الباب الأول
حياة كاتولوس
لعب الحظ دورًا رئيسيًّا في تخليد أشعار كاتولوس، ذلك الشاعر الروماني الذي اشتُهر
بغزلياته، ومن ثم في معرفة بعض ما يجب معرفته عن حياته. فلو أن الحظ لم يحرص على صيانة
النسخة الخطية الوحيدة لأشعار كاتولوس، ولم يضعها في يد أحد نساخي فيرونا Verona؛ لما انتشلها هذا الأخير من الضياع والاندثار بعد أن
طال الأمد على فقدانها، حتى كاد المهتمون بالأدب الروماني القديم ييئسون من العثور عليها.
فلو لم يقم الحظ بهذا الجميل البيِّن، وهذه الخدمة الجليلة والمساعدة القيمة؛ لحُرمنا
من
عبقرية هذا الشاعر الغزلي الخفيف الظل، ولفوَّت علينا متعة الاطلاع على هذا اللون الفريد
من
العشق الروماني القديم، الذي انفردت به أشعار كاتولوس، والذي قلما استطاع شاعرٌ قبله
أو بعده أن ينظمه بهذه البراعة، وتلك البساطة، أو هذا الجمال الشعري الساحر الجذاب.
بَيدَ أن أشعار كاتولوس، وإن كانت تميط اللثام عن حياة اللهو ودنيا الغرام إبان تلك
العصور
الخالية، إلا أنها تزيح الستار أيضًا عن الحياة العامة في تلك الحقبة التي عاشت فيها
روما
قبل أن تتدثر بدِثار الإمبراطورية القشيب، مصوَّرةً لنا بخيالٍ فتًى جمهوري عَرَك الحياة،
كشابٍّ
نَزِق وكشاعرٍ ملهم ملتهب الأحاسيس.
وجديرٌ بالاعتبار أنه يجب علينا ألا ننسى أصدقاء كاتولوس الآخرين الذين احترفوا مهنة
الكتابة، كما يجب ألا يغيب عن بالنا ما تعرضت له كتاباتهم وأعمالهم الأدبية من الموت
المبكر، ومن ثم نستطيع أن نستبين فضل القَدَر العظيم علينا وعلى أجيالنا، بأن قَيَّد
سبيل النجاة
لكاتولوس وحده من بين حشد كُتَّاب عصره الكثيرين، فأبقاه لنا كخير قبس تستضيء به الأجيال
للوقوف على أدق تفاصيل الحياة العامة في خضم العالم الذي عاش فيه.
فمن يكون كاتولوس هذا؟ ومن أي بيت انحدر؟ وأي حياة تلك التي عاشها؟ وكيف خلقت منه
الأيام
ذلك الشاعر المرهف الأحاسيس النقي السريرة؟
لم يولد كاتولوس في روما ولا في مدينةٍ عظيمة من مدن إيطاليا المشهورة، ولكن في بلدة
صغيرة
بأحد تخوم إيطاليا تسمى فيرونا، وكانت ملتقى عدة طرق؛ منها طريق جنوبي إلى بدرياكوم Bedriacum ومانتوا Mantua، وطريق آخر شرقي صوب أكويليا Aquileia والبحر الأدرياتي، وثالث غربي إلى ميديولانوم Mediolanum وبلاد الغال. ومن ثم كانت فيرونا تتمتع بمركزٍ حيوي حربي
تصبو إلى احتلاله نفوس الجيوش، وتطمع عيون القواد في السيطرة عليه.
وما يعنينا في بحثنا هذا لا ينحصر في أهمية مركز فيرونا الحربي، بقدر ما ينصب على
أهمية
هذه البلدة كمسقط رأس الشاعر كاتولوس، وكبقعةٍ قد حبتها الأقدار بقسطٍ وافر من روعة المناظر
الطبيعية وسحر الطبيعة الفتان. فمما لا ريب فيه أن فيرونا تفوق شتى بلدان إيطاليا في
هذا
المضمار بالذات، وفي هذا يقول المستر
هويلز Mr. W. D. Howells: «ما من مدينةٍ تتمتع ببقعة أروع جمالًا وأبهى رُواءً من تلك التي
تحتلها فيرونا السعيدة، تلك البلدة التي تتنفس من هواء الجبال النقي، والتي تلفها الثلوج
في
غلالة ناصعة البياض شتاءً، وتكسوها في الصيف حقول الكروم الخضراء ذات العناقيد القرمزية
الشهية، وفضلًا عن ذلك فإنها غنية دائمًا بالمرمر.»
ويجب ألا يتطرق إلى الذهن أن هويلز قد آثر المغالاة في وصفه لفيرونا، بل حسبك أن تأخذ
كلامه على علاته؛ لأنه لم يطلب به غير إرضاء الحقيقة وتقرير الواقع.
وليست فيرونا جميلةً في حد ذاتها فتخلب عقول مشاهديها فحسب، بل تقع أيضًا على مسافةٍ
قريبة من جاردا Garda بحيرة بيناكوس Benacus الرومانية، التي تعتبر بحق من أجمل بحيرات إيطاليا وأكثرها فتنةً
للعين. ومن ثم فإن البطاح التي كانت تحيط بفيرونا في العصور الرومانية الغابرة، لا تختلف
كثيرًا أو قليلًا عما هي عليه الآن. وكلها تجعل من فيرونا ذلك الفردوس المشرق من أشجار
الكروم والزيتون والتوت، وأغصان الغار الزكية الرائحة، الذي له أكبر الفضل في إذكاء أرق
المشاعر القلبية في صدر كاتولوس، وتحبيبه في كل صوتٍ جميل أو منظرٍ بهيج.
وُلد كاتولوس في فيرونا، أو ربما في إحدى ضواحيها القريبة، وهذه الحقيقة يذكرها لنا
أوفيديوس Ovidius فيما كتبه إذ يقول: «تغتبط مانتوا
بفرجيل، وفيرونا بكاتولوس.»
ويُجمع المؤرخون على أن كاتولوس وُلد في عام ٨٤ق.م. ولا يشذ عنهم غير سانت جيروم
الذي
يجعل تاريخ ميلاده عام ٨٧ق.م. بدلًا من ٨٤ق.م. وعلى كلٍّ فإن كاتولوس قد وُلد قبل عودة
سولَّا Sulla من الشرق على رأس كتائبه الظافرة؛ ليضع حدًّا لأعمال النهب والسلب وجرائم القتل
الساتورناليا المارية Marian Saturnalia.
ويحتمل أن يكون لكاتولوس شقيق واحد، يكبره سنًّا، وكان والده من رجال الحي البارزين،
ومن
أصحاب النفوذ والسلطان، حتى إنهم كانوا يضعونه وسَط القائمة التي تتضمن أصدقاء يوليوس
قيصر
المقربين.
وهناك احتمالٌ آخر بأن أباه كان أحد متعهدي الجيوش، الذين — كما هو الأمر الآن —
وجدوا
في الحرب عملًا مربحًا؛ فكان يمد قوات قيصر بالآلات الحربية والمؤن، كما كان يعمل ممثلًا
لقيصر في بيع الأسلاب الغاليَّة في السوق الرومانية. فلو صح هذا الاحتمال، فإن ضَيعته
وبيته
الريفي الذي يقع على ضفاف شبه جزيرة سيرميو Sirmio في
بحيرة جاردا، لم يستخدمهما كاتولوس كمصيفٍ تأوي إليه العائلة للراحة والاستجمام فحسب،
بل
وكمستودع لحفظ المؤن الحربية وهي تشق طريقها نحو الغرب.
نستنتج من هذا أن كاتولوس الصغير كان يُمضي فصلَي الصيف والخريف من كل عام في ذلك
الجو
الريفي الهادئ وسَط تلك المناظر الخلابة من الخضرة اليانعة، والماء العذب القَراح الذي
كان
ينساب كأسلاكٍ فضية على بُسُطٍ زبرجدية تحت أشعة الشمس الدافئة. أما فصلا الشتاء والربيع
فكان
يقضيهما في خضم مدينة فيرونا.
ومن المفهوم أن كاتولوس كان يتلقى في المدينة دروسه في الخطابة، التي هي أهم علم
كان
يتضمنه برنامج التعليم الروماني، إلا أن الأمر في حالة كاتولوس اختلف بعض الشيء؛ فقد
تلقَّى
إلى جانب دروس الخطابة تعاليم أخرى، وجدت في نفسه هوًى أعظم وميلًا فطريًّا أكثر؛ ألا
وهي
تعاليم فاليريوس كاتو Valerius Cato الأدبية، فإن كاتو —
كما يُعَرِّفنا بذلك سويتونيوس Suetonius — كان يُلقي في ذلك
الحين محاضرته على أبناء الأثرياء في الأحياء المجاورة. ولا شك أن الأدب اللاتيني يدين
لكاتو بأكثر مما يلاحظ أحيانًا؛ لأنه كان أسبق الأدباء الذين عرَّفوا الشعراء السكندريين
بحلقات من المستمعين الرومانيين، ودرَّبوا مدرسةً كاملةً من الشعراء الصغار الذين يسميهم
شيشيرون مُغنِّي يوفوريون Cantores Euphorionis، على ثقافاتٍ
من الفن السكندري.
وليس من شكٍّ في أن كاتولوس قد تعرَّف تحت إشراف كاتو بالشعراء الأغارقة الذين عاشوا
في
مختلِف العصور؛ ابتداءً من هوميروس إلى كاليماخوس Callimachus، إلا أن كاتولوس لم ينسَ أن يُصدِّر أحد أشعاره (المنظومة ٥٦) باسم
أستاذه كاتو، الذي مات معدمًا مُعسِرًا بعد أن مات هو بسنواتٍ عديدة.
ويجب ألا يغيب عن بالنا ما كان للثراء من أثرٍ في شاعرنا هذا الصغير؛ فلقد جرفه ثراء
أبيه
في تيار الغواية الذي تحرر منه زملاؤه الفقراء من طلاب العلم الذين كانوا يكبرونه
سنًّا. ولا ريب أن هناك بين أشعار كاتولوس ما يدل دلالةً صريحةً على نوع الحياة التي
كان
يحياها في فيرونا أيام الطيش والجهل. ويحتمل أن كاتولوس قد كتب أمثال هذه الأشعار كي
يلفت الأنظار
إليه، وحتى يغنم من ورائها ما كان يهدف إليه من صيت؛ كأن يشتهر في مسقط رأسه بأنه ذلك
المغامر الجسور. ولهذه الأشعار الفضل الأكبر في اهتمام كلوديا بكاتولوس، بل وفي قيام
تلك
العلاقة الغرامية بينهما. ولقد كان لقاء كاتولوس بهذه السيدة في فيرونا نقطة التحول الكبرى
في حياته وكتاباته، فلما اضطُر إلى اقتفاء أثر كلوديا في روما في ربيع عام ٦١ق.م. هجر
كاتولوس من غير شك ملذات الريف الحقيرة، وانصرف إلى عاصمة الدنيا بمباهجها الساطعة
الخطيرة.
ومما لا يتطرق إليه أي شك أن كلوديا كانت تلعب دورًا رئيسيًّا في تلك الدسائس السياسية
التي كانت موضوع حديث الناس في كل شهر من شهور عامي ٦٠، ٦١ق.م. ولكننا نفتقر إلى دليلٍ
واحد
نستخلص منه أن حبيبها اليافع قد لعب في هذه الأحداث السياسية أي دور يذكر؛ فإن ملذات
العاصمة ومباهجها قد جرفته بلا ريب إلى صنوفٍ أخرى من الهوايات والميول. ولو حدث أن عَفَت
نفس
كاتولوس هذه الملذات؛ لألفيناه ينعكف على الشعر يقرضه وينظمه أنغامًا وأوزانًا.
ولقد حدث في روما في ذلك الوقت ولأول مرة في تاريخ هذه المدينة العريق، أن قام مَيلٌ
أدبي
واضح بين بعض طبقات المجتمع، تزعَّمه في شيءٍ من الحماس المحمود طائفةٌ من شباب الشعراء،
الذين قَدِم معظمهم من شمال إيطاليا ويدعون «الشباب». فانضم إلى هذه الندوة شاعرنا
كاتولوس، وسُرعان ما أصبح واحدًا من روادها، ومن أكبر قادة رسالتها الأدبية.
كانت الروابط بين جمهرة أصدقاء كاتولوس عديدة، وإن كان هؤلاء الأصدقاء جميعًا يدينون
بالولاء إلى فاليريوس كاتو الذي أضفت عليه ليديا Lydia
المزيد من الشهرة والصيت، والكثير من الربح الوفير؛ مما مهد له شراء البيت الريفي التوسكولي Tusculan Villa، الذي اضطُر كاتو فيما
بعدُ إلى التنازل عنه لدائنيه. وقد كانوا جميعًا من المعجبين بالمدرسة السكندرية التي
تعارض الفكرة القائلة بأنه من أول واجبات الشاعر أن يكون وطنيًّا؛ لأنهم جميعًا كانوا
مكبِّين
على دراسة فنهم بكل معاني الجد والاهتمام، لا يبخلون بوقتهم أبدًا في أي نقاشٍ يدور حول
هذا
الموضوع، بل كثيرًا ما كان يحتدم الجدل فيما بينهم حول قواعد الشعر وأسس النظم. ولقد
انتهى
بهم الأمر جميعًا إلى الهُيام بالحب والغرام، حتى أصيبوا بآلامه وتباريحه، وبنعمائه ولذاته،
ولم يتورع الذين لم يعرفوا الهوى، من أن يتظاهروا بأنهم غرقى في بحاره. وكان من بين
هؤلاء رجلٌ من كريمونا Cremona يدعى فوريوس بيباكولوس Furius Bibaculus؛ وهو الذي اشتُهر فيما بعدُ
بقذفه اللاذع في يوليوس قيصر، والذي يحتمل أن يكون هو نفس فوريوس الذي تناوله كاتولوس
في منظومته السادسة والعشرين، والتي يأتمنه فيها على ذلك الموقف التعس الذي يعانيه بيته
الريفي.
أي فوريوس،
إن بيتي الريفي الصغير
لا يتعرض لهجوم
لفحات أوستير،
أو لفحات فافونيوس
وبورياس العاتي
وأفيليوتيس أيضًا،
ولكنه يتعرض لعصفة
خمسة عشر ألف
ومائتي ريح باردة.
فيا لها من حالةٍ جوية مفزعة.
وكان من بينهم أيضًا كايكيليوس Caecilius أحد مواطني
نوفوم كوموم Novum Comum، الذي كان قريبًا إلى جوار
الشاعر؛ ولذا نجد كاتولوس يشير في منظومته الخامسة والثلاثين إلى الربة العظيمة كوبيلي Cybele، التي كانت لب موضوع منظومة كايكيليوس:
إنني يا فتاتي
أحس بإحساسك،
أنت يا من تبذين
ربة الشعر سافو،
فإن كايكيلوس حقًّا
قد صدَّر قصيدته «الماجنا ماتير»
بمقدمة آية في الروعة.
أما ثالث هؤلاء فقد كان جيوس هيلفيوس
كينَّا Gaius Helvius Cinna من بريكسيا Brixia؛ وهو ذلك الشاعر الذي لقي حتفه خطأً على يد
السابلة في حفل دفن جثمان قيصر. وقد ألَّف «سميرنا»؛ وهي ملحمة قصيرة نتيجة جهد متواصل
دام
تسع سنوات، يروي لنا فيها كينا غراميات مورَّا Myrrha
المحرمة مع أبيها كينوراس Cinyras، ولقد ورد ذكر كينَّا
وملحمته هذه في صدر المنظومة الخامسة والتسعين من أشعار كاتولوس:
(سميرنا) صديقي كينَّا،
التي نُشرت أخيرًا
بعد تسعة فصول حصاد،
وانقضاء تسعة أخرى مشاتٍ
منذ الابتداء فيها،
بينما في عامٍ واحد
كتب هورتينسيوس
خمسمائة ألف بيت من الشعر.
كان هؤلاء الثلاثة غاليِّين، ومن الأغراب الوافدين إلى روما، أما الأعضاء الآخرون
المنتمون
إلى ندوة هذا الشاعر، فكانوا ينتسبون إلى عائلاتٍ إيطالية عريقة في القدم؛ فقد كان هناك
كورنيفيكيوس Cornificius مؤلف ملحمة جلاوكوس Glaucus القصيرة، والذي كانت أخته كورنيفيكيا شاعرةً
أيضًا، وقد لقي حتفه في ميدان القتال إبان الحروب الأهلية، التي اضطرمت نيرانها في عام
٤١ق.م. وكان وقتذاك حاكمًا على أفريقيا، حيث هجره جنوده الذين اعتاد أن يسميهم «أرانب
في خوذات». ويأتي ذكر كورنيفيكيوس هذا على لسان كاتولوس في منظومته الثانية
والثلاثين.
وكان هناك أيضًا أسينيوس بوليو الصغير Asinius Pollio من
تياتي Teate، وكانت سنه في ذلك الوقت لا تزيد على سن
فتًى غض الإهاب، كما تصرح بذلك منظومة كاتولوس الثانية عشرة، وهو الذي اشتُهر فيما بعدُ
كصديق لكل من هوراتيوس Horatius وفرجيل Virgilius.
ومن أصدقائه أيضًا مانليوس توركواتوس Manlius Torquatus
ابن أحد قناصلة عام ٦٥ق.م. الذي طار صيته في الآفاق إثر إعدامه كورنيليوس سولَّا Cornelius Sulla بتهمة الاشتراك في مؤامرة
كاتيلينا Catilina، والذي كتب كاتولوس إحدى
منظوماته تكريمًا لزواجه من جونيا
أورونكوليا Junia Aurunculeia.
هذا فضلًا عن صديقَي كاتولوس الحميمين اللذين وُلدا بمحض الصدفة في يومٍ واحد؛ وهما
ماركوس كايليوس روفوس Marcus Caelius Rufus
وجيوس ليكينيوس كالفوس Caius Licinius Calvus.
لم يتمتع واحد من هؤلاء بما كان يتمتع به كاتولوس، من الذكاء والعبقرية غير كالفوس
الذي طبق صيته الأفاق لا كشاعرٍ فحسب بل وكخطيب مفوَّه، ورغم أنه كان قصير القامة فقد
كان
ألد منافسي شيشيرون.
ولقد كان حديثه ضد فاتينيوس شديد الوقع، حتى إن المدعى عليه التعس صاح في هيئة المحلفين:
«أيها الأخيار، أيحق أن أُتهم بفضل فصاحة خصمي؟!» أما أشعاره وهجائياته السياسية فليس
لدينا
منها إلا كِسَر تدعو إلى الرثاء، ولم يكن من بينها ما يدعو حقًّا إلى الإعجاب، وما يتصف
بالروعة والجمال غير البيتين اللذين كتبهما عن بومبي، واللذين يفوقان في عنفهما ما كتبه
كاتولوس في هجاء قيصر:
عظيمنا الذي يخشاه العتاة،
يحك رأسه بأصبعه.
ماذا يريد؟ وا عجباه!
لعله يهوى رفيقةً لمضجعه.
ويضع هوراتيوس وأوفيديوس الشاعرين في مرتبةٍ واحدة، أما موت كالفوس المبكر في سن الخامسة
والثلاثين فقد كان فجيعةً للأدب اللاتيني، لا تقل عن فجيعته بموت كاتولوس نفسه.
وكان مصدر غبطة هذه الجماعة من الشعراء الناشئين أن نشر كاتولوس أول كُتيب له في
عام
٦٠ق.م. وكان يتضمن مجموعةً من أشعاره الأولى في لسبيا، وبعض محاولات شاعر فيرونا إبان
ميعة
الصبا ونعومة الظفر. ولقد صدَّر كاتولوس كُتيبه هذا بمقدمةٍ هي القطعة الأولى من منظومات
الشاعر المترجمة بهذا الكتاب، ومنها يُفهم أن الشاعر يصدِّر كتابه لأبرز شخصية غاليَّة
كانت في
روما وقتذاك؛ ألا وهي شخصية كورنيليوس
نيبوس Cornelius Nepos، المؤلف المشهور الذي كتب كتابَي «حياة مشاهير الرجال» و«تاريخ
العالم»، والذي لم تخرج كلمات كاتولوس عن مديحه وتمجيده؛ الأمر الذي دفع نيبوس إلى رد
هذا الجميل فيما بعدُ بجميلٍ مماثل، فلم ينسَ عند الكلام عن «حياة أتيكوس Atticus» أن يضع كاتولوس في قائمةٍ واحدة مع لوكريتيوس Lucretius كأعظم شعراء عصرهما.
ولقد قضى كاتولوس معظم السنوات الثلاث التالية إما في روما أو باياي Baiae، أو في بعض الأماكن الأخرى التي يجد فيها الإنسان المتعة والسرور،
مكرسًا بعض الوقت كما نعتقد لكتابة الشعر، هذا وإن كان شغله الشاغل إبانها انحصر في كلوديا
وفي تلك الجماعة من الشباب المرح الوثاب أمثال فاروس Varus
وفلافيوس Flavius وكاميريوس Camerius ونسائهم.
وفي هذا الوقت بالذات تقع أحداثٌ سياسية؛ ذلك لأن بومبي وكراسُّوس Crassus وقيصر، كانوا قد غامروا بمواردهم من الجنود والمال والحنكة ضد
الدستور القديم، كما أصبح قيصر في عام ٥٩ق.م. قنصلًا، وذهب في العام التالي إلى بلاد
الغال
ليتبوأ هناك منصبًا دائمًا لمدة خمس سنوات. وفي ربيع نفس العام دبَّر كلوديوس خطةً لنفي
شيشيرون، كما بدأ في روما الاعتماد على حكم العامة العنيف رغم أنف بومبي، واستمر ذلك
ثمانية
عشر شهرًا كاملة.
بيد أن هذه الأحداث السياسية كلها لم تكن لتثير كاتولوس، أو على الأصح كانت في المرتبة
الثانية بالنسبة إلى شئونه الشخصية، غير أن الأزمة التي أصابت ثروته الخاصة، كانت وحدها
العامل الأول الذي دفع كاتولوس إلى أن يقبل هو وهيلفيوس كينَّا Helvius Cinna منصبًا ضمن هيئة العاملين مع جيوس ميميوس Caius Memmius مالك بيثينيا.
وكان ميميوس هذا الذي صُدِّرت باسمه منظومة لوكريتيوس عن طبيعة الأشياء De rerum natura، من غواة الشعر كزميله كالبورنيوس بيسو Calpurnius Piso قنصل مقدونيا السابق، وكان قد
انضم إليه في ذلك الوقت صديقان آخران من أصدقاء كاتولوس هما فيرانيوس Veranius وفابولوس Fabullus، ويحتمل أن
الحاكمين قد اعتبرا تعيينهما هذا دليلًا قاطعًا على إخلاصهما للأدب.
ولكن الأمر في حال الأربعة يشير إلى أن المجد المكتسب يفوق الربح المقتنى.
ولقد أمضى كاتولوس عامًا واحدًا في وظيفته، ثم عاد في ربيع عام ٥٦ق.م. ساخطًا حانقًا،
وكان
قد اشترى لأجل هذه الرحلة ذلك الزورق السريع الذي وصفه لنا في المنظومة الرابعة،
والذي كان في مقدوره أن يجلبه من أماستريس Amastris،
مينائها الأول إلى البروبونطيس Propontis. فلما ركب
كاتولوس ظهر زورقه في كيوس Cios، زار أولًا وقبل كل شيء
قبر أخيه في طرود Troad، وبعد أن مرَّ بمدن سواحل آسيا
الصغرى المشهورة عبر بحر إيجة، عن طريق رودس وديلوس وكيكلاديس Cyclades إلى مضيق كورنثة، ثم نُقل الزورق إلى خليج كورنثة ليبحر شمالًا
عبر البحر الأدرياتيكي، ومن هناك عبر نهر البو po
ومينيكيو Minicio إلى حيث بحيرة جاردا.
ويبدو أن كاتولوس أمضى العامين الأخيرين من حياته في سيرميو وفيرونا، ولم يخلُ الأمر
من
زياراتٍ خاطفة إلى روما مفكرًا — كما فعل كيتس Keats من
بعده — في موت شقيقه وفي حبه التعس، آملًا أن ينسى أحزانه وقرض الشعر. ولهذه الحقبة من
الزمان ينتمي عدد لا يستهان به من أشعار كاتولوس القصيرة؛ أفضلها منظومته عن أكمي وسيبتيميوس Acme & Septimius، وأردؤها ما كتبه عن
مامورَّا Mamurra، ويتجلى فيه ما بين الشاعر ومامورَّا من
تحاملٍ شخصي محض مردُّه أميانا Ameana؛ تلك السيدة التي كان
بينها وبين الفضيلة حب مفقود، كما كانت ذات يوم موضوع حب كاتولوس حتى هجرته إلى أحضان
القائد …