زهر الربيع
مقدمة فى الشعر لصاحب الديوان
إن وظيفة الشعر في الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود ومظاهره. والشعر يرجع إلى طبيعة التأليف بين الحقائق. ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الشاعر بعيد النظرة، غير آخِذٍ رواء المظاهر، مأخذه نور الحق. فيميز بين معاني الحياة التي تعرفها العامة وأهل الغفلة. وبين معاني الحياة التي يوحي إليه بها الأبد. وكل شاعر عبقري، خليق بأن يُدْعَى متنبئًا، أليس هو الذي يرمي مجاهِلَ الأبد بعين الصقر، فيكشف عنها غطاء الظلام، ويرينا من الأسرار الجليلة ما يهابها الناس، فتغرى به أهل القسوة والجهل؟
كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله. والشاعر أبلغ قصائده.
الشاعر هو الذي لا يعيش مثل أكثر الناس، مقبورًا في الأحوال التي تحوطه، هو الذي إذا عاش، كان له من شاعريته وقاء من عداء قتلى المظاهر. فإذا مات كانت الشهرة زهرة على قبره. فإذا لم تسعده الشهرة، هبطت روح الطبيعة على قبره، تظلِّلُه بجناحها، وتفرِّخ فوقه أبناءها الشعراء. تلك الأرواح التي تستمد الوحى من عظامه، وتسقيه من دموع الرحمة والحب والحنان.
وليس الشاعر الكبير من يُعْنَى بصغيرات الأمور. ولكنه الذي يُحَلِّق، فوق ذلك اليوم الذي يعيش فيه، ثم ينظر في أعماق الزمن أخذًا بأطراف ما مضى وما يُسْتَقْبَل. فيجيء شعره أبديًّا مثل نظرته. وهو الذي يلج إلى صميم النفس فينزع عنها غطاءها. وهو الذي إذا قذف بأشعاره في حلْق الأبد ساغها. فعَيْب شعرائنا جهْلهم جلالة وظيفة الشاعر. لقد كان بالأمس نديم الملوك، وحلية في بيوت الأمراء. ولكنه اليوم رسول الطبيعة ترسله مزودًا بالنغمات العِذاب، كي يصقل بها النفوس ويحركها، ويزيدها نورًا ونارًا، فعِظَم الشاعر في عِظَم إحساسه بالحياة، وفي صدق السريرة الذي هو سبب إحساسه بالحياة. وإذا رأيت شاعرًا يأخذ الحقير مأخذ الجليل من الأمور، ويحسب الحوادث الصغيرة من الحوادث الكبيرة، فاعلم أنه ضئيل الشعر. فإن ضئيل الشعر يغتر بضجة الحوادث، ولا يعلم أن حوادث النفس على صمتها أجلُّ الحوادث.
سُئل وردزورث الشاعر الإنكليزي عن شِعْر شاعر، فقال: إنه ليس من الحتم في شيء. فكأنه يقول: إن أَجَلَّ الشعر ما يخاله المرء قطعة من القضاء، لا بد من حدوثها. فإذا أردْتَ أنْ تميِّزَ بين جلالة الشعر وحقارته، فخذ ديوانًا واقرأه. فإذا رأيت أن شعره جزء من الطبيعة، مثل النجم أو السماء أو البحر، فاعلم أنه خير الشعر. وأما إذا رأيتَه وأكثره صنعة كاذبة. فاعلم أنه شر الشعر، فالشعر هو ما اتفق على نسجه الخيال والفكر إيضاحًا لكلمات النفس وتفسيرًا لها.
فالشعر هو كلمات العواطف والخيال والذوق السليم. فأصوله ثلاثة متزاوجة، فمن كان ضئيلَ الخيال أتى شعره ضئيل الشأن. ومن كان ضعيف العواطف أتى شعره ميتًا لا حياة له. فإن حياة الشعر في الإبانة عن حركات تلك العواطف. وقوَّته مستخرَجة من قوَّتها، وجلاله من جلالها. ومن كان سقيم الذوق، أتى شعره كالجنين ناقص الخلقة. غير أن بعض الناس يحسب أن سلامة الذوق في رصف الكلمات؛ كأنما الشعر عنده جَلَبَة وقَعْقَعَة بلا طائلِ معنًى. أو كأنما هو طنين الذباب. ولا يكون الشعر سائرًا إلا إذا كان عند الشاعر مقدرة على التأليف بين اللفظ والمعنى. ولست أعجب من أحدٍ عجبي من الأدباء الذين ينظمون الشعر في مواضيع تَطْلُب منهم الكتابة فيها. فينظمون من أجل إرضاء من سألهم ذلك. كأنما الشاعر آلة وزْنٍ. ولكن الشاعر هو الذي لا ينظم حتى تنوبه تلك النوبة التي تدفعه إلى قول الشعر، بالرغم منه، في الأمر الذي تتهيأ له نفسه.
قد أصبح الشعر عندنا كلمات ميتة، ليس تحتها طائل معنًى. يحسب الناس أنه إذا أخذ من النحو والصرف والعروض كفاية، وأصاب من طرف الشعر غاية؛ فقد أجاده. وإنما الشعر كلمات تخرج من النفس بيضاء مشبوبة. وكما أن العاطفة تُنْطِق الشاعر، كذلك قد تُخْسِرُه شِدَّتُها. ومن أجل ذلك كانت ذكرى العاطفة والتفكير فيها شعرًا. وإنما نعني الذكرى التي تعيد العاطفة، والتفكير الذي يحييها. وليس شعر العاطفة بابًا جديدًا من أبواب الشعر، كما ظن بعض الناس، فإنه يشمل كل أبواب الشعر. وبعض الناس يُقَسِّم الشعر إلى أبواب منفردة. فيقول: باب الحكم، وباب الغزل، وباب الوصف … إلخ. ولكن النفس إذا فاضَتْ بالشعر أخرَجَتْ ما تُكِنُّه من الصفات والعواطف المختلفة في القصيدة الواحدة. فإن منزلة أقسام الشعر في النفس كمنزلة المعاني من العقل. فليس لكل معنًى منها حُجْرة من العقل منفردة، بل تتزاوج وتتوالد فيه. فلا رأيَ لمن يريد أن يجعل كلَّ عاطفة من عواطف النفس في قفص وحْدها.
ومن القراء فئة كأنها تريد أن تشم من شعر الشاعر رائحة الدسم، وأن يملأ شعره بطون أفرادها لا عقولهم. كأن النفوس تقاس بالدرهم والدينار. وكأن الشعر لا يوزن إلا بالرطل والأقة! وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي، ويعني شعر الحوادث اليومية، مثل: افتتاح خزان، أو بناء مدرسة، أو حملة جراد، أو حريق، أو زيارة مَلِك، أو حفلة في نادي الألعاب، أو مجيء طيار؛ فإذا ترفَّع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية، قالوا: ما له؟ هل نضب ذهنه، أم خَبَتْ عاطفتُهُ، أم دجا خياله؟ ويجعلون منزلة الشاعر على قدْر عدد قصائده في تلك الحوادث! فإذا نظم أحدهم قصيدتين في الجراد، كان عندهم أعلى منزلةً ممن نظم قصيدة واحدة، وليس أدل على فوضى الأدب وفساد ذوق الجمهور من هذا الهراء. كأنما الشعر جريدة منظومة، أو كأنما الشاعر مصنع لصنع الأوزان. وإنما الشاعر هو الذي يحاول أن يبلغ إلى أعماق النفْس، وأن يضرب على كلِّ وتر من أوتارها، والذي تسمو معه النفس عن تلك الحوادث إلى سماء الشعر فينشقها نسيمه وينعشها بنفحاته، ويسمعها من ألحانه، ويريق عليها من ضيائه ما يرفعها عن منزلة البهم إلى منزلة الآلهة.
وهناك فئة تريد من الشاعر أن يكون أكثرُ شعْرِه تكلُّفًا للحكمة. فيأتي بأمثال من بطون الكتب، وأفواه العامة، نصفها حق ونصفها باطل. ثم يصوغها شعرًا من غير أن يكون قد أحس لذْعها في ذهنه، ولا شعر بقيمتها. وشرُّ الحكمة التي يتكلفها الوزانون. وإنما حكمة الشاعر تبدو في كل قسم من أقسام شعره سواء الغزل والوصف والرثاء … إلخ فإن شعر الشاعر مهما اختلفت أبوابه ينبئ عن نصيبه من التفكير. وحكمة الشاعر تجاربه وخواطره في الحياة. تلك الخواطر التي ينضجها الشعور والتفكير. والشاعر لا يسير على رأيٍ واحد لا يتعداه. فإن المذاهب الفلسفية أزياء تأتي وتروح مثل أزياء باريس. والنفس أعظم من أزيائها. ولكل حالة زيٌّ والشاعر لا يعبر عن عاطفة واحدة، أو نفسٍ واحدة، بل يعبر عن عواطف متغايرة، ونفوس متباينة. فلا رأيَ لمن يريد أن يقيِّده بمذهب من مذاهب الفلاسفة يذود عنه ويتعصب له. فإن الشاعر يرى جانب الصواب من كل مذهب، ويعبر عن كل نفس.
ولقد رأيت بعض القراء لا يفهم منزلة الغزل في الشعر. إن مزية الغزل سببها أن حبَّ الجمال حبُّ الحياة. وكلما كان نصيب المرء من حب الجمال أوفر، كان نصيبه من حب الحياة أعظم. وحب الحياة والجمال من العوامل الاجتماعية القوية التي تزجي الأمم إلى التفوق والاستعلاء. ولا أعني بالغزل غزل الشهوان، بل الغزل الروحاني الذي تَرَفَّعَ عن أوصاف الجسم. إلا ما بدا للروح أثر فيه. والحب أعلق العواطف بالنفس. ومنه تنشأ عواطف كثيرة، مثل البغض أو الود أو الرجاء أو اليأس، أو الحسد أو الندم، أو الشجاعة أو حب العلاء، أو الجود أو البخل. ومن أجل ذلك كان للغزل منزلة كبيرة في الشعر، من حيث هو جماع العواطف، ومظهر دروسها. فالغزل يعبِّر عن جميع العواطف النفسية. ومن حيث إنَّ حب الجمال حب للحياة ترى فيه آراء الشاعر، وكل ما يعتوره في الحياة من الخواطر، ويصيبه من التجارب. وكل ما يسمو إليه فِكْرُه أو يحنُّ إليه قلبه، وكل ما يعالجه من أساليب الحياة، وهذا الغزل الذي هو واسطة القلادة، وسلك العقد، وروح الشعر، ليس من شروطه تعليق العاطفة بفرد من أفراد الناس، وقصرها عليه. وإن كان ذلك أدعى إلى ظهروها. فإن الغزل الذي نعنيه سببه العاطفة التي تجعل المرء يحس الجمال إحساسًا شديدًا في جميع مظاهره، سواء جمال الوجوه والأجسام، أو جمال الأزهار والأنهار، أو جمال البرق في السحاب، أو جمال الليل ونجومه، أو الصباح ونسيمه، أو جمال النفوس والأخلاق، أو جمال الصفات، أو الحوادث والوقائع، أو جمال الخيالات التي يخلقها الذهن. وليست محبة الفرد للفرد إلا مظهرًا من مظاهر هذه العاطفة الواسعة التي تحنو على كل جمال يُسْتَجْلَى في الحياة. وهذه العاطفة الشعرية تُفِيضُ ضياءها على كل شيء، حتى على جوانب الحياة المظلمة الكريهة. فتحبوها جمالًا فنيًّا؛ مثل جمال الصورة البديعة التي يُعْجِبُ المرءَ جمالُها الفني، حتى ولو كانت صورة مذبحة، أو جمال الأنغام الحزينة التي تذيب القلب. والشاعر الناسب مثل المصوِّر. إنما يستملي من صور الملاحة التي في ذهنه، ولقد سئل جيدو ربني المصور الإيطالي: من أين لك هذه الخلق المليحة التي تُودِعُها صورك؟ فقال لسائله: انظر! ثم أتى بشيخ قبيح وأجلسه أمامه نموذجًا، ورسم صورة فتاة مليحة، كأنما قد جمعت بين جمال الملائكة وجمال الحور. ثم قال: «أترى في هذا الشيخ الدميم مثل هذا الجمال؟ نحن أصحاب الفنون نحمل في نفوسنا دنيا أجمل من هذه الدنيا.» وما يُدْرِينَا لعل قيسًا بن الملوح كان يشبب بليلى التي في الدنيا التي في نفسه، لا بليلى العامرية.
كان جيتي الشاعر يقدِّر الأشياء والناس، بقدر ما يستفيد من رؤيتهم ولقائهم من صفات الشعر ومواضيعه، وعواطفه وقصصه وبواعثه. فإذا رأى عجوزًا تسعى، أو شيخًا هرمًا أو فتاة أو طفلًا أو فقيرًا أو غنيًّا … إلخ. عدهم كلهم بواعث من بواعث الشعر، مهما اختلفت صفاتهم. وكان يخزن من رؤيتهم ما اكتسبه لساعة الشعر والإلهام. فإن رؤيتهم تبعث على التفكير وتُوقِظ الملكة الفنية؛ أو كأنما رؤيتهم رِيحٌ تهيج أمواج نفس الشاعر فيعلوها درُّها وأصدافها، وكذلك يهيج الشاعر إلى الشعر لذاته وآلامه. فيصوغ الشعر من لذَّاته وآلامه وآماله، كما يصوغه من لذَّات الناس وآلامهم وآمالهم.
الباحث الأزلي
قد صَوَّرَ كثيرٌ من المفكرين والشعراء حياة الإنسان عصرًا بعد عصر، كأنها حياة إنسان واحد، أو كأنها بحثٌ مُتَّصِل دهرًا بعد دَهْر. وهذا البحث هو ما يزكون به حياة الإنسان، وما يعذرون به شقاءها وآلامها، ويأملون آمالًا كبارًا من وراء تقلُّب الإنسانية في بحث الحياة. ومن هذه الآمال رجاؤهم أن يعم الشعور بوحدة الإنسانية على اختلاف الأجناس والشعوب، والمطامع والضرورات والمطالب والنزعات النفسية، ويأملون إذا عم هذا الشعور بوحدة الإنسانية أن يقلل الإحساس العام بوحدتها، من البغضاء والشرور والحروب، والآلام والجشع، وأن يؤدي إلى التعاون على الحياة، بدل التقاتل عليها. وهذا البحث الإنساني المستفيض دهرًا بعد دهر للحياة، وما يدعو إليه من الإحساس بكل شعور وكل حالة من الحالات، كي يعم مبدأ وحدة الإنسانية، هو الذي دعا إلى تخيل إنسان يعيش دهرًا بعد دهر في كل حال وفي كل مكان، حتى يملأ العطف قلبه ويرى أن نشدان الحق غاية الحياة. وعلى فرض أن هذا الأمل الكبير في أن يعم، فإن بقاءه كَمَثَلٍ أعلى مما يخالط مرارة الحياة بحلاوة منه.
وعلى فرض أن المثل الأعلى لا يكون في تحقيق وحدة الإنسانية، ففي القصيدة مثل آخر وهو أن نشدان الحق هو الشعلة المقدسة التي ينبغي أن يرعاها الفرد، وأن ترعاها الإنسانية عامة.
سمو النفس
حديقة الصيف
مصارع النجباء
المجاهد الجريح
عبث الشكوى
الطائر الحبيس
(وهي قصة جرت للشاعر، وهو غلام صغير، مع عصفور في قفص اتخذه لعبة له.)
الإنسان والكون
الإنسان والكون
وعظ الموت
أبناء الشمال (الآريون)
توأم النفس
(الفكرة الأساسية التي بُنِيَتْ عليها هذه القصيدة، هي أنك قد ترى أحد الناس أول رؤية، فيُخَيَّلُ لك كأنك رأيتَهُ وصحبته في حياة قبل هذه الحياة. فتكاد تصدق قول من يقول: إن الروح لا تُخْلَقُ منفردة ولكن يُخْلَق معها توأم لها!)
حلم النفس
زهر الهوى ونبت الفيافي
جنون الأماني
هذا الحبيب
أحلام الصيف
فتنة الطهر
في الفردوس
حلم الفردوس
الجمال المنشود
(أرسل حضرة الأستاذ الجليل حسن أفندي فهمي المحامي هذه الأبيات الرائقة إلى صاحب الديوان):
(فبعثَتْ صاحبَ الديوان إلى عمل هذه القصيدة):
منى النفس
•••
قريب بعيد
•••
عشيق القمر
(وهي أنشودة من أناشيد الصيف والليل والقمر.)
الحب والرحمة
أملح الناس
ذكرى الحبيب الأول
(أرسل الأستاذ الجليل عبد الحميد العبادي هذه الأبيات البديعة إلى صاحب الديوان):
(فبعثَتْ صاحبَ الديوان إلى عمل هذه القصيدة):
الشعر
بين العذر واللوم
نجوى
عقوق الغدر
بعد الود
الحب والطبيعة
نرجس
الحطاب والحشرة أو دين الكون
الوتر المفقود
أغاريد شاعر
صوت الله نجوى المؤمن
•••
•••
•••