أشعار كاتولوس
إن أشعار كاتولوس كما هي الآن بين أيدينا، توضِّح ظاهرةً من أبرز الظواهر؛ ألا وهي التوافق بين محتوياتها.
أما الأمر مع شاعرنا فبخلاف ذلك على خطٍّ مستقيم، ومهما كان سبب التفاوت فليس للزمن دخل فيه؛ لأن كاتولوس مات في سن الثلاثين، بعد أن أنجز كتابة جميع أشعاره في السنوات الست أو السبع الأخيرة من سني حياته. أما كون التفاوت حقيقةً ظاهرةً للعِيان، فسوف يتضح بلا عناء لكل من يتحاشى المختارات، مؤثرًا قراءة جميع أشعار الشاعر التي بين أيدينا. فبعض الأشعار جميلٌ رقيق، وبعضها الآخر سمج في سماجة لكل ما هو مكتوب باللغة اللاتينية، هذا إلى أن بعضها يبرز كمال الواقعية الخفيفة الحية، بينما يتجرد بعضها الآخر من كل معاني الحياة، لتكون مثلًا في السماجة وإثارة الملل. على أن بعضها قصير مقتضب ينحصر في بيتين من أشعار الرثاء، بينما يطول بعضها الآخر إلى أربعمائة وثمانية أبيات من الشعر فتبدو أطول مما هي عليه. ومجمل القول، إن أشعار كاتولوس تتضمن «مزيجًا» من شتى الضروب والأصناف التي من بينها «النوع المحزن».
أما أولئك الذين تعودوا أن يلمسوا أعمال أي شاعر بعد جمعها مرتبةً حسب تاريخ تأليفها أو وفق موضوعها؛ فرأيُنا فيهم أنهم يتبعون طريقةً لا عقل فيها ولا تعقل. إلا أن اهتمام القدامى بالأوزان الشعرية كان يفوق كثيرًا مدى اهتمامنا بها. وكان لكل وزن شعري طابعه الخاص، وارتباطاته الخاصة التي تجعله صالحًا بإجماع الآراء للونٍ خاص من التأليف، وتحكم عليه بعدم الصلاحية لأي لونٍ آخر من ألوان التأليف، بيد أنه كثيرًا ما كان يحدث أن يحتكر أحد شعراء الماضي وزنًا شعريًّا خاصًّا ويعتبره ملكًا خاصًّا له. وكان على الكتاب المتأخرين اعترافًا بامتنانهم له، أن يتخذوه نموذجًا لهم، ويحاكون ما يدعيه من وزنٍ شعري.
وهاتان الحقيقتان لا بد من إدخالهما في الحساب عند الكلام عن أشعار كاتولوس بالذات.
ولئن أردت الحق فعندما بدأ كاتولوس يكتب أشعاره الغرامية لم يكن أمامه نماذج رومانية. ولمَّا كان يعرف اليونانية؛ فقد توجه إلى مركز الثقافة في البحر الأبيض المتوسط؛ لأن أثينا في عصره، إن كانت ما زالت منارة علم، إلا أنها كانت قد فقدت صيتها وأهميتها ومكانتها الأولى، بينما احتفظت الإسكندرية بمركزها كعاصمة للبحر الأبيض المتوسط. كما يقول طالب العلم في حديث عيسى بن هشام، عندما سأله عن مطلع شمس العلم:
فكانت الإسكندرية مشعل الثقافة والاستنارة في ذلك العصر الذي كانت فيه مصر تتمتع بالاستقلال، أما البطالمة فكانوا ملوكًا عظماء، وكان المصريون يكوِّنون مع الإغريق أمةً واحدةً عظيمة.
ومن ثم فقد توجه كاتولوس إلى أدباء الإسكندرية، غير أنه لم يكن محاكيًا ذليلًا لأدبائنا العظماء؛ نظرًا لما كان بينه وبين أسلافنا من اختلافٍ بيِّن.
فكاتولوس أولًا وقبل كل شيء كان غاليًّا عاطفيًّا من الوافدين من الشمال، ولم يكن يعرف تلك القسوة الباردة التي اشتُهر بها الرومان القدماء، ولا تلك الكراهية نحو الأدب العاطفي.
ولقد عاش أدباء الإسكندرية وفنانوها تحت حماية القصر الملكي، وكانوا يكتبون أولًا وقبل كل شيء إرضاءً للقصر الملكي وإشباعًا لأهواء أنفسهم، لمَّا كان بالمتحف مكتبة وجامعة، فقد نشأ هؤلاء الرجال أدباء وعلماء ومعلمين، لا يكرسون جل وقتهم لغير نقد الكتب القديمة والتعليق عليها.
رفض كاتولوس وأبى أن يحاكيَ هؤلاء السكندريين في عاداتهم وطرقهم العلمية؛ وذلك لأنه لم يكن بحالٍ من الأحوال ناقدًا مثلهم، فقد كانت أولى أشعاره قصيدةً كتبها عن ليسبيا، تعتبر ترجمةً لإحدى أشعار سافو، وكان لكاتولوس هدفان من ترجمتها:
- أولًا: لأنها كانت خير قصيدة وأصلحها للتعبير عن مشاعره.
- ثانيًا: لأن القصيدة لو وقعت في يد زوجها، أو تعرضت للنقد اللاذع؛ لكان في مقدوره عندئذٍ أن يدَّعي بأنها محض ترجمة لقصيدة سافو منكرًا علاقته بليسبيا.
أما خير مرثاة كتبها كاتولوس فتلك التي نظمها عندما تُوفي أخوه (القصيدة ١٠١).
ومما لا جدال فيه أن كاتولوس عندما ترجم منظومة سافو، كان يعبر عن مشاعره الشخصية وعن عواطفه ناقلًا إياها عن اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية.
كان كاتولوس يقلد الوزن اليوناني على النمط الذي كان يتبعه كاليماخوس في كتابة مراثيه، مصدرًا القصيدة بصفاتٍ وألفاظ كثيرة غير مفهومة، مقتبسًا هذه الصفات من الأساطير. فلقد حاول كاتولوس كتابة أشعاره مفعمةً بالثقافة، ولكننا في الواقع نحب كاتولوس لما يكتبه تلقائيًّا، لا لما في أشعاره من علمٍ وثقافة.
كان كاتولوس يترجم ترجمةً حرفية، ولقد ثبت هذا بعد اكتشاف ما نقله نقلًا حرفيًّا عن بعض كُسَر كاليماخوس؛ فقد كانت أشعار الأخير مفقودة، فلما عُثر على بعض كُسَر منها، وجدنا أن كاليماخوس قد استعمل فيها جميع كلمات كاتولوس، مشيرًا إلى جميع الأساطير الواردة في منظومة كاتولوس، ومقترفًا نفس الأخطاء التي ارتكبها كاتولوس.
أما أشعار كاتولوس فقد صدرها الشاعر بقصيدة للمؤرخ المشهور كورنيليوس نيبوس، ويبدو أن كورنيليوس كان معجبًا بأشعار كاتولوس نظرًا لأنه شمالي مثله.
كان كاتولوس رائد شعراء الوزن الحادي عشر؛ لأن معظم أشعاره الوجدانية تتركب أبياتها من أحد عشر مقطعًا. أما الوزن السداسي فقد اكتفى باستعماله في مطولاته، بينما استعمل في مراثيه الوزنين السداسي والخماسي معًا. ولكن ما من شاعرٍ آخر قد كتب شعرًا من الوزن الحادي عشر في جمال ما كتبه كاتولوس بهذا الوزن.
أما النقص الذي نلمسه في مراثي كاتولوس؛ فمرجعه محاكاة النماذج الإغريقية.
إن أول ميزة لأسلوب كاتولوس هو أنه «طبيعي» خالٍ من التكلف الممقوت، ولا يستخدم فيه أي ألفاظ متكلفة، ومن ثم كانت أشعاره الوجدانية جديرةً بمقارنتها بأي أشعار وجدانية كتبها أي شاعر إغريقي أو روماني.
ولو شاء فرجيل أن يكون انبعاثيًّا ذاتيًّا لما أمكنه أن يصل إلى الدرجة التي وصل إليها شاعرنا كاتولوس.
كان كاتولوس مغرمًا بالمصطلحات اليومية، ولم يكن يتحاشى أي كلماتٍ عامة، بل وصل به العشق وبلغ به الهُيام إلى استخدام عبارات قد تُستخدم في الكلام المرسل البسيط والنثر العادي، وكثيرًا ما كان يكرر نفس الألفاظ. ومجمل القول وقصاراه، كان كاتولوس يكتب كل ما يحلو له ويروق في ذوقه، ويسجل جميع ما يمر بخاطره.
ولقد أباح كاتولوس لنفسه الحرية المطلقة في كل ما يكتب؛ ولذلك كان عبقريًّا دون أن يعرف ذلك.
ولذلك فهو يختلف عن جميع الشعراء الرومان؛ لأنه كان فنانًا عبقريًّا دون إدراكٍ لما عنده من مهارةٍ وحنكة شعرية.
لم يكن من السهل على شاعر مثل كاتولوس أن يحاكيَ الشعراء السكندريين تمامًا؛ لأنه يختلف عنهم تمام الاختلاف في كل شيء، وإن كانوا قد علموه شيئًا فذلك هو النقد والحرص في كل ما يتعلق بالتركيب والشكل.
ومما كان يميز كاتولوس عنهم، أنه شاعرٌ وجداني عاطفي حار، بينما هم نقاد مجردون من هذه الأحاسيس. كان هو أرستقراطيًّا رومانيًّا، أما هم فكانوا مستشرقين، عاشوا في حماية وكنف القصر الملكي، بينما كان هو يهيم حبًّا بمعارضة ساسة عصره، مهما علا شأنهم وعظم قدرهم وذاع صيتهم.