رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (١٩٨٧–١٩٩٥م)
عُدتُ إلى الجامعة وأنا في شوقٍ إليها، إلى الطلبة والقسم، خاصة وأنها السنوات الأخيرة قبل أن أُحال إلى المعاش. تَسلَّمتُ رئاسة القسم عام ١٩٨٨–١٩٩٤م على فترتَين متتاليتَين، كل فترة ثلاث سنوات. وكان همي هو ربط القسم فلسفيًّا، وتعاوُنَ الأساتذة مع بعضهم البعض لأداء الفلسفة كرسالة، وليس فقط كمهنة. كانت مهمةً صعبة، كيفية التعامل مع الزملاء ومع تضارُب المصالح وتدخُّل الأهواء البشرية مثل الغَيرة والحِقد. وكنا نضع في لجان الامتحانات أسماء زكي نجيب محمود صوريًّا ويأخذ القسمُ مكافأته للصرف على المناسبات التي تمر بالقسم، فذهب أحد الأساتذة ومضى بالاستلام من الصرَّاف بعد أن أعطاه «بقشيشًا» كبيرًا ليزيحني مع أنه ضد القانون، وذهب إلى الأستاذ الكبير وأعطاه مكافأته، وأبلغه أن رئيس القسم هو الذي يأخذ هذه المكافأة وليس القسم، فذهبتُ إليه، وشَرحتُ إليه هذا الأَمرَ وقال لي: «كان من المستحسن إبلاغه، وعمل ذلك بطريقة أفضل.» فاعتذرتُ إليه. وحاول بعض الأساتذة مقاطعةَ جلساتِ مجلس القسم حتى لا يكتمل النصاب فيبطل الاجتماع، لكن كان النصاب باستمرار مكتملًا؛ فبعد عامٍ عادوا لحضور مجلس القسم مثل العصا في العجلة الدائرة. تحمَّلتُ كل شيء بحكمة وعدل، فأدخلت في القسم عدة موادَّ جديدة أو حاربتُ من أجل إدخالها، فلسفة التاريخ للسنة الرابعة، وكُنتُ أُدرِّس المادة فأثير سؤالَ: في أي مرحلة من التاريخ أنا أعيش؟ بعد عرض فلسفات التاريخ في الغرب. وسؤالَ: لماذا لم يظهر موضوع التاريخ في تُراثنا باستثناء ابن خلدون؟ كما أدخلتُ الفكر العربي المعاصر حتى يتخرَّج الطالب وهو على علمٍ بما يدور حوله وبماذا يُفكِّر الناس. وحاربتُ من أجل إدخال فلسفة اللغة التي أصبَحَت أحد المداخل للفكر الغربي المعاصر. وأدخلتُ فلسفة الدين في السنة الأُولى بحيث يعرف الطلاب أن الدين عِلمٌ يمكن دراسته في علم تاريخ الأديان. وجاهدتُ من أجل إدخال اليهودية مع المسيحية في فلسفة العصور الوسطى. ويُحاول البعض الآن إدخال «فلسفة البيئة»، و«فلسفة المرأة»، و«فلسفة حقوق الإنسان» ولو في الدراسات العليا. واستدعيتُ أساتذةً زائرِين مثل حسام الدين الألوسي من العراق في الفلسفة العامة، أنور عبد الملك من مصر في الفلسفة السياسية، ورشدي راشد من مصر ومن المركز الوطني للبحث العلمي بباريس في فلسفة الرياضيات، وسيد حسين نصر من العراق في الفلسفة الإسلامية حتى يسمع الطلاب أصواتًا جديدة في الفلسفة.
ولمَّا أصبح رئيس الغيورِين رئيسًا للقسم لم أستطع الجلوس فيه حتى تقل هذه الغَيرة وينضج من كل كلمةٍ يقولها أو فعلٍ يفعله؛ فكنتُ أجلس في قسم اللغة العربية المجاور، ولي فيه أصدقاء، يقابلني الزملاء والطلبة هناك، ولا أَحضُر مجالس الأقسام حيث الكراهية تَشِع من العينَين. وأُزيحَ من رئاسة القسم، ولم يكمل دورته، فعُدتُ إليه، وكان القسم ما زال في المبنى القديم، وكان في حالةٍ يُرثى لها؛ فالأساتذة مع الرئيس أيًّا كان بحثًا عن مصالحهم الخاصة كما يحدث في الدولة. وتحوَّل القِسم إلى عصابة، ورئيس قسمٍ آخر يفتح الباب بدفعةٍ من قدمه احتقارًا له، وثالثٌ يُسانِد في جانبٍ ومثله في جانبٍ آخر كما يفعل المنافقون، وآخر عقله في القسم، ولكن قلبه مع منصبٍ أعلى يتطلع إليه؛ فرئاسة القسم سُلَّم للعمادة، والعمادة سُلَّم لرئاسة الجامعة، ورئاسة الجامعة سُلَّم للوزارة، والوزارة خطوة نحو رئاسة الحكومة، بل أصبح رئيس القسم موضوعًا للتندُّر والسُّخرية في المسرحيات الذكية مثل «أستاذ ورئيس قسم».
وكان همِّي إنما هو تكوين مدرسةٍ فكرية في القسم كما فعل طه حسين وأمين الخولي بقسم اللغة العربية، ومصطفى عبد الرازق بقسم الفلسفة، ومحمد أنيس بقسم التاريخ، ومحمد صقر خفاجة بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ورشاد رشدي بقسم اللغة الإنجليزية.
وفي نفس الوقت كنتُ رئيسًا للجان العلمية لترقيات الأساتذة والأساتذة المُساعدِين في الفلسفة، حاربتُ فيها «التربيطات» من أجل ترقية أحد الزملاء بتشكيل لجنةٍ ثلاثية للفحص مواليةٍ أو أخذ اللوم لأن أستاذًا لم يُرَق، بل والخِصام والعَداء، وقد كنتُ عضوًا ثلاث سنواتٍ عندما كانت لجنة فلسفة وعلم نفس واجتماع ثم أمينًا لها ثلاث سنواتٍ أخرى، ثم ست سنواتٍ رئيس لجنة الفلسفة معي في الدورة الأخيرة أمين الفلسفة فيصل بدير عون صامدَين ضد أي تَدخُّلٍ خارجي لصالح أحد المُتقدِّمِين، ثم جاءت اللجنة الثالثة تسير في نفس الطريق حتى وَهنَت. وكانت لجنة التظلُّمات هي الباب الخلفي والتي يُرقَّى فيها من لا يُرقَّى في اللجنة العلمية.
أمَّا الأبناء فسأذكُر ابني البكر الذي أصبح نجمًا من نجوم الفلسفة العربية والإسلامية. وقد سرَّني أن كتب عني مقالًا يقارن فيه بين «من العقيدة إلى الثورة» و«اليسار الإسلامي»، والمقارنة بين الاثنَين خاطئة. «من العقيدة إلى الثورة» المستوى العلمي لمشروع «التراث والتجديد». أمَّا «اليسار الإسلامي» فهو المشروع الشعبي. الأول للخاصة والثاني للعامة. ومع ذلك فرحت لأن أحد تلاميذي تجرَّأ ونقد الأستاذ على غير من يتكلمون في الموضوع ولا يذكرون الأستاذ أبدًا، مع أن ذلك من أصول البحث العلمي للدراسات السابقة. وقد رَجَوتُه أن يستمر في نقده لي حتى يحدث التراكم العلمي الكافي لإحداث تيَّارٍ فلسفي، فكان يكتفي بالنقاش الشفاهي بيني وبينه. وسَرَّني أن تصلني عِدة دراساتٍ ورسائلَ للماجستير عني في كل أرجاء الوطن العربي ومن المغرب العربي، الجزائر وتونس وليبيا، والأردن والعراق ولبنان، حتى كل المشرق الآسيوي، اليابان والصين وإيران، تقريبًا بمنهج العرض للتعريف بمشروع «التراث والتجديد» وبفكري أو ناقدًا إياه من وجهتَي النظر الماركسية أو السلفية، ومنهم من يأخذ جزءًا من المشروع ويُفنِّده مثل «مقدمة في علم الاستغراب» دفاعًا عن الغرب ظانًّا أن الكتاب به نقدٌ للغرب دون أن يتأكد من هذا الجانب في نظرية المعرفة، وقلب الذات إلى الموضوع، والموضوع إلى الذات، استكمالًا لحركة التحرر الوطني على المستوى الثقافي والفكري والحضاري. وقد كُنتُ أحد أفراد اللجنة الخماسية التي شكلها مجلس الكلية مع مصطفى سويف للردِّ على تقرير اللجنة بعدم الترقية التي تَدخَّلَت في ضمير الباحث وحكمها عليه بالإلحاد والكفر بأن ذلك خارج اختصاصات اللجنة العلمية ردًّا على تقرير اللجنة الثلاثية الذي وافقت عليه اللجنة العامة، ولكن الأمر قد تَسرَّب إلى الإعلام. ودخل تلميذي في مباراةٍ إعلامية ضد من ردُّوا عليه، ودخل المتخصِّص وغير المتخصِّص، من يريد الشهرة ومن يريد الإثارة الصحفية. وبالرغم من نصيحتي لتلميذي ألا يَرُد، وألا يتكلَّم في الإعلام فذلك شأنٌ جامعيٌّ خالص، ولا يُناقَش إلا في الجامعة بين مُتخصِّصين، ولكنه أَصَرَّ على مواجهة الإعلام؛ فلا فرق بين معركة الجامعة في الداخل ومعركة حرية الفكر في الخارج، فأبلغتُه أن الأمر ما زال مُبكرًا. يكفينا أن نُكوِّن كتيبة في الداخل مثلي ومثله قبل أن تخرج إلى المجتمع. نحن الآن نقوم بحرب عصابات «اضرب واجري»، ولا نستطيع أن نُكوِّن جبهةً مثلهم. علينا أن ننتظر عدة أجيال؛ فكما اكتشفتُه أنا فعليه أن يكتشف آخرِين من طلابه حتى نكوِّن جبهةً في مقابل جبهة. أمَّا الآن فالمعركة ما زالت مبكرة. وقد كانت هذه هي نصيحة إبراهيم بدران رئيس الجامعة لي. ليس للمجالس الإدارية وليس للجنة العلمية الحق في النيل منَّا حتى لا نُصفَّى واحدًا تلو الآخر، ثم حدث ما حدث بتركه البلاد، ثم استمع إلى نصيحتي أن يعود إلى الجامعة ولو ليومٍ واحد قبل المعاش أي سن الستين، حتى يُعيَّن أستاذًا مُتفرِّغًا، وهو ما حدث.
- (١)
الغَيرة التي تتحول إلى كراهية ثم إلى كراهية بدلًا من المنافسة الشريفة، نموذج الغَيرة من العلماء دون التقدير أو حتى المنافسة الشريفة والتحدِّي المهني؛ فتتحوَّل هذه الغَيرة إلى كراهية، والكراهية إلى عداوةٍ علنية، خاصةً إذا كان في اليد سلطةٌ وقدرة على الإيذاء، بتعاونٍ مع الإدارة لتحويل هذه الأهواء إلى قراراتٍ إدارية مثل المنع من التدريس أو عدم الموافقة على تقرير اللجنة العلمية للترقية في مجلس القسم حينما يكون الأستاذ الوحيد أو يخاف منه باقي الأساتذة اتقاءً لِشره، وحرصًا على مصالحه. وتتدرج الكراهية من مجلس القسم إلى مجلس الكلية إلى مجلس الجامعة؛ فهذه المجالس تأتمر بأمر الأمن لمعاقبة من يقف ضد النظام. ويعود القرار بالترقية إلى اللجنة العلمية فتعيده إلى المجالس الإدارية فإنها قالت كلمتها؛ فإن القرار بالترقية هو قرار اللجنة العلمية وليس موافقة المجالس الإدارية، فتسقط الأهواء الذاتية أمام موضوعية العلم، وينال هذا النموذج جزاءه من الدنيا قبل الآخرة بالإهمال وعدم نَيلِ أي استحقاقٍ علمي، وتفرُّقِ الطلبة عنه وإصابته بالكسور والأمراض وعدم التوفيق الأسري، وينتظر نهايته منبوذًا من الجميع إلا ممن استمر على النفاق والمداهنة بدافع الإخلاص والوفاء.
ويتكرر هذا النموذج حتى في التلاميذ ضد أساتذتهم والذي قد يصل إلى حد الإحالة إلى التحقيق لتوقيع العقاب أو مرةً إلى القضاء إذا كان العقاب الجامعي لا يكفي، «الفاضي يعمل قاضي»، يشعر أنه أخذ الماجستير أو الدكتوراه بغير حق، ويفرح أنه تمَّت ترقيته إلى أستاذٍ مساعد وأستاذ وهو لا يستحق، وينال مناصبَ إدارية لأنه يُنفِّذ ما يُطلَب منه من ممثلي النظام، ليس له مُؤلَّف يُعرف به أو يقوم بها تخصُّصه، وليس له دَورٌ في الثقافة العامة، يستمر في الإيذاء لإثبات الوجود، وهو محَطُّ احتقار الجميع. ويتحول هذا النموذج إلى خارج الجامعة، من الغَيرة والكراهية والعدوان إلى الاستعلاء والاستكبار على الآخرِين؛ فهو الأجمل والأعلم والأقدر على الصعود على أكتاف المشاهير وعن طريق صداقاته العليا أو الأيديولوجيات التقدُّمية ليعلو ويستكبر به على الجهلاء، يتوسَّط به الصغار حتى ولو كانوا من الأساتذة لقضاء مَصالحِهم، ويُرقَّى في الدرجات العلمية باختيار لجانِ فحصٍ أقلَّ علمًا وقدرة. وقد انتشر هذا النموذج خارج القسم في الأقسام المشابهة في جامعات المحافظات؛ فالنموذج يتحول من فردٍ مُؤسِّس إلى عصبة تتبادل المصالح. وهو قادر على الفهم، ولكنه كما يستعلي على الزملاء يستعلي على النص، وينظر إليه من عَلٍ، ويُعيد التعبير عنه بلغته الخاصة، كتب عدة مقالاتٍ في إحدى المجلات العربية الشهيرة عن طريق الواسطة، وتوسَّط لمن أشرف عليه في الدكتوراه كي يأخذ جائزة الدولة التقديرية بعدي بعام، كان يرى أنه مخلوقٌ من جنسٍ آخر غير بني آدم، من ذهب وليس من طين، تأخَّر في ترقيته والتي تمَّت أخيرًا عن طريق لجنةٍ اثنان يميلان ويتحيزان له، الأولى لضعفه العلمي، والثانية لصداقته لأستاذه، وما زال يخاصم ويصادق طبقًا لأهوائه ومصالحه مثل أستاذه، وأرجو أن يُرقى إلى أستاذ قبل أن يُحال إلى المعاش، وأعتذر أيضًا لذلك. قد يكون الانطباع خاطئًا، وقد يكون الأمر أفضل بكثيرٍ مما أتصور. وهل من الضروري الحكم على الأشخاص بما يجب أن يكون أم يكفي بما هو كائن؟ وبماذا يجيب كانط؟ أعتذر للجميع مرةً ثانية، وأُذكِّرُهم بأنني معهم وليس عليهم؛ فأنا بمثابة الأب، وأذكرهم بآية: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.ومن ينتمي إلى النموذج الأول كان أوَّل من أوصت دار نشرٍ بمراجعة ترجمتي لكتاب جان بول سارتر «تعالي الأنا موجود»، وكان يُحسِن استعمال المصطلحات الفلسفية، وله قاموسٌ بالاشتراك عن المصطلح الفلسفي. لم يكن قد ظهر اتجاهه السياسي بعدُ إلا أنه ماركسي، وأنا لم أشعر أنه كذلك. يبدو أنه كان كذلك عندما كانت الماركسية رائجةً من خلال الاشتراكية العربية. والآن يعيش على قضيتين: أن ابن رشد ليس مثله من قبلُ ولا من بعدُ، وهو ممثل العقلانية. والثانية الهجوم على الأصولية، والدفاع عن العلمانية الغربية. ارتبط بالدوائر الفلسفية الغربية أكثر من العربية، ويكتب أسبوعيًّا في الأهرام ويُكرِّر نفسه. لم يحصل على أي جائزة، وهو الآن مُفكِّر الجامعة للهجوم على الإسلاميِّين.
وهناك أيضًا زميل من خارج القسم هو صديقٌ تاريخي من أيام باريس ومؤتمر المبعوثِين، وظلَلنا على صداقةٍ مستمرة نحضر المؤتمرات سويًّا، وكلٌّ منا معجب الآخر، ثم أتت فترةٌ بان فيها الخلاف. هو من المُعجَبِين بالرئيس الجديد، واتهمني بأنني بعد خمسين عامًا أنني من الإخوان، وأنا لا أُعجَب بأحد، بل مهمتي نقد الحكم بناءً على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أطالب بالحريات، والإفراج عن المعتقلِين، وتحقيقِ نوعٍ من العدالة الاجتماعية بعد أن ارتفَعَت الأسعار، فاغتنى الأغنياء وافتقر الفقراء. اتهمني في صحيفةٍ لا يقرؤها أحد، ورَدَدتُ عليه مواجهةً بأنه يعمل لحساب الدولة «عميل الدولة». كاتبٌ مُراوِغ لا يُوجد فيما يكتب أي نقد للوضع الحالي، وكل ما يكتبه مُستمَد من الإنترنت لعرض آخر النظريات في العلوم السياسية والاجتماعية، ونبَّهته على ذلك أكثر من مرة، فإذا لم يجده في الإنترنت طلب مني أن أكتب له هذا الموضوع في عدة أوراق. نال عِدة جوائزَ من الخليج لأن كلامه لا يضر ولا ينفع في حين أنني مُنِعتُ جائزة الملك فيصل في علم أصول الفقه، وأُلغِيَت في العام الذي تقدَّم فيه الناشر بكتابي في الموضوع «من النص إلى الواقع»؛ فمقالي الحسن هو ما لا يتعرض للنظام ويقول كلامًا في الهواء لا يصيب، ومقالي السيئ هو الموجَّه ضد النظام، رئيسًا أو مؤسَّسات لأنه يصيب. وعندما نكون على منصةٍ واحدة يتكلم كلامًا ليس مُوجَّهًا ضد أحد، فأحسست أنه أيضًا غيور مثل باقي الزملاء الذين أعيش بينهم منذ خمسين عامًا، وما زلنا متخاصمَين؛ فأنا لا أحب التابع للنظام، وهو لا يحب الناقد له، طريقان مختلفان. وكثيرون غيرهم كوَّنوا جماعةً مضادة لي في مؤتمرات وندوات، ولكني لا أَرُد. لم يَزُر إسرائيل مثل غيره من الاجتماعيِّين ولكن لا مانع لديه من استقبال صحفيِّين إسرائيليِّين في مكتبه بالرغم من الثورة عليه.
ومنهم من كان صديقي الأول في مصر أستاذًا ورئيس قسم الفلسفة بعد تعييني في القاهرة، استقبلني استقبالًا حارًّا، وانتدبني للتدريس بالقسم بعد سفر رئيس القسم السابق إلى إيران ثم إلى باريس، وقراره بعدم العودة نهائيًّا إلى مصر لأن القسم طلب منه أن يكتب طلبًا للعودة بعد جوازه السنوات المُقرَّرة بالإعارات فرفض لأن كرامته لا تسمح بذلك. وكنتُ أُهديه أول نسخة من أي كتابٍ يصدر لي، ثم غادر في إعارة، وتجاوَزَ المدة المقررة بخمسة أضعافها، وعاد وهو يريد أن يصبح صحفيًّا مثل هيكل، فكتَب مرةً أو مرتَين في الأهرام فلم يلتفِت إليه أحد؛ فشتَّان بين الكاتبَين. ونظرًا لطول إقامته في الإعارة بمفرده استعمل حريته إلى أقصى حدٍّ حتى بعد العودة، وعلِمَت أُسرته بذلك فأتتني باعتباره صديقي الأول في مصر، وأَسَرَّت لي بما يدور في خَلدِها وهي تبكي، فلم أستطع إلا أن أتعاطف معها، ثم جاء الصديق لِيُقنعني بموقفه، ويأخذني إلى صفه كما فعل كُل زملائه بالقسم رغبةً في الإعارة أو مَدِّها. ولمَّا كنتُ أبغي الحق فلم أُغيِّر موقفي، فما رأيت منه إلا أن كتب مقالًا طويلًا ضدي، وضد «اليسار الإسلامي»، واتهمني بأنني زعيم الحركة السلفية وممثل الإمام الخميني في مصر ومن أنصار الثورة الإسلامية في إيران في وقتٍ كان النظام السياسي في مصر يُعادي الثورة خوفًا من الإخوان. وكان الرئيس يُغالِط في كلماته، ويتهم الخميني بأنه يقول «الله أكبر، الخميني أكبر.» أي إنه أكبر من الله مع أن الكلمة الفارسية «هربر» تعني قائدًا أو زعيمًا. وظل الرئيس يعتمد على هذه المُغالَطة لِتملُّق الحس الديني للجماهير، فتعادي الثورة الإيرانية. فحزِنتُ أن ذلك يأتي من أعز صديقٍ لي في مصر، فقاطعتُه. وعَلِم صديقٌ مُشترَك بيننا علماني الاتجاه مثله، ودعانا إلى العَشاء عنده لعلنا نصطلح، وأَدخلَنا الشرفة وأَغلقَها علينا. وانتظر هو أن أُفاتحه في الأمر مع أني هو المعتدَى عليه، وانتظرتُ أنا ليبدأ بالاعتذار، ويُوضِّح موقفه، ولكنه لم يفعل استكبارًا؛ فمن مثله يعتذر؟ ومن مثلي حتى يتم الاعتذار له؟ وبعد مدةٍ لا نعرف ماذا نقول وفي أي موضوعٍ نتحدث غادرنا الشرفة، والصديق المشترك يتعجَّب من عدم إتمام المصالحة. ورأيته مرةً واحدة في عزاء زميلٍ مشترك آخر بالمجلس الأعلى للثقافة، يسنده اثنان لأنه لا يستطيع السير، ومن يومها لم أَرَه حتى وفاته. تَحدثتُ إليه مرةً واحدة تليفونيًّا عندما علمتُ أنه قد هُدِّد من الجماعات الإسلامية بالقتل، وأطمأنَنتُ عليه، وأعلنتُ مُسانَدتي له، ووقوفي بجانبه.
- (٢)
الصداقة التي تنقلب إلى غَيرة وعداوة في فترتَين من العمر، من النقيض إلى النقيض. وهو النموذج الثاني الذي تبدو عليه علامات النبوغ الفكري كمُفكِّر وليس كباحث، والبحث العلمي أداةٌ للتفكير الحر. وجد صعوباتٍ في حصوله على الماجستير لأن الفلسفة الإسلامية كانت تتم بشكلٍ تقليدي تاريخي. وكرَّر نفس الشيء في الدكتوراه معي، فكرٌ جيد ولكن بحثٌ علمي ضعيف غيرُ مُوثَّق، فنصحتُه أنه يمكن أن يحصل على الدكتوراه معي، ولكن المهم ما بعد الدكتوراه أن يعيد النظر في منهجه لأنه لا يحفِر بيديه ويستخرج النفط من البئر بنفسه دون أن يعتمد على أفكار الآخرِين، ويُعيد إنتاجها بأسلوبٍ جديد؛ فجيِّدٌ أن يكون الإنسان مُفكرًا بعد البحث والتمحيص والحفر باليدَين، وليس قبله، ولم يستمع. كان يريد الشهرة بسرعة، فالتصق بتلميذي الآخر نصر حامد أبو زيد لأنه لم يعترض على الشهرة السريعة أو مخاطبة الإعلام. وبدأ الخروج إلى الإعلام، وكتابة أفكاره في الصحف، فكان يأخذ قطعةً من «الندَّاغة» من فمي فيُكوِّن منها بالونةً كبيرة حتى تَكبَر ويراها الناس ثم تَنفجِر بسرعة لأنها لا تَستمِد هواءها من ذاتها. كان هدفه الشرب من بئري لينال شهرة نصر حامد أبو زيد؛ فهو خليفته، مع أنه على النقيض؛ فنصر حفَر بيدَيه بعد أن أخذ الشرارة مني. ونبَّهتُه إلى أن ذلك ليس بحثًا علميًّا، ونبَّهتُه إلى أن البحث العلمي ليس أخذ قطعةٍ من السكر أو الملح من ماء غيره ويذيبها، فلم يستمع، وتقدَّم ببحوث من هذا النوع، العلم مني والشهرة من نصر حامد أبو زيد، وأسمع من الزملاء أنه كان كثير النقد والتجريح لي. ومرةً أراني زميلٌ ما كتبه على الفيسبوك بأنني كاهن الفلسفة في مصر، ورجل النساء والشهرة والمال والأسفار، وأنني لا أعرف الموضوعية ولا الملوخية، وأنني سبب تعطيله في الترقية إلى أستاذ مساعد. وعندما كلفته بجمع أوراق «التراث والتجديد» تقدَّم بها للترقية إلى أستاذٍ مساعد عن «الثيولوجيا والأنثربولوجيا»، وأخذ من نصر حامد أبو زيد «النص والخطاب». مع أنه طلب الأوراق التي وَصلَت إلى الجمعية فأعطيناها له؛ فالعلم ليس فيه احتكار. وقد وجد صعوبةً في الترقية، وتقدَّم أربع مرات، ورُفِضَت الترقية لِعَيبٍ في المنهج، فتقدم إلى لجنة التظلُّمات التي كوَّنَت لجنةً ثانية «مطبوخة» فرقَّته. وأنا لا أعطي لذلك أي اهتمام حتى إنه قال إني أغار منه! وعَرفَ العميد ذلك وسألني هل يُقدِّمه إلى التحقيق، فرفَضتُ؛ فكيف يشكو الأب أبناءه؟ كما أن الزمن سيُعلِّمه. وقد تقرَّب من أحد الأساتذة الغيورِين مني والذي أعطى زوجته رسالة ماجستير عن «إخوان الصفا» في إحدى الجامعات الإقليمية. اخترتُه عضوًا في لجنة مناقشة طلب لرسالة دكتوراه، وما إن عَلِم العضو الثالث حتى أراد الاعتذار، وخِفتُ أن يأتي الإعلام فيُصِّور المناقشة، ويُشَهِّر في اليوم الثاني بنا، فطلبتُ تغييره إلى أستاذٍ آخر بناءً على طلبه. وجاء مُدرِّس كاره، وكان تلميذًا لي من قبلُ، ويظن أنني وقفتُ ضده في ترقيته إلى أستاذٍ مساعد منذ عِدةِ سنوات، يطعن فيَّ أمام القسم دون أن يتحدَّث هو بأنه هو الذي طلب الانسحاب. وقد صاحَبَ نصر حامد أبو زيد في رحلته الأخيرة من إندونيسيا إلى القاهرة، ثم تُوفِّي نصر بعدها بعد أن طلَبَت منه زوجته نقله إلى القاهرة، وليس إلى هولندا. قال نصر قبل أن يغادر هذا العالم: «علينا ألا نترك أستاذنا وحيدًا، وأن نقف معه، ونتعلَّم منه.» وحينها اتصل بي الأستاذ آخر مرة، وقال إنه يريد أن يحتفل بعيد ميلادي ليس بالطريقة المعهودة، فأفرغتُ ما في قلبي تجاهه، مَدَدتُ له ذراعي فقطعه. كانت كتابته أشبه بالمقالات الثقافية المُطوَّلة، يعرض أفكاري وكأنها أفكاره، ولم يُشِر إليَّ ولو لمرة واحدة في إحالاته المرجعية، وكأن هذا الماء قد خرج من بئره. لم يُهدِني أي كُتيِّب من كُتِّيباته ظانًّا أنني لم اكتشف خِداعَه ومَصادِره غير المُعلَنة. كان القسم يعتبره خير من يخلُفني، ولكني اكتشَفتُ باطنه كما عَرفتُ ظاهره؛ فقد كان يُبدي إخلاصًا لي في الظاهر، ويُبطِن عداوةً في الباطن، ثم تُوفِّي بعدها رحمه الله دون أن ينال لقب باحثٍ أو مُفكِّر، وسمِعتُ أنه قال وهو في النزع الأخير: حسن حنفي هو أستاذي في النهاية. وتَكوَّنَت حلقةٌ معادية لي من تلاميذي الذين أصبَحوا أساتذةً بأنني السبب في إجهاضه بل وموته شهيدًا للفلسفة بسبب كراهية القسم له. وتَقرَّب إليَّ أستاذٌ كان في مَعِيَّته، وكان يسعى إلى نحو الشهرة والمال، وكان يكتب في «الأهرام» و«القاهرة»، وجعلوه نائب رئيس لجنة الاحتفال بنصر حامد أبو زيد بعد أن كانت زوجته رئيسًا، ولكنه كان يريد أن يكون الرئيس ولا أحد غيره. أتى مرةً إلى مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية، وحضر يومًا واحدًا لأن هناك عربةً ستغادر إلى القاهرة، وكان سؤاله: «هل أنت رئيس كل الجلسات دائمًا؟» وقد أراد زحزحتي عن درس التأويل في الدراسات العليا، ولو كان طَلبَه بمحبةِ لَكُنتُ تركتُه له. كان إذا أتاني الطلبة الإندونيسيون عندي كما يفعلون كل عام أدعوه للمشاركة. ودعا هو رئيس جمعية نهضة العلماء إلى الأهرام مع أحد كُتابه الغيورِين وسأل: «طبعًا أنت راجع من السفر وتعبان ولا تستطيع أن تأتي إلى «الأهرام»؟» فأجبتُه: نعم. أراد أن يحل محلي ومحل نصر حامد أبو زيد، كان يُريد أن يسير على طريقٍ شَقَّه غيره، وكانت الدراسات العليا عند فلان، مثل «من محمد عبده إليه» لِوصفِ مسار الفكر الإصلاحي. هذه شهادة لِلحق وأعتذر له وهو في السماء حيث يسود الحق والعدل إن كنتُ قد ظلمتُه في شيء، ولْيَرُد عليَّ أحد من مجموعته. وقد يحدث هذا في الطبعة الثانية من الذكريات يَرُدُّون فيه على تجربتي مع الراحلِين؛ فربما أكون قد أسرفتُ أو أوَّلتُ أو ظلمتُ. والله أعلم.
- (٣) الازدواجية بين القول والفعل، بين اللسان والقلب، صداقة باللسان، وعداوة بالقلب والفعل، إظهار غير ما يبطن؛ باللسان صداقة وحب وتقدير وعرفان بالجميل، وبالقلب كراهيةٌ دفينة، وبالفعل إيذاءٌ وانتقام. يقضي حياته في إيذاء الآخرِين، يشعر بضعف الشخصية والعلم النسبي، ويَتخفَّى وراء الآخرِين، ويعمل تحت أجنحتهم، لا يستطيع أن يعمل بمفرده أو يقوم بواجباته إلا من وراءِ آخر، في تربيطات ومحاور. هو «تافه» في رأي أحد من يحتمي وراءه، لم يسمع حديث الرسول: «لا تأتوني بأنسابكم، وأتوني بأعمالكم.» ولم يسمع عن آية: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا. يترك العلم مع أنه قادر عليه لو أخلص له، لم ينل إلا أصغر التقديرات وهو التقدير الذي يناله أصغر الباحثِين تشجيعًا له. ويتشكل هذا النموذج بطريقةٍ أُخرى مُعاكِسة، ظل وقتًا حتى أصبح نجمًا من نجوم الفلسفة العربية، له نشاطه وتعبيراته واتصالاته ومؤتمراته، ولكنه أصبح «أجوف» الفلسفة. ولمَّا بدأ ينتشر في الوطن العربي، كُنتُ قد أَرَدتُ أن أشركه في عملية الانتقال من جيل زقزوق وجيلي إلى جيلٍ آخر، مع أنه لم يصبح عضوًا في الجمعية الفلسفية لأنه لم يدفع اشتراكاته على مدى ثلاثين عامًا، ولم يشارك تقريبًا في أي ندوةٍ شهرية. وكنتُ قد استبعدتُه جانبًا منذ ذلك الوقتِ عندما لاحظتُ أنه بدأ يغَلِّب مصالحه الخاصة على العامة، يعمل لصالحه الخاص وليس للصالح العام. وقد حاول هذا النموذج الاستيلاء على النشاط بعضويةٍ جديدة لعشرات المُعيدِين والمُعيدات في الجامعات الإقليمية وبعض الأساتذة في القسم، وتم التصويت لصالحهم، وكانت انتخاباتٍ باطلة لأن العضوية الجديدة في هذا النشاط الفلسفي، ولم يمُرَّ عليها ستة أشهر. وعاد النشاط إلى إدارته القديمة، ثم قُدِّمَت شكوى إلى وزارة الشئون الاجتماعية بأن الانتخابات باطلة، وأتى المفتشون ووجدوا أنها صحيحة، وعاد من جديدٍ عندما وجد أنه ليس رئيسًا ولا نائبًا ولا حتى سكرتيرًا للجمعية، اشتكى بأنها ستنهار، وهدَّد موظفات الجمعية أنه يمكن هدمها بخطابٍ صغير بثلاثة تعريفة؛ أي يشكونا كما فعل من قبلُ إلى وزارة الشئون الاجتماعية التي تُشرِف على الجمعيات العلمية الخاصة، وأخذها عَدُوًّا له. واتهمني في مجلس القسم أنني من الإخوان. ويشترط في عقد المؤتمر السنوي بالاشتراك مع القسم ألا تشترك أي منظمةٍ أخرى، ويعني المعهد السويدي بالإسكندرية التي تعقد فيه أيامها الثلاثة الأخيرة بعد عقد الأيام الثلاثة الأولى في جامعة القاهرة، ويُصرِّح بأن العميد هو الذي طلب ذلك، وكأنه يمثل العميد لدى القسم ولا يمثل القسم لدى العميد. مع أني أعتبر هذا النموذج تلميذي، وأعتمد عليه في تحريك النشاط الفلسفي في القسم، هو نموذجٌ صامت لا يتكلم، لا يُسمع له صوت. وقد حامت حوله بعض الشبهات وأُحيل إلى التحقيق، وكنت أُدافع عنه في اللجنة العلمية للترقيات، ساعدتُه ماليًّا عندما تراكمت عليه ديون المطبعة. ولم يأتِ المؤتمر السنوي لهذا العام، بل إنه سَوَّأ سُمعتي لدى بعض الزملاء وجعلني مسئولًا عن عدم اشتراكهم في المؤتمر، عرفتُ أن الطبع غلَّاب. ومع ذلك أحضر كتبه ومجلته ووضعها على منضدةٍ يبيعها بنفسه دون تكليف أحد الفراشِين ودون فصلٍ بين كتبه وكتب الجمعية، بالرغم من التنبيه عليه من موظَّفات الجمعية ألا يرتكب الأستاذ أخطاء البيع والشراء والحسابات. هذا ليس نيلًا من أحد ولكن وصفٌ لما يحدث كل عامٍ مع التقدير الكامل لجهده في إصدار الكتب والمجلة، ولم ينل أي جائزةِ تقديرٍ ولم يُستدعَ في أي إعارة.
- (٤)
اللعب على الحبلَين حتى يكسب الجميع ولا تُعادي أحدًا، إيثارًا للسلامة؛ فمنه من عُيِّن في منصبٍ ثقافي كبير ثم طُرد منه، له صديقة بالقسم، وتلميذة له، يقول ما لا يُبطن، ويُبطن ما لا يقول حتى لو كان عالمًا، وكما استُبعد هو من أمانة المجلس الأعلى للثقافة، استُبعدتُ من أمانة لجنة الفلسفة فيه، وعُيِّن بدلًا مني زميلٌ مريض لم يحضُر، فأصبح أقدم من في اللجنة أمينًا ثم تُوفِّي، ثم أصبح زميلًا عائدًا من الخارج بعد عشرين عامًا، وإقالته من جامعته تأسِّيًا ببعض أساتذة القسم.
- (٥) الابتعاد وإقصاء النفس عن الاختيار طبقًا للمثل الشعبي «اللي يجيلك منه الريح سده واستريح» وهو نموذج الابتعاد والعزلة وتجنُّب المشرف بعد الحصول على الدرجتَين العلميتَين؛ فقد تحقَّق الهدف بعد أخذ درجة الماجستير، وكان لا يعرف كيفية الكتابة، وأرسلتُه إلى الكلية العلمية ببرلين Kolleg Wissenschaftliche لمدة عام ليتعلم الألمانية، ويَدرُس اليهوديات وتجميع نصوصها خاصة الفلسفة اليهودية العربية المكتوبة بالعربية ولكن بحروفٍ عبرية، ولم يفعل شيئًا في الدراسات اليهودية، وهو المشروع الذي بدأته أنا وأحمد هويدي من قسم اللغات الشرقية. وكان يريد العودة بعد شهر لولا منعتُه كما منعه نصر حامد أبو زيد الذي كان هناك يقضي أيضًا عامًا في سيمينار علوم القرآن، فاتفقنا مع أساتذة اللغات السامية أن يشتركوا معي في ذلك، فوافقوا. وأصدر أحمد هويدي وأنا جزأَين لم أَرَهما، وبعد أن كان يقول أستاذي اختفى، ولا أدري عن المشروع شيئًا. ولمَّا رأيتُهما أُعجِبتُ بالنشر في مركز اللغات والترجمة ولكني صُعقت أنني رأيتُ علم إسرائيل على غلاف الجزء الثاني! فعاتبتُه أن هذا الشعار ضد المشروع الذي يقوم على نشر التراث العربي اليهودي، ونقله من الحروف العبرية إلى الحروف العربية. وكان يجب أن يُراجِع أغلفَة الكتب. ويسير المشروع الآن ببطء للغاية نظرًا لكثرة المعروض على المركز القومي للترجمة، وقلة الإمكانيات. وقد نُشِر هذا التراث من قبلُ في إسرائيل بحروفه العبرية كما هو تحت عنوان «التراث اليهودي»، وفي أوروبا وأمريكا إلى اللغات الأوروبية تحت عنوان «التراث اليهودي في العصور الوسطى». وهو خطأ تاريخي لأنه لا ينتمي إلى العصور الوسطى المسيحية الأوروبية، بل إلى الحضارة الإسلامية في عصر ازدهارها الأول في الأندلس. وإذا كانت الماجستير في علم الكلام اليهودي، فقد كانت الدكتوراه في زوهار Zohar، في التصوف اليهودي. ولما لم يكن قد تعلَّم شيئًا وهو في برلين بل تعرَّف على مجرَّد صديقات، لم يفهم النص الإنجليزي الذي صوَّره من عندي، ولم يعرف ما المقصود من الرسالة، وما التصوف اليهودي مقارنة بالديانات الأخرى، خاصة التصوف الإسلامي. كتب رسالة لا تُقرأ، فأعدتُ له لصياغتها حتى حصل على درجة الدكتوراه، وبعد ذلك اختفى، لم يكتب مقالًا واحدًا! ولم يشارك في بحث واحد إلا نادرًا تحت ضغط مني، ولم يكن له مشروعٌ لدراسة الفلسفة اليهودية العربية في إسبانيا. وقد قارب على المعاش، وما زال مُدرسًا، وهو فرِح بطبع كتابه عن الفلسفة اليهودية دون أن يُشير إلى أنها رسالة الماجستير، وأن طبعاتها متعدِّدة لأنها مقرَّرٌ في مادة الفلسفة اليهودية في القسم وفي التعليم المفتوح، ثم طبع رسالته الثانية عن «زوهار» وهو كتاب «الضياء»، ولم يشر إلى أنها رسالته للدكتوراه، ولا إلى المشرف على رسالتَيه، ولا حتى إلى أن الاسم مُشتَق من الفعل العربي «ظهر»، ولم يساهم في تنمية هذا الفرع في الفلسفة وهو الفلسفة العربية اليهودية. ويبدو أن الأستاذ يضع كثيرًا من الآمال في طَلبتِه، وأَعتذِر له إن كنتُ قد أَخطأتُ في حقه رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.
ونوعٌ آخر من هذا النموذج الخامس البداية بالعلم الجادِّ يقرأ ويكتب بمهنيةٍ عالية، وبمجرَّد الحصول على الدرجتَين العلميتَين لم يكتب مَقالًا أو أَثارَ قضية، وما أكثر القضايا الفلسفية قبل اليونان مثلًا! وماذا عن حديث «اطلبوا العلم ولو في الصين.» لو كان صحيحا؟ في كل مؤتمرٍ أدفعه هو وزملاءه للاشتراك، تأخَّر في الترقية، وما زال مُدرسًا، وسمِعتُ أخيرا أنه تمَّت ترقيته. رفَعتُ صوتي عليه لأنه لا يحضر ندوات الجمعية الفلسفية المصرية، الأحد الثاني من كل شهر، فزعل. كان يستعملني أحيانًا كمساعد باحث، أبحث له في مكتبتي عن مراجع في التخصُّص، وأُكلِّف أحد مُساعِديَّ بالقيام بذلك، يقرأ له الفهارس وسرعان ما يحكُم لا، لا، فعجِبتُ! ومكتبتي مفتوحةٌ للجميع، والتصوير مجَّانًا. ربما لم يَستقِرَّ أسريًّا ولا عاطفيًّا فأَثَّر ذلك على الناحية العلمية. وكان فيه العيب الرئيسي لهذا النموذج، لسانه معي وقلبه وسلوكه مع غيري طبقًا للمصلحة، ليس لديه الشجاعة الكافية لمواجهة الظلم حتى لو أتى من رئيس القسم خوفًا على مصالحه. وأستاذه كان يُواجِه الظلم بمفرده حتى لو ازداد الظلم ظلمًا؛ فالعدل في النهاية هو الذي ينتصر؛ لذلك اختَصَر المعتزلة أصولهم الخمسةَ في اثنين: التوحيد، والعدل. سمِعتُه مرةً في مجلس القسم وهو يجلس بجواري يُدافِع عن الكتاب المُقرَّر. ومرةً كنتُ أُحاوِل المصالحة بين رئيس القسم وأحد الأساتذة الذي أُحيل إلى التحقيق، وطلبتُ التصويت على إرجاعه للقسم، والقيام بالتدريس، فلم يُصوِّت مع الاقتراح إلا اثنان. وقام هو وزميله التابع له بمغادرة حجرة القسم حتى لا يصوتا بنعم أو لا خوفًا أو جبنًا. والفريق الثالث قال إن ذلك يُترك للجامعة وليس في يد القسم. وعَجِبت! وأرجو معذرتي إذا كنتُ أخطأت في شيء، إذا كنتُ لم أُقدِّر الظروف الأسرية التي يعيش فيها الزميل. كان عليَّ أن أختار إمَّا الصمت تمامًا عن تجربتي الحية وأنا أكتب ذكرياتي أو أن أكون منافقًا أُعبِّر عما لا أعتقد، وهو ضرر بالتاريخ، أو أن أكون صادقًا مهما أسأتُ في التأويل أو في التقدير، والثالث أفضل.
ومن هذه النماذج من فضَّل الابتعاد بعد تحقيقِ غرضٍ وهو نَيل الدرجتَين العلميتَين. لقد تعِب من العمل الجاد، ولا يريد الاستمرار فيه، وغير قادر على النموذج السابق وهو الازدواجية إلا عن بُعد لأنه يعتبره سلوكًا لا أخلاقيًّا فيُؤثِر الابتعاد الكلي أو النسبي تحت حُججٍ كثيرة مثل الخلافات في القسم. ومنه من يظهر بين الحين والآخر لِيُبرِّر انقطاعه عن الأستاذ ويُغرِقه بالكلام الذي لا يُفهم منه شيء، وبينه وبين نفسه هو غيرُ قادرٍ على كتابة شيء غير رسالتَيه العلميتَين. ومنه من يتخفَّى كليةً لأنه يخجل من نفسه لأنه لم يكن قادرًا على كتابة رسالته الثانية خارج الترجمة، فكتبها له الأستاذ بأسلوبٍ عربيٍّ سليم ومفهوم، وأفكارٍ متسلسلة. لم يعرف كيفية التعبير باللغة العربية، بالجملة الاسمية أو الفعلية، لها بداية ونهاية، نقَل وتَرجَم صفحاتٍ دون التعبير عن أفكار. لا يُشارِك في ندوةٍ أو في مؤتمرٍ أو يُلقي محاضرةً عامة أو يكتب مقالًا في جريدة. هو فيلسوفٌ من منازلهم، لا يشارك في حياةٍ عامَّة أو خاصة. ويتَكرَّر هذا النموذج كثيرًا بحُجَّة الخلاف مع القسم أو بُعد المكان أو الإعارات المتتالية أو عدم الاهتمام بالعمل العام. وهو أقرب إلى المرأة منه إلى الرجل، حقيقةً أم تمثيلًا، هادئ الطبع. تعلَّم الألمانية، ولكنه لم يستطع السفر إلى الخارج لأنه لا يعرف الكومبيوتر والإنترنت، وهي وسائل الاتصال الحديثة لطالب البعثات. غالَى في استعمال منهج تحليل المضمون، فاكتفى بمجرد الإحصاء دون البحث عن الدلالة. اعتمد على «قال … يقول» نقلًا عن الدارسين للموضوع. ومن يوم المناقشة حتى الآن لم يتصل بي، وقاطعني إمَّا خوفًا أو خجلًا أو حرجًا، وادَّعى أن هناك خلافاتٍ في القسم وهو بعيدٌ عنها. ولم أَرَ له حتى الآن كتابًا عن الهيجليِّين الشبان ولا حتى طبع رسالتَيه، ولا أدري ماذا يفعل في محاضراته؟ وكيف يُواجِه الطلاب؟ وقد قيل إن أحد الزملاء الشبان ضُبط وهو يُراسل زوجته على الإنترنت، وأنه مُحالٌ للتحقيق، لا يحضر مجالس الأقسام، ولا يشارك في المؤتمرات، ولم يكتب ولو مقالًا واحدًا، ولا يعتني بالشئون العامة. كان أقربَ إلى مدرس الابتدائي، حاولتُ عدة مراتٍ أن أُخرجه من هذا الطابع، ولكنه احتجَّ بخلافات القسم! وأيُّ قسم خالٍ من الاختلافات؟ ولماذا لم يأتِ ويدافع عن الحق؟ وأعتذر إن كنتُ قد أخطأتُ في الوصف والتقدير. قد يكون هو غير ذلك، ولكن ما الدليل؟
ونوعٌ آخر من هذا النموذج، طالبٌ عانى الأَمرَّين في الماجستير في الإشراف، وساعَدتُه قَدْر الإمكان في إشرافي على الدكتوراه بعد أن كانت هناك محاولاتٌ لإيقاف مناقشتها إمَّا بالحديث مع بعض أعضاء اللجنة للاعتذار أو مع السلطة الدينية «الفاتيكان» لبيان خطورة الرسالة أو مع إدارة الكلية، وكان هناك زميلٌ يُعاديه، ربما كان هناك في الذهن شخصٌ آخر في نفس التخصَّص يُراد تعيينه ولم يُكتفَ بتعيينه لمدة سنتَين، من خارج هيئة التدريس، وهي مسيحيةٌ أَقدَر على أن تقوم بتدريس الفلسفة المسيحية، ولم تنجح هذه المحاولات، واستطاع أن يناقش. وظننتُ أنه سيحفظ الجميل على الأقل حتى ألقى الله أو ربما يحافظ على ذِكراي. وظننتُ أنني أستطيع أن أعتمد عليه كذراعي اليُمنى، ظل هكذا عامَين أو ثلاثة أعوام. ولمَّا كلفته بالقيام ببحثٍ في المؤتمر السنوي للجمعية الفلسفية المصرية عن مناهج البحث في العصر الوسيط وشَرحتُ له ماذا أقصد بذلك «أومن كي تعقل» أو «أعقل كي تؤمن» وهو موضوع شهير للغاية خاصة عند أنسليم تكلَّم في معركة أوغسطين مع الدوناتيِّين الذين كانوا يَوَدُّون الاستقلال بشمال أفريقيا عن روما، فانفعلتُ عليه علنًا بأن هذا خارج الموضوع، فاعتبر التعليق إهانة! وبدأ ينسحب شيئًا فشيئًا مني حتى اختفى تمامًا. وعهدته أن يُقبِّل اليد عندما يُسلِّم عليَّ مُصادَفة، ورأيتُه يُقبِّل يد رئيس القسم ونهَرتُه. ورأيتُ له كتابًا في الفلسفة المسيحية مُقرَّرًا على طلبة التعليم المفتوح. لم يشارك في أي معركةٍ ثقافية في الفلسفة المسيحية أو أعدَّ مشروعًا فيها للدراسة والبحث.
وهناك زملاءُ سلبيون لا يهتمون إلا بمصالحهم، دروسًا أو توزيعَ كُتب أو الإشراف على رسائل أو التعليم المفتوح، عُذرُهم أنهم يسكنون خارج القاهرة. أحدهم علمه محدود لكن أخلاقه تبدو طيبة. ومنهم من يتخذ العلم سُلَّمًا للإدارة؛ فالعلم يتوقف بعد الدكتوراه، ويبدأ البحث عن الإدارة في السُّلَّم الجامعي، ولا تتوقف الإدارة إلا عند الوزارة. وهو نُموذجٌ يتكرر في جميع الأقسام، العلم وسيلة، والمنصب غاية، يستحق التقدير في العلم، والحُزن في السعي إلى الإدارة أو الحُزن على فقدانها. العلم الهدف القريب، والمنصب الهدف البعيد. وما أَسهلَ أن يقع الرجل في حب هذا النموذج إذا كان امرأة! ولا نكتفي بالمظاهر؛ فإننا لا ندخُل قلوب الناس. إنهم نموذج من الأساتذة الذين يتركون غيرهم للقيام بدورهم في الظلم أو في العدل، ويتَخلَّون عن أخذ المواقف، وكما يقال في المثل المصري «معاك معاك، عليهم عليهم» باهتون في اللون أو يتلوَّنون، وأحيانًا يكونون كالعقرب يلدغون من وراء ستار، بالرغم من مدح اللسان. ينشطون في تكوين الجبهات والمحاور من أجل إشعال النار، بالرغم من براءة الوجه وسماحة الكلام، وينضم إليهم جماعةٌ من المظلومِين بالرغم من تباين المواقف. لا يدافعون عن حقوقهم، ولا يقومون بمعاركهم، ويتركون غيرهم يقومون بها؛ فمن يتقدم ويُعلي صوته دفاعًا عن الحق غير من يتراجع ولا يُسمع دفاعًا عن الحق ضد المتخاذِلِين الذين يُحبون غيرهم القيام بدورهم بدلًا عنهم. لا يعني ذلك أن هؤلاء الزملاء لا فضائل لهم؛ فلكل إنسان فضيلته التي تتغلب على أهوائه وانفعالاته؛ فالإنسان ليس شيطانًا ولا ملاكًا، وإنما السؤال أي الجانبين يتغلب على الآخر حتى يمتلك الفضيلة. بالفضائل تُبنى الحضارات والرذائل تنهدم. ولمَّا كان الإنسان هو صانع الحضارة فإنه هو المسئول عن بنائها بفضائله وعن هدمها برذائله. ويمكن أن أَقلِب الصفحة فأَجِد الصور والنماذج الأخرى للفضائل، وما منعني من ذلك هو أنني أخشى أن أكون من المدَّاحِين، وما أكثرهم في عصرنا! بالرغم من قول الرسول: «احثُوا التراب في أفواه المدَّاحين.» وهناك قِلةٌ من الأساتذة يدافعون عن الحق، ويدينون الباطل، لا يُؤخَذ برأيهم مهما علت أصواتهم، وتَكرَّرت تهديداتهم، أصواتٌ تضيع في الهواء مهما علت؛ فلا أحد يستمع إليها، وإذا استمعوا إليها فإنها تدخل من أُذنٍ وتخرج من الأذن الأخرى. لا تعرف كيف تُكوِّن الجبهات مع الصامتِين، مع ما يُسمَّى في السياسة «حزب الكنبة» الممتنعون عن التصويت بيدَيها، متباطئة أو بالخروج بسرعة من القاعة حتى لا يأتي عليهم الدور، فيُصوِّتوا بنعم أو لا. سمعتُ مرةً أن هناك صراعًا بين رئيس مجلس القسم وأحد الأعضاء الأساتذة كان قد خسر الانتخابات أمامه عندما كانت الرئاسة والعمادة بالانتخاب، وينتظر أن تلحق به رئاسة الجامعة، حاولتُ الإصلاح بينهما قبل أن ينتهي التحقيق باعتباري أقدم الأساتذة وأطولهم عُمرًا، فأَصرَّ رئيس القسم على عدم التنازُل عن التحقيق، وضرورة توقيع العقاب عليه. ولمَّا ذكرته بآية رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، واعتذر له الزميل عدة مرات فلم يقبل الاعتذار، ولمَّا صدَرت العقوبة عليه من الجامعة باللوم رفض الاعتراف، وأصر ألا يُوزِّع عليه حقه في جدول التدريس، والكل وافقه باستثناء أستاذتان، فأحسست أنني في عصبة، ولست في مجلس قسمٍ علمي، وأن الكل يريد أن يأخذ نصيبه من الميراث. وذَكَّرني ذلك برواية «علي بابا والأربعين حرامي»؛ فشتَّان ما بين أحلامي والواقع المعاش. ولم أدخل القِسم بعدها حتى لا أُشارك في ألاعيب المُدرِّسِين مع ناظر المدرسة. وتعِبتُ من سياسة المَحاوِر في القسم؛ فلا أنا قادرٌ على مواجهة العَداء بالعَداء، ولا أنا قادرٌ على أن أعطي محور الصداقة ما يريد من تحقيق المصالح. وظلَلتُ قائمًا على ساقي حتى انتهت المدة مع سن المعاش. ولا يُوجد معاش في الجامعة، بل يعين الأستاذ بعد الستين أستاذًا متفرغًا، له نفس الحقوق للأستاذ العامل إلا المناصب الإدارية. وبعد السبعين يُعيِّن أستاذًا غير متفرغٍ كل سنتَين مرةً بطلب القسم يقوم بالإشراف على الرسائل، ثم أُلغي الفرق بين الأستاذ المتفرغ وغير المتفرغ، وأصبح الكل مُتفرغًا حتى ينتقل إلى رحاب الله. ولا أدري هل يُجازونه الفرق بين المرتب والمعاش كما سمِعتُ أم إنه من لا يعمل لا ينال كما قال أحد العمداء، وقد جاءني خبرٌ الآن أنهم يفعلون. فلم أتعرَّف على أحدٍ منهم، ولا هم حاوَلوا التعرف عليَّ بالرغم من أن الطلبة والأساتذة الشبان يأتون إليَّ من أقاصي الأرض للتعرُّف عليَّ. يعرفون طريقهم منذ البداية: اختيار أستاذٍ يختار لهم موضوعًا مضمون النجاح فيه مع درجة الشرف الأولى في الدكتوراه، وممتاز في الماجستير، معي لا شيء مضمون في الدرجات إلا العلم، يهابونني قبل التعرُّف عليَّ. لم تعُد الإدارة الجامعية ولا طلبة الدراسات العليا يقرءون شيئًا. - (٦)
الصداقة الهوجاء الانفعالية التي تضُر أكثر ما تنفع، تقوم على التمركُز على الذات. وهو عكس النموذج الأول، الغيرة والكراهية والعَداوة العلنية، أحيانًا ينفعل بصداقته لدرجة أنه قد ينقلب في يومٍ من الأيام إلى خصامٍ دون عداوة، وقطيعةٍ دون تواصل، مما يثير في الذهن المثل القائل: «عدوٌّ عاقل خير من صديقٍ جاهل.» ولا مانع لديه من التقرُّب من الزميل الأعلى إداريًّا، يمدحه بقدرته على الكتابة بحيث لا يكون هناك فرقٌ بينه وبين رجال الإعلام، يتعصب لرأيه، يصيح ويصرخ ويتشنَّج، لا يحاور لأنه لا يسمع الرأي الآخر، ولا يسمع إلا صوته، لا يعمل إلا تحت جناح أستاذ، فإذا تُوفِّي انتقل إلى غيره. كوَّن ثلاثيًّا مع أستاذ غيور وأستاذةٍ دون شخصيةٍ أو علم، حاوَلَت أن تُغطِّيَ هذا النقص بعد أن أصبَحَت في منصبٍ إداري أعلى، وهي آخر رئيس بالانتخاب، نافقها كل الأعضاء طلبًا للمصالح الخاصة للتدريس في التعليم المفتوح ومكافآت الجودة، حاول كلُّ عضوٍ أن يسيطر عليها بمن فيهم المدرسون، ولكنهم كتلةٌ صمَّاءُ في القسم. لم يَنَلْ من تحت الجَناح الأخير إلا أقلَّ الجوائز شأنًا بتربيطٍ مع أعضاء لجنة الفلسفة، وعندما رُشِّح إلى جائزةٍ أعلى لم ينَلْ إلا صوتًا واحدًا. نادرًا ما يتحقق هذا النموذج في شخصياتٍ سوية، قادرة على الحوار، والأخذ والعطاء، تُعادِيه باقي النماذج لأنه لا يسير طبقًا للمصالح الخاصة، ولا يحقق إلا المصالح العامة.
ومن هذا النموذج السادس من كان انفعاليًّا، يغضب بسرعة، كان يدي اليمنى في الجمعية الفلسفية بعد قطع يدي اليمنى الأولى، وأدَّى واجبَه خيرَ أداءٍ بالنسبة لجمع الاشتراكات، والإشراف على الأعداد الأُولى للمجلة، ثم غَضِب من أحد الأعضاء عندما كان يَمزَح معه وهو يَدفَع اشتراكه، فظَن أن ذلك إهانة! وغادَر الجمعية بلا رجعة. ومع ذلك أَعتذِر له إن كنتُ قد أخطأتُ في حقِّه حتى لا يحمل لي إلا المعروف وجميل الذكرى.
- (٧) الصداقة العاقلة التي تعرف عيوب النماذج السابقة وتحكم بالعقل الهادئ على ما ينفع وليس على ما يضُر حرصًا على المصلحة العامة، وهي صداقةٌ مخلِصةٌ صريحة، تتفق معي في تحليل أحوال الجامعة وأحوال البلاد. كلٌّ مِنَّا يُصرِّح بهمومه إلى الآخر، ويتحسَّر على الزمن القديم، زمن الأساتذة الكبار الذين تعلَّمنا على أيديهم قبل أن تتحول الجامعة إلى وسيطٍ تجاري بين الطالب والأستاذ خاصةً في التعليم المفتوح. تعترض على جامعة الكتب المُقرَّرة والمَلازم والتلقين والحفظ في مرحلة الليسانس، كما تعترض على النظام الأمريكي للدراسات العليا، نظام الساعات المعتمدة؛ فيكون هَمُّ الطالب هو تجميع أكبرِ قَدْرٍ ممكنٍ من A، ثم ينقل رسالته من الإنترنت ويتَخرَّج حاملًا الماجستير أو الدكتوراه يبحث عن عمل، ويتظاهر أمام دُور الحكومة لِيُسمِع صوته، كما تتَحسَّر على النظام السياسي كله؛ فهذه الجامعة صورةٌ منه. أتينا ومصر تُقاوِم الاستعمار والقصر والباشوات، ونُغادِر الآن ومصر ترزح تحت عبء التدخل الخارجي والانهيار الداخلي، وتَركِ مركزها للخليج وإسرائيل؛ فقد تحوَّل الصديق إلى عدُو، والعدُو إلى صديق. وما زالت تشعر بغربةٍ في الجامعة واغتراب في الوطن.
وقد حاوَلْنا أن نُعيد الترابط للقسم بين أعضائه بدعوتهم إلى اللقاء مرةً شهريًّا عند أحدهم. وحضروا عندي مرة، وكان ناجحًا للغاية؛ إذ إنهم نسُوا الخلافاتِ بينهم والمصالح المتعارضة. ولمَّا حاولوا تَكرارها عند أحد الأعضاء وحدَّد موعدا ثم أجَّله إلى موعدٍ آخر ثم أجَّله إلى موعدٍ وحدَّد موعدًا ثالثًا، ثم أجَّله إلى أجلٍ غيرِ مُسمًّى، فعرفتُ أن ما خرج عن الطبيعة لا تُعيده الصنعة، ثم جمع رئيس القسم فريقًا مختارًا من أنصاره إلى منزله احتفالًا بحصول أحد أنصاره على درجةٍ علمية، فقسَم القِسم فريقَين: الأنصار، والأعداء.
وعندما جاء الفيلسوف اليوناني موتسوبولوس إلى القاهرة، وهو الذي أشرف على رسائل أستاذة الفلسفة اليونانية بالقسم، دعوتُه إلى منزلي مع أعضاء القسم جميعًا للعَشاء كما تقضي بذلك التقاليد في الجامعات الأوروبية والأمريكية خاصة، لم يحضر أحدٌ إلا تلميذة الأستاذ، هدى الخولي رئيس القسم الحالي، ولم يُقدِّموا حتى الاعتذار، وهو أهم فيلسوفٍ يوناني. كان مدير جامعة أثينا، يجمع بين الفلسفة وعلم الجمال، بين الفكر والموسيقى. خجِلتُ، ولا أدري إذا كان الآخرون قد خجِلوا مثلي. ولمَّا طلَب مني أحد رؤساء الأقسام أنه يُريد أن يدعو سيدةً فرنسية لديها تسجيلٌ مع جان بول سارتر كي تُرِيَنا إياه وأن الجامعة ليس لديها ميزانيةٌ لذلك أعطيتُه ما يكفي لشراء بطاقة سفرها باريس-القاهرة، ذهابًا وإيابَا، وعندما أتت لم تقُلْ جديدًا عما نعرفه عن الفيلسوف، مع أنها أتت وكأنها تحمل أسرار الدنيا والآخرة. صحيح أن رئيس القسم دعاني على العَشاء معها في نادي العاصمة ولكن الفائدة منها كانت قليلة، فعزمتُها على طبقٍ من الكشري في مدينة أعضاء هيئة التدريس، ولم أكن مُحرجًا، وقبِلَت هي عن طيبِ خاطرٍ الأكلة الشعبية. وأثناء إقامته مؤتمر القِسم عن التأويل حاملًا العبء بمفرده طلب مني مبلغًا من المال يكفي لدعوة الضيوف على عَشاء في باخرةٍ نيلية ففَعَلت. ولمَّا طلبتُ منه هذه الأيام تحكيم بحثٍ في علم الجمال للنشر أم لا في مجلة الجمعية الفلسفية رفض أن يأخذ أجرًا.
وإذا أحس بعض الزملاء أن ما قلتُه على القسم تعريضٌ بهم، فالردُّ أمامهم مفتوح. وأَعِد أنَّ ما سيكتبونه ردًّا سأنشُره في الطبعة الثانية، تلك شِيمة العلماء، الردود والاعتراضات. ويا ليتهم يكتبون انطباعاتهم عني وذِكرايَ في نفوسهم كما حاولتُ أن أفعل. لا يعني ذلك أني غاضبٌ عليهم أو أنني لا أتعاون معهم في أي نشاطٍ علمي بالقسم بل إني أكن لهم كل تقدير واحترام. ويا ليتني أقرأ صورتي عندهم في ذهنهم كما قال عمر بن الخطاب: «رحم الله من أسدى إليَّ عيوبي.»
وكنتُ أُدعى للمؤتمر السنوي لحوار الأديان الذي يُعقد في روما كل عام، وأجد عز الدين إبراهيم من مصر، وزين العابدين السماك من لبنان، نجتمع فيما بيننا ونتحاور؛ فلا حوار مع الآخر إلا لمن هو قادر على الحوار مع النفس أولًا، ونصلي، ثم نسير بالشموع في الطريق الطويل المؤدِّي إلى الفاتيكان، وبعدها تُعقد عدة ندوات. ورأيت مرةً شيخ الأزهر حاضرًا في وفدٍ رسمي؛ فقد حول الأزهر نفسه إلى كهنوتٍ إسلامي. وأنا حاضر كالعادة في لاهوت التحرير والعقيدة والثورة أمام دهشة المُسلمِين واستعجاب المسيحيِّين. وبعد عمرٍ طويل في حوار الأديان أدركتُ أن الهدف البعيد هو الإقلال من التوتُّر بين الاستعمار والتحرُّر، بين الغرب والإسلام باسم الدين، التخفيف من العداوة بين الشعوب المُتحرِّرة حديثًا والشعوب الاستعمارية القديمة. تأتي المبادرة من القوي، وليس من الضعيف، وليس على الضعيف إلا مصافحة اليد الممدودة وإلا اتُّهِم بالتعصُّب والإرهاب. ويتم ذلك على مستوى الشكليات، أداء الشعائر، حمل الشموع، المسيرات، الغناء، حشد الجماهير وكأنها مظاهرةٌ إسلامية. فإذا ما طلَبتَ أن يتحول ذلك إلى مساعدة الفقراء والمساكين واليتامى وتخصيص بعثاتٍ تعليمية، وفك الارتباط بين التبشير والاستعمار كان ذلك سياسة، والحوار لا سياسة فيه. يبدأ الحوار مع المحتاجِين حتى تمد لهم يد العَون وبالتالي قد يحدث تحول في الاعتقاد كما حدث لعبد الجليل المسلم الجزائري الذي تحول إلى راهبٍ مسيحي لاعتباره مكتشفًا للحقيقة. وقد تكَرَّر نفس الشيء مع محمد عثمان السوري الذي كان باحثًا بالمركز الوطني للبحث العلمي في باريس والذي قضى حياته في دَير الآباء الدومينكان لنشر «الفتوحات المكية» لابن عربي، نشرةً جديدة مُوثَّقة في عشرات المجلَّدات كي يعرف مزايا الرهبنة.
ولما أتى رئيس وزراء تركيا السابق مع داود أوغلو وكُنتُ أعرف الاثنَين من القاهرة، وأُساهم معهما في الانتقال من التوجُّه نحو الغرب، حلف الأطلنطي، إلى التوجُّه نحو الشرق، العرب والمسلمِين، رفضَتِ الرياسة أن أجلس على المائدة الرئيسية، وجلستُ مع موظَّفي الخارجية في البلدَين على مائدةٍ مجاورة، فقام داود أوغلو ليجلس بجواري فمنعه البروتوكول.
وكبر الأنجال، وقارَبوا على الزواج؛ فتزوج حازم خريج العلوم السياسية من الجامعة الأمريكية بعد أن قضى في جامعة بولدر عامًا دراسيًّا يُحسب له، وماجستير من لندن في موضوع الفيدرالية. وهو ناصري قومي عربي، ثم عاد وأصبحَ موظفًا بالخارجية المصرية. من مستشارٍ ثان إلى مستشارٍ أول إلى وزيرٍ مُفوَّض، ثم أصبح قنصلًا عامًّا لمصر في بورسودان هذا العام. لم يوفَّق في زواجه الأَوَّل، وانفصل بعد عام، وهو الآن على استعدادٍ لزواجه الثاني. هوايته الغطس، يذهب تقريبًا كل نهاية أسبوع من الخميس مساءً إلى الأحد صباحًا إلى دهب لممارسة هوايته، ويُريد أن يصل فيها إلى أعماقٍ منافسة. ذهب إلى سفاراتنا في نيبال وسيدني وطرابلس-ليبيا وعُمان وصوفيا-بلغاريا. أراد أن يُؤسِّس مركزًا للدراسات الفيدرالية في سَيناء أشبه بابن خلدون بالقاهرة، ثم حاوَلَ تأسيس المركز في الدور الثاني في المنزل الذي نسكُن فيه بجوار مركز والدته لتاريخ السينما المصرية، ولكن الغطس الآن هوايتُه الأولى.
أمَّا حاتم فهو خرِّيج هندسة عين شمس، مهندس اتصالات، تعرَّف على التيار الإسلامي هناك، إسلامي الاتجاه هو وزوجته، عمل في شركة سويرس، ثم تركها لما أُغلِقَت. كان مسئولًا عن الاتصالات الخارجية وامتداد الشركة في باكستان، وبعد بيع شركة سويرس لشركةٍ روسية ظل يبحث عن عملٍ آخر حتى جاءه عملٌ بالسعودية ثم تركيا التي استقر بها هو والأسرة، وأسَّس هو وصديقٌ له شركة اتصالات صغيرة للاستيراد والتصدير. وهو الآن سعيد بإستانبول، نذهب لزيارتهم بين الحين والآخر. وهو مُتزوجٌ وله ثلاثة أطفال: أنس في الثانوية، وعلي في الإعدادية، وخديجة في الابتدائية. وهو أكثر الأولاد التزامًا بالقضية التي اختارها مثل ما اختاره أبوه في أول حياته، الفكر والسياسة.
وأما حنين الصغرى فهي خريجة الجامعة الأمريكية، قسم الأدب العربي، والماجستير علوم سياسية. أرادت أن تتزوج عن تجربةِ حُب؛ فالزواج بالطريقة التقليدية باردٌ لا طعم له، ووجدت ذلك في رئيسها في شركة للتنمية البشرية، وهو دكتور أطفال. وهي ما زالت مليئة بالحيوية، وعمرها الآن ثمانية وثلاثون عامًا، أنجبت طفلة «لارا» أربع سنوات الآن حبيبة كل الأقارب. هي وزوجها ماركسيَّا الاتجاه. سافَرَت إلى عدة بلادٍ أوروبية وعربية، وهي ملتزمة مثل أخيها الأوسط لولا الزواج وأعباء الحياة والإعداد للدكتوراه ورعاية الابنة «لارا» والبحث عن عمل بعد أن أَغلقَت الحكومة معظم المنظَّمات الأهلية المُتعلِّقة بالتنمية البشرية. وقد كان لِمُنظَّمتهم حضورٌ كبير في الريف، وتقوم بأبحاثٍ ميدانية حتى تُقدِّم الأحكام النظرية على تحليلاتٍ إحصائية ومُوثَّقة.
وكانت زوجتي أمينة مكتبة بالجامعة الأمريكية، خريجة قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وماجستير من قسم الأديان من جامعة تمبل بالولايات المتحدة. والآن هوايتها السينما، النقد والتوثيق. وحصَلَت على بكالوريوس المعهد العالي للسينما، ثم أسَّسَت مركزًا لتوثيق السينما العربية في الدور الثاني في منزلنا الجديد «البيت العربي»، ونَشرَت من قبلُ أعمال حسن جمعة في ثلاثة أجزاء. بدأت ليبراليةً وانتهت ليبراليةً إسلامية. والأب يساريٌّ إسلامي. نتعايش سويًّا في حوار مستمر؛ فعندي في المنزل كل الاتجاهات السياسية ممثَّلة، والكل مسموحٌ له أن يمارس نشاطه بحريةٍ تامة. مرةً حاول الابن الأصغر أن يضع على باب الشقة السكنية «لا إله إلا الله»، فمنعتُه لأن هذه الشقة بها تياراتٌ مختلفة، تُوضَع فقط على باب غرفتك، وعلى الحائط مُعلِّق «يا يهود، يا يهود، جيش محمد سوف يعود»، «إن الأقصى قد نادانا: من سيُعيد القدس سِوانا؟» وفي حجرة ابني الأكبر صورة عبد الناصر فوق خريطة الوطن العربي. وفي حجرة ابنتي الوحيدة صورة ماركس ولينين. والأب يساريٌّ إسلامي يجمع بين الإسلام والتقدُّم، وهو ما سُمي عِلميًّا «التراث والتجديد».
وقد أُعطِيتُ عدة جوائز في مصر وخارجها. أُعطيتُ جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، والفلسفة جزء منها عام ٢٠٠٧م، ولم يُرشِّحني قسمي بل رشَّحني قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، في حين رشَّح القسم محمود حمدي إبراهيم من القسم الذي رشحني! وأُعطِيتُ جائزة النيل الكبرى عام ٢٠١٥م وليس من قسمي بل بترشيحٍ من الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وأتيليه الإسكندرية. وكان رئيس الدولة هو الذي يُسلِّم الجوائز للمُفكِّرِين في عيد العلم، وفي حالتي كان رئيس الجامعة ونُوابه عندما بدأ التوتُّر المكتوم بين الرئيس والمُثقَّفِين. وأُعطِيتُ جائزة «المُفكِّر الحر» من بولندا وسلَّمها لي رئيس جمهورية بولندا، وقدَّمني لِمُفكِّري بولندا، وألقى خطابًا في حرية الفكر، ولمَّا عرف أني أعزف الكمان طلب من الفرقة عزف كونشرتو الكمان لِموزار، وطلب مني أن أعزف شيئًا، فعزفتُ «الكمان» على العَشاء في القصر، من موسيقى سيد درويش.
وقد شاركتُ في معظم نشاطات المجلس الأعلى للثقافة منذ إنشائه حتى حكم العسكريِّين، أي حتى الآن؛ فكنت أحد أعضائه البارزِين قبل تشييد البناء الخاص به في أرض الأوبرا. وكان في البداية يُسمَّى المجلس الأعلى للثقافة والآداب والعلوم الاجتماعية برئاسة يوسف السباعي. وبعد اغتياله تولى رئاسته في لجنة الفلسفة زكي نجيب محمود وفؤاد ذكريا ومحمود أمين العالم وأنا وأخيرًا أنيس منصور كما طلب من فاروق حسني. كانت اللجنة في مبناها القديم تُصدِر «الفكر المعاصر»، «تراث الإنسانية»، «المجلة»، كما كانت تُصدِر «الكاتب»، وكانت متنوعة الاجتهادات، وشاركت في معظمها والتي جَمعتُها بعد ذلك في «قضايا معاصرة» (جزءان)، الفكر العربي المعاصر، الفكر الغربي المعاصر. رأستُها وهي في المبنى الجديد وبعد عامٍ أُزحت عنها دون إبداء أسباب. وجاء من بعدي زميلٌ مريض لم يحضر ولا جلسة ثم زميلٌ آخر بالنيابة حتى تُوفي. والآن يرأسها من قضى في الكويت مُعظَم عمره بعد أن كان أستاذًا في الفلسفة اليونانية في جامعة عين شمس، ويُصرِّح بأنه يُعِد مشروعًا للفلسفة المصرية. ولم أكن أقبل أنيس منصور مفروضًا علينا من وزير الثقافة لأن تعليقاته على الأساتذة وكأنهم جُهلاءُ بأورتيجا وغيره من الفلاسفة، وكنتُ لا أُقدِّره لأنه كان أنيس الرئيس المغدور، وكان يفتخر أن معاهدة كامب دافيد قد تم توقيعُها بقلمه الذي يحتفظ به لِلذكرى. وفي اليوم الذي قرَّر فيه مناقشة كتابي فشته، فيلسوف المقاومة تعاركنا، وقذف بالكتاب أحد الأعضاء على المنصَّة مستهجنًا حتى انتقل الاثنان إلى الرفيق الأعلى، ومن يومها لم أدخل المجلس. ولم أُدعَ إلى حضور نشاطٍ فيه بعد أن استولى عليه التيار المعادي للإسلاميِّين، وصُنِّفتُ بأني من الإخوان، وأنتسب إليهم، ثم عُزلتُ عن نشاطاته تمامًا وكأنني لم أعُد مُثقفًا، وقد كانت الرئاسات السابقة لا تُفرِّق بين إسلامي ويساري. لقد أصبحت كل مؤسسةٍ ثقافيةٍ أو سياسية أو اقتصادية تسير على ساقٍ واحدة، فتسير عرجاء، وترى العالم بعينٍ واحدة فتكون عوراء، وتتنفس برئةٍ واحدة فتختنق. وما عابوا عليه الحكم الإسلامي، أُحادية الطرَف، وقعوا فيه. الخطورة اليوم هو التبعية لنظام الحكم مثل الإعلام، وربما كل مؤسَّساتِ وزارة الثقافة، وهو ما جعل الثقافة خاوية؛ فالثقافة حوار بين تيَّاراتٍ مختلفة حتى لو كانت متعارضةً أحادية، الفرقة الناجية تموت.
وكان أثَري في ماليزيا وإندونيسيا وأوزباكستان وكثير من جمهوريات آسيا الوسطى كبيرًا. وعرفتُ في إندونيسيا عبد الرحمن وحيد رئيس جماعة نهضة العلماء، والرايس رئيس جماعة المحمدية، وهما أكبر مجموعتَين إسلاميتَين في إندونيسيا. وأفكار اليسار الإسلامي منتشرة هناك، بَدأَت نهضة العلماء يساريةً وانتهت يمينية، وبدأت جماعة المحمدية يمينيةً ثم أصبحت يسارية، وكان همي الجمع بين الجماعتَين في اليسار الإسلامي، إلا أن الرغبة في الرئاسة مَنعَت من هذا التواصل. وما زالت إندونيسيا ترسل لي سنويًّا في الصيف حوالي عشرين طالبًا وطالبة دراسات عليا كي أستمِع إلى رسائلهم وأُصحِّحها لمدة شهرَين مرةً أسبوعيًّا لعدم قدرتي على الحركة، وعندي قاعة للاجتماعات تكفيهم وأكثر. وماليزيا أكثرُ تحرُّرًا وعلمانية بفضل محمد محاضر رئيس الوزراء السابق بالرغم من خلافه مع أنور إبراهيم على السلطة، وقد عرفتُ الاثنين، ولكن الشعب كان مع محاضر. وذهبنا إلى كابل عن طريق موسكو؛ فروسيا هي الطريق الوحيد لأفغانستان، وفنادق موسكو كلها نمطية، جادَّة، لا زواق فيها، بين الحين والآخر تُشاهِد فتاةً روسيةً شقراء بكعبٍ طويل وميني جيب لا أدري ماذا يفعلن في بهو استقبال الزوار. وفي مطار موسكو وقفنا بالساعات للتفتيش، الأوراق، الجوازات، تأشيرات الدخول، صحيحة أو مزيفة حتى كدت أصرخ فيهم: نحن ضيوفُ منظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا. لا يدل على وجوه الموظفين والموظفات الذكاء، يريدون فقط أن يؤدوا واجبهم بحرفيةٍ مطلقة، لا تُوجد أي شبهة في أيٍّ من أعضاء الوفد، ومع ذلك التفتيش هو التفتيش. وفحص الأوراق هو فحص الأوراق، ولا يهم أوراق من؟ معنا مرافق يرسم له الطريق، ولا يستطيع أن يغيره، معه كاميرا خاصة للتصوير لبيان مدى ترحاب روسيا بالوفد. وحاضرت علماءهم وأَهدَوني العباءة الوطنية الأفغانية، ثم أخذوها لأني رفضتُ الذهاب إلى السفارة الأمريكية. وذهبت إلى جامعة كابل، ورأيت تمثال جمال الدين الأفغاني، مفجر الثورة العرابية في مصر وواضع أيديولوجية التحرر الوطني للعالم الإسلامي. وبعد كابل من أواسط آسيا زرنا أوزبكستان وطشقند وسمرقند وباكو، وتَعرَّفتُ على علمائهم، يبدءون الطعام بالفاكهة، طلبوا مني في المسجد أن أتلو القرآن؛ فأنا من جوار الأزهر الشريف، حاولت لكن ليس مثل القراء المُحترفِين. وفي بخارى رأيتُ مدرسة بخارى. وفي طشقند تُوجد المدارس والمساجد العالية. وفي سمرقند مرصد أولوغ بك، والبوابة الكبيرة على مدخل المدينة. فَرِحتُ للحضارة الإسلامية، وانتشارها في أواسط آسيا، والحفاظ على آثارِها، ثم حَزِنتُ على ضَياعها وتحوُّلها إلى إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي مع محاولة استقلال الشيشان.
وقد امتد أثري إلى أمريكا اللاتينية، المكسيك وفنزويلا والأرجنتين. ورأيتُ مدى التشابه بين حياتهم العامة والخاصة مع حياة العرب، كانوا يتوقون إلى التحرر من سيطرة الولايات المتحدة الاقتصادية. وفي المكسيك حياة إسبانية، بها بقايا الأثَر العربي القديم. وامتد أثري في جامعات أوتوا العاصمة الكندية وتورنتو وكاليجري. وحاضرت هناك مع الأساتذة العرب والكنديِّين. ورأيتُ كيف أن الأمريكتَين الجنوبية والشمالية مرتبطتان بالوطن العربي والثقافة العربية، ولا خوف من تكفيرٍ أو حكمٍ بالردة؛ حيث يسمع الطلبة والأساتذة هذا الفكر الجديد من أحد مُمثلِيه. ولما قابلوني بعد ذلك في مؤتمراتٍ قبَّلوني ومنهم من قبَّل يدي وكأنني شيخ طريقةٍ جديد، سمِعوا عني وقرءوا لي قبل أن يَرَوني، وقد جاءت المناسبة الآن للتصوير معي، كي تبقى لهم ذكرى في التاريخ. ولا يعرف معظم الناس في مصر عن أمريكا اللاتينية إلا لاعبي كرة القدم.
وأثَر دعوةٍ لبعض المُفكِّرِين المصريِّين للحج، دعوةٍ من الملك عبد الله مباشرة، ذهبت أنا ومحمود أمين العالم وآخرون وعشنا في المُخيَّم مثل باقي الحجيج. ودُعينا إلى الغداء مرةً على مائدة الملك، فوجدنا الخراف المشوية المنتصبة واقفة على الموائد وتحتها الأرز، وفي صدر المائدة جلس الملك. وقام أحد المدعوين بإلقاء كلمةٍ نيابة عن المَدعُوِّين، وكان فلسطينيًّا بليغ اللسان وهو بلال الحسن. وبعدها أردنا أن نُجالس المثقفِين السعوديِّين من مكتبة الملك عبد العزيز، فلم يُستجَب إلى الطلب، تحادثنا مع أنفسنا. وكان الشباب السعودي يأتوننا في المساء بلا دعوة لِيُجالِسوا بعض المُفكِّرين العرب الذين يسمعون عنهم، ووجدنا روحًا جديدة راغبة في السماع والتعلُّم ومناقشة الأفكار المثيرة التي نُمثِّلها، وكانت الجلسات تستمر حتى الصباح في بهو الفندق. وكان السؤال: هل نفتح قلوبنا لهم كما فتحوا قلوبهم لنا أم نحترس؟ ففتحنا قلوبنا بلا خوف، وتحدَّثنا عن مضمون الإسلام وليس شكلياته، وأنه بِنيةٌ اجتماعية وليس أحكامًا شرعية. وتفرَّجتُ على شعائر الحج، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرات، والصعود إلى عرفات من شرفة بناء مجاور، وأنا في ملابس الإحرام. ورفض محمود أمين العالم أن يلبسها أو أن يُشارِك في شيء، ولم يأخذ ملابس الإحرام الخاصة به؛ فهو صاحب مبدأٍ لا يتنازل عنه. ولمَّا عُدتُ كتبتُ «خواطر حاج» في «أخبار الأدب». ودَعَوتُ فيها إلى أن عرفات يجب أن يكون في القدس، بهذه الملايين الصاعدة فوقه خاصةً وأن القدس كانت أُولى الحَرمَين. وعجِبتُ من أخي الذي أخذ الوالدَين على نفقته الخاصة للحج مرتَين، وكانت مرةٌ واحدة تكفي من أجل إرضاء رغبات الطبقات الشعبية.
وفي هذه الفترة كان لي أصدقاء، معظمهم من «حزب التجمُّع» مثل محمد عودة والذي كان شيخَ حارةٍ يُعرِّف الأصدقاء بعضهم ببعض، وكان معظم الأصدقاء الذين عرفتهم في مصر عن طريقه مثل فيليب حلاب وزوجته الصحفيَّين وكمال الذين رفعت والذي كان من الضباط الأحرار، وعائلة النقاش ومحمد الفولي، وكُنَّا نجمع بين الثورة والحياة، فذهبتُ إلى مزرعة مجدي حسنين في بنها معهم والذي كان محافظًا للبحيرة أيام عبد الناصر لنأكل البط الأصيل. وكان لي أصدقاء يعيشون في فرنسا ولكن يأتون إلى مصر خاصة بعد حرب ١٩٧٣م ليساهموا في بناء مصر التي انتَصَرت وأزاحت عن كاهلها عار هزيمة ١٩٦٧م، مثل أنور عبد الملك الذي غادر مصر في أزمة الشيوعيِّين مع عبد الناصر في ١٩٥٨م، وأقام في باريس، وعمل بالمركز الوطني للبحث العلمي، ورشدي راشد. وبعد عام ١٩٧٣م أراد أن يَشُد الرحال إلى مصر، ولكن أين؟ بالجامعة وهي مغلقة على أهلها بقوانينها أو في «الأهرام» وهي جريدة الدولة أو في المركز القومي للبحوث الاجتماعية وهو ما زال تقليديَّ الاتجاه. كان مديرًا لمشروع البدائل الاجتماعية الثقافية في «جامعة الأمم المتحدة» بطوكيو، وكان على صلة قوية بمفكري العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وانتُخِب نائب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، وهو خريج قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، وتلميذ عبد الرحمن بدوي، وآخر كتبه «الوطنية هي الحل». وقد كَتبَ فيه وفي أمثاله لطفي الخولي مقال «العابرون بعد العبور». وكان في وداعه الأخير في الكنيسة بضعة أفراد معدودة على الأصابع، كانت القاعة شبه خالية، ولم يحضر المتحدثون ولم يعتذروا، وكما هو في المثل: «البعيد عن العين بعيد عن القلب.»