مقدمة
الشعر ومزاياه
ليس الشعر لغوًا تهذي به القرائح، فتتلقاه العقول في ساعِ كلالها وفتورها، فلو كان
كذلك لما كان له هذا الشأن في حياة الناس.
لا، بل الشعر حقيقة الحقائق، ولبُّ اللباب، والجوهر الصميم من كل ما له ظاهر في متناوَل
الحواس والعقول، وهو ترجمان النفس، والناقل الأمين عن لسانها، فإن كانت النفس تَكْذِبُ
فيما
تُحِسُّ به أو تداجي بينها وبين ضميرها، فالشعر كاذب، وكل شيء في هذا الوجود كاذب، والدنيا
كلها رياء، ولا موضع للحقيقة في شيء من الأشياء.
وقد يخالف الشعرُ الحقيقةَ في صورته، ولكن الحُرَّ الأصيل منه لا يتعداها، ولا يمكن
أن يشذَّ
عنها؛ لأنه لا حقيقة إلا بما ثبت في النفس واحتواه الحس، والشعر إذا عبَّر عن الوجدان
لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى.
وما هذه الاستعارات والتشبيهات إلا أشياء تختلف في ظاهرها، ولكنها في كنهها واحدة
لا
خلاف بينها، فليس الجميل قمرًا، ولا الزئير رعدًا، ولا الكريم غمامًا، والشمس لا تنكدر
لغياب الحبيب، ولا الليل ينجاب لحضوره، ولكن الغبطة بالصورة الحسناء كالغبطة بالليلة
القمراء، والرهبة من زمجرة الأسود في غابها كالرهبة من جلجلة الرعود في سحابها، وتَجَدُّد
الروض بعد انهمال المطر كتَجَدُّد الأمل بعد نوال المطر، وإنَّ الشمس إن كانت تُشْرِق
بعد نأْيِ
الحبيب، فكأنها لا تشرق لأن عين المحب لا تنظر إلى ما يجلوه نورها، وإن تكشَّف لها
فكأنما هو بادٍ لغيرها، والليل إذا عسعس فما هو بساتر عن عين المحب منظرًا يشتاق رؤيته
بعد أن يمتعه بوجه حبيبه، فإنما هو من الدنيا حسبه، وهو الضياء الذي يُبْصِرُ به
قلبُه.
فهذه معانٍ مترادفة في لغة النفس، وإن اختلف نطقُها في الشفاه؛ إذ إنه لا محلَّ في
معجم
النفوس إلا للمعاني، فأما الألفاظ فهي رموز بين الألسنة والآذان.
وهل تُبْصِر العين أو تَسْمَع الأذن إلا بالنفس؟ أو تبلغ الحواس خبرًا إذا كانت النفس
ساهية
والمدارك غير واعية؟
والشعر بهذه المثابة باب كبير من أبواب السعادة، بل إن السعادة — ما لم تَعُقْها حوائلُ
الحياة — لا تَدْخُل إلى القلوب إلا من بابه، فإنه ما من شيء في هذه الدنيا يَسُرُّ لِذَاتِه
أو
يُحْزِن لِذَاتِه، وإنما تَسُرُّ الأشياء أو تُحْزِن بما تكسوها الخواطر من الهيئات،
وتُكَيِّفها الأذهان
من الصور، وآية ذلك أن الشيء الواحد بينما يكون مدعاةَ البهجة والرضى، إذ يكون في غير
ذلك الوقت مجلبةً للأسف والأسى وطريقًا إلى الشجن والجوى، والشعر وحدَهُ كفيلٌ بأن يبدي
لنا
الأشياء في الزمن الذي ترضاه خواطرنا، وتأنس به أرواحنا؛ لأنه سلطانٌ متربِّعٌ في عرش
النفس، يخلع الحلل على كل سانحة تمثُل بين يديه، ويُغِضُّ الطرفَ عن كل ما لا يُحَبُّ
النظر
إليه. والشعر أيضًا مِسْلَاةٌ لمن شاء السلوى، وصدًى تسمعه النفس في وَحْشَة الوَحْدَة،
فتطمئن
إليه كما يطمئن الصبيُّ التَّائه إلى النداء في الوادي، ليأنس برجع صوته، أو يسمع من
عساه
يُقْبِلُ لِنَجْدَتِه.
فقد سَبَقَتْ مشيئة الفطرة بأن يعيش أبناء آدم جماهير وأممًا مجتمعة، وأن يكونوا نوعًا
له
غرائزُ كامنة في طبائعِ أفراده يقتضيها بقاؤه ودوامه، فوجب أن يُجْبَل أبناؤه على الألفة
ويُذْرَءُوا على التعاطف ودواعي الاجتماع، وقد درج نوع الإنسان على هذه الفطرة، فصرنا
وليس
يهنأ امرؤ منَّا بأن ينعم منفردًا، ولن يطيق أحد أن يبتئس وحده، وما كان المعرِّي يمدح
نفسه، ولكنه قال قولًا في شِرار الناس، كما يَصْدُق في خيارهم، إذ يقول:
ولو أنِّي حبيت الخلد فردًا
لما أحببت بالخلد انفردَا
فذلك ما لا فَخْر فيه لإنسان على إنسان، وأحسب لو أن الناس كلهم كانوا فجرة خسرة،
وكان
لا يجوز منهم إلى فردوس الأبرار إلا رجل واحد، لكان هذا الرجل التَّقِيُّ أشدَّ عذابًا
بتقواه
وأسوأ جزاءً من كل جناة الجحيم وعصاته. وكأني بذلك الرجل، وقد طاف في الجنة حتى بَلِيَتْ
نعلاه، ثم نظر إلى ما حوله نظرةَ الكاره الزاهد، فطرح بنفسه في الكوثر هربًا من هذا
النعيم الأعجم، أو صاح بهم ليحملوه إلى جهنم، فيصلى النار فيها وهو واجد من يقول له:
إن
عذاب النار أليم، خير من أن يبقى في جنة لا يرى فيها من يقول له: ما أرغد هذا
النعيم!
ويقيني أنه لو نُزِعَ الحسد من الناس يومًا ما، لاشتراه أولو النعمة وفرقوه على الناس
مجانًا ليحسدوهم على ما بهم من نعمة؛ فإن السعادة أُنْثَى لا يكتمل سرورُها حتى تستجلي
مثالها في المرآة، وسواء لديها أكان رافع تلك المرآة لها شانئًا حسودًا أو صديقًا
مخلصًا، ومن أجل ذلك يرتاح العاشق إلى من يناجيه بأسرار حبيبه ونكايات عذوله، ويحيط
الغني مجلسه بحاشية ينفق عليها لتقول له إنه ربُّ عيشة راضية، وهناءة محسودة.
ولا تُصَدِّق أنَّ أحدًا يَصِلُ به احتقار الناس أن لا يبالي بهم قاطبة، ولكنه ربما
احتقر
جيلًا منهم وهو ينتظر النصفة من جيل سواه، أو يهزأ بالفئة التي يعاشرها، ولكنه يعتقد
أنَّ هناك فئة لو لَقِيَتْه ولَقِيَها لأرضته وأرضاها، وإلا فلو احتقر المرء ما مضى من
الناس
وما سيجيء منهم، لما كلَّف نَفْسَه مشقةَ أن يقول ذلك بلسانه.
كذلك خُلِقَ الإنسان عضوًا من جسم تدب حياته في عروقه، فلا سبيل له إلى الانفصال عنه
والتخلي عن عاطفته النوعية ما دام داخلًا في اسم الجنس الذي يشمل الإنسان
بأجمعه.
فإذا كان هذا شأن التعاطف، فاعلم أنَّ الشعر شيءٌ لا غنى عنه، وأنه باقٍ ما بَقِيَت
الحياة، وإن تغيَّرَتْ أساليبه، وتناسخَتْ أوزانه وأعاريضه.
وإذا كان الناس في عهْدٍ من عهودهم الماضية في حاجة إلى الشعر، فهم الآن أحوج ما يكونون
إليه؛ فقد باتت النفوس خواء من جلال العقائد وجمالها، وخلا جانب من القلوب كانت تعمره،
فإن لم تخلفها عليه خيالات الشعر وأحلامه، كسر اليأس القلوب، وحطمتها رجة الشك واضطراب
الحيلة. وها هو القرطاس القديم بين أيدي الشعراء، فليخُطُّوا فيه رسم الفردوس الجديد،
وليجعلوه في الأرض أو في السماء، وليكن معاده المثل الأعلى، أو خلود الذكر، أو وحدة
الإخاء؛ فإنَّ الإنسانية لا تعيش بغير رجاء.
هذا ولو أنَّ ما ألمحنا إليه مِنْ تعاطُف الأرواح وتآلُف المشارب، كان أوَّلَ ما يستفاد
من
الشعر وآخرَهُ، لما كان الشعر جديرًا بالعناية من عصر المادة الذي نحن فيه، ولكن ثمرة
الشعر على ما بها من النعومة والجزالة، وما لها من ذكاء المشمِّ وحلاوة الطعم، تُشْبِع
المعدة وتملأ الفم، ولو أمكن إرجاع كل حركة إلى مصدرها الأول من النفس، لما عسر علينا
حساب فضل الشعر بالدرهم والدينار، وإحصاء قواه المعنوية بما تحصى به قوة الكهرباء
والبخار.
فمما لا مشاحَّة فيه أنَّ كل نهضة من النهضات التي تشحذ عزائم الأمم وتحدوها في نهج
النماء والثراء، لا تكون إلا بعد فترةٍ يتيقظ فيها الشعور، وتتحرك العواطف، وتعتلج نوايا
النفوس ومَنَازِعها، وفي هذه الفترة ينبع أعاظم الشعراء وتظهر أَنْفَسُ مبتكرات الأدب،
وما
الشعر من تلك العواطف إلا مناطها الذي تتعلق به، بل هو ناقوسها المنبه لها، وحاديها
الذي يأخذ بزمام رَكْبِها.
وهذه إنكلترا نهضت في تاريخها نهضتين بَلَغَتْ في كلتيهما أسمى ما تحلم به أمة من
العظمة
والمجد؛ كانت أولاهما في القرن السابع عشر؛ أي عقب ازدهار الأدب الإنكليزي في عهد
شكسبير، فتحركت في ذلك القرن عوامل الحياة في الأمة الإنكليزية، ووُضِعَ عهدئذٍ أساسُ
إنكلترا الجديدة، وها هي الآن في إبان نهضتها الثانية تقبض على صولجان الدنيا، وتطالب
كلَّ فئة منها بقسطها من الحياة والعمل. وما جاءت نهضتها هذه إلا مسبوقة بنهضة أدبية
كبرى، ظهرت في أثنائها أكبر الأسماء المعروفة في الأدب الإنكليزي، وأعني بهم أمثال: شلي
وبيرون وسكوت وكيتس ووردزورث وكولوردج وسوذي وماكولي، وغيرهم ممن لم يقرضوا الشعر
ولكنهم كتبوا في النقد والأدب.
وهذا شبيهٌ بما حدث في فرنسا، فإنَّ جمهوريتها ليست إلا نفحة من نفحات تلك النهضة
الأدبية التي كان يُشْرِف عليها لويس الرابع عشر، وما كان يدري ذلك الملك المتجبر، وهو
يمد
يديه بالحباء إلى زعماء تلك النهضة، أنه يزلزل بيديه قوائم العرش الذي يجلس عليه، ومن
حقَّقَ تاريخ القرن الثامن عشر في فرنسا ولم يَرَ في ثورته يدًا لكورنيل وراسين وموليير
وبوالو وشينيه وأمثالهم، فهو قاصر النظر، ومثله في ذلك كمثل من تقول له: إنَّ المد
والجزر من فعل القمر، فيقول لك: أين السماء من الماء؟! ثم تتابَعَتْ بعد ذلك ثوراتٌ كان
يقوم
على رأس كل ثورة منها رجال من أهل الخيال، الذين يَظُنُّ بعض كُتَّاب التاريخ أنهم أبعد
الناس
عن التأثير في عالم الجد، وقد جهلوا أن الأمم تدأب في حياتها بين عامِلَي الحاجة والأمل.
فإن كانت المادة تحكم حيِّز الحاجة من نفوسها، فالخيال صاحب السلطان على حيز الأمل، وهو
أشد العاملين حثًّا وأعذبهما نداءً.
وجاء بسمارك في ألمانيا فأتمَّ تأليف وحدتها بعد أن شاعت في ولاياتها مصنفات ليسنغ
وهردر وجيتى وشيلر وهيني ورفقائهم، فكان الألمانيون أمة ذات أدب واحد قبل أن يكونوا أمة
ذات دستور واحد.
وأقرب من ذلك شاهِدٍ إلينا، الدولتان الأموية والعباسية، بل أقرب منهما هذا الذي نشاهده
من إقبال ناشئة مصر على الأدب واشتغالها بصوغ الشعر وحفظه، فإنه — ولا شك — عنوان
النهضة المرجوة لمصر، ودليل على تفتُّق الأذهان وسريان النبض في مركز الشعور. وفي الأمة
نفر ممن يتعاطون صناعة الطب الاجتماعي يزعمون أن البلد في غنًى عن الأدب، وأنه ليس بحاجة
إلى غير مباحث الاقتصاد وما شاكَلها. قالوا ذلك؛ لأن الثروة قوت الأمة، ومصر لا تنتفع
إلا بقُوتِها ولا يمرأها الدم في شرايينها، وهو قول — كما يرى القارئ في حديث الطب —
يقضي بأن لا يجوز الكلام مع الممعود في غير الأطعمة الدسمة والكينا وسلفات الصودا … ولا
غرابة فالطب تجارب!
على أن كثرة الكلام في المال ليست هي التي تُوجِد المال متى كانت الهمم راكدةً والنفوس
باردةً.
فالشعر لا تنحصر مزيته في الفكاهة العاجلة والترفيه عن الخواطر، لا، بل ولا في تهذيب
الأخلاق وتلطيف الإحساسات، ولكنه يُعِين الأمة أيضًا في حياتها المادية والسياسية، وإن
لم
تَرِدْ فيه كلمة عن الاقتصاد والاجتماع، فإنَّما هو كيف كانت موضوعاته وأبوابه مظهرٌ
من
مظاهر الشعور النفساني، ولن تذهب حركة في النفس بغير أثر ظاهر في العالم
الخارجي.
خُدِعَ بعض الباحثين ولا سيما من كان منهم من علماء الطبيعيات، فقالوا: إن الناس اليوم
في
دور العلم والتحقيق، وإن آباءنا كانوا ينظرون إلى العالم بعين الشعر أيام الجاهليات
الأولى، وكان يحيرهم في تلك الأزمات المظلمة ما يدركونه الآن من أسرار الطبيعة وخفايا
نواميسها، فيذهبون في تأويلها مذاهب الحدس والتخيل، وإنما غَشِيَتْ أصحابَنا العلماء
ماديةُ
العصر فرأوا ذلك الرأي، ولست أدري كيف يخطر لأولئك العلماء الجهلاء أنه يجيء يوم على
الإنسان يقف فيه جامدًا بين يدَيْ هذا الوجود مهما حصَّل من العلم وأحاط بأسراره، وهل
يؤثر
علم النباتي العارف بأجزاء الأشجار على خيشومه وبصره فلا يدعه يتنشق رائحتها ويبتهج
بألوانها؟ وهل علمي بنواميس الطبيعة يعصمني من الانفعال بمؤثراتها ويذود عني الخوف مما
يدعو فيها إلى الخوف، أو الطرب إلى ما يطرب من بدائع مشاهدها؟
اللهم إنه عِلْم يُفْقِد الإنسان حواسه، ويا لله ما أضعف الإنسانية! فإن الفرد منها
لَتملكه العاطفة، فلا يكاد يبصر إلا بنورها أو يسمع إلا بصوتها، وإنَّ الإنسانية بأسرها
لتغلب عليها حالةُ من الأحوال الطارئة في بعض الأجيال، فلا تكاد تتوهم أنها تنتقل من
تلك الحالة إلى سواها. ظهرت أميركا بمناجمها، واخترعت الآلات التي تصنع الواحدة منها
صنع الألوف من العمال، وأعلنت الحرية فأُلقي حمل كل طبقة على عاتقها، وتوجهت الطبقات
المختلفة إلى العمل لنفسها والسعي في طلب رزقها، فحدث من جراء ذلك جميعها تهافُتٌ غير
مألوف على الذهب، فما هي إلا سنوات مضت في مقدمات هذه الزوبعة قد ملأت الدنيا غبارًا،
ثم أصبحنا لا نسمع إلا سياسة المال وعلم المال وقوة المال وعصر المال. نسي الناس كل شيء
إلا أنهم في عصر المال، ونسوا أيضًا أن الإنسان لم ينفض عنه في عصر المال عنصره القديم،
وأنه إن كان قد انتقل من فترة إلى فترة، فإنه لا يزال في مكانه من الطبيعة، ولا يزال
يهتز بنبراتها ويجري مع طياراتها. ولسوف يمضي عصر المال هذا فلا تسمع عنه الأجيال
القادمة إلا كما نسمع نحن عن أخبار العصور الخالية، وكذلك لا يبقى إلى الأبد إلا الأبد
نفسه.
أقول ذلك ولا أعني بما قُلْتُ كُلَّ الشعر، ولكني عنيت منه المطبوع الأصيل؛ إذ ليس
لشعر
التقليد فائدة قط، وقلَّ أن يتجاوز أَثَرُهُ القرطاسَ الذي يَكْتُب فيه، أو المنبر الذي
يلقى
عليه، وشتان بين كلام هو قطعة من نفس، وكلام هو رقعة من طرس.
فالشاعر العبقري معانيه بناته، فهُنَّ من لحمه ودمه، وأما الشاعر المقلد فمعانيه
ربيباته، فهنَّ غريبات عنه وإن دعاهن باسْمه. ولا يثمر شعر هذا الشاعر مهما أتقن
التقليد، كالوردة المصنوعة يبالِغُ الصانعُ في تنميقها، ويصبغها أحسن صبغة، ثم يرشُّها
بعطر
الورد فيُشَمُّ منها عبق الوردة، ويُرى لها لونها ورواؤها، ولكنها عقيمة لا تنبت شجرًا
ولا
تُخْرِج شهدًا، وتبقى بعد هذا الإتقان في المحاجر زخرفًا باطلًا.
ألا وإنَّ خير الشعر المطبوع ما ناجى العواطف على اختلافها، وبثَّ الحياة في أجزاء
النفس
بأجمعها كشعر هذا الديوان.
•••
فإذا تلقى قرَّاء العربية اليوم هذا الجزء الثاني من ديوان شكري، فإنما يتلقون صفحات
جَمَعَتْ من الشعر أفانين، قد سمح بها قلمٌ سخيٌّ وقريحة خصبة.
في هذه الصفحات نظرة المتدبر، وسجدة العابد، ولمحة العاشق، وزفرة المتوجع، وصيحة
الغاضب، ودمعة الحزين، وابتسامة السخر، وبشاشة الرضى، وعبوسة السخط، وفتور اليأس،
وحرارة الرجاء. وفيها إلى جانب ذلك من روح الرجولة ما يكظم تلك الأهواء، ويكفكف من
غلوائها؛ فلا تنطلق إلا بما ينبغي من التجمل والثبات.
وإن شعر شكري لا ينحدر انحدار السيل في شدة وصخب وانصباب، ولكنه ينبسط انبساط البحر
في عمق وسعة وسكون.
قد يعسُر على بعض القرَّاء فهم شيء من شعر شكري، فهؤلاء هم الذين يريد أكثرهم من
الشاعر أن يخلق فيهم العاطفة التي بها يفهمونه، وليس ذلك مما يُطْلَب منه، ولو حاوله
لأفسد
شعره بالتعمل والزيادة، ومن دأْب المبتدئين من الشعراء أن يتوخوا في كلامهم الشرح
والإسهاب والتفصيل، ظنًّا منهم أن ذلك يزيد معانيهم جلاءً ويقربها من إحساس قرَّائهم،
وليس أبعد من هذا الظن عن الصواب؛ فإن العواطف لا تتأثر بالإطناب، وإنما هو مما يُتَوَسَّل
به إلى إفهام العقول، وإدخال المعاني إلى الأفكار.
ومن النفوس من لا يصلح لتوقيع جميع أدوار الشعر عليه، كما لا تُوَقَّع أدوار «الأوركستر»
على القيثار أو المزهر؛ فإن هذه الآلات الصغيرة لا تسع تلك الأنغام المتنوعة الكثيرة.
فإذا سَمِعَتْ إحدى هذه النفوس أنشودة الشاعر، فسبيلها أن تستغرب رنة اللحن الذي ليس
في
معزفها وتر يهتز به.
•••
قال لي بعض المتأدبين: إن شعر شكري مشرب بالأسلوب الإفرنجي. وأنا لا أعلم ماذا يعني
هؤلاء بقولهم: الأسلوب الإفرنجي والأسلوب العربي! فإن المسألة على ما أعتقد ليست مسألة
تبايُن في الأساليب والتراكيب، ولكنها مسألة تفاوُت في جوهر الطبائع، واختلاف بين شعراء
الإفرنج وشعراء العرب في المزاج كاختلاف الأُمَّتَيْن في الملامح والسحناء.
وأشبه بالحقيقة عندي أن يقال: الأسلوب الآري والأسلوب السامي؛ فإنه أدل على جهة
الاختلاف بين شعر الإفرنج وشعر العرب.
الآريون أقوامُ خيالٍ نشَئُوا في أقطارٍ طبيعتُها هائلة، وحيواناتها مخوفة، ومناظرها
فخمة
رهيبة، فاتسع لهم مجال الوهم وكبر في أذهانهم جلال القوى الطبيعة، ومن عادة الذعر أنه
يثير الخيالات في الذهن ويجسم له الوهم، فيصبح شديد التصور، قوي التشخيص لما هو مجرد
عن
الشخوص والأشباح.
والساميون أقوام نشَئُوا في بلاد صاحية ضاحية، وليس فيما حولهم ما يخيفهم ويذعرهم؛
فقَوِيَتْ حواسهم وضَعُفَ خيالهم.
ومن ثَمَّ كان الآريون أقدر في شعرهم على وصْف سرائر النفوس، وكان الساميون أقدر على
تشبيه ظواهر الأشياء؛ وذلك لأن مرجع الأول إلى الإحساس الباطن، ومرجع هذا إلى الحس
الظاهر.
السامي يُشَبِّه الإنسان بالبدر، ولكن الآري يزيد أنه يمثل للبدر حياة كحياة الإنسان،
ويروي عنه نوادر الحب والمغازلة والانتقام كأنه بعض الأحياء، وهذا — ولا مراء — أجمع
لمعاني
الشعر؛ لأنه يمد في وشائج التعاطف، ويُوَلِّد بين الإنسان وبين ظواهر الطبيعة ودًّا
وائتناسًا يجعلهما الشعرُ السامي وقفًا على الأحياء، بل على الناس دون سواهم من سائر
الأحياء.
وهذا الفرق بين الآري والسامي في تصوُّر الأشياء، وهو السبب في اتساع الميثولوجي عند
الآريين، وضيقها عند الساميين؛ فليست الميثولوجي إلا إلباس قوى الطبيعة وظواهرها ثوب
الحياة، ونسبة أعمال إليها تشبه أعمال الأحياء، وتلك طبيعة الآريين، فإنهم — كما قلنا
— قد
امتازوا بقوة التشخيص والخيال على الساميين.
وهذا أيضًا هو السبب في افتقار الأدب السامي إلى الشعر القصصي، ووفرة أساليب هذا
النوع من الشعر في الأدب الآري. فإننا إذا راجعنا أكبر قصص الهنود والفرس، وتقصينا
الملاحم الغربية قديمها وحديثها، وجدنا أنها تدور كلها على روايات الميثولوجي، وتَسْتَمِدُّ
منها أصولها، وقد وسعت القصص منطقة الشعر الغربي، فكانت له ينبوعًا تفرعت منه أساليبه،
وتشعبت أغراضه ومقاصده، وحُرم الشعر العربي منها، فوقف به التدرج عند أبواب لا
يتعداها.
أما تقسيم الشعر إلى قديم وعصري، فليس المراد به تقسيمه إلى عربي وإفرنجي، ولا يراد
بالعصري مقابلته بالقديم؛ فإني أعتقد أن الشعر العصري يشبه الشعر القديم في أن كليهما
يُعَبِّر عن الوجدان الصميم، ولكن المراد منه التفريق بين الشعر المطبوع وشعر التقليد
الذي
تَدَلَّى إليه الشعر العربي في القرون الأخيرة.
فالشاعر قد يكون عصريًّا بريئًا من التقليد، إلا أنه لا يلزم من ذلك أن يكون
إفرنجيًّا في مسلكه.
وأيما شاعر كان واسع الخيال قوي التشخيص، فهو أقرب إلى الإفرنج في بيانه وأشبه
بالآريين في مزاجه وإن كان عربيًّا أو مصريًّا، ولا سيما إذا كان مثل شكري، جامعًا بين
سعة الخيال وسعة الاطلاع على آداب العربيين.
بقلم الأستاذ عباس محمود العقاد
حياة الأمم أو التجدد والتغير
حياةُ الناس إِمَّا ماءُ نهرٍ
فيصلحهُ التدفُّقُ والمسيرُ
وإِمَّا ماءُ آجنةٍ كثير
قذاه، ويأجن الماءُ الطهورُ
وليست هذه العادات إِلَّا
رداءُ العيش تبليه الدهورُ
رداءُ العيشِ تبليه الليالي
ويبكي عهد جِدَّته الغرورُ
وأبكارُ المعاني حائكات
رداءً عهدُ جِدَّته نضيرُ
•••
نظامات وعادات تقضِّي
وبعضُ الأمرِ يصلح إِذ يحولُ
وأسبابُ البقاء لها صيالٌ
صيال السيل يهلك إِذ يصولُ
وأحكامُ الوجودِ لها مسيلٌ
مسيلُ السيلِ يهلك إِذ يسيلُ
فإِن تسدُدْ طريقَ السيلِ تَهْلِكْ
ولا يُغني البكاءُ ولا العويلُ
ويحيا بالتغيُّر كلُّ حيٍّ
ويردى الفاسدُ القدر العجولُ
فلا تكُ جازعًا في إِثرِ أمرٍ
جليلُ الأَمر يعقبهُ الجليلُ
وآمال وآراءٌ وعادٍ
سواء في تغيُّرها شكولُ
•••
وكم من أمةٍ تخشى زَوالًا
على الأَيامِ أَدْرَكَهَا الزوالُ
تُحَاذِرُ أن تغيرها الليالي
فيودي حالها ويجيءُ حالُ
وبين الدهرِ والدولِ استباقٌ
وبعضُ النَّاس يُعْوزهُ المجالُ
فقل للغافلين إِذا أصاخوا
حياتُكُمُ هي الداءُ العضالُ
ستُنْفِذُ فيكم الأقدارُ حكمًا
ويرجمكم بأنكده المآلُ
وهل يخشى الجديدَ سوى جبانٍ
له من حبِّ أقدمه عقالُ
الإيمان والقضاء
ليس يدري مضاضةَ القَدَرِ الْغَا
لِبِ إلا مُعَالِجُ اليأساءِ
تَفْتِقُ الذهن مثلما يَفْتِقُ الأَزْ
هار وهْنًا مرقرقُ الأنداءِ
غير أن الشقاءَ قد يَخِزُ النفْـ
ـسَ ويُصْمِي مجامعَ الأهواءِ
فهْو طورًا يكون برءًا لداءٍ
وهْو طورًا يُعدُّ في الأدواء
هو سيفُ القضاءِ في يَدِ عَدْلٍ
رُبَّ عدل في وقْعِ ذاك البلاءِ
خَفِيَتْ حكمةُ الحوادث عنا
فشقينا شقاوةَ الجهلاءِ
لو رأينا منابتَ العدل فيها
لنعمْنا بالعيشةِ الخشناءِ
لو رأينا مطالع العدل منها
ما شَكَوْنا مضاضةَ الأرزاءِ
وخداعُ الحياةِ أروعُ جلبًا
لأسى المرءِ من خداع النساءِ
سكناتُ الإِيمان برءٌ من الحز
ن ومأوًى لهاربٍ من قضاءِ
هو حصنٌ من الشقاءِ حصينٌ
ووقاءٌ أَنْعِمْ به من وقاءِ
كنفٌ مانعٌ وظلٌّ ظليلٌ
وشرابٌ يشفي أوامَ الظماءِ
يلج النفسَ بالثبات وبالحَزْ
مِ ويطوي جوانِبَ الضرَّاءِ
هو روض جمُّ الفروع أنيقٌ
ونعيمٌ موطَّأ الأفناءِ
يُدْخِل الأمنَ والسلامَ على قَلْـ
ـبٍ خفوق الضلوع والأحشاءِ
الحياة والعبادة
أكْذَبُ الدينِ ما يُنِيمُ قُوَى المَرْ
ءِ كما يُخْرِسُ الرياحَ الركودُ
إِنَّما الدينُ أن تفكَّ عن النفْـ
ـس من اليأس والخمولِ قيودُ
إِنَّما الدينُ أن يجدَّ مجدٌّ
أعْمَلَ السعيَ أو يُجِيدَ مُجيدُ
إِنَّما الدينُ قوةٌ وجمالٌ
وحياةٌ وعدةٌ وعديدُ
كيف يدري جلالةَ النفسِ غِرٌّ
أزعَجَتْه بوارقٌ ورعودُ
كيف يدري جلالةَ الله غِرٌّ
حَركَّتْهُ ضغائنٌ وحُقودُ
اُعْبد الله بالجهادِ وبالتفْـ
ـكيرِ، والعقل عابدٌ معبودُ
إِنَّما هذه الحياةُ جهادٌ
والجبانُ الموهونُ فيها جَحُودُ
خُلِقَ المرءُ كي يناهضَ أمرًا
فهْو في الموتِ والحياةِ شهيدُ
كُتِبَ الصبرُ في الحياةِ علينا
فالْبَس الصبرَ فالعظيمُ جليدُ
عِشْ شهيدًا تُنَاجِز الهمَّ والدَّا
ءَ إِذا أمَّ حتفه الرعديدُ
فحنينُ الثكلى ووخزُ ضميرٍ
ودموعٌ يريقها المكدودُ:
هي ما يعبدُ الأنامُ به اللهَ
كما يعبدُ القضاءَ الوجودُ
القلق والغفلة
يا أسيرًا قيودُه آمالٌ
مشكلات لا تستبين لرائي
تبتغي الخيرَ في مجاهل ما يأ
تي من الدهر والقضاء النائي
لك صدرٌ جم الحنوِّ على النا
سِ ولكن يضيق بالأرزاءِ
أنت عبدُ البقاءِ لو كَرِهَ العبْـ
ـدُ إِباقًا من رقِّ ذاك البقاءِ
أنت تقري الأنام من دمعك الغمْـ
ـرِ شآبيب عاجزات السخاءِ
أنت تبكي مما يعالجه النَّا
سُ وتأسى لبادرات البلاءِ
إِنَّ عتبًا على القضاءِ سفاهٌ
غاب عنه مطالع النعماءِ
ينعم الغافلُ الغبيُّ ويشقى
عاتبٌ ساءهُ وقوعُ القضاءِ
أيُّها اللائمون في الحزنِ مهلًا
غافل القلبِ ميتُ الأحياءِ
ما بَكَيْنَا من الشقاءِ ولَكِنَّـ
ـا بَكَيْنَا من ذلنا للقضاءِ
ضُرِبَ الأمن والسلامُ عليكم
وعلينا عرفانُ وقْع البلاءِ
لو مُنِينَا بعيشِكم ما رضينا
ضاحك القلبِ جاهلٌ بالبقاءِ
لا يصيب السلامَ إِلا غبيٌّ
كيف نرضى بعيشِ أهلِ الغباءِ؟
كم عظيمٍ قضى ولم يَبْلُغ النجْـ
ـحَ وغرٍّ أصابه برياءِ!
كم جليلٍ مرجَّم بسبابٍ
وضئيلٍ مزيَّن بالثناءِ!
اليتيم
يتيمٌ تقاضاه الهموم حياته
وتُظْمِيهِ من طيبِ الحياةِ خطوبُ
وما اليتمُ إِلا غربة ومهانة
وأيُّ قريبٍ لليتيمِ قريبُ
يمرُّ به الغلمانُ مثنى وموحدًا
وكلَّ امرئٍ يلقى اليتيم غريبُ
يرى كلَّ أمٍّ بابنها مستعزةً
وهيهات أن يحنو عليه حبيبُ
يسائلهُ الغلمانُ عن شأنِ أهلهِ
فيُحْزِنُه أن لا يجيب مجيبُ
إِذا جاءه عيدٌ من الحول عادَهُ
من الوجد دمعٌ هاطلٌ ووجيبُ
كأنَّ سرورَ الناسِ بالعيد قسوةٌ
عليه تُرِيق الدمعَ وهْو صبيبُ
يظل حَسودًا للذين أَظَلَّهُمْ
من العيشِ، فينانُ النعيمِ رطيبُ
وما عَلِمَ الغلُّ الفتى كمصيبةٍ
دَهَتْهُ فلم يَعْطِفْ عليه ضَرِيبُ
فيا وَيْلَهُ قد مزَّق الغلُّ قَلْبَهُ
وأُنْشِبَ فيه للشقاءِ نُيُوبُ
عزاءك لا يلمم بك الضيمُ إِنَّنا
يتامى ولكنَّ الشقاءَ ضروبُ
فهذا يتيمٌ ثَاكِلٌ صَفْوَ عيشهِ
وذاك من الصحْبِ الكرامِ سَلِيبُ
وكلُّ امرئٍ في الناس باكٍ وضاحكٍ
وكلُّ يتيمٍ لليتيم نَسِيبُ
فإِن شِئْتَ فاعْدُدْ من رُزِئْتَ أمانيًا
وإِنَّكَ منها ما حَيِيتَ سَلِيبُ
وما الرزءُ إِلا فَقْدُ مَنْ لو حُرِمْتَهُ
حَيِيتَ ولم يعنف عليك وجيبُ
ألا إِنَّ بَيْنَ الناسِ قُرْبَى ولو طغى
جفاءٌ وأَوْدَتْ بالحنانِ شَعُوبُ
فإِن جَهِلُوا أنَّ القلوب أواصرٌ
فما جَهِلُوا أنَّ القلوبَ قلوبُ
الجمال والعبادة عند قدماء اليونان
كم أمةٍ أَحْكَمَتْ بالحُسْنِ دَوْلَتَهَا
فخَلَّفَتْهُ وأودى مَجْدها الفاني
حبُّ الجمالِ حياةٌ لا نفادَ لها
لا نهبَ دهرٍ ولا أسلاب حدثانِ
تلك التماثيلُ أم هذي المعابدُ أم
تلك الفنون عليه خيرُ عنوانِ
يا رُبَّ مرأى لنا منها ورُبَّ مُنى
فيها وحُسْنٌ قديمُ العهدِ يوناني!
لهْفى على زمنٍ كان الجمالُ به
ما يَعْبُدُ الناسُ في دينٍ وإيمانِ
لم يَحْبِسِ المرءَ عن آمالهِ فَرَقٌ
منها ولم يُثْنِهِ عن عزمِه ثَانِي
الحبُّ والحسنُ والأشعارُ دينُهُمُ
أَنْعِمْ بذلك دينًا بيْنَ أديانِ
لم يُزْرِ بالحقِّ حبُّ الحُسْنِ بيْنَهُمُ
فالحقُّ والحسنُ إِن فكَّرتَ سيَّانِ
كأنما عَيْشُهُمْ من طيبِ مَخْبَرِهِ
بيتٌ من الشعر في حُسْنٍ وتبيانِ
يَرَوْنَ في كلِّ شيءٍ حَوْلَهُمْ نَفْسًا
حيًّا وروحًا نماهُ طِيبُ جُثْمَانِ
لكلِّ شيءٍ إِلهٌ ملؤه جذلٌ
معبَّدٌ بين أَزهارٍ وأغصانِ
وللجمالِ إِلهٌ غيْر ذي بخلٍ
مكللٌ بوريق العودِ فينانِ
لقد أضاءَت وُجُوهَ العيْشِ عنْدَهُمُ
محاسنُ الحبِّ من صدقٍ وإِحسانِ
لا تَحْسَبِ الحبَّ بين الناس مَنْقَصَةً
فالحبُّ سلوةُ هذا العالمِ الفاني!
الحياة والعمل
المرءُ لَيْسَ بمالكٍ يَدَهُ
حتى تكونَ وسيلةُ الأملِ
والمرءُ يقمر جِسْمَهُ كَسَلٌ
والعمرُ بعض غنيمةِ الكسلِ
والعيشُ سرٌّ أنْتَ باحِثُهُ
فعسى تجوب مجاهلَ السُّبُلِ
والعيش سجفٌ أنت رافعه
عما جهلت بجدِّ ذي حِيَلِ
والعيشُ تجربةٌ لسالِكه
واليأسُ أخطل فيه من خطلِ
فحذارِ أن تَعْتَدَّهُ غرضًا
إِن الحياةَ وسيلةُ الرجلِ
لو كان هذا العيشُ غايَتَنَا
لم نطرق الأقدار بالأجلِ
لا تَزْدَهِيكَ منازلٌ وُطِئَتْ
فالسعيُ خيرُ منازلِ النزُلِ
والنجحُ ليس بخير مُكْتَسَبٍ
كم نجحةٍ شرٌّ من الفَشَلِ
كم ظافرٍ بأقلِّ مُطَّلَبٍ
خذلَتْ يداه بمَطْلَبٍ جَلَلِ
فالطيشُ ليس بعائب الأملِ
والعجزُ ليس بعائبِ العملِ
إِن الذي يسعى على وجلٍ
غير الذي يسعى على جذلِ!
ضحكات الأطفال
ضِحْكَةٌ منك صَوْتُها صَوْتُ تَغْرِيـ
ـدِ العصافيرِ تستفزُّ القلوبَا
ضِحْكَةٌ ردَّتِ المشيبَ شبابًا
وأماتَتْ من الوجوهِ الشحوبَا
ضَحِكَاتٌ كأنَّها كَلِمَاتُ الله
تَمْحُو مآثمًا وذُنُوبَا
ضَحِكَاتٌ كأنها نغماتٌ
تَتْرُكُ الغافلَ الغبيَّ طَرُوبَا
ضَحِكَاتٌ لا تَعْرِفُ الخيرَ والشرَّ
ولا تُضْمِرُ الجوى واللُّغُوبَا
تُفْزِعُ الهمَّ من ضلوع ذوي الهمِّ
وتُحْنِي على القلوبِ القلوبَا
كم أنامَتْ دون الفؤادِ وجيبًا
وأغاضت من الدموع غروبَا
رُبَّ ضِحْكٍ قد يَضْحَكُ الغدرُ فيه
ويُغطي عن خبِّه أن يريبَا
أَبْيَض النفْسِ صادق الضحكِ والغا
درُ يعطيك ضِحْكَهُ المكذوبَا
ولقد يَضْحَكُ اللئيمُ رياءً
فَتَرَاهُ وهْوَ الضَّحُوكُ قَطوبَا
يا رعى الله للطفولة حالًا
تَرَكَتْ بعدها العزاءَ سليبَا
يا رعى الله للطفولةِ حالًا
ما عهدنا الزمانَ فيها مُرِيبَا
كم صَحِبْنَا فيها الزمانَ أَمِينًا
ولبسنا فيها النعيمَ قَشِيبَا
الجمال والموت
باعَدَ الهمُّ عن فِراشي المنامَا
فَرَعَيْتُ الأشجانَ نهبًا سوامَا
وجَعَلْتُ الفِرَاشَ مأوَى همومي
فاستزادَتْ من الظلام ظَلَامَا
هو مُورِي الأشواقِ بعد خمودٍ
وهْوَ داءٌ مرٌّ يهيض السقامَا
وهْوَ أَحنى عليَّ مِنْ وَضَحِ الصُّبْـ
ـحِ وأندى يدًا وأهدى مقامَا
غيْرَ أنَّ الفناءَ يَخْطِرُ في شَمْـ
ـلَتِهِ غابنا جسومًا نِيَامَا
طَرَقَتْنِي في جنْحهِ خَطَرَاتٌ
أَنَا مُحْيِي الدُّجَى وهُنَّ الندامَى
نَضَّدَتْ فَوْقِيَ الرِّجَامُ ضريحًا
وسَقَتْنِي مِنَ الحِمَامِ مُدَامَا
فرأيتُ الثِّيَابَ فَوْقِيَ أَكْفَا
نًا وحَوْلِي جماجمًا وعِظَامَا
ورَمَيْتُ الظلامَ بالنظر الآ
مِلِ أبغي مِنَ الظلامِ مَرَامَا
إِنَّ هذا الظلام بابٌ إِلى المَوْ
تِ نراه وراءنا وأَمَامَا
يا سميرَ الْمَوْتَى أَبِنْ لي حبيبًا
كان في مقلتيَّ بدرًا تَمَامَا
غَبَنَتْنِي المَنُونُ فيه ولو شَا
ءَتْ لسامَتْ به الأنام مسامَا
•••
أيُّ زُورٍ يفري الدجى عن ضِيَاءٍ
أيُّ زُورٍ يسعى إِليَّ لمامَا
أنتِ أنتِ التي هَجَرْتِ لحاظي
وتركتِ الفؤادَ يشكو أوامَا
أنتِ في الموت والحياةِ تَقُودِيـ
ـنَ فؤادًا مُتَيَّمًا مُسْتَهَامَا
عانقيني فرُبَّ صَدْرٍ خفوقٍ
ظلَّ يَحْنُو عليكَ عامًا فَعَامَا
واجعلي ساعِدَيْكِ عُقْدًا لِجِيدِي
واجعلي مِعْصَمَيِكِ فيه زِمَامَا
عانَقَتْنِي فعَانَقَ الداءُ جسمي
وكأَنَّ الخيالَ صار رمامَا
ورأيتُ العظامَ تُعْرَى منَ اللحْـ
ـمِ وَقَدْ فارَقَ البهاءُ العظامَا
أَبْعِدِي عن مشمِّيَ النَّفَسَ المُرَّ
فَقِدْمًا شَمَمْتُ منه البشامَا
أَبْعِدِي فَاكِ ذاكَ عن شَفَتِي الظَّمْـ
ـأَى فَقَدْ أَبْدَلَ الرُّضَابَ لُغَامَا
بينما أَنْتِ كالضياءِ بهاءً
إِذ تعودين رمَّةً تتحامَى
عابدة الشمس (اسم زهرة معروفة)
تُدِيرِينَ نحو الشمسِ وجْهًا كَأَنَّمَا
تَرَيْنَ بِوَجْهِ الشمسِ ما كتَبَ الدهرُ
فما حَسُرَتْ عيناك مِنْ طُولِ رقْبَةٍ
ويا رُبَّ ترصادٍ يَنُوءُ به الصَّبْرُ
أتبغين من تلحاظها شُكْرَ نعمةٍ
هى النور لم يحسب عليك له أَجرُ؟
تُسَقِّيك من أضوائها بلواحظٍ
وللشمس لحظٌ لا بطيءٌ ولا شزر
إِذا غربتْ أَرْخَيْتِ أجفانَ عاشقٍ
يناجى حبيبًا دُونَهُ للدجى ستْرُ
تضيئين وجْهَ الروض من فرط صُفْرةٍ
فأنْتِ له شمسٌ وأنتِ له بَدْرُ
وفي اللون آياتٌ من النورِ غضةٌ
ويا رُبَّ لون قد يضيءُ له جمْرُ
كأنَّك بين الزهرِ في ليل أَرْبَعٍ
وعشرٍ هِلَالٌ حَوْلَهُ الأنجمُ الزُّهرُ
وصفراء من نسل المجوسِ كأنها
تعالج أمرًا لا يعالجه الزهرُ
تهمُّ إِلى وجه السماءِ كأَنما
لها في صميم الأرضِ من جذرها أسْرُ
كما يَشْرَئِبُّ النسرُ هيض جناحِهِ
مقيم على الدهماءِ ألحاظه طيرُ
جحدنا مغاليق الطبيعةِ ضلة
فكانت حياةُ المرءِ أكثرها سرُّ
صوت الليل
ملأتَ الكونَ مِنْ نَفَسٍ عميقِ
فأسمع كلَّ ذى قلبٍ مفيقِ
وأجْرَيْتَ الجلالَ على سكونِ
يَفِيضُ على ظلامك كالأنينِ
وأخْرَسْتَ الحياةَ وراغبيها
وريحُ الموتِ تخفق منك فيها
كأنكَ شدو ظئر للوليدِ
إِذا طردت به صحْو العنيدِ
كأن النومَ صِنْوُكَ حين تجري
على سمْعٍ سرارك ليس يدري
وأنتَ علالةُ الروحِ الكبيرَهْ
إِذا أصغت ولجت إِلى السريرَهْ
فصوتُ الليلِ من صوت الضميرِ
مهيب القولِ كالهادي النذيرِ
يئنُّ صداه في صمِّ الضلوعِ
ويكسو النفسَ ثوبًا من خشوعِ
فيا مأوايَ مِنْ عَنَتِ الحياةِ
إِذا أنا متُّ لا تهجر رفاتِي
فكم ناجيتُ سرَّك في الظلامِ
وداءُ النومِ يسري في الأنامِ
خَلَسْنَا مِنْكَ أسرارَ البيانِ
فأنت اليمُّ تعمره المعاني
وصف البحر
ألا ليتني لجٌّ كلجَّكَ زاخرُ
أعب كما تهوى النهى والبصائرُ
فكم عَبَّتِ النفسُ اللجوجُ وحاوَلَتْ
كبعض سُطاك الآبياتُ النوافرُ
فأخفت من الدرِّ النفوس ومن حلى
كما اختبأت فيك اللهى والذخائرُ
كأن بها أُفْقًا كأُفْقِكَ نائيًا
ومن دونه كل المدى يتقاصرُ
أتطرب من لحنِ الخرير كأنه
خواطر تتلوها عليك السرائرُ
كما يَطْرِب النشوانُ من لحن صوته
فجاشت لديك الراقصات الزواخرُ
وإِلا فما للموج في اليمِّ راقصًا
دعاه عذارى البحر شادٍ وشاعرُ
خريرك يحكي صدحة الدهر صامتًا
كأنك دهر بالحوادث مائرُ
هو الدهر لا يخشى المنايا ولا يهي
صباه ولا تقضي عليه المقادرُ
وأنت شبيه الدهر لا أنت هارِمٌ
ولا أنت منقوصٌ ولا أنت خاسرُ
ويصطخب الآذيُّ فيك كأنما اصْـ
ـطِخَابُكَ من حكم المنية ساخرُ
أخَفْقٌ وإِعصارٌ ودَفْعٌ وهبَّةٌ
كأنك حيٌّ نابضُ القلبِ شاعرُ!
فريحُكَ أنفاسٌ وموجك نابضٌ
كنبض قلوبٍ أعجلَتْهُ البوادرُ
خَلَوْتَ من السُّمَّارِ كالبيد وامَّحَتْ
مَعَالِمُ لا تُبقي عليها الأعاصرُ
سوى شلْوِ فُلكٍ قد حدرت إِلى الردى
يلوح كما لاحت رسومٌ غوائرُ
وكم جزرٍ مثل الجنان مضيئةٍ
كأنْ جَهِلَتْهَا الصائلاتُ الدوائرُ
لَخِيلَتْ نجوم السعد والحب والمنى
فحنَّ إِليها الشخشخان المخاطرُ
كما حنَّ للآل الخلوب قوافل
تخب بها في البيد إِبْلٌ ضوامرُ
لخلَّقْتَ في قلب المخاطر همةً
على الدهر لا تبلى وتبلى العمائرُ
يحنُّ إِلى ما خلف أُفْقِك ناظرٌ
كما تنشد الغيبَ النُّهى والبصائرُ
كأنَّ منًى للنفس مِنْ خَلْفِ أُفْقِهِ
تلوح كما لاح السرابُ المبادرُ
أَوَ انَّ مجال السعد درٌّ منظَّمٌ
على الأفْقِ ينحوه الطلوب المغامرُ
بلى كل نفسٍ للغريب مشوقة
وإِنْ خَوَّفَتْها من سطاه المحاذرُ
ويصغر في مَرْآكَ عيْشُ ابْنِ يَوْمِهِ
ويَكْبُرُ رأيٌ ذاهبٌ فيك سائرُ
خواطر مثل الفلك فيك شواردٌ
يضلُّ عليها عازبُ اللبِّ حائرُ
تناءت بك الأمواج وَهْيَ نوافرٌ
وجاءت بك الأمواجٌ وَهْىَ ثوائِرُ
كأن بها عجزَ المشيب إِذا انْثَنَتْ
وعزمَ الشبابِ الغرِّ وَهْيَ بوادرُ
فَنمْ نومةَ الظل البطيء مَسِيرُهُ
وثِبْ وَثْبَةَ الغضبانِ حين يُسَاوِرُ
فيا رُبَّ حلمٍ خامِلِ البطشِ هادئٍ
ضُمِنْتَ وجهلٍ شرُّه متطايرُ
كأن لنا منْ لُجِّ مائِكَ واعظًا
بليغًا له مما أَثَرْتَ زواجِرُ
رأيتُكَ والأمواجُ في وثَبَاتِهَا
عساكر حرْبٍ قد تَلَتْهَا عساكِرُ
فبينا يُريق الضوءُ فوقك ماءَه
وتجري عليك الريحُ وَهْيَ خواطِرُ
ويتلو عليك الصائدون غناءَهم
يرجِّعُهُ لحن من الماء مائِرُ
ويُسْمِعُكَ الملاحُ مِنْ شَجْوِ قَلْبِهِ
أحاديثَ قد تاقت لَهُنَّ الحرائرُ
إِذِ الجوُّ جهمٌ والرياح كتائبٌ
وإِذْ أنت مقبوح السريرة غادِرُ
ورُبَّ سفينٍ يَقْرَعُ النجم مجْدُها
تقاذفها مستوفز اللجِّ هامِرُ
يروِّعها في كل هوجاء موعد
ويسعى لها قبْرٌ من الماء سائِرُ
فليس الغمامُ الغمرُ إِلا رياحها
وما المرسلاتُ الهوجُ إِلا الهوامرُ
وما ذلك اللج الذي في سمائها
بأهدأ من لجٍّ نَمَتْهُ الزواخرُ
إِذا ذَكَرَ الملَّاحُ زوجًا وصبيةً
طغى شجن في مرجل الصدر فائرُ
وتذهل عن مهْدِ الوليدِ رءومه
إِذا ما رَمَتْهَا بالوعيد الزماجرُ
وما هى إِلا صولةٌ ثمَّتِ انْجَلَتْ
وأَكْبَر غرقاها المساعي البوائرُ
كما غرقت في لجة الدهر دولةٌ
زهتْ ما زهتْ والدهرُ للناس غامِرُ
معانٍ لا يدركها التعبير
كم معانٍ يَوَدُّ لو صاغها المرْ
ءُ وحلَّى بها وجوهَ البيانِ
هي ملءُ الضميرِ لم يبلغ اللفْـ
ـظُ مداها ولم تُذِلْها المباني
كُلَّمَا رامَ أن يعبر عنها
أَنِفَتْ أن تُنالَ بالآذانِ
فَهْيَ عذراءُ لا تحنُّ لناءٍ
وهْي عذراءُ لا تَلِينُ لداني
نَزَلَتْ في النفوس مَنْزِلَ صِدْقٍ
كنزول النفوسِ في الأبدانِ
وتأبَّتْ عن قانص الحقِ باللفْـ
ـظ ولو كان واسعَ التبيانِ
هي جزءٌ من النفوسِ وهلْ تَبْـ
ـدو نفوسٌ لمدركٍ بالعيانِ
لن تراها بالرأي حتى تراها
بفؤادٍ موفَّقٍ يَقْظَانِ
طالما نالها أخو الصمتِ والصمْـ
ـتُ كريم البيان جمُّ الأمانِ
إِنَّما تنطق النفوسُ لدى كُلِّ
مصيخٍ إِصاخة المِذْعَانِ
ونجيُّ النفوس ليس الذي ألْـ
ـجَمَ فاه من رهبةٍ أو هوانِ
إِنَّ وأْدَ الأبناءِ أهْوَنُ خطبًا
وأثامًا مِنْ وَأْدِ تلك المعاني
ذلُّ من خاف لومةَ الناسِ في قَوْ
لة حقٍّ فلجَّ في الكتمانِ!
غلامْ مريضْ يكلم أمه
خبريني أمي أئن متُّ ماتَتْ
نزعاتي إِليكمُ وحنيني؟
والحنانُ الذي أضمُّ به كلَّ
قريب معانِقٍ أو قرينِ
والضياءُ الذي تَرَيْنَ بعيني
أمضيءٌ سواد تلك المنونِ
وهلِ المرءُ في المماتِ غبينٌ
أم هو المرءُ فيه غيرُ غبينِ
عاهديني أن لا تعاني لموتي
حرقاتٍ تُفِيضُ ماءَ الجفونِ
وإِذا شِئْتِ فاجعليه رشاشًا
ذلك الدمع واحبسي من أنينِ
في قليلٍ من البكاءِ بلاغٌ
وكثيرُ البكاءِ داء العيونِ
لستُ أرضى لحرِّ وجهك أن يُزْ
رى به من شحوب وجهِ الحزينِ
لست أرضى لأضلعٍ حَمَلَتْنِي
أن تعاني حملَ الأسى المكنونِ
ولصدرٍ قد كان يحنو على جسْـ
ـميَ في المهد لوعةً من شجونِ
العصافيرُ في الرياض تُغَنِّي
لا كجسمي تحت الترابِ الدفينِ
كنتُ في العيش مثل هذي العصافيـ
ـرِ أُغَنِّي في وكرِيَ المأمونِ
فألاحت لي المنونُ بوجهٍ
أيُّ راءٍ يرضيه وجْهُ المنونِ؟
ليس ما بي خوف الجبانِ ولكِنْ
خوفُ جهلٍ لا خَوْف جُبْنٍ وهُونِ
كالمكان الخراب يبعث في النفْـ
ـسِ خشوعًا ورعدةً للظنينِ
فهْو يخشى وليس يعرف ما يخْـ
ـشى ووجه الفناءِ غير أمين
التنويم المغنطيسي أو عزيمة المجرم (قصة)
بلحاظٍ رامياتِ
مصمياتٍ ساكناتِ
كلحاظ الحيةِ الرقْـ
ـطاءِ عند الوَثَبَاتِ
واعتزامٍ ليس يُثْنَى
بدعاءٍ أو شكاةِ
قادها كرهًا وكانَتْ
قبلُ خَيْرَ الآبياتِ
جَعَلَتْ تُغْضِي لتمحي
فِعْلَ تلك النظراتِ
فهْي كالطير قنيصٌ
فى الشباك القانصاتِ
ولها قلبٌ خفوقٌ
كجناحِ الطائراتِ
خيفة الرجس ولا خَوْ
فٌ كخوفِ الغانياتِ
صار يدعوها إِليه
بحديثِ اللحظاتِ
لحظاتٍ آمراتٍ
فهْي طوع الآمراتِ
تأخذ المرءَ اقتسارًا
باقتدارِ العزماتِ
رَحَمَاتُ الله تَرْعَا
هَا بخير الرحماتِ
كم يُضَحِّي الشَّرُّ بالطُّهْـ
ـرِ لِحُكْمِ الشهواتِ
رُبَّ جانٍ علَّمَ العا
جِزَ وَجْهَ العزماتِ
رُبَّ جانٍ عَلَّمَ الغرَّ
جذاب الفرصاتِ
كلُّ خبٍّ ودهاءٍ
واعتزامٍ للجناةِ
هو محسوب علينا
في أساليب الحياةِ!
ليتني كنت إلهًا
ليتني كنتُ في السماءِ إِلهًا
نافذَ الأمرِ في شئونِ الوجودِ
فأضمُّ الوجودَ بين جناحَيَّ
وأسطو على الشقاءِ بجودي
ثم أحنو على الأنامِ كما يَحْـ
ـنو شفيقٌ على الرضيع الوليدِ
ليس شرِّي عليهمُ بِهَتُونٍ
إِنَّما العدلُ آيةُ المعبودِ
إِنَّ وعدي لديهمُ خَيْرُ وعْدٍ
ووعيدي بالشرِّ غَيْرُ وعيدِ
ليس حكمي عليهمُ بشديدٍ
وقيودي لديهمُ بقيودِ
ونداماي في الملائكة الغرِّ
حِسَانٌ من الظباءِ الغيدِ
مجَّدُوني حتى عَطَفْتُ عليهم
فاستراحوا من ضجة التمجيدِ
هم أجادوا المديحَ والنَغَمَ العَذْ
بَ فأعفونا من ركعةٍ أو سجودِ
هم أضاءوا كواكبي بضيائي
وأثاروا بوارقي ورعودي
وهُمُ في الظلامِ حولي قيامٌ
لم يهيجوا لواعجي بالصدودِ
كم عناقٍ لي بينهم والتزامٍ
وارتشافٍ من الرضابِ البرودِ
لو تراني وعزتي وجلالي
وجنودي وعدَّتي وعديدي
لو تراني وعزتي غير عزها
ة وقولي: أحبكم يا عبيدي!
وهُمُ يَبْسِمُون عن جذلٍ جمٍّ
وعيشٍ هناك غير عميدِ
فتنوني بمبسمٍ وقوامٍ
وبجيدٍ وأعينٍ وخدودِ
ليس فيهم من خائنٍ أو خبيثٍ
أو لئيمٍ أو حاقدٍ أو حسودِ
ولهم في أوائل الفجرِ لحنٌ
يوقظون الطيورَ بالتغريدِ
وسقاني من الملائكة الغرِّ
وصيفٌ شرابَ أهلِ الخلودِ
رُبَّ ساقٍ متوَّجِ الرأسِ بالزهْـ
ـرِ صَقيلِ اللحاظِ غير عنيدِ
ولنا من سمائنا فوق هذا الـ
ـنَّاس إِشرافُ سيدٍ معبودِ
كم بعثنا اللحاظَ في غَسَقِ الليْـ
ـلِ ولحْظ الإِلهِ غير شريدِ
فإِذا النَّاسُ بين باكٍ وضحَّا
كٍ ومُضْنًى من لوعةٍ أو حقودِ
ورأينا في مرقد الغادةِ الرو
د نساءً حُلِّينَ بالتجريدِ
فضحكنا حتى أفقنا من الضِّحْـ
ـكِ وحتى حَسِبْنَهُ من رعودي
كم رفعنا قنانيَ الخمرِ للسا
ري إِذا ضلَّ في الليالي السودِ
فأضاءت له الطريق سويًّا
وهَدَتْه هَدْي اللبيبِ الرشيدِ
فأرقنا عليه دِيمَةَ مُزْنٍ
سَلَبَتْ منه جدة في البرودِ
وضَحِكْنَا ضِحْكًا يضجُّ له المَوْ
تى ويشكو منه حبيسُ اللُّحُودِ
هكذا تمزح الملائكةُ الغرُّ
ومزحُ الكرامِ غيرُ شديدِ
رُبَّ مزْحٍ سهْل المساغ ومزحٍ
مستطيل العداءِ غير حميدِ
ومزحنا مزح خالص النفسِ والكف
بريء من سوأةٍ أو حُقُودِ
بُسِطَ العرشُ فاستويتُ عليه
مُسْتَعِزًّا بمُلْكِيَ المدودِ
أنا بالخير قائمٌ، وأخي إِبْـ
ـليس بالشر قائم والوعيدِ
كم سخرنا من خائفٍ غير ندبٍ
إِنما الجبنُ آفةُ الرعديدِ
وطربنا من عابد العملِ الجمِّ
عظيم الفؤادِ غير قعيدِ
أنا والحب خالدان، كلانا
ذو صيالٍ ونشوة وجنودِ!
هو تِربي والكون طفلٌ وليدٌ
وسميري ومسعدي وعقيدي
يا جمالَ الحياةِ مَنْ عَلَّمَ الْعُشَّـ
ـاقَ رشْفَ اللمى ولثمَ النهودِ؟
يا جمالَ الحياةِ مَنْ عَلَّمَ الشا
عِرَ وَصْفَ الهوى ونسجَ القصيدِ؟
يا ضياءَ الحياةِ من علَّمَ الرا
سمَ رَسْمَ الضحى ووردَ الخدودِ؟
يا حياةَ الحياةِ من علَّم الصا
نع صُنعَ الدمى الحسان الغيدِ؟
يا حياة الحياةِ مَنْ علَّم المْطْـ
ربَ حسنَ الغناءِ والتغريدِ
يا حياة الحياةِ من علَّم العوَّ
ادَ إِفصاح عوده الغِرِّيدِ؟
قد أَرَتْهُمْ ملائكي طرفَ العَيْـ
ـشِ فأَوْرَوْا ذكاءَهم بزنودي
أنا شيخٌ وهُمْ تلاميذ صِدْقٍ
شايعوني بالنصرِ والتأييدِ
سُسْتُ هذا الأنامَ بالحلم حتى
صار رأيي في الحلمِ غيرَ سديدِ
وهجاني من البُغاثِ كثيرٌ
ليس فيهم من عاقلٍ أو رشيدِ
هكذا سُنَّة الورى، وقديمًا
هلك الليثُ في زمانِ القرودِ
وأتتني قوارصٌ عَنْ أَخِ الجَهْـ
ـلِ فويح لمثله من قصيدي
ذِهْنُه خاذِلٌ فلو كان ريًّا
لذبابٍ لمات من تصريدِ
كيف أخشى هَجْوَ البغاثِ وقد نا
هضْتُ إِبليسَ في زبون كئودِ
فاعتزامُ الجهولِ غيرُ جليلٍ
وأماني الحسودِ غيرُ وَلُودِ
ما رعودي لهم وعيدًا، ولكِنْ
ضِحْك سُخْرٍ بالشانئ المجهودِ
طارِقَ اليأسِ لا تَلُحْ لي بأمنٍ
واعفني من حديثِك المقنودِ
أنا أقْوَى من أنْ أذلَّ ليأسٍ
مستعيذًا بأمره المعقودِ
ودَمٌ للحياةِ هاجَ بقلبي
موقظًا بعضَ همتي بالوئيدِ
نبضاتٌ في القلبِ تحيي طموحي
وتزيحُ الهباءَ عن مجلودي
كلُّ عيشٍ سَهْلُ المساغ وإِنْ مرَّ
سوى عَيْشِ يائسٍ مصفودِ
لهفُ نفسي على مراتب عزٍّ
تَطَّبِينا بالسؤددِ المعقودِ
لهف نفسي على مراتبَ قَدْ يَبْـ
ـلغها المرءُ في الخيالِ البعيدِ
رُبَّ عيشٍ لي في السموات رَغْدٍ
ليس عيشٌ من بعده بحميدِ
كان يقضي القضاء أمري فما حُكْـ
ـمي لدى الحادثات بالمردودِ
عزلوني عن حكمها فكأنِّي
يوم ذاك السلطانُ عبد الحميدِ!
غير أني قد كنتُ أحسن عهدًا
وعهودُ البغاةِ غيرُ عهودي
ولَوَ انِّي بقيتُ في الدست حينًا
هلك الناسُ من زمانٍ بعيدِ
فكأني قردٌ يُقَلِّدُ فيها
ربَّه، بئسَ ذاكَ من تقليدِ!
أيُّها الغافلون قوموا جميعًا
واسألوني عن عدتي وعديدي
لم تَدَعْ لي نوائبُ الدهرِ منها
غيرَ قلبٍ على الحياةِ جليدِ
ولسانٍ مثل الحسام رهيفٍ
وبيانِ كاللؤلؤ المنضود!
لسان الغيب
يا لسان الغيبِ ناجي شاعرًا
كشفَ الغيبَ له طولُ الأنينْ
عرف الهمَّ فلم يخنع له
ورمى الدهرَ بصبرٍ لا يخونْ
إِنَّما العيشُ عزيم لا يني
يتقاضاه الأسى وهْو ديونْ
ودحا الكون بلحظٍ صادقٍ
فرأى ما لا يراه الناظرونْ
يبتغي المخبوءَ في مكْمنه
ويناجي الله في تلك الظنونْ
ويردُّ الناسَ عن غفْلَتِهِمْ
ما علا يومًا على الشكِّ اليقينْ
باشَرَ الحالاتِ كي يَخْبُرَها
ويرى في بعض ذاك العزِّ هُونْ
يا رسول الغيبِ لا تَعْنُفْ بِهِ
أطْرِقِ الشاعر في رِفْقٍ ولِينْ
إِنما الشاعر فيما يبتغي
باحثٌ برٌّ على الغيبِ أمينْ
بائعٌ باع رخيصًا عُمْرَهُ
بعلالات المنى وهْو غبينْ
ودهتهُ في العوادى حكمٌ
جُنَّ منها لُبُّهُ أيَّ جنونْ
قد أحبَّ العيش لا حُبَّ امرئٍ
واجدٍ يخشى على العيش المنونْ
وقلاهُ لا قلى مستضعفٍ
يبتغي الآمال أو حزَّ الوتينْ
واستقاد العيش لا تكرثُهُ
صولةُ العادات بالداء الدفينْ
فإِذا شاءَ رأى في الجدب خصبًا
ورأى في الراكدِ الماءَ المعينْ
نعمى الزواج
إِنَّما عقدةُ الزواجِ عقالٌ
وإِسارٌ أنعِمْ به من إِسارِ
هو ذاك النعيم لو أَسْلَسَ الحظُّ
وباب الجحيم عند العثارِ
وهْو مأوَى المطلول مِنْ حَدَثِ الدهْـ
ـر بشؤبوب دِيمةٍ مدرارِ
جاعلٌ بيننا هضابًا منيعا
تٍ وبين الأهواء والأوطارِ
غير أن الحلاب أعْذَبُ وردًا
وهْو أنأى عن ذلةٍ وصغارِ
إِنما المورد الحرام كسمِّ الـ
ـصِّلِّ في طرف مؤخرٍ غدَّارِ
أحكم الله عقدةً هي كالعضْـ
ـبِ لدى عقدة الخطوبِ الكبارِ
جاعلًا ذلك الزواجَ كريمًا
كزواج الأنداءِ للأزهارِ
إِنَّما الزوج موئلٌ حيث لا مَوْ
ئل يُنجي من صولةِ الأقدارِ
وهْي كالنجمةِ المنيرةِ في جُنْـ
ـحِ دُجَى الخطب للشريد الساري
ولَجَتْ في الصميمِ من حبَّةِ القلْـ
ـبِ وحلَّتْ بموطنِ الأسرارِ
الشاعر وصورة الكمال (قصة)
قد حَدَّثُوا عن شاعرٍ نابغٍ
مجوِّدِ الشعر شريفِ المقالِ
لم يَعْشَقِ الغيدَ ولكِنَّهُ
هامَ ببكرٍ من بنات الخيالِ
صُورةُ حسْنٍ صاغها لبُّه
وحدُّها في الحسن حدُّ الكمالِ
فصارَ كالطفل رأى بارقًا
هاج له أطماعه في المحالِ
يمدُّ نحو النجمِ كفًّا له
ويحسبُ النجمَ قريبَ المنالِ
فأينما سارَ تراءت له
كما تراءى خادعًا لمْعُ آلِ
خيالها دانٍ به حائمٌ
كأنه غير عزيز النوالِ
وربما ألبسها وهْمُهُ
جسمًا وكَمْ وَهْمٍ غريب الصيالِ
قد هجر الأترابَ من وحشةٍ
وصار يمشي فوق هامِ الجبالِ
يحدِّثُ النفسَ بأمرِ الهوى
ويسأل الأرواحَ رجْع السؤالِ
فبينما يسعى على قمةٍ
تروِّع النفسَ بمرأَى الجلالِ
رأى التي صوَّرها لبُّهُ
تصوير صبٍّ عابدٍ للجمالِ
قالت له: إِن كنتَ لي عاشقًا
فاتْبَعْ خُطَايَ واستضِئْ بالخيالِ
فسارَ يقفو إِثرها هائمًا
والمهتدي بالوهمِ جمُّ الضلالِ
وهمَّ أن يُمْسِكهَا جَاهِدًا
بين ذراعيه بأيدٍ عجالِ
ما زال يعدو جهدَه نَحْوَهَا
حتى هوى من فوق تلك القلالِ
فرحمة الله على شاعرٍ
مات قتيلًا للأماني الطوالِ!
ربَّما أو المزهوُّ بحميد خُلُقه
يا سعيدًا يتيه بالخُلُقِ الفَا
ضِل فينا كَتِيهِ أهل الثراءِ
خَفِّضِ اللحظَ قد يتيح لك العَيْـ
ـشُ أمورًا من حادثاتِ القضاءِ
ربما شبَّ بين جنْبَيْكَ للشرِّ
ضرامٌ ما إِن له من فناءِ
كلُّ نفسٍ فيها إِلى الخير والشرِّ
دواعٍ طويلة الإِغفاءِ
أنت في اليوم واسعُ الجاهِ غضُّ الْـ
ـخيرِ لَدْنُ الرخاءِ رطْبُ الرجاءِ
خالصُ الكفِّ من دماءِ قتيلٍ
أبيضُ الطبعِ لم يُشَبْ برياءِ
ربما كنتَ في غدٍ أَشْعَثَ الطَّبْـ
ـع لئيمَ الخصالِ جمَّ الشقاءِ
خاضبَ الكفِّ من دماءِ عدوٍّ
طائرَ الضغنِ ثائرَ الشحناءِ
أو طريدًا يرميه بالنظرِ الشَّزْ
رِ عظيمُ الرياء جمُّ الحياءِ
كم وجوهٍ مشبوبةٍ من حياءٍ
وقلوبٍ لئيمةِ الأهواءِ
كلُّ نفسٍ فيها عزائم وَسْنَى
فهْي كالغيبِ لا تَبِينُ لرائي
ليس تبدو حتى يمزَّقَ عنها
قَدَرٌ واقعٌ ستور الخفاءِ
أكثر النفس ساكنٌ غيرُ يَقْظَا
ن خفىٌّ خفاءَ غير عفاءِ
ربما أَضْرَمَتْ حوادثُ في النَّفْـ
ـسِ وُلوعًا بالخيرِ جمَّ السناءِ
النساء في الحياة والموت
قُمنَ يرفُلْنَ في الليالي السودِ
بعد أنْ صِرْنَ طعمةً للدودِ
بعد أن كنَّ للعيون جلاءً
فاتناتٍ بأعينٍ وخدودِ
مالئاتٍ وجْهَ الحياة ضياءً
عابثاتٍ بمسعداتِ الجدودِ
هزَّ منها الهوى ثمارَ صباها
هزةَ الريح زهرة الأملودِ
يتواقَعْنَ كالنسيمِ ويَجْنِيـ
ـنَ لِحَاظِي بثَنْيِ تلك القدودِ
صِرْنَ يخطرن في الظلام ويرميـ
ـنَ عيونَ الرائين منها بداءِ
ويرجِّعْنَ في الظلامِ صراخ الْـ
ـبُومِ حتى يُسْقِمْنَ وجهَ الهواءِ
لابسات أكفانهنَّ حياءً
إِن ترى قُبْحَهُنَّ عينُ الرائي
هنَّ في الموت والحياةِ يُخَبِّئْـ
ـنَ عيوبًا تزري بذاك الحياءِ
ربما أَضْمَرَ الرياءُ حياءً
وبدا في الحياءِ بعضُ الرياءِ!
الحلال والحرام
إِذا لم يَعْدُ بالشرِّ ما أنتَ ناعمٌ
به فانتهزه ليس فيه حرامُ
فكم لذةٍ للمرءِ كان اغتصابها
حرامًا أحلت والصروفُ كِرَامُ
وما كلُّ ما يأتيك عفوًا مُحَلَّلًا
ولا كلُّ ما لا ينتحيه ملامُ
ولكنها اللذات ما غاب ضرُّها
حلالٌ وإِن هابَ الحلالَ لئامُ
فَرُبَّ حلالٍ حرَّموه وحرمة
أَحَلُّوا وألباب الأنامِ نيامُ!
متى يَعْرِف الأقوامُ حلًّا محرَّمًا
فيروى من الحلِّ الحرامِ أوامُ؟
العقاب بالقتل
أطيلوا حياةَ الجارمين فإِنَّها
حياةٌ إِذا سدَّ المطامع عاقرُ
أتبغون أن تنفوا بجرمٍ جريمةً
هي القتلُ يأتيها مقيد وعاثرُ
فلو أنهم عاشوا وفي السجن معهدٌ
لتهذيبهم عاشوا وفي العلم زاجرُ
لقد أخلفتهم بلغةُ العيشِ برَّها
زمانًا وحاجات الحياةِ غوادرُ
لبئس حياة المرءِ والفقر عاكفٌ
عليه وأسباب الحياة جرائرُ
فقل للأُلى أذوى النعيمُ قلوبهم
أعينوا أُلِي الحاجاتِ فالفقرُ كافرُ
كأنكُمُ بالضامرين تعارفوا
على نيةٍ سوآءَ والجوعُ آمِرُ
هنالك إِنِّي للفقير لَعَاذِلٌ
وإِنِّي له مما يعانيه عاذِرُ!
عيون الندى
عيون الندى كُونِي على الزهر إِنَّه
يطلُّ على العشَّاقِ مِنْكِ ويُشْرِفُ
فليس عيونُ الغِيدِ أَشْعَلَهَا الصِّبَا
بأروع في لَأْلَائِها حين تعطفُ
ولا أطفأت منك الغزالةُ رونقًا
على الروضِ جذلان المدامع يذرفُ
ولا زال مكسالُ النسيم إِذا سرى
على روضةٍ يحنو عليك ويرؤُفُ
يهزك هزَّ الظئر مهدَ وليدِها
فلا المهدُ يشكوها ولا هي تعنفُ
ولا زال غرِّيدُ العصافيرِ واقعًا
على الزهرِ يحسو منك ريًّا ويرشفُ
الحاجة المكتومة (قصة)
زعموا أن فتاةً
جَمَعَتْ طيبَ النساءِ
شُهرت بالبرِّ والتقْـ
ـوى وحسنٍ وحياءِ
ما رآها عارِفُوها
ضَحِكَتْ ضِحْكَ الضياءِ
ما رآها عارفوها
ردَّدَتْ رجْعَ الغناءِ
هي عاشَتْ في جلالٍ
كجلالٍ للمساءِ
حين ترنو الشمسُ حزنًا
وهدوءًا في السماءِ
لم تجدْ وجدًا فتمحو
هُ بإِحياءِ البكاءِ
فلها عيشٌ رقيقٌ
كغديرٍ في الصفاءِ
وهْي لم تُمْنَ بهمٍّ
وهْي لم تُمْنَ بداءِ
غير داءٍ خَفِيَتْ أسْـ
ـبابُهُ عن كلِّ رائي
وافتقارُ النفس للحبِّ
عنيفٌ لا يرائي
هزلت في كل يومٍ
في صباحٍ ومساءِ
ولها لحظٌ ضعيفٌ
مثل ضعفٍ للفناءِ
أتراها سَتَرَتْ حا
جتَها ستْر رياءِ
أم تراها جهلتها
جهْلَ طُهْرٍ أو غباءِ؟
عُمِّرَتْ حينًا وماتَتْ
من عفافٍ وحياءِ!
الإنسان والزمن
حيوانٌ مهذَّبُ
أم إِلهٌ معذَّبُ؟
صرَّح الخيرُ والأذى
فيه والخيرُ أغلَبُ
فإِلى العُجْم نِسْبَة
وإِلى الله يُنْسَبُ
وهْو في الشرِّ يرْغَبُ
وهْو في الخير يرْغَبُ!
ولهُ دُونَ شرِّه
في الليالي مؤَنَّبُ
وله دُونَ خَيرهِ
في الليالي مهذَّبُ
نَهَلٌ هذه المنى
والمساعي تقرَّبُ
لِحياةٍ قبل الحيا
ةِ وعيشٍ لا يكذبُ
تَذْكُرُ النفسُ حالهَا
فيه والحالُ تعْجَبُ
فجنابٌ موطَّأٌ
واقتدارٌ محبَّبُ
ولها عند أمسها
في ضحَى اليومِ مطلَبُ
وملالٌ في يومها
وطموحٌ ومعتبُ
ولها كلَّ ساعةٍ
شجنٌ أو تطرُّبُ
مثلما أذكر الغريـ
ـب حبيبًا تغرَّبُ
مثلما هاج للغريـ
ـب جوى الحزنِ مغربُ
فالمآلُ التنقُّلُ
والمآل التقلُّبُ
والبقاءُ التغيُّرُ
والحياةُ التطلبُ
أوَمَا تبصر الزما
ن أَتيًّا لا ينضبُ
وهْو للعمر مالئٌ
وهْو للعمر يسكبُ
وله الكونُ خلعةٌ
يرتديها فيحجبُ
وله القلبُ منزلٌ
وله النفسُ ملعبُ!
مراجعة الحب
دعني أقتاتُ من عيونك بالـ
ـلحْظِ وأروى من خمرةِ الجذلِ
ودعْ جفوني تبلُّ خدَّك بالـ
ـدَّمعِ وتحكي مصارعَ الأمَلِ
نستدفعُ العتبَ بالعناقِ وننْـ
ـفيه بإِحياءِ ضجة القبلِ
هل تذكر الموقفَ الرهيب وقدْ
مالت بسمعيك حجة العذلِ
ولْهان أبكي وأنت ذو خجلٍ
وقد يراضُ الحبيب بالخجلِ
تحسب حبيك شرَّ منقصةٍ
تفعل بالجاه فعلةَ الأسلِ
وإِنَّما الحبُّ سلوة جلل
على شقاء ذي دولةٍ جللِ
وإِنَّما الحبُّ كالضرامِ إِذا
أُجِيعَ يخبو كخبوةِ الشعلِ
وإِنَّما الحسنُ نهزةٌ تَدَعُ الْـ
ـخائبَ يبكي منها على طَلَلِ
لقد عرفنا الحياةَ معرفةً
يهابها خائفٌ من الزللِ
فاملَأْ بعطفَيْكَ ساعديَّ ولا
تتركْ فؤادي بالصدِّ في شغلِ
لم يَخْلُق الله حسنكم عبثًا
يا باعثين الهيامَ بالمُقَلِ
أليس يرضيك أنني رجلٌ
طال من الشِّعرِ مبلغ الأُوَلِ؟
ما أنت بالقارئِ الأديبِ فأر
قيكَ بقولٍ من حكمةِ الرسلِ
يا دولةَ الحسنِ غير راقبةٍ
من الليالي مصارع الدولِ
إِن تسعدي الشاعرَ القئول فقد
أسعدت طبًّا بأمرك الخضل
أو تخذليه فأنت عادية
تسدُّ عنه منافذَ الحِيَلِ
يا باخلًا بالنعيم لا عَجَبٌ
إِن أنت عانَيْتَ شقوةَ البخلِ
أما ترى لذةَ الحبيبِ إِذا
قبَّلَه عاشقٌ على وجلِ!
الحاجات الممتزجة
كم حاجةٍ للنفسِ ممزوجةٍ
بحاجة الجسمِ كخمرٍ وماءْ
كذلك الحبُّ به شهوة الْـ
ـجسمِ وريٌّ للنفوسِ الظماءْ
ونفحةُ الزهرِ بها شهوة الـ
أنْفِ إِذا سِيقَتْ بريح رخاءْ
ولذةٌ للنفس في طيِّها
تفعل فيها مثلَ فعلِ الدواءْ
يا عجبًا للنفسِ يهتاجها
بشجوهِ الصوتُ سليل الهواءْ
كم من صلاتٍ بين نفسِ الفتى
وبين موجوداتِ هذا الفضاءْ
وربَّ لونٍ هاج شجْو الفتى
وفتَّح الذهنَ بمرأى الضياءْ
إِنَّ غذاءَ الذهن فيما احتوى
مِنْ سمْع أُذْن المرءِ أو رأيِ راءْ
والحسُّ بابُ النفْسِ كم والجٍ
منه إِليها بالحجى والغباءْ
إِنَّ عناءَ الجسم في فعلهِ
يغري بنفس المرءِ برْح العناءْ
وربَّ داءٍ والِجٍ جِسْمَه
يصاب عقلُ المرءِ منه بداءْ
لا راحةً للنفْس في حيث ما
للجسم فيه مطلب للرخاءْ
أنفاس السَّحَر
نسيمُ الرياضِ وريحُ السَّحَرْ
أهابا بشجويَ حتى ظهرْ
يمرُّ علينا النسيمُ العطِرْ
ببرد الدجى وبطيب الزهَرْ
فما اسْتَبْرَدَ القَلْبُ ريحَ السحَرْ
حتى استثير لهُ ما استترْ
وكم في الدجى من بديع الغررْ
مناظرُ تصبي الفتى ما نظرْ
وميض النجومِ بوجه الغُدُرْ
ولونُ الدجى حول ظلِّ الشجرْ
نظرتُ إِلى النجم لما سفرْ
ثقيل النعاس بعيد النظرْ
سويعة للقلب فيها عِبَرْ
يهيج الخيالُ بها والفِكَرْ
تطيب الأماني بها والذِّكَرْ
وتنشقنا من نسيمِ السحرْ
جنينًا من الحبِّ خيرَ الثمرْ
ونلنا من اللهو أقصى وطرْ
فيا نَفَسَ الصبحِ لما ظهَرْ
ويا حِندسَ الليلِ لما انحسرْ
لقد صرت ذكرى تشبُّ الذِّكَرْ
بطيب الزهورِ وبرد السحرْ
امرأة تُكَلِّم بَعْلها
ليس الجمالُ عقارًا أنت مالِكُهُ
إِنَّ الجمالَ جمالُ الله والناسِ
تعتدُّني سلعةً في ملكها أربٌ
تموت داءً ولا يدنو لها الآسِي
في كلِّ لحظٍ عطيلٌ ثارَ ثائره
وكلِّ خطرةِ فكرٌ رجْع وسواسِ
وتحسب البعلَ مولى زوجه سفهًا
فهل يُشايعُ رأيي رأَيك القاسي
وحاجةُ النفس في ندٍّ أخي كرمٍ
جمٍّ ورفقٍ وإِعزاز وإيناسِ
هل كلُّ قولك حقٌ لا ارتيابَ به
أم كلُّ طبعِكَ حلوُ الطعم للحاسي
أم أنت عندي كما تهواه من خطلٍ
أعزُّ عندي من العينين والراسِ
لا يطعم البعل منكم حبَّ زوجته
فليس يعرف فيهِ غير أرجاسِ
لا يصحب البعل منكم روح زوجتهِ
دعم الودادِ بأطنابٍ وآساسِ
فصار رأيكمُ في العيش ذا عِوَجٍ
جمٍّ وآمالُكم في الحبِّ كالياسِ!
الحسناء الغادرة
يأسِي إِليكِ أحبُّ من تأميلي
فدعي النفاقَ عزيزة التنويلِ
أدْنَيْتِني حتى ملكتِ مسالكي
ومنازعي فهجرْتِ هجر مَلولِ
وجعلتِ حسنًا فيك نحو نفوسنا
لك رائدًا والحسنُ خيرُ دليلِ
فأضاءَ بين ضلوعِنا لك ضوءُهُ
سرَّ الهوى ولواعج المخذولِ
ولبست أهل الحب حلية ساعة
أو خلعة أبدلْتها ببديلِ
فإِذا نأى لك عاشقٌ أُنْسيتهِ
إِنَّ المقيمَ لديك خيرُ خليلِ!
وحسبتِ غدرَك كافلًا بشفائهِ
من دائهِ والغدرُ غيرُ كفيلِ!