هذه الأقفاصِ الفولاذية.