الباب الثاني
غرام كاتولوس بليسبيا
تداعب قصص الغرام بسحرها المغري خيال الشباب والشيوخ من الجنسين فتجيش لها أقوى العواطف،
كما يستجيب لها أكثر المشاعر العالمية. بيد أنه عندما تكون المحبوبة من ألمع شخصيات عصرها؛
فإن نفوذها لا ينبسط على المسرح السياسي فحسب، بل وعلى المجتمع أيضًا، فيبلغ نفوذها شأوًا
لا
يقل في عظمته عن خطورته، فيزداد الأمر عندئذٍ أهميةً ويكون لأدق التفاصيل في حياة الحبيبة
الخاصة قيمتها البالغة لدى المؤرخ والتربوي. فإن حدث وكان الطرف الثاني شاعرًا غراميًّا؛
فإنه يسجل في أشعاره جميع مراحل علاقته الغرامية منذ أول لحظة من لحظات الطرب والسرور
إلى
آخر شقوة من شقوات الحب الفاشل دون أن يترك أي نقد أدبي لشعره، مهتمًّا أشد الاهتمام
بالتعبير الدقيق عن كل خلجةٍ من خلجات الحس، حتى تبدو صورة رائعة للمشاعر والعواطف
الإنسانية، مجسمة ناطقة. فلعل هذا وحده من الأسباب الأولى التي تجعل من قصة غرام ليسبيا
وكاتولوس موضوعًا جديرًا بالتسجيل وقصةً خليقةً بالذكر، وروايةً غراميةً تتجاوب مع العواطف
الإنسانية الرقيقة، وإن كانت لا تخلو من تباريح الهوى ومن النيران المتأججة المستعرة
التي
يُكوى بها قلب كل محب. ولعل غرام كاتولوس هو الذي صدق فيه قول الشاعر العربي:
سلني عن الحب يا من ليس يعلمه
ما أطيبَ الحب لولا أنه نَكِدُ!
طعمان حلو ومر ليس يعدله
في حلق ذائقه مرٌّ ولا شهدُ
أو قول زميله:
سلني عن الحب يا من ليس يعلمه
عندي من الحب إن ساءلتني خبر
إني امرؤ بالهوى ما زلت مشتهرًا
لاقيت فيه الذي لم يلقه بشر
الحب أوله عذب مذاقته
لكنَّ آخره التنغيص والكدر
فقد كان غرام كاتولوس حقًّا مزيجًا من الحنظل والشهد، خليطًا من المسرات
القلبية والآلام النفسية. ولقد تولى كاتولوس في أشعاره تسجيل مشاعره هذه في غير حياءٍ
ولا
خجل، وفي صراحةٍ تدعو إلى العجب، ودقة تثير الدهشة، وبساطة ترفع من شأن شاعرنا الولْهان
وتجعله رائدًا أوَّلَ بين شعراء الغرام عند الرومان، وتبوئه عرشهم أجمعين كأول من جاهر
بأحاسيسه الغرامية، وأصدق من صرح بما يعانيه من تباريح العشق وما يقاسيه من آلام الغرام
ومن جفاء الحبيب وصدوده اللعين. حتى إن قصة غرام الشاعر راحت تجري من فمٍ إلى فم، وطفقت
تنتقل من دارٍ إلى دار، حتى صارت مدار حديث المجالس والمجتمعات، وأصبحت مضرب المثل بين
سكان
المدينة، ومقياس العشق كلما عرض ذكر للعشق الروماني على لسان أحد. إن كل قارئ لأشعار
كاتولوس الغرامية لن يغيب عليه قط مأساة الشاعر الغرامية، ولن يعجز عن تفهم مدى أثر ذلك
في
حياته وقلمه. كان كاتولوس وهو يسجل أشعاره في حب ليسبيا لا يردد قول أحد غير قول الذي
أنشد:
يا أيها الرجل المعذب بالهوى
إني بأحوال الهوى لعليم
الحب صاحبه يبيت مسهَّدًا
فيطير منه فؤاده ويهيم
والحب داء قد تضمنه الحشا
بين الجوانح والضلوع
مقيم
والحب لا يخفى وإن أخفيته
إن البكاء على الحبيب يدوم
والحب فيه حلاوة ومرارة
والحب فيه شقاوة ونعيم
والحب أهون ما يكون مبرِّح
والحب أصغر ما يكون عظيم
أحب كاتولوس ليسبيا، أحبها حبًّا جارفًا ملك عليه شَغاف
قلبه، فكان حبًّا نقيًّا كماء الغمام، طاهرًا كصحائف الأبرار، عظيمًا كموج البحر، فأحس
بليسبيا كأنها في دمه نور، وفي كِيانه سحر، وفي حياته رجاء وأمل.
فمن تكون ليسبيا هذه؟ وكيف وقع كاتولوس في حبها؟
لم تكن ليسبيا حرةً طليقة، أي لم تكن عذراء فتية، ولا بكرًا نقية، بل كانت امرأة،
أو قل
زوجةً تنتمي إلى طبقة دونجوانات روما. ولم تكن زوجة رجل مغمور أو بعل من عامة الشعب،
بل
كانت زوجة كوينتوس كايكيليوس ميتيلوس
كيلير Quintus Caicilius Metelus Celer، وابنة أبيوس كلوديوس
بولكر Appius Claudius Pulcher، وشقيقة بوبليوس
كلوديوس Pubilus Clodius. ولم تكن امرأةً بسيطة الشأن أو خاملة الذكر، بل كانت من أقطاب
عصرها، ومن مشاهير بنات جنسها. لم تكن ليسبيا امرأةً ساذجة، بل كانت لغزًا أنثويًّا حيًّا
ممثلًا في غادة ماكرة غزلة لعوب، تعرف كيف تأسر في ثقة، وتجذب في سكينة، وتفتن في صمت،
وتستميل في إغراءٍ هادئ مطمئن عميق، لا يكشف سرها ولا يميط اللثام أبدًا عن حقيقة
شخصيتها، لقد كانت ذئبًا في فراء حمل وادع.
لم يكن «ليسبيا» الاسم الحقيقي لتلك السيدة التي ألهبت قريحة كاتولوس كما أشعلت بالحب
قلبه، بل هو الاسم الذي استخدمه الشاعر في قصائده، كلما أراد أن يعنيَ حبيبته
«كلوديا».
أما الأدلة على أن ليسبيا هي كلوديا نفسها، فليست قليلة، وكلها في متناول أيدينا؛
فلقد
ذكر لنا أوفيديوس في منظومته «تريستيا Tristia» ما يؤكد أن
كاتولوس كان يستخدم اسم «ليسبيا» على سبيل الكناية: «كثيرًا ما كان يترنم كاتولوس السعيد
بحبيته ويسميها بالاسم الزائف (ليسبيا).»
أما أبوليوس Apuleius أحد كتاب القرن الثاني للميلاد،
فيؤكد بصفةٍ قاطعة أن «ليسبيا» هي «كلوديا» ولا أحد غير «كلوديا». إذ يقول: «دعهم يلومون
كاتولوس لاستعماله الاسم «ليسبيا» كنايةً عن «كلوديا».»
غير أن كاتولوس في منظومته التاسعة والسبعين يحدثنا عن شقيق لليسبيا يُدعى «ليسبيوس»،
ويسميه «بولكر» أي «الفتى الجميل». وهذه هي الدعابة التي كثيرًا ما كان يلجأ إليها شيشيرون
مع الاسم كلوديوس، وإن كان بدوره يشير من طرفٍ خفي إلى إثم العلاقة الوثيقة التي بين
الحبيبين.
كذلك نجد كاتولوس في المنظومة السابعة والسبعين التي كتبها في عام ٥٨ق.م. يسب صديقه
روفوس
الذي سرق منه أغلى ما كان يملك.
وفي هذا العام بالذات، أي بعد موت ميتيليوس، كما علمنا من خطبة لشيشيرون دفاعًا عن
كايليوس Pre Caelio، إذ كان ماركوس كايليوس روفوس يعيش
مع كلوديا في بيتها فوق تل البلاتين.
والآن يمكننا دون أي عناء أن نكشف الستار عن مسرحية كاتولوس الغرامية وعن شخصيات أبطالها
المبرزين، كما يمكننا أن نذكرهم بأسمائهم الحقيقية دون حاجة إلى أسماءٍ مستعارة؛ أما
البطلان
فهما كاتولوس وكلوديا، يعاونهما في أداء المسرحية ميتيلوس زوج البطلة، وكايليوس روفوس
أصدق
أصدقاء البطل. ومن كان يمثل الجَوقة بكل مستلزماتها من الإسهاب والتطويل؛ فهو المحامي
المشهور والسياسي الداهية، ونابغة زمانه ماركوس توليوس شيشيرون. ولا يجب أن يغيب عن بالنا
أن تلك الزوجة وذلك الزوج كانا ينتميان إلى عائلتين من أعرق العائلات الرومانية نسبًا
وأكرمها محتدًا، وأن الشخصيات الخمس رغم ما في مسلكهم من تلونٍ صارخ، كانوا يحتلون أرفع
المناصب في المجتمع، كما أنهم قضوا حياتهم وهم محط أنظار العامة والخاصة، لا تكف الألسنة
عن
ذكرهم والإشادة بمآثرهم حتى طبقت شهرتهم الآفاق.
كان أهم مظهر من مظاهر سلوك طبقة أرستقراط الرومان القدماء، هو تمسكهم الشديد بتقاليد
العائلة التي ينتمون إليها وبعاداتها؛ فمن مميزات عائلة كلوديا مثلًا الاعتداد بالنفس
الذي هو أقرب إلى الكبرياء والغطرسة، والاحتقار الشديد للرأي العام، هذا فضلًا عن
كفاءةٍ خاصة، أدبية وفنية لا يتمتع بها غيرهم من أبناء أمتهم. فلقد كان من بين أسلاف
كلوديا، الحكام العشرة المتغطرسون الذين تدين إليهم روما بالألواح الاثني عشر؛ مصدر
قانونها ووحيه، وذلك الرقيب الأعمى الذي شيد طريق
أبيا Appian Way وخزان أبيا Appian Aqueduct، وأحد أوائل المؤلفين اللاتينيين، وتلك العذراء
الفيستالية التي شهدت لها السموات بالعفة والطهارة.
وكانت كلوديا نفسها تتمتع بنصيبٍ وافر من تلك العبقرية الخارقة التي أكسبت عائلتها
ذلك
المجد الرفيع والاحترام العظيم.
فمن الجلي إذن أن كلوديا قامت بثورةٍ ضد التقاليد والعرف، ولو أنه كان في مقدورها
بحالٍ
من الأحوال أن تنال السعادة في حياتها الزوجية؛ لكانت قد وُفِّقت إلى شريكٍ أكثر لياقةً
في شخص
رجل له مثل عبقرية شيشيرون، القادر وحده على الوصول إلى مدارك فهمها. وما كان لها أن
تتزوج
محض جندي كميتيلوس الذي تزوجته.
أما إذا ذكرنا شيئًا عن طبائع عائلة ميتيلوس، فأنسب لفظ للتعبير عن هذه الطباع جملةً
هو
لفظ «الصرامة gravitas»، الذي يُستخدم في اللغة
اللاتينية كمرادف لكلمة «حماقة» أو «غباء». ولقد زوَّدت عائلة ميتيلوس الدولة لأجيالٍ
عديدة
بسلسلةٍ متواصلة من السياسيين المحافظين والإداريين المتزمتين والقادة الصارمين. ولقد
حدث
أن أحد أفراد عائلة ميتيلوس ألقى بالشاعر نايفيوس Naevius
في غياهب السجون؛ لأنه جرؤ على انتقاد سلطته إبان الحرب
البونية Punic War. وتزعَّم ميتيلوس آخر حركة المقاومة العنيفة التي أباحها مجلس الشيوخ
ضد التشريع الجراكهي Gracchan Legislation. هذا فضلًا عن
ميتيلوس الذي قاد دفة الحرب ضد يوجورثا Iugurtha في ذلك
الأسلوب البطيء حتى ألفى نفسه — وقد ألم به حزن شديد — قد حل محله ماريوس المحدث. وكان
كوينتوس كايكيليوس ميتيلوس كيلير زوج كلوديا ينتمي إلى هذا البيت الروماني، وتسري في
دمائه
تلك النزعة التحفظية المتزمتة.
كان ميتيلوس هذا أحمق، ولكنه كان عنيدًا، وكان في حياته الخاصة سمجًا فظًّا، وإن كان
في
حياته العامة وقورًا جدًّا ورزينًا للغاية؛ لقد كان مع جموع الشعب وقحًا متغطرسًا، بينما
كان مع أبناء عشيرته لطيفًا رقيقًا.
وإن أردت الحق، فإن ميتيلوس كان مثلًا صادقًا للأرستقراطي الروماني القديم، ولذلك
الزوج
العاجز عن السيطرة على امرأةٍ جديدة كزوجته، الفاشل في شق طريقه عبر خضم السياسة المضطربة.
فالسياسة العملية — أي المتضمنة أولًا وقبل كل شيء؛ معرفة الطريق الذي سيسلكه الناس في
إعطاء أصواتهم قبل التصويت بفترةٍ من الزمان — قد أثارت مشكلةً عويصةً في عصره، كان حلها
فوق
طاقة رجل له ذكاؤه ونباهته.
ومع ذلك فقد كان ميتيلوس رجلًا له بعض الصفات القوية؛ ففي عام ٦٣ق.م. لعب دورًا بارزًا
في
تحطيم قوات كاتيلينا المسلحة، فكافأه شيشيرون على ذلك بأن وكَّل إليه في العام التالي
حكم
غاليا كيسالبين Cisalpine Gaul، إذ رأى شيشيرون أن
الصالح العام يتطلب منه أن يبقى هو في روما. ومن ثم في ربيع عام ٦٢ق.م. رحل ميتيلوس ومعه
زوجته إلى تلك الولاية، ويحتمل أن يكون بعد مُضِي بعض الوقت في حكم هذه الولاية. قد التقى
حبيبانا في فيرونا وبدءا غرامهما الذي تكشف أشعار الشاعر عن الكثير من مراحله والتغيرات
التي اكتنفته.
كان كاتولوس في ذلك الوقت في الثانية والعشرين من عمره، أي إنه كان في السن التي
تمكنه من
التعرض لبعض التجارب البسيطة في الحب مع بعض العذارى اللطيفات المعشر من أمثال إبسيثيلَّا Ipsithilla وأوفيلينا Aufilena، ولكنه كان صغير السن من غير شك، وفي غاية السذاجة، ومن ثم لم
يقو أمام حب هذه المرأة الرومانية العظيمة، التي تنازلت فخصته هو دون غيره بنظرات الحب
ولمحات الهُيام، فجرفته في تيارها واكتسحته بسحرها وأوقعته في حبائلها حتى الثمالة. وكانت
سن كلوديا نفسها تزيد على سن كاتولوس بما يقرب من العشر سنوات، فقد كانت تقترب من ذلك
السن
الذي يسميه أوفيديوس سن الفتنة والجاذبية (امرأة في سن الثلاثين)، كما كانت قطعةً من
الإغراء الفتان، بديعةً فريدةً المثال، أشبه بالبدر المنير بين النجوم السواطع، ذات وجه
صبوح
وعينين دعجاوين، في وجهها هدوء، وفي عينيها صفاء، ولصورتها رُواء، هيفاء متناسبة الطول
معتدلة القد، مرفوعة الرأس دائمًا، لا يبدو وجهها إلا مليحًا صبوحًا واضحًا. تسير في
طريقها فلا تنحرف ولا تميل، كاملة بارعة تعزف لحنًا ساحرًا، فتجذب بظاهر فتنتها قلبًا
بعد
قلب. وكان عنقها الأتلع المستدير يشبه برجًا من اللجين الخالص، وذراعها البضة تشبه فرعًا
مجيدًا من شجرةٍ مباركة، كل ورقة فيها تفيض بالبهاء والنور. وكان جبينها ناصعًا كالصراحة،
ونظراتها باترة كالعزيمة، ولمعة تفكيرها العبقري تجثم في عمق عينيها كما يجثم سر الحياة
الكبرى في مقدس بدنها الغض الجميل. أسنانها بيضاء كياسمين منضد، صقيلة لماعة كأندر العاج
وأغلاه. ممشوقة القَوام في شموخ ساطع، جريئة الروح في اتقادٍ ناضر، مشبوبة القلب، مضطرمة
العاطفة، أهدابها كحيلة سوداء ذات وطف، ثغرها دقيق عذب المراشف، قد فرع عودها وبرز نهداها
المثمران المتحلبان نعيمًا، كما استدار وجهها وتلألأ جبينها المشرق كأنه الهلال الوليد
يطل
من الأفق.
كانت كلوديا إذن مثلًا صارخًا من الجمال الإيطالي الذي كان يتخذه بعض الفنانين
نموذجًا حيًّا لهم في فنهم. هذا وإن كان كاتولوس لم يذكر لنا في أشعاره من أوصاف كلوديا
الجسدية إلا النزر اليسير عن قدمها الدقيقة، ويدها المستدقة، وأنفها الصغير المستقيم
وعيونها السوداء اللامعة.
أما شيشيرن الذي كان يعرفها معرفةً جيدة، والذي فكر مليًّا في الطلاق من زوجته
تيرينتيا Terentia من أجل الزواج منها، فقد اعتاد أن
يصفها دائمًا بتلك الصفة الهومرية المشهورة «ذات عيون المها»، التي تُنسب دائمًا لملكة
السموات. ولا شك أن كلوديا قد بدت لكاتولوس في بادئ الأمر كأنها جونو Juno متجسدة، لها جمال وجلال زوجة جوبيتر Jupiter ملك الأرباب والبشر.
كانت القصيدة الحادية والخمسون هي أول القصائد التي كتبها كاتولوس في حبيبته كلوديا،
وفيها يصف مشاعر المتعبد المتحمس في حضرة معبوده، وهي ولا شك تعبر تعبيرًا صريحًا عن
عواطف
وخلجات صادقة. ويحتمل أن فارق السن والشباب هو الذي دفع كاتولوس إلى اقتباس آراء
وكلمات شاعر آخر واستخدامها لتحقيق مآربه. فهذه القصيدة محض ترجمة لإحدى أشعار سافو Sappho الخالدة، وهي من حيث الشكل ناجحة كأي ترجمة يمكن أن
تتم لقصيدةٍ من قصائد سافو، وهي في كلماتٍ أخرى فشل كان للقضاء والقدر دخل كبير فيه.
أما عن
الفكرة فيحتمل أن كاتولوس قد تعذر عليه أن يلمس أن نوع حب سافو لصديقها يختلف تمام
الاختلاف عن حبه هو لكلوديا، ولكنه يرى أن الأصل قد كُتب لفتاةٍ من ليسبوس Lesbos، ومن ثم فهو يزج بالاسم «ليسبيا» الذي راح
يستخدمه في جميع أشعاره كاسمٍ مستعار لحبيبته.
ويحق لنا أن نفترض أن هذه القصيدة الأولى في التودد والتقرب كانت كافيةً لكي تغمر
قلب
السيدة بالغبطة والسرور. ولقد سُمح للشاعر أن يتعرف إليها وأن يتقرب منها، ومن ثم فإن
القصيدة التالية قد صدَّرها الشاعر بذكر عصفور حبيبته الأليف الذي اعتادت أن تتركه يقفز
على نحرها وفي حجرها. ولعل هذه القصيدة هي التي جعلت مارتيالوس Martialus يسمى كاتولوس «مؤلف قصيدة العصفور».
أما حياة العصفور فقد جُعلت كأقصر ما يكون، شأنها في ذلك شأن عواطف كلوديا نفسها.
وفي
القصيدة الثالثة التي ملأها الشاعر بألفاظ التصغير وتعبيرات الاغراء والتقدير، سُجلت
وفاة
العصفور المسكين.
فهذه القصائد الثلاث الأولى التي يحتمل أن يكون كاتولوس قد كتبها في فيرونا، لا تُظهر
كاتولوس إلا كمعجب متحمس وكمحب بريء ساذج.
أما في قصيدة «القبلات» وفي قصيدة «الدعوة إلى الحب» المحتمل كتابتهما في روما، حيث
كان
الشاعر قد تبع كلوديا في عام ٦١ق.م. فإن كاتولوس يبدو فيهما في شخصية المحب الذي حظي
حبه
بالقَبول، كما أنه قد عبر فيهما أحسن تعبير عن سرور الشاب الولهان الغارق في الحب إلى
الآذان.
فهذه القصائد الخمس التي هي أول سِجِل لمظاهر حب كاتولوس السعيد.
وفي سذاجة الشاب اليافع، اعتبر كاتولوس أن من حقه أن تنسى كلوديا من أجله واجبها
نحو
ميتيلوس، ولكنها عندما بدأت تمارس حرية الاختيار التي كان الرجال يدعونها دائمًا إلى
أنفسهم، وما إن بدأت تسأم وتمل عشقه الحار، مفضلةً عليه آخرين من المعجبين بها؛ فإن آراء
كاتولوس في الإخلاص تطورت وتغيرت. وبعد ذلك ببضع سنين حاول كاتولوس في القصيدة الثامنة
والستين أن يستعيد أولى جذوات حبه؛ فصوَّر إحدى مقابلاته السرية مع حبيبته في بيت صديقه
أليوس
Allius، ونراه يتخيل نفسه محبًّا صبورًا رَضِيَّ
الأخلاق:
أعرف أنني لا أستطيع أن أكون حبيبها الأوحد، وأنه يجب عليَّ أن أتحمل ضعفها في رقةٍ
وكياسة، فلست من صنف الزوج الغيور.
فإن تك هي حصيفة، فلسوف أكون أنا أعمى.
ولكنه في حقيقة الأمر لم يكن أعمى ولا رضي
الأخلاق، كما أنه كان بعيدًا كل البعد عن السعادة.
هذا إلى أن الوضع في روما اختلف كل الاختلاف عنه في فيرونا؛ ففي العاصمة لم يكن المشكل
الذي يواجه المرأة منحصرًا في الكيفية التي تقضي بها وقتها، بل كان بالأحرى مقصورًا على
وسيلة إيجاد الوقت لتلك المسرات التي لا حصر لها، وتلك المشاغل التي كانت تملأ أيامها.
لم
يكن جل همها إزاحة الستار عن حبيبٍ واحد لائق، بل كيفية المحافظة على زمرةٍ من المغازلين
الشغوفين في حالة من الغبطة والسرور. وفي عام ٦٠ق.م. أصبح ميتيلوس قنصلًا، فتركزت جميع
جهوده في أن يضع بومبي في مكانه اللائق، وهكذا قلَّت أمامه الفرص والمناسبات عنها في
أي
وقتٍ آخر لتلك المراقبة الزوجية التي كانت كلوديا في مسيس الحاجة الشديدة إليها. لقد
كانت
كلوديا محاطةً بهالةٍ من الشباب اليافع، الذين وجد كاتولوس في أغلبهم منافسين ألداء له
في
حب كلوديا. ولعل هذا يوضح لنا شيئًا عن طبيعة كلوديا، وكيف استطاعت أن تعذب محبًّا شديد
المِراس، كما أزاح الستار عن هذا كاتولوس نفسه. فيصر كاتولوس على اعتبار كلوديا إحدى
ممتلكاته، ويصر على ذلك بطريقةٍ تدعو إلى الضحك والسخرية، إن لم تكن تدعو إلى الرثاء
أيضًا؛
فنراه يُحذِّر في شيءٍ من الجد والصرامة المعتدين على حبه والمنتهكين حرمته من أمثال
كوينتيوس Quintius ورافيدوس Ravidus وجيليوس Gellius، متظاهرًا كمن
له الصولة السلطان، غير عابئ بكرامة زوج مسئول، لابسًا رداء المحب المتغطرس الولهان.
فليس
بمستعجب إذن ولا بمستغرب أبدًا أن تتعدد المنازعات والمشاجرات، وأن تكفل لنا القصائد
التي
كتبها كاتولوس عن ليسبيا إبان عام ٦٠ق.م. تاريخًا مريرًا لتلك التعنيفات المريرة واللائمات
القاسية، فضلًا عن مناسبات الوفاق القصيرة الأمد، ومرات الوئام والانسجام القليلة
العدد.
وعلى كلٍّ فقد كان على كلوديا إبان حياة ميتيلوس أن تحافظ على احترامٍ معين للمظاهر،
فضلًا عن أن واجباتها الزوجية قد زودتها بلا شك بحجةٍ مريحة للتعامل مع مغازلٍ ولهان
قد برح
به الهوى. ولكن في عام ٥٩ق.م. وقعت حادثة ألحقت بموقفها تغييرًا كبيرًا ملحوظًا؛ فميتيلوس
وقد أنهكه ما كان يكتنف السياسات الرومانية من تعقيداتٍ لا مثيل لها، قد مات فجأة، وإذ
انتقلت كلوديا إلى الإشراف الاسمي على أخيها سكستوس كلوديوس بولكر، ألد أعداء شيشيرون،
فقد
أضحت مستقلةً تمام الاستقلال كأرملةٍ في سن الخامسة والثلاثين وكصاحبة ثروة طائلة. والمجتمع
الروماني الذي تختلف أفكاره في المزاح اختلافًا بيِّنًا عن أفكارنا، راح يقول مازحًا:
«إنها سممت زوجها، وكانت عشيقة أخيها أيضًا.» بيد أنه من الخطل أخذ مثل هذا المزاح مأخذًا
جديًّا. حقًّا إن كاتولوس وشيشيرون يكرران هذه الأقوال، ولكن كليهما شاهد لا يعتد به.
فالحقيقة المقطوع بها والتي لا مراء فيها؛ ذلك أن كلوديا بعد وفاة زوجها قد وقع اختيارها
على ماركوس كايليوس روفوس Marcus Caelius Rufus الذي
كان تحت حماية شيشيرون، وصديق كاتولوس الحميم، وأحد المغامرين الجسورين الذين ذاع صيتهم
في ذلك العصر المضطرب، قد وقع عليه اختيارها حبيبًا مفضلًا لا يجاريه في قلبها أي
حبيب.
أما كيف استطاع كاتولوس أن يتحمل صدمة التنحي عنه وطرحه في عالم النسيان، ولفظه لفظ
النواة وجعله ذكرى لغرامٍ مضى وانقضى، فيمكننا أن نلمسه من تلك الأبيات المريرة، التي
تضمنتها القطعة السابعة والسبعون والمصدرة باسم روفوس.
ولكن بقدر ما كانت الضربة قاصمةً لمركز كاتولوس الأدبي ولقيمته الشخصية، فإن تعلقه
بحبيبته
السابقة كان تعلقًا شديدًا بعد تلك الروابط الغرامية الماضية، حتى أصبح من العسير عليه
الخلاص منها ومن قيودها؛ ومن ثم فهو يكتب لها في شبه تراكيب هي خليط تارةً من السب والحب،
وطورًا من الاعتراف والاستغفار، وأحيانًا أخرى من الثورة ضد عبودية المشاعر والأحاسيس،
فيقول:
لا أستطيع احترامك
وإن كنت صادقة،
ولا الكف عن حبك
مهما كنت فاعلة.
وتجري القصيدة الثانية والسبعون على نفس النمط:
أعرفك الآن أفضل من قبلُ،
وها أنا ذا أقر وأعترف
بأن حبي لك ينمو ويزيد،
بينما تقديري يقل وينكمش.
وأخيرًا نجد الشاعر يُجمِل ذلك العراك الصارم بين العاطفة والكرامة الشخصية في بيتين
من
الشعر متأججين، بعنوان «أمقت وأحب»:
أكره وأحب،
فلا تسأليني عن السبب؛
فمهما حاولتُ لا أعرفه،
وإن كنت أحس بأنه ألمٌ مبرح.
ومن الخطبة التي ألقاها شيشيرون دفاعًا عن كايليوس في عام ٥٦ق.م. يمكننا أن نكوِّن
فكرة عن
لون الحياة التي تحياها كلوديا وجمهرة فرسانها من أمثال كايليوس وكاتولوس وكالفوس ومن
عداهم إبان عامي ٥٨ و٥٧ق.م. لقد كان للسيدة بيت ريفي فوق تل البلاتين بالقرب من نهر
التيبر حيث كانت، مثلها في ذلك مثل ميديا Medea، تمارس فن
السحر وتزاوله، وقد ساعدها على ذلك ثروتها الطائلة وجمالها الفتان. وكان وفاضها وفراشها
مباحين لكل حبيب طارق، كما أن ليالي الشتاء كانت تمر سريعًا في حفلاتٍ وولائم متعاقبات،
وفي
رقصاتٍ وما يشبه الرقصات من شتى ألوان اللهو والترفيه عن النفس. فإذا جاء الصيف استجم
الفريق كله عند شاطئ البحر. وفي حمامات باياي ظل السعي وراء الملذات والمسرات على أشده،
والانغماس في الخلاعة والمجون مستمرًّا مع شيءٍ من الإباحية التي يندر السماح بها في
روما.
والآن، لندع شيشيرون نفسه يتكلم مدافعًا عن موكله أمام جمع السناتو في تُهمتَي دس
السم
وابتزاز الأموال، وهما التهمتان اللتان وجهتهما إليه كلوديا: «سادتي، إننا في هذه الدعوى
لا نتعرض لأحدٍ غير كلوديا، تلك السيدة الكريمة المحتد،
الطائرة الصيت، بيد أنني لن أقول عنها شيئًا إلا بالقدر الذي يتحتم عليَّ بيانه لكي
أدحض الاتهام الموجه نحو موكلي. وإن لم تتهمه كلوديا بأنه قد أعد السم لها، وإن لم تقل
إنها
أقرضت كايليوس أموالًا. فكم تكون وقاحتنا إذا تكلمنا عن سيدةٍ يختلف شرفها عما يستلزمه
شرف
السيدات الرومانيات. ولكننا إذا نحيناها جانبًا، ولم يجد خصومنا اتهامًا يوجهونه ضد
كايليوس، ولم تبقَ هناك وسيلة لمهاجمته، فما الذي يتحتم عليَّ، بصفتي محاميه إلا أن أصد
كَرَّة من يهاجموننا؟ أما عن هذا الذي أقوله، فقد أقوم به حقًّا بمنتهى الصرامة، لولا
تلك
البغضاء التي بيني وبين زوج هذه السيدة — أعني بيني وبين أخيها — حيث إنني دائمًا أبدًا
أقع
في هذا الخطأ.
وكما هو واقع الحال فإنني سأتصرف في لينٍ خشية أن أتجاوز الحدود التي يرسمها واجبي،
أو تقتضيها القضية التي وُكِّل إليَّ الدفاع فيها؛ فكثيرًا ما اعتقدت أنه من المفروض
عليَّ أن
أتجنب العلاقات السيئة مع السيدات، وخاصةً مع كلوديا التي دأبت دائمًا على أن تكون حميدة
الطباع في مسلكها مع الناس أجمعين، متحاشيةً في ذلك أي عداوة قد تنشب بينها وبين أي فردٍ
من
الناس.
ولكني أولًا وقبل كل شيء سأستفسر منها لأعرف هل تفضل أن أتصرف معها بأسلوبٍ صارم
رسمي
عتيق، أو بطريقةٍ لينة رقيقة مليئة بالمجاملة. فإن كانت تفضل الأسلوب الصارم، فلا بد
لي من
أن أستدعي من دنيا الأرواح أحد أولئك السادة، طويلي اللحى — ولن تكون لحيته قصيرة كلحية
من
هي متيمة به الآن، ولكنها ستكون لحيةً كثةً كتلك التي نراها في التماثيل والصور القديمة
—
فهذا الذي سأستدعيه، سوف يزجر السيدة، متحدثًا إليها بدلًا مني خشية أن تغضب هي مني الآن.
والآن لندع أحد أفراد عائلتها ينهض، وليكن أبيوس Appius
الضرير، قبل غيره. فحيث إنه لا يستطيع رؤيتها؛ فسيكون من ثم أقل الناس حزنًا. فلئن ظهر
حقيقة؛ لكان تصرفه كالآتي، ولوجه إليها الخطاب قائلًا: «أيتها المرأة! ما شأنك مع كايليوس؟
ما أمرك مع هذا الصبي؟ ماذا دهاك مع غريب؟ وكيف كان رضاك؟ لم كنت تظهرين له مثل هذا الود،
حتى أقرضته بعض مالك فأصبحت هكذا عدوته، حتى أضحيت تخشين أن يدس لك السم؟ ألم تشاهدي
أباك
وهو في منصب القنصل؟ أما سمعت أن خالك وجدك وجد جدك وكبير أجدادك كانوا قناصلةً كذلك؟
أتجهلين أن كوينتوس ميتيلوس كان زوجك؟ وأنه كان من أبرز الرجال وأشجعهم؟ بل كان وطنيًّا
غيورًا قضى بمجرد ظهوره في الحياة العامة على جميع مواطنيه، وسلبهم المجد والكفاءة
والكرامة؟ ثم لِم بعد أن تزوجت من تلك العائلة العريقة الأَرومة، الكريمة المحتد، الشريفة
النجار، الطائرة الصيت، وأنتِ يا من تنحدرين من بيت كريمٍ شريف، لِم سمحت لكايليوس أن
يُظهر لك
كل هذا الود والحب؟ هل كان بينك وبينه قرابة؟ أكان هو نسيبك؟ أكان صديقًا حميمًا لزوجك؟
الحق أنه لم يكن أحد هؤلاء أجمعين، فماذا يا ترى يكون السبب إن لم يكن محض الطيش والشهوة؟
فإذا لم تحركك صور رجال عائلتنا، أفما كان أجدى بابنتي كوينتا كلوديا Quinta Clodia أن تثير في صدرك أن تنافسيها فيما تتحلى به من الفضائل
العائلية، والعفة التي هي أساس مجد المرأة؟ أفما كان يجب على كلوديا، تلك العذراء
الفيستالية التي كانت متى احتضنت أباها وهو في عربة النصر لم يجرؤ تريبون من ترابنة
الشعب المعادين له أن يحاول عزله من عربة النصر هذه؟ لم إذن تحاكين رذائل أخ، مؤثرة إياها
على فضائل أب أو جد عائلة كاملة أنتمي أنا إليها كما ينتمي غيري من الذكور والإناث؟ هل
رأيتني قد حرمت وطني من الدخول في عالم السلام والوئام مع بيرُّوس Pyrrhus، حتى أسرفت بدورك، في كل يوم تقريبًا، في علاقاتك مع عشاقٍ
مغمورين؟ هل زودتُ أنا المدينة بالماء كي تستخدميها في أغراضٍ نجسة؟ هل مهدت أنا طريقًا
رئيسيًّا لكي تترددي أنت عليه بصحبة فرسانك المتيمين؟»
ولكن ما هذا الذي أفعله أيها السادة؟ فإنني عندما أقدم شخصيةً لها مثل هذا الاحترام؛
أخشى أن ينشق أبيوس نفسه فجأةً على كايليوس ويتهمه بصرامة العذول، ولكني أيها السادة
سأتكلم
بالقدر الذي أستطيعه، وبأسلوبٍ يُشعرني بأنني أخدع نفسي وبأنني أؤيد سلوك كايليوس بما
قد
يرضي حتى أقسى القضاة وأعنفهم. أما أنت يا كلوديا، فلتعلمي أنني الآن أوجه الكلام إليك
بشخصي دون التواء أو اعوجاج؛ لأنك إن كنت تقترحين كسب رضائنا عن أعمالنا وأقوالك، واتهاماتك
وهجماتك، ونشاطك السري، فيجب عليك أن تفسري لنا أسباب تلك الشهرة العظيمة مع موكليَّ،
وتلك
الصداقة العظيمة وهذا الود الصارخ. فإن متهمينا يتحدثون بصوتٍ عالٍ عن دعارات وحماقات،
وعن
ولائم وغراميات، وعن زنًى وأغنيات، وعن موسيقى ورحلات، وعن مراكب للمتعة واللهو غير الشريف،
نراهم في الوقت نفسه يُشيعون أنهم لا يتكلمون بشيءٍ إلا حسب إرشاداتك. وعلى كلٍّ فحيث
إن
مزاحك الممزوج بالعنف والعناد وصلابة الرأي هو الذي جاء بك إلى ساحة الفورم وأوقفك أمام
هذه المحكمة، فعليك إذن إما أن تنفي هذه التهم وتثبتي زيفها، أو ألا تسمحي لدليلٍ واحد
أن
يقوم بحالٍ من الأحوال عونًا على اتهامك أو الشهادة عليك. بيد أنني لو شئت التصرف معك
في
شيءٍ من المجاملة، فلن أفعل غير الآتي:
سأعمل على الخلاص من ذلك العجوز الظلف، الأقرب إلى البرابرة منه إلى أي شيءٍ آخر،
وأختار
أحد أفراد عائلتك ولْيكن أخاك الأصغر قبل غيره؛ فهو في أسلوبه مرآة صادقة للأدب، كما
أنه
يهيم بحبك غاية الهُيام، وكما يخيل إليَّ كانت تنتابه بالليل بعض المخاوف والهواجس، فاعتاد
أن ينام إلى جوارك كأي صبي صغير يرقد مع أخته الكبيرة. فماذا إذن لو راح يخاطبك هكذا
…
«لِمَ يا أختاه تُحدِثين كل هذه الجلبة والضوضاء؟ لماذا أنتِ في هذه العاصفة من الهياج؟
ولِم تُعظمين مثل هذا الموضوع التافه وتجعلين من الحبة قبة؟ لماذا تعطين له هذه الأهمية
بصيحاتك وصرخاتك؟ لقد ركزتِ عيونك على جارٍ شاب، وفتنتك خلقته وطلعته، فضلًا عن عيونه
التي
سحرت لُبَّك، لقد هِمْتِ برؤياه كثيرًا، ولقد شوهدتِ أحيانًا في نفس الدار، وأنت كما
تعلمين
المرأة ذات الصيت العريض، وصاحبة الثراء الطائل. ومع ذلك فلم تستطيعي بحالٍ من الأحوال
أن
تحظَي بحبه الكامل، مع أنه كان ما يزال تحت رعاية أب شديد الرقابة؛ إنه يمتهن هداياك
ويحتقرها مستخفًّا بها. فلْترحلي إذن إلى أي مكانٍ آخر. وهل نسيت الدار التي تملكينها
هناك
بالقرب من نهر التيبر؟ وكيف كنتِ في حين من الزمان في ألمٍ مبرح كي تؤهلي نفسك لذلك المسكن
الذي لا يبعد عن البقعة التي يستجم فيها جميع شباننا؟ كانت أمامك يومذاك فرصة ذهبية كي
تمتعي نفسك كل يوم تقريبًا، فلم تكلفين نفسك مشقة كل هذا الانزعاج من أجل شخص لا يكن
لك إلا
كل احتقار وامتهان؟»»
والجدير بالملاحظة أن شيشيرون لا يتملق ولا يداهن؛ فهو في دفاعه عن كايليوس ضد تهمة
الفسق يتكلم بنفس الصراحة فيقول:
«إنني لا أتكلم الآن ضد كلوديا، بيد أنه لو فرضنا وجود
شخصية أخرى تختلف عنها شكلًا، واحدة من اللواتي يرتكبن الفحشاء مع جميع الرجال، ومن اللواتي
لا يستسغن الحياة بدون شخص يهبهن العواطف ويطارحهن الهوى جهرًا وفي وضح النهار، ومن اللواتي
يفتحن أبواب بيوتهن وحدائقهن وحماماتهن على مصاريعها لممارسة شتى ألوان الدعارة والفجور.
بلى، واحدة من اللواتي يحتفظن بشاب يافع وينفقن من أموالهن لسد الثغرات التي يحدثها الآباء
الممسكون المتزمتون الذين لا يعطون أبناءهم إلا النزر اليسير من المال. لو أن مثل هذه
السيدة تعيش عيشة الدعارة هذه وهي أرملة، وأظهرت فسق طباعها ودعارة ميولها بمسلكها
الشهواني، واستخدمت أموالها في أغراض التبذير والإسراف المقيت، ولئن أدى فجورها إلى احتراف
الدعارة وانتسابها إلى طبقة المومسات الساقطات؛ فهل يمكن اعتبار ذلك الرجل داعرًا أو
فاسقًا
من يتمتع بكامل الحرية في مغازلتها ومطارحتها الغرام؟! ولكن ألا تنفث جيرة كلوديا أزكى
الروائح؟ وهل صوت الشعب صامت لا يتكلم؟ أفلا تنطق مياه باياي؟ إنها لا تتكلم فحسب، ولكنها
تصيح وتصرخ بأعلى صوتها، بما قد بلغه فجور هذه المرأة
الواحدة التي لا تنشد في فجورها عزلةً أو ظلمةً أو ما شابه ذلك من موبقات الإثم فحسب،
بل
وتلتذ كذلك بمزاولة ألوان الدعارة أمام جموع الناس. فلو اعتقد أحد أن الجماع الحر ولو
كان
مع المومسات يجب أن يحرَّم على الشباب؛ لاتَّصف حقًّا بالصرامة والفظاظة. بيد أنني لا
أستطيع
أن أناقضه؛ فهو في اعتقاده — وهذا ما يتحتم عليَّ قوله — لا يختلف عن حرية عصرنا الحالي
فحسب،
بل وعما تعوَّد آباؤنا ممارسته والسماح به. فهل جاء أبدًا زمان قُضي فيه بتحريم هذه العادة؟
فمتى وفي أي زمان جاء اعتبارها تهمةً أو خطيئة؟ وفي أي عصر حُرِّم السماح بها دون السكوت
عنها؟
وباختصار، هل ورد أبدًا زمان حُرِّم فيه ما لم يكن محرمًا من قبل؟ وإني الآن بصدد توجيه
سؤال
دون ذكر أي سيدة، ولكني سأترك لكل شخص أن يدليَ بالحكم الذي يراه؛ لو أن امرأةً غير متزوجة
تفتح أبواب بيتها على مصاريعها لكل زانٍ وفاسق، ولمن يطلبون الشهوة والمتعة، ثم تعلن
أمام
الملأ أنها مومس، ومن ثم تُقبل الدعوات من كل غريب. وهب أنها فعلت ذلك في روما في بيتها
الريفي، أو في باياي، ذلك المكان الموبوء؛ أي لو أنها لم تظهر أمام الناس في مِشيتها
الماجنة فحسب، بل وفي ردائها وركبها من الشباب، غير مكتفية بغمزات عيونها وحرية أحاديثها،
بل تعدَّت ذلك إلى القبلات والأحضان، فضلًا عن كل مسلكٍ شائن في الحمامات وقوارب اللذة
والمتعة، وفي الولائم والدعوات؛ لا لتبدو مومسًا فحسب، بل ولتظهر بمظهر المرأة الوقحة
المستهترة السليطة. فلو حدث وشوهد شاب يافع في صحبة مثل هذه المرأة، أفتكون نظرتكم إليه
كنظرتكم إلى أي فاسقٍ داعر؟»
«إن أسوأ الإفساد لَإفساد خير الناس.» ولا شك أن النساء من أمثال كلوديا في أيامها
الأخيرة، كن في حاجةٍ ماسة جدًّا إلى الفضائل الذاتية التي للجنس اللطيف، غير أن كلوديا
كانت تتمتع بمفاتنها الخاصة، ولم يكن قبل ربيع عام ٥٧ق.م. حينما جمع كاتولوس شتات شجاعته
للخلاص من تلك العلاقة التي نالت من رجولته وألحقت بها المذلة والمهانة. ولقد مات أخوه
العزيز حينذاك في طرود، ومن ثم وطَّن العزم على مغادرة إيطاليا والالتحاق بإحدى الوظائف
في
جيش ميميوس Memmius، حاكم بيثونيا Bithynia. ولقد سجَّل هذا العزم في قصيدتين من أروع أشعاره؛ وهما القصيدة
الثامنة، والسادسة والسبعون. وفيهما تتجلَّى آخر مرحلة من مراحل الهجران، بينما في القصيدة
السابعة والثمانين يضع كاتولوس خاتمة كل شيء فيقول:
لن تستطيع امرأة أن تقول
إنها قد حظيت بالحب
كما أحببتك يا عزيزتي من كل قلبي،
وليس هناك من رجل
ثبت إخلاصه لحبيبته
كما عُرفت أنا بإخلاصي.
وهكذا في عام ٥٧ق.م. قطع كاتولوس علاقته الغرامية بكلوديا، غير أننا لا نجد بين ما
كُتب من
أشعار عقب هذا التاريخ إلا ثلاث قصائد عنها. وعند عودته إلى روما متأخرًا في عام ٥٦ق.م.
وجد
أن كايليوس أيضًا قد تخلص من الغادة الساحرة، وأنها اتهمته أمام القضاء واتخذت لنفسها
لقب
«كوادرانتاريا Quadrantaria» أي «المومس الرخيصة لقاء
مليمات». وفي القصيدة الثامنة والخمسين وجَّه كاتولوس الكلام إلى كايليوس وصب جام اللعنة
والسباب على معشوقته السابقة؛ «فبيتها بؤرة للدعارة تنتظر فيه الوافدين، أما هي فمن اللواتي
يجبن الطرقات بالليل وينغمسن مساوماتٍ في أحط الموبقات.»
ولكن رغم هذه الألفاظ القاسية، يمكننا أن نشك في أن حب كلوديا كان لا يزال يسري في
دم
الشاعر دون استطاعته نسيانها. ويحتمل أنها بعد رجوعه، في الفترة ما بين عامي ٥٤، ٥٥ق.م.
قد
حاولت جاهدةً إعادته ثانيةً إلى زمرة أتباعها وعشاقها. وكان وسطاءُها اثنين من أقل أصدقائه
شهرة؛ هما فوريوس وأوريليوس. ويحتمل أن رد كاتولوس لم يسجله إلا قبل موته المبكر بفترةٍ
وجيزة؛ وذلك في القصيدة الحادية عشرة بنهايتها الرائعة:
ذلك الحب الذي أجرمتْ هي في حقه؛
فهوت به إلى الحضيض،
كما تهوي الزهرة عند حافة الحقل.
وقد بترها بسلاحه
المحراث المار بطريقها.
وقد يكون ذلك بمحض الصدفة أو بمحض الاختيار، كما حدث في أول قصائد كاتولوس عن ليسبيا،
أن
حاكى فيها الشاعر أحد أوزان قصائد سافو، لكن هذا التشابه في الوزن الشعري يؤكد ذلك الفارق
المرير بين مشاعر صاحبَي القصيدتين. وإلى هنا ينتهي تسجيلنا لأشعار كاتولوس
الغرامية.
مات كاتولوس في عام ٥٤ق.م. كما قُتل كايليوس بعد وفاته بست سنوات، بينما مات شيشيرون
بعده
بخمس سنين. أما كلوديا فقد امتد بها الأجل، إذ نجد أن شيشيرون في إحدى خطبه الأخيرة يسأل
أتيكوس عن أخبار كلوديا، والمعروف أن شيشيرون كان أحد المعجبين بل والراغبين في الزواج
من
كلوديا قبل أن يعرفها كاتولوس أو يقع في حبائل غرامها.