مقدمة

كانت إحدى أمنياتي أن أتناول أشعار «كاتولوس»؛ ذلك المتغزِّل الروماني، وأعرِّف بها القارئ العربي. كانت أشعار هذا الشاعر الشاب تثير فيَّ شتى العواطف، فاتخذتها تارةً عزائي وطورًا غذائي. كانت بساطتها تُعجبني، وطرافتها تسحرني، وندرتها تسبيني، ومضمونها يفتك بأعصابي فيطربني حينًا وحينًا يبكيني. وكثيرًا ما كنت أتخيل كاتولوس هذا، كاتب تلك الأشعار الجميلة؛ فيصوره لي خيالي شابًّا مليح الوجه، واسع العينين، رَضِيَّ النفس، طيب السريرة، عكس ما حملتْه لنا الكتب بين دفوفها في وصفه، ووصف دعارته وإدمانه على الشراب، ونعته بما قد يشتهي ولا يشتهي من ضروب الصفات.

لقد أحببت كاتولوس هذا من أشعاره، ولا أخالني مُبالغًا لو قلت إنني تمنيت الحياة في عصره؛ لأحظى بعشرته وأنعم بمجالسته وأستمتع بعذب حديثه.

فأي قسوة هذه قد قساها القدر يوم أن حكم على كاتولوس، ذلك الشاعر الحبيب، بالموت المبكر وهو في عنفوان الشباب؛ فحرمنا بذلك حلاوة أشعاره ومنعنا طلاوة غزلياته، وسلبنا هذا الروح الشاعري النادر، وذلك الفكر السليم الناضج وذاك العقل السديد المبدع! فلو أن كاتولوس قد عاش طويلًا؛ فأي إلهام جديد كان سيتفتق عنه ذهنه؟ وأي إبداع مبتكر كانت الأجيال ستتمشدق به؟ وأي كنز من الشعر هذا الذي كنا سنحظى بقراءته اليوم؟

إن قارئ كاتولوس سيلمس من أول وهلة عبقرية هذا الشاعر، وسيدرك من فورٍ مقدرته الفائقة في التعبير والتصوير، كما ستروقه عواطفه المتأججة وأحاسيسه الملتهبة، التي تنبض بها أشعاره الغزلية، حتى لتكاد تزيح لنا الستار عما يجيش بصدر هذا الشاعر من اضطراباتٍ عاطفية، كانت تهز كِيانه هزًّا.

ولقد بلغ بي حبي لمنظومَتَي كاتولوس عن عصفور حبيبته؛ أنني اشتريت قفصًا به عصفور، وجعلت العصفور موضع دراستي لحينٍ من الزمان. كنت أتأمل العصفور تارةً وهو يغرد، وطورًا وهو يقفز هنا وهناك في أرجاء القفص، وكنت أحيانًا أُدخل يدي في القفص، وأدع العصفور يقف بين أصابعي ويطير حول يدي، حتى صارت يدي تأنس لوقفات العصفور عليها، وصار العصفور يطمئن إلى يدي، إلى أن اجتاحني الشعور بأن العصفور قد عرف شخصي خير معرفة، وأننا نبادل بعضنا حبًّا بحب، مثلما كانت حبيبة كاتولوس تبادل عصفورها الحب، ويبادلها هو بحبٍّ مماثل.

كان لهذا الشعور أثره الكبير عندما قمت بترجمة هاتين المنظومتين بالذات؛ فلم أكن لأحس بأنني أنقل كلمات كاتولوس اللاتينية إلى ألفاظٍ عربية، بل كنت أحس تمامًا بأنني الشاعر نفسه يكتب المنظومتين من جديد باللغة العربية، بعين الإحساس الذي كان قد اعتور كاتولوس يوم حاول أن يكتب قصيدتيه عن العصفور العجيب، الذي هو عصفور حبيبته. وقد لا يصدقني القارئ لو قلت له إنني فوجئت في أثناء ترجمتي لهاتين القصيدتين بموت العصفور، تمامًا كما مات عصفور الحبيبة. وإذ رأيت القفص وقد ركدت فيه الحياة بوفاة العصفور؛ أحسست بوجومٍ غريب وبحزنٍ دفين، وكادت عيني تدمع كما أدمعت عيون حبيبة كاتولوس يوم مات عصفورها العزيز.

وأحسب أن سر الجمال الذي تنبض به أشعار كاتولوس ليس فقط ما فيه من قدرةٍ فائقة على إثارة تباريح قلب أي مُتيم غرقان في بحار الحب، ولكن ما فيه أيضًا من قدرةٍ على مناجاة القلوب عامَّة؛ ما عُمِّر منها بالحب وما قَفَر منها من كل خلجةٍ من خلجاته. فما أقدره حقًّا على تحريك القلوب التي قُدَّت من صخر، والتي لم تنعم يومًا بحب ولم تشقَ أبدًا بلواعجه!

فكاتولوس ذلك الشاعر الشاب، قد انطلق في أشعاره انطلاقًا حرًّا جعله أبعد ما يكون من التحفظ أو الإباحية، وأقرب ما يكون من الشاعر المفطور على السجية الحرة الأبية؛ تراه قد سطر مشاعره كما أحس بها دون خوفٍ أو خجل، وعرض مشكلة حبه كما ألمت به دون تحفظٍ أو مواربة، وصوَّر خلجات قلبه خلجةً بعد خلجة دون حياءٍ أو تردد، وتناول سعادة حبه غير ناسٍ ما لاقاه فيه من مرارةٍ وشقاء. وهكذا نجح شاعرنا في تخليد اسم محبوبته على صفحات التاريخ بتلك الأبيات البسيطة القوية، القصيرة العميقة، وبتلك القصائد النادرة في سموها، الرائعة في مضمونها، المُحكمة في ألفاظها، المُلتهبة في عواطفها، المُنتقاة في قوافيها، المُبتكرة في أوزانها، الفريدة في غزلياتها.

ولم يكن كاتولوس بالشاعر الذي يمتاز بصدق العاطفة وعمق المشاعر فحسب، بل كان يمتاز أيضًا بخفة الظل وحلاوة الروح وملاحة النكتة وطرافة الفكرة، حتى يمكننا أن نلقبه أيضًا بالشاعر المرح الخفيف الظل.

ولا يسعني الآن وأنا أنقل أشعار كاتولوس إلا أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنني لم أنقل جميع أشعار كاتولوس، بل اكتفيت بهذا القدر الذي يكشف لنا أولًا وقبل كل شيء عن قصة غرامه بليسبيا، والمراحل المختلفة التي مر بها هذا الحب الجارف، الذي كان مدار حديث الناس في العصر الذي عاش فيه الشاعر. ثم ما عدا ذلك من القصائد التي تميط اللثام عن الغراميات الأخرى، التي تورط فيها كاتولوس مع فتياتٍ أخريات، وهي لا تقل في طرافتها وجمالها عن غرامه الكبير بليسبيا.

ولقد شجعتني بساطة بعض قصائد الشاعر الأخرى على نقلها إلى العربية كي أتيح للقارئ الشرقي أن يلمس عن كثبٍ ما يتمتع به هذا الشاعر الخالد من روحٍ خفيف ومزاح طريف وذوق سليم في انتقاء المواضيع التي يكتب فيها.

واليوم إذ تتحقق أمنيتي فأرى أشعار كاتولوس الغرامية منشورة على الملأ، يسعدني حقًّا أن تلقى هذه الأشعار عند القراء الأعزاء ما لقيتْه عندي من مزيد تقدير وإعجاب.

أمين سلامة
جاردن ستي في ١٠ يوليو ١٩٥٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤