الدوبلير!
غادر «هنري فورد» المقهى الذي اعتاد أن يقضيَ فيه بعضًا من وقته كلَّ مساء … كان شخصيةً شهيرة في الحي الذي يُقيم فيه؛ بقامته الطويلة وجسده القوي المتناسق وجرْأته التي لا مثيلَ لها، وقبضته التي قيل عنها إنها تُحطِّم جدارًا.
وسار «هنري» أمام حيِّ «هارلم» الشهير … حي السود والزنوج المشهور بعصاباته والخارجين عن القانون حيث لا يجرؤ غريبٌ على دخول الحي.
لكن … مَن الذي يمكنه أن يُخيفَ «هنري فورد». بل قل مَن الذي لم يكن يخشى ويخاف «فورد» العظيم كما كانوا يسمونه؟
هكذا تجاوز «هنري» حيَّ «هارلم» متجهًا إلى بيته الذي يقع في أحد الشوارع الضيقة على مسافة من الحي الشهير.
كانت الساعة قد تجاوزَت منتصف الليل … وبدأ المطر يَهْطِل خفيفًا … وكان السيرُ في مثل هذا الزمان والمكان في مدينة ﮐ «نيويورك» يُعَد انتحارًا … حيث تمتلئ الشوارع والطرقات بخفافيش الليل من المجرمين.
لكن «هنري» لم يخَفْ من أيِّ إنسان، بل إنه حتى خفافيش الليل كانوا يتوارون خوفًا عند ظهوره … وهكذا كان عجيبًا أن سَمِع «هنري» أصواتَ أقدام خفيفة تسير خلفه … وتنحرف وراءه من شارع لآخر … ومن رصيف لآخر.
لم يكن «هنري» ممن اعتادوا النظرَ خلف ظهورهم أبدًا، ولكنه غمغم لنفسه قائلًا: أي أحمق يبغي تحطيم رأسه الليلة بالسير خلفي؟!
لهذا استدار «هنري» في أول طريق قابله ووقف ساكنًا، ثم امتدَّت ذراعاه مثل قضيبَين من الصُّلب لتمسكَا برقبة مُطاردِه …
اتسعَت عينَا «هنري» من الدهشة عندما وقعَت عيناه على مُطاردِه، وخفَّف قبضته وهو يحدِّق في الفتاة الفاتنة ذات الشعر الحريري المنسدل فوق كتفَيها، ووجهها الرقيق وعيناها الخضراوان الواسعتان …
لم تكن الفاتنة غير «إلهام» نفسها، فهتفَت به باسمِه: أهكذا تقابل المعجبين بك؟
بدهشة سألها: هنري: مَن أنتِ؟ … وماذا تريدين؟ …
أجابَته «إلهام» بابتسامةٍ أوسع: لقد سمعتُ عنك أساطير؛ فجئتُ أتحقق منها. يقولون إنك كنت ملكَ القتال في الشوارع، ولا يبدو عليك أن هذا القول حقيقيٌّ.
ظهر الغضب في عينَي «هنري» وقال: لو كنتَ رجلًا لقتلتُه على ما قلتَه.
إلهام: ولماذا لا تحاول ذلك؟
غمغم «هنري» في غضب: ابتعدي عني؛ فإن صبري قليل، وعادةً ما ينفد بسرعة.
إلهام: حسنًا … سأساعدك على استنفاده بأسرع ما يمكن.
انطلقَت «إلهام» في ضربة قوية نحو «هنري»، الذي تراجع إلى الوراء مذهولًا من شدة الضربة وقوَّتها، وسال خيطٌ رفيع من الدماء فوق شفتَيه، وظهر غضب جنوني في عينَي «هنري» وهو يقول: أيتها الشيطانة لم يحدث ذلك من قبلُ أن قاتلتُ فتاة، ولكن لكلِّ شيء بداية، وسوف أُشوِّه وجهَكِ الجميل جزاءً لكِ على ما فعلتِ حتى إنك ستتمنين لو أنك لم تشاهديني طوال عمرك.
انطلقَت قبضةُ «هنري» نحو وجه «إلهام» مثل طلقة رصاص، بل مثل طلقة مدفع، أو انطلاقة صاروخ، ودوَّى صوتٌ هائل كانفجار قنبلة … ليس لأن قبضة «هنري» اصطدمَت بوجه «إلهام» فحطمَته، بل لأن «إلهام» — وببساطة — أحنَت رأسها لأسفل، فاصطدمت قبضة «هنري» بجدار من الطوب خلفها، فتحطَّم وتهاوَى مثل حائط من القش.
لم تترك «إلهام» وقتًا ﻟ «هنري» للدهشة، واندفعَت أصابعها الرقيقة وقد صارت أقوى من الفولاذ وضربَته ضربةً هائلة، وعندما انحنى «هنري» من الألم؛ هوَت «إلهام» بسيف يدها لتضربه مرة أخرى.
لكن «هنري» لم يتهاوَ على الأرض، بل زأر مثل حيوان جريح وسط المكان المظلم المقفر من الناس وصوت سقوط الأمطار كأنه ضجيج شيطان يمرح في المكان.
أمسك هنري ﺑ «إلهام» بأصابع من حديد، ورفعها فوق رأسه في غضب جنوني، وهو يصرخ: لسوف أحطِّم رأسَكِ أيتها المتوحشة المجنونة.
ألقى هنري «إلهام» بعنف نحو جدار صخري أمامه، ولكن «إلهام» اعتدلَت وهي في الهواء ودفعَت الجدار الصخري بقدمَيها، وسقطَت على الأرض معتدلة، وقبل أن يُفيقَ «هنري» كانت «إلهام» تطير في الهواء وبحركة كاراتيه مزدوجة، وجَّهَت إلى «هنري» ضربتَين هائلتَين من قدمَيها، فترنَّح «هنري» وغامَت الدنيا عن عينيه، وقبل أن يعتدل في وقفته أمسكَته «إلهام» من ياقته، وبحركة جودو حملَته فوق ساقها، وألقَت به إلى الخلف فسقط فوق ذراعه الذي تحطَّم. وأخذ «هنري» يئنُّ من الألم وهو يزحف باحثًا عن مكان يحتمي به وهو ينظر إلى «إلهام» في رعب كما لو كان يشاهد شبحًا قادمًا من الجحيم. وابتسمت «إلهام» ساخرة نحوه وهي تقول: من المؤسف أنني اكتشفتُ أنك كما توقَّعت، مجرد جوالٍ مملوء بالغرور والغباء، والآن وداعًا يا ملك الغباء.
أسرعَت «إلهام» تبتعد عن المكان في خطوات سريعة إلى أن اختفَت عن عينَي «هنري»، الذي راح يحدق في الظلام مذهولًا وهو يقول لنفسه: إنها لا يمكن أن تكون إنسانًا إنه الشيطان بكل تأكيد.
صاح المخرج «فرديناندو» في غضب شديد: ماذا قلتَ أيها المجنون؟
هتف «هنري» في ألمٍ شديد وهو يُشير إلى ذراعه المربوطة في الجبس: كما ترى أيها المخرج، لقد كُسرَت ذراعي أمس.
صاح المخرج: هذا جنون … وما الذي كسرها؟
تردَّد «هنري» لحظة ثم قال: لقد صدمني لوري فكسر ذراعي.
كاد المخرج ينتزع شعر رأسه وهو يصيح غاضبًا: وما العمل الآن، يجب تصوير هذه اللقطة، اليوم مهما كان الثمن … إن التأخير معناه خسارة هائلة.
وصرخ المخرج في مساعديه: ابحثوا لي عن «دوبلير» بدلًا من هذا الأحمق حالًا.
اندفع المساعدون لتنفيذ أوامر المخرج من وسط الجموع التي احتشدَت لمشاهدة التصوير، برز وجهُ «أحمد» الباسم وإلى الخلف كانت تقف «إلهام» وهي تغمز له بعينيها.
إلى الأمام ظهر النجم «روجر مور» وبجواره «صوفي مارسو»، وقد ظهر الضيقُ على الاثنين لتأخير التصوير، وهتفت «صوفي» غاضبة في المخرج: يجب أن يتم تصوير هذا المشهد حالًا بأي ثمن … سوف أسافر غدًا إلى «باريس» في عمل هام.
عاد المساعدون بعد قليل، وما إن استمع المخرج إلى كلماتهم اللاهثة حتى صاح: ما معنى ذلك؟! هل نُوقف التصوير لأن كل «دوبليرات» أمريكا مشغولون في أفلام أخرى. ابحثوا لي عن أي شخص يؤدي هذه المشاهد بأي ثمن.
وهنا تقدَّم «أحمد» من «فرديناندو» المخرج قائلًا: هل تبحث عن «دوبلير» يا سيدي.
تطلَّع المخرج إلى «أحمد» قائلًا: أنت؟
أحمد: لقد قمتُ بعمل «الدوبلير» في الكثير من الأفلام الإيطالية والفرنسية.
صاح المخرج: وهل تظن أنهم يصورون مشاهد في خطورة مشاهدنا! إن أفلامهم مثل لعب الأطفال بالنسبة لنا.
قال «أحمد» في هدوء: لماذا لا تجرِّبني، إنك لن تخسر شيئًا، ويمكنني أن أوقِّع إقرارًا لك بأنني أتحمل مسئوليةَ أيِّ شيء يحدث لي.
فكَّر المخرج لحظة ثم قال: لا بأس … سأجرِّبك.
أشار بيده نحو سيارة سباق سريعة، وقال: سوف ترتدي ملابسَ مماثلةً تمامًا لملابس البطل، ثم تستقلُّ هذه السيارة وتنطلق بها بأقصى سرعتك، ومن أعلى تُطاردك طائرة هليوكبتر وهي تُطلق الرصاص عليك، فتنحرف أنت يسارًا لتمرَّ في حارة ضيقة جدًّا على العجلتَين الجانبيتَين من السيارة؛ لأن اتساعَ الحارة لن يسمحَ لك بالمرور. وبعدها ستخرج لتجد أمامك تلًّا مرتفعًا بطريقة متدرجة سوف ترتقيه بسرعة، لتقفز بعدها بسيارتك من فوق شاحنة ضخمة تسدُّ عليك الطريق … وبعدها سوف تلتقط البطلةَ من سيارة العصابة الملغومة إلى سيارتك، وتبعد بها عن المكان، وطوال هذا الوقت ستقوم الكاميرا بتصويرك من الخلف وعن بُعد حتى لا تظهرَ ملامحك الحقيقية.
أحمد: لقد فهمتُ يا سيدي.
المخرج: هل أنت بحاجة إلى بروفة أولًا؟
أحمد: لا يا سيدي، سوف أقوم بتصوير المشهد من المرة الأولى.
المخرج: حسنًا … اذهب لتستعدَّ بارتداء الملابس المماثلة لملابس البطل.
ابتعد «أحمد» … واقترب أحد المساعدين من المخرج وقال له: إنه يبدو لي مجنونًا يا سيدي.
المخرج: وأنا أيضًا أظن ذلك، ولكن هذا لا يهمنا، من المؤكد أنه لن يخرج حيًّا من السيارة، ولكن هذا لا يهم، المهم عندي هو تصوير المشهد.
وهتف في العاملين: فلتستعدوا!
دارَت الكاميرات … وتعلَّقَت عيونُ الجميع ﺑ «أحمد» الذي اتجه إلى سيارة السباق السريعة، وأغلق بابها عليه، وأدار محركاتها استعدادًا للانطلاق.
وعندما صاح المخرج: أكشن. اندفع «أحمد» بالسيارة مثل السهم المنطلق، ومن أعلى اندفعت الطائرة الهليوكبتر تُطارده وتُطلق رصاصاتها، وسيارة السباق السريعة تُناورها بحركات بارعة تدل على مهارة قائدها الشديدة.
هتف بدهشة: إنه يقود السيارة ببراعة مذهلة … ولكن لا أظن أنه سينجح في استكمال التصوير … ولكن «أحمد» خيَّب توقعاتِ المخرج مرة أخرى، وانطلق في الحارة الضيقة، وقد جعل السيارة تسير على عجلتَين جانبيَّتَين لتخترق الحارة الضيقة، وعندما برزَت منها في النهاية فتح المخرج عينَيه ذهولًا كأنه لا يصدق ما يشاهده وهتف: إنه رائع … رائع … سوف يكون هذا الشاب هو النجم القادم في عالم «الدوبلير».
انطلق «أحمد» نحو التلِّ بسرعة … ثم قفز فوق شاحنة بأسفله إلى الناحية الأخرى؛ وارتطمَت سيارتُه بالأرض في عنف احتبسَت له أنفاس المشاهدين.
اندفعَت سيارة «أحمد» نحو سيارة العصابة المتوقفة في منتصف الطريق … كانت البطلة «صوفي مارسو» مقيدةً بداخل سيارة العصابة الواقفة إلى ركن الطريق، وكان بقية المشهد يفترض أن يُسرع «أحمد» نحوها بسيارته، ويوقفها ثم يلتقط البطلة إلى داخل سيارته ويبتعد بها عن المكان، حيث تنفجر سيارة العصابة بعد لحظات بسبب المتفجرات الموجودة بها.
كانت تعليمات المخرج أن تكون المتفجرات بداخل السيارة حقيقية ليكون المشهد طبيعيًّا … وهكذا انطلق «أحمد» بسيارته نحو سيارة العصابة. ثم أوقف سيارته بفرامل حادة … ولكن، وقبل أن يقفز نحو سيارة العصابة المغلقة لإنقاذ البطلة المقيدة، فجأة شاهد سيارة العصابة تنطلق وحدها بأقصى سرعتها إلى منحدر أمامها … فوجئ «أحمد» بما حدث … وظهر الذهول على وجوه العاملين في الفيلم وبطله. كان من المفروض أن تظل السيارة في مكانها … ولكنها ولخطأ فني وبسبب إهمال أحد العاملين في تثبيت فراملها فقد تحركت السيارة نحو المنحدر أمامها وسرعتها تتضاعف.
كانت السيارة الملغومة ستنفجر بعد لحظات، وعلى البعد ظهرَت شاحنة ضخمة تعبر الطريق في بطء، وكان من المؤكد اصطدام سيارة البطلة في رعب هائل، ودوَّت صرخة لم تكن من ضمن مشاهد الفيلم الأصلي، وحبس المشاهدون أنفاسهم من الإثارة والرعب، وهو يشاهدون بأعينهم مشهدًا حقيقيًّا … سوف تكون نهايته موت البطلة موتًا حقيقيًّا.