الخطرات
مقدمة لصاحب الديوان (في الشعر ومذاهبه)
يقولون: إن الشعر ليس من لوازم الحياة. ولو جاز لنا أن نَعُدَّ الإحساس غير لازم للنفس، أو التفكير غير لازم للعقل، لجاز لنا أن نَعُدَّ الشعر غير لازم للحياة. أليس مجال الشعر الإحساس بخوالج النفس وشرح ما يعتورها؟ ويقولون: إن الشاعر ينبغي أن لا يجعل الشعر مالئًا لحياته. كأن الشعر ليس ضرورة الشاعر ودينه. فإن الشاعر الصميم يرى أن الشعر أجلُّ عمل يعمله في حياته، وأنه خُلِقَ للشعر، فليس الشعر متمِّمًا لحياته بل هو أساسها. هل العطر كماليٌّ متمِّمٌ للزهر، أم العذوبة كمالية للماء؟! كلا. فإن الزهر يراد لعطره، والماء لعذوبته، والنحل لِشَهْدِه، والشاعر لشعره.
ولو جئت بنفس ليست من النفوس المنغومة الموسيقية، وأردْتَ أن توقع عليها ألحان الشعر، ما أفلحت. ولكن الشاعر إِذا لم يتعهد بالتهذيب، بقي كالحديقة التي طغى عليها كلؤها ومات زهرها. وينبغي للشاعر أن يتذكر كي يجيء شعره عظيمًا أنه لا يكتب للعامة، ولا لقرية، ولا لأمة، وإنما يكتب للعقل البشري، ونفس الإنسان، أين كان. وهو لا يكتب لليوم الذي يعيش فيه، وإنما يكتب لكل يوم وكل دهر. وهذا ليس معناه أنه لا يكتب أوَّلًا لأمته، المتأثر بحالتها، والمتهيئ ببيئتها. ولا نقول إن كلَّ شاعر قادر على أن يرقى إلى هذه المنزلة، ولكنه باعث من البواعث التي تجعل شعره أشبه بالمحيط — إن لم يكن محيطًا — منه بالبركة العطنة في المستنقع الوبيء.
ويمتاز الشاعر العبقري بذلك الشره العقلي الذي يجعله راغبًا في أن يفكر كلَّ فِكْر، وأن يحس كل إحساس. وهذا هو الدافع الذي يدفعه — بالرغم منه — إلى أداء ما قد خُلِقَ له من التعبير عن حقائق هَيَّأَتْهُ لها الطبيعة. فهو يقدر أن يتحمل جهل الناس، لأن الشاعر الكبير يخلق الجيل الذي يفهمه ويهيئه لفهم شعره. ويُعِين الشاعر العبقري في أداء ما فرضَتْه عليه الطبيعةُ ثِقَتُه من شعره بالرغم من كثرة إساءة ظنه به. فإن إساءة ظنه بشعره، إنما سببها رغبته في الكمال. وهي سائقة به إلى منازله. والشاعر العبقري يعلم أن حياة الشاعر حرب أدبية ينجلي بعدها النقع، فيعرف الظافر والمنهزم.
ولقد فسد ذوق المتأخرين في الحكم على الشعر. حتى صار الشعر كله عبثًا لا طائل تحته. فإذا تغزلوا جعلوا حبيبهم مصنوعًا من قمر، وغصن، وتل، وعين من عيون البقر، ولؤلؤ، وبرد، وعنب، ونرجس … إلخ، ومثل ذلك قول الوأواء الدمشقي، وهو البيت الذي يُنْسَبُ ظلمًا إلى يزيد بن معاوية:
وذوق الأمويين بريء من أمثال هذا القول. ولا أريد أن أجمع على يزيد جُرْمَيْنِ: قتل الحسين، وقول هذا الشعر الذي لا بأس به، إذا أريد للفكاهة والعبث، لا للغزل الذي يشرح عواطف النفس ويشعرك إياها. وإذا أراد المتأخرون وَصْف الحب، أكثروا مِنْ ذِكْر الدموع، وقالوا: إن دموعهم تُغْنِي عن المطر، وإن البحر قطرة إذا قيس بها، وإنهم سلخوا عامًا لم يذوقوا فيه النوم، وإن جسمهم صار أقل من القليل، حتى إنهم يَخْشَوْن أن يطيروا مع الهواء لنحولهم. وإنهم لا يريدون أن يروا حبيبهم بالليل؛ لأن طلعته تجعل الليل نهارًا فيفتضحون، ولكنهم يريدون أن يروه نهارًا؛ لأن طلعته من نورها تجعل ضوء النهار ظلامًا، فيَخْفَوْن عن العذال، إلى آخر ما ذكروا من هرائهم. وإذا رَثَوْا قالوا: إن السماء كادت أن تَسْقُطَ لموت المرثيِّ. وإن الليالي لابسة حدادًا عليه. وإنه قد شاعت تعازي الشهب باللمح بينها حزنًا على النير الهاوي إلى الفلوات. وإن القمر به كلف حزنًا عليه. وإن الرياح تنوح أسفًا على موته. وإن الملائكة لبست السواد حدادًا عليه. وإن القبر لا يسعه لأنه بحر. وإذا صُلِبَ أحد الأمراء، قالوا: إن قاتليه أجلوه فلم يرضوا له القبر. وينشدون أبيات الأنباري التي يقول فيها:
… إلخ
ويقولون: انظر إلى مهارة الشاعر في قلب الحقائق، وإظهار الذميم مَظْهَر الحسن. وإذا مدحوا قالوا لممدوحهم: إن وجهك قمر، ولحيتك ذهب يطرز هذا القمر. وأنت بحر، وأسد، وغمام، وإن الدنيا لو دخلت في صدرك لوسعها لأنه رحيب، وأنشدوه قول المتنبي:
وقالوا له: إنك لو غضبت على النجوم، لأنطفأت من غضبك. وإنك لولا انقطاع الوحي لنزلَتْ فيك الآيات والسور. وإذا مات للممدوح قريب، لم يكن في بيته حينما أدركَتْه المنية، قالوا: إن المنية لم تجرؤ عليه إلا لأنه كان غائبًا عنك.
وقد فسد ذوق القراء حتى إنهم إذا رأوا خيالًا يفسر حقيقة، لم تتملكهم هزة الطرب التي تنويهم عند قراءة الخيال الفاسد، إنما يعجبهم من الخيال استحالته وبُعْدُهُ عن المألوف عقلًا. وإذا وضح لهم فساده قالوا: إذن كل خيال فاسد. وزعموا أن حلاوة الشعر في قلب الحقائق! وإخراجنا من هذا العالم إلى عالم ليس للعقل فيه سبيل. عالم يُرَخِّص المرء لعقله أن يتنزه فيه أينما شاء من غير خشية رقيب. كما يفعل الموظف كل سنة حين يترك فروض الحياة. ومن أجل ذلك شاع عندهم أن الشعر نوع من الكذب، وليس أدل على جهلهم وظيفةَ الشعر من قَرْنهم الشعر إلى الكذب. فليس الشعر كذبًا، بل هو منظار الحقائق المقلوبة، ووَضْع كل واحدة منها في مكانها. ولئن كان بعض الشعر نزهة، فإن بعض النزهة فرض. ولئن كان بعض الشعر رحلة، فهي رحلة إلى عالم أجمل وأكمل وأصدق من هذا العالم. رحلة إلى عالم يحس المرء فيه لذات التفكير، أكثر مما يحسها في هذا العالم الأرضي.
وإذا تدبَّرْتَ ما ذَكَرْتُه، عَرَفْتَ فساد ذوق الجمهور في حُكْمه على الشعر، وكيف أنه يُقْبِل على الشعر المرذول ويَعُدُّه جيِّدًا. ويعاف الشعر الجليل، الصادق الخيال، الكثير الحقائق، وبعض القراء يرى أن الشعر مقصور على التشبيه، مهما كان الشبه الذي فيه متوهَّمًا. ومثل الشاعر الذي يرمي بالتشبيهات على صحيفته من غير حساب مثل الرسام الذي تغره مظاهر الألوان، فيملأ بها رسمه من غير حساب. وليس الخيال مقصورًا على التشبيه، فإنه يشمل روح القصيدة وموضوعها وخواطرها، وقد تكون القصيدة ملأى بالتشبيهات، وهي بالرغم من ذلك تدل على ضآلة خيال الشاعر، وقد تكون خالية من التشبيهات، وهي تدل على عظم خياله. وقيمة التشبيهات في إثارة الذكرى أو الأمل، أو عاطفة أخرى من عواطف النفس، أو إظهار حقيقة. ولا يراد التشبيه لنفسه، كما أن الوصف الذي اسْتُخْدِم التشبيه من أجله لا يُطْلَب لذاته، وإنما يُطْلَب لعلاقة الشيء الموصوف بالنفس البشرية وعقل الإنسان. وكلما كان الشيء الموصوف ألصق بالنفس، وأقرب إلى العقل، كان حقيقًا بالوصف. وهذا يوضح فساد مذهب من يريد وصْف الأشياء المادية لأنها مما يرى، لا لسبب آخر. وهذا الوصف خليق بأن يُسَمَّى الوصفَ الميكانيكي. فوصف الأشياء ليس بشعر إذا لم يكن مقرونًا بعواطف الإنسان وخواطره، وذِكْره وأمانيه وصلات نفسه.
فالخيال ليس مقصورًا على التشبيهات. والشاعر الكبير، ليس هو ذا التشبيهات الكثيرة، الذي يُكْثِر من مثل وكأن. ولو كان ليس بعدها إلا المعنى المتضائل، والصورة المضطربة غير المتجانسة الأجزاء. فإن الخيال هو كل ما يتخيله الشاعر من وصْف جوانب الحياة. وشرح عواطف النفس وحالاتها، والفكر وتقلباته، والموضوعات الشعرية وتباينها، والبواعث الشعرية. وهذا يُحَتاج فيه إلى خيال واسع. والتشبيه لا يراد لذاته كما يفعل الشاعر الصغير. وإنما يراد لشرح عاطفة أو توضيح حالة، أو بيان حقيقة. وإن أجلَّ الشعر هو ما خلا من التشبيهات البعيدة والمغالطات المنطقية. انظر مثلًا إلى قول مويلك يرثي امرأته وقد خلفتْ له بنتًا صغيرة، فقال يصف حالها بعد موت أمها:
فهو لم يُعْلِمْكَ شيئًا جديدًا لم تكن تعرفه. ولم يبهر خيالك بالتشبيهات الفاسدة، والمغالطات المعنوية، ولكنه ذكر حقيقة، ومهارته في تخيُّل هذه الحالة ووصفها بدقة. وهذا أجلُّ التخيل. وأجلُّ المعاني الشعرية ما قيل في تحليل عواطف النفس، ووصْف حركاتها كما يشرح الطبيب الجسم. ومن أمثال هذا الغزل قول ابن الدمينة في وصف حياء الحبيب:
مثل هذا الشعر يصل إلى أعماق النفس ويهزها هزًّا. والشعر ما أَشْعَرَكَ وجعلك تُحِسُّ عواطف النفس إحساسًا شديدًا، لا ما كان لغزًا منطقيًّا، أو خيالًا من خيالات مُعَاقِرِي الحشيش، فالمعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه، وتجاربه وأحوال نفسه، وعبارات عواطفه. وليست المعاني الشعرية — كما يتوهم بعض الناس — التشبيهات والخيالات الفاسدة والمغالطات السقيمة، مما يتطلبه أصحاب الذوق القبيح. فإذا لم يجد هؤلاء في الشعر مغالاة سخيفة، أو مغالطة معنوية، أو ألعوبة منطقية، أو تشبيهًا بينه وبين الخيال مثل ما بين لعب الأطفال بالألوان. ويبن رسم تسشيانو ومهارته في استخدام الألوان. أقول: إذا لم يجدوا ذلك في الشعر قالوا: إنه ليس فيه معنًى، فإذَا سمعت هؤلاء يصفون قصيدة بأنها ملأى، حسبت أن قائلها ذو ذهن خصب، وعقل راجح كبير، ونفس عظيمة. وأنه جعلها ذخيرة الحقائق، والآراء السامية الشريفة. ولكن الأمر ليس كذلك، إذ إنهم يعنون أنها مملوءة بالخيالات والمغالطات المضطربة، وأن خيال صاحبها بهلوان شعري، أو مشعوذ يغرك بحركاته. فينبغي أن نميز، في معاني الشعر وصوره بين نوعين: نسمي أحدهما التخيل والآخر التوهم. فالتخيل هو أن يُظْهِر الشاعر الصلات التي بين الأشياء والحقائق. ويُشْتَرَط في هذا النوع أن يُعَبِّر عن حق. والتوهم أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلةً ليس لها وجود، وهذا النوع الثاني يُغْرَى به الشعراء الصغار، ولم يسلم منه الشعراء الكبار، ومثله قول أبي العلاء المعري:
فالصلة التي بين المشبه والمشبه به، صلة توهُّم، ليس لها وجود. وكذلك قول أبي العلاء في سهيل النجوم:
أيُّ أعادٍ، وأيُّ سيوف؟ في مثل هذا البيت ترى الفرق واضحًا بين التخيل والتوهم. أما أمثلة الخيال الصحيح فهو أن يقول قائل: إن ضياء الأمل يظهر في ظلمة الشقاء، كما يقول البحتري:
فهذا تفسير لحقيقة وإيضاح لها. وكذلك قول الشريف:
فهو يُشَبِّهُ تفرُّق قومه بتطاير أجزاء الإناء المكسور. وهذا أيضًا توضيح لصورة حقيقة من الحقائق، وهي تفرُّق قومِهِ.
فتكلُّف الخيال أن تجيء به كأنه السراب الخادع، فهو صادق إذا نظرت إليه من بعيد، وهو كاذب إذا نظرت إليه من قريب. وبينه وبين الخيال الصحيح، مثل ما بين الماس الصناعي وماس كمبرلي. وقد يكون سبب هذا الخيال الكاذب، التأليف بين شيئين لا يصح التأليف بينهما. ثم إنَّ بُعْدَ وجه التأليف وخفاء الصلة ليس بمعيب إذا كان وجه الشبه بين الشيئين صحيحًا صادقًا، وكانت الصلة التي بينهما متينة. فليس ظهور الصلة لكل قارئ دليلًا على متانتها. فقد تكون ظاهرة ضعيفة، وقد تكون خفية سليمة صادقة. فليس كل ما يخطر على أذهان العامة من الخيالات صادقًا صحيحًا. وهذا سببٌ من أسباب اشتباه العظيم من الشعراء بالضئيل. وعجز الناس عن التمييز بينهما. فإن العبقري قد يُغْرَى باستخراج الصلات المتينة الصادقة بين الأشياء. فتقصر أذهان العامة عن إدراكها. وهذا ليس مذهب الناظم الوزان الذي يولع بأن يوجِدَ صلات سقيمة بين حقائق ليس بينهما صلة. ولكن الشاعر الضئيل يشبه الشاعر الكبير من حيث إن الشاعر الضئيل يعرف أنه ضئيل بحسناته، كما يعرف أنه ضئيل بسيئاته. وكذلك الشاعر العبقري يعرف أنه عبقري بحسناته، كما يعرف أنه عبقري بسيئاته؛ لأن سيئاته سببها أنه واسع النفس، حر الذهن، غير مقيد بقيود المحاكاة في فن الشعر.
إن القراء من الجمهور إذا قرءوا قصيدة جعلوا يلتقطون منها ما يناسب أذواقهم، ثم ينبذون ما بقي من غير أن يبحثوا عن السبب الذي جعل الشاعر ينظم في قصيدته هذه المعاني، فهم كالمريض الذي فقد شهوة الطعام، يأخذه متكرِّهًا. فهم لا يغتفرون للشاعر أن يكون أوسع منهم روحًا، وأسلم ذوقًا، وأكبر عقلًا. ويريدون منه أن ينزل إلى مستوى عقولهم ونفوسهم وأذواقهم. ويحكمون على قصيدته بأبيات منها تستهوي أنفسهم إما بحقٍّ وإما بباطل، لأنهم يَعُدُّونَ كل بيت وحدةً تامة. وهذا خطأ؛ فإن قيمة البيت في الصلة التي بين معناه وبين موضوع القصيدة؛ لأن البيت جزء مكمل، ولا يصح أن يكون البيت شاذًّا خارجًا عن مكانه من القصيدة، بعيدًا عن موضوعها. وقد يكون الإحساس بطلاوة البيت وحسن معناه رهينًا بتفهُّم الصلة التي بينه وبين موضوع القصيدة. ومن أجل ذلك لا يصح أن تحكم على البيت بالنظرة الأولى العجلى الطائشة، بل بالنظرة المتأملة الفنية. فينبغي أن ننظر إلى القصيدة من حيث هي شيء فرد كامل، لا من حيث هي أبيات مستقلة؛ فإننا إذا فعلْنا ذلك وجدْنا أن البيت قد لا يكون مما يستفز القارئ لغرابته، وهو بالرغم من ذلك جليل لازم لتمام معنى القصيدة. ومثل الشاعر الذي لا يُعْنَى بإعطاء وحدة القصيدة حقَّها، مثل النقاش الذي يجعل نصيب كل أجزاء الصورة التي ينقشها من الضوء نصيبًا واحدًا.
وكما أنه ينبغي للنقاش أن يميز بين مقادير امتزاج النور والظلام في نقشه، كذلك ينبغي للشاعر أن يميز بين جوانب موضوع القصيدة، وما يستلزمه كل جانب من الخيال والتفكير. وكذلك ينبغي أن يميز بين ما يتطلبه كل موضوع. فإن بعض القراء يقسم الشعر إلى شعرِ عاطفة وشعرِ عقل. وهي مغالطة غريبة؛ إذ إنَّ كل موضوع من موضوعات الشعر يستلزم نوعًا ومقدارًا خاصًّا من العاطفة والتفكير. فبعض شِعْر الشاعر تكون العاطفة فيه أوضح وألزم؛ وفي بعضه تكون أقلَّ وضوحًا. ولا ريب في ذلك؛ إذ إن الغزل مثلًا يستلزم نوعًا خاصًّا من العاطفة غير العاطفة التي تبعث على خواطر الحكم والوعظ.
والأدباء في مصر يخلطون في الكلام عن الأساليب خلطًا كثيرًا؛ فهم يتناسَوْن أن أجلَّ الشعر العربي وأفخمه، وأجزله وأسبره، وأكثره نفعًا وتوكيدًا لبقاء اللغة، هو الشعر الذي لم تُتَكَلَّف فيه الغرابة. فإن المعلقات أسلس وأجزل شعر الجاهليين (ما عدا الغزل) وأقله غرابة وتعقيدًا. وشعر الشريف أجلُّه وأفخمه ما لم يتكلف فيه الغرابة، إن في شعر الشريف صفتين؛ حسن الديباجة والفخامة، والسلامة في أكثر شعره، وتَكَلَّفَ الغريبَ في بعضه، فصار الأدباء يخلطون بين الصفتين، ويزعمون أن الغريب من لوازم حسن الديباجة، ولو قرأت شعر الشريف لعلمت كذب ذلك.
وإذا نظرْتَ في شعر الحريري، وجدت أنه مُتْرَعٌ بالغريب، ولكنه بالرغم من ذلك، ليس من حسن الشعر. وهذه قصيدة ابن زريق، ليس فيها شيء من الغريب، ولكنها من أجلِّ الشعر وأفخمه. وإذا شئتَ فقل وأضخمه؛ لأن الضخامة صفة في الأسلوب الملتهب الذي يُشْبِه الصخور الذائبة، التي تسيل من فم البركان. ذلك الأسلوب الذي تؤججه العواطف القوية. وهذا الأبيوردي مغرًى بالأساليب الغريبة، ولكن شعره ليس عليه طلاوة، وليس فيه مجتنًى. فللشاعر أن يستخدم كل أسلوب صحيح، سواء كان غريبًا أو معهودًا أليفًا. وليس له أن يتكلف بعض الأساليب. ولا أُنْكِر أن الشعر من قواميس اللغة، ولكن له وظيفة كبيرة غير وظيفة القواميس. وعاطفة الغريب، الذائعة بين فئة خاصَّة مِنَّا هي ردُّ فِعْلٍ سَبَبُه ولوعُ شعراء القرنين الماضيين بالركيك من العبارات والأساليب. وقد وَجَدْتُ بعض الأدباء يقسم الكلمات إلى شريفة ووضيعة. ويحسب أن كل كلمة كَثُرَ استعمالُها صارَتْ وضيعة. وكل كلمة قَلَّ استعمالها صارت شريفة! وهذا يؤدي إلى ضيق الذوق، وفوضى الآراء في الأدب. قرأ أحد الأدباء قول الشريف:
فقال: المجد عالي، عبارة وضيعة من عبارات الفقهاء كثير استعمالها. ولو أردنا أن نحذف من شعر الشاعر، سواء كان الشريف الرضي أو امرأ القيس، العبارات الكثيرة الاستعمال، لحذفنا أكثر شعره!
إذن فامتهان الكلمة أو العبارة لكثرة استعمالها رأي غير رجيح. فإنا نجد أجلَّ الشعر كانت عباراته كثيرًا استعمالُها. أفتريد أن نحذف ونمتهن كل ما كان من نوع قول المتنبي:
أو قول أبي نواس:
أو قول أبي العلاء:
أو قول ابن زريق:
إلى آخر القصيدة …
أو غزل جميل، وكُثير، وابن الدمينة، وغيرهم …
هل يرى القارئ في أسلوبِ ما ذكَرْنا شيئًا غريبًا؟ كلا، ولكنه بالرغم من ذلك أجلُّ وأفخم وأروع الأساليب. فإذن قولهم الروعة في الغريب هراء المتكلفين الوزَّانين، الذين يسرقون معانيهم. وجعلهم حسن الديباجة في الغريب مغالطة تُكَذِّبها كل دواوين أشعار العرب. فإن الشاعر الكبير يأتي بالأسلوب رائعًا جليلًا من غير تكلُّف للغريب. أما المبتدئ فهو الذي يتكلف الغريب، كى يُخْفِي به ركاكة عبارته. وكذلك الوزَّان يتكلف الغريب، كي يخفي به جمود طَبْعِه وقلة معانيه. وقد سمع أحد الأدباء قول مصطفى المنفلوطي في وصف العامل: «كأنه الآلة في المعمل.» وهذا وصف بديع لبؤس الصانع. فقال: الآلة من الكلمات الوضيعة؛ لأنها تبعث الذكر الوضيعة! ولو أخذنا برأي أمثال هذا لقضينا العمر في مجادلات لفظية ليس تحتها طائل، فإن الغرابة لا تستعصي على أحد. وإنما الصعوبة في الجمع بين المتانة والسهولة. وليس لشاعر بدٌّ من استعمال الكلمات المستعملة؛ إذ إن ثلاثة أرباع اللغة من هذا القبيل.
وقد تكون العبارة الملأى بالكلمات الغريبة أخسَّ أسلوبًا وديباجة، وأقل متانة من العبارة السهلة، التي ليس بها غير المألوف من الكلمات. فينبغي للشاعر المتبدئ أن يتطلب المتانة، وأن لا يخلط بينها وبين الغرابة؛ كي لا تُضِلَّه الغرابة عن المتانة فيقنع بها. انظر مثلا إلى قول المتنبي:
هذا أسلوب فخْم جزل، رائع متين. ولكن ليس به غريب. ومن عجيب أدبائنا أن بعضهم إذا قرأْتَ شعره لا تجد فيه شيئا غريبًا، ولكنه يأتي أحيانا في بعض شعره بكلمات قليلة غريبة بعضَ الغرابة كي تجيز له ادعاء الغرابة. كأن الغرابة تستعصي على أقل الناس ذهنًا واطلاعًا! فإن الجزالة والمتانة تتطلب من الاطلاع أكثر مما يتطلبه استعمال الغريب؛ لأن المتانة تستلزم درس آداب كل العصور التي مرت على اللغة العربية حتى يكون ذوق الشاعر واسعًا صحيحًا. ولو فرضنا أن في الكلمات؛ الوضيعة والشريفة، لكان للكلمة الوضيعة منزلتها من الشعر مثل الكلمة الشريفة. وإنما العيب في استعمال الكلمات في غير مواضعها. فينبغي للشاعر أن يتعرف أية كلماته تعبِّر عن المعنى أو العاطفة التي يريد وصفها أتم تعبير. فالكلمة قد تكون شريفة أو وضيعة حسب الاستعمال. فشرف الكلمة في دلالتها على المعنى، وفي وقوعها موقعها الخاص بها من الشعر، لا في غرابتها. فلو كانت الكلمات وضيعة تلوكها الألسن فيزري بها ذلك، لأزرى باللغة العربية أن لاكتها الألسن هذه العصورَ الطويلة. فضعة الكلمة إذا هي غطت على المعنى والعاطفة وزادتهما غموضًا، وأفسدت نغمة الشعر وروحه وخفة طبعه، وموَّهَتْ غثاثة المعنى والعاطفة، وأخفت ضَعْفَ الشاعر وعَجْزَهُ.
والذي يجني على بعض شعرائنا تعصُّبُهم لشاعر دون شاعر أو لعصر دون عصر. في حين ينبغي تطلُّب صحة الذوق التي أساسها سعة الاطلاع. فإن الشاعر ينبغي أن يتمزز الأساليب كما يتمزز الخمر المعتقة، ويترشفها كما يترشف الكئوس، ولكنه يلتذ منها جمالها لا غربتها. فإن الأساليب الصحيحة مهما تبينت في غرابتها وسهولتها، من قماش واحد وذات لون واحد، هذه حقيقة يعرفها الطبع، وإن كان ينكرها التصنع.
والاطلاع شراب روح الشاعر. وفيه ما يوقظ ملكاته ويحركها، ويلقح ذهنه، ونفس الشاعر ينبوع، والاطلاع هو الآلة التي يرفع بها ماء ذلك الينبوع إلى الأماكن العالية. والشاعر في حاجة إلى محرِّكات وبواعث. والاطلاع فيه كثير من هذه المحركات والبواعث. والأديب الذي لا يغرم بالاطلاع كالماء الأجن العطن. الذي لا يحرِّكُه محرِّك. وإنما عمل الشاعر فيما يطلع به عمل النحل في قول أبي العلاء المعري:
فالعالِم الماهر يُخْرِج من الجيد جديدًا، ولكن العبقري يخرج أيضًا من الرديء جيدًا، ولكن بعض القراء يقيء على صحيفته ما قد قرأه بدل أن يخرج من أزهار ما قرأ شهدًا. وهذا هو الفرق بين العبقري وغيره من الناس. نعم إن المطلع بآداب لغة من اللغات، لا بد أن يجتني بعض ما يقرأ من المعاني والخيالات من غير أن يشعر. وإنك إذا أدمَنْتَ قراءة المتنبي مثلًا عَلِقَتْ بذهنك بعض معانيه. وأما المعيب فهو أن يأخذ الشاعر المعنى عمدًا. أما إثبات العمد فليس من الصعوبة بمكان؛ فمن مظاهر تعمُّد السرقة دقة النقل والأخذ لا المشابهة والتوليد. فإن المشابهة والتوليد لا تُعَدُّ سرقة. ومنها تسلسُل المعاني كما في الأصل. وكثرة المتشابه وعجز الشاعر عن الابتداع والتوليد.
وشعراء العرب لم يكونوا جهالًا بآداب غيرهم وعلومهم وحضارتهم. فليس كل التربية مدرسية. انظر إلى زهير بن أبي سلمى وحِكَمِه، وانظر إلى امرئ القيس وعلاقته بالحضارة البيزنطية، وعدي بن زيد وتفكيره وعلاقته بالحضارة الفارسية. وانظر إلى رواج العلوم في أيام الدولة العباسية، وتأثُّر أبي العتاهية وابن الرومي والمتنبي والشريف الرضي وأبي العلاء المعري بهذه العلوم. فإن هذا التأثُّر واضح في أشعارهم كل الوضوح، وإنما فسدت آداب العربية حين ساد الجهل في الممالك العربية في العصور الأخيرة. فإن سُنَّة التقدم تقتضي الاطلاع بما يُسْتَحْدَثُ في الآداب والعلوم. وكلما كان الشاعر أبعد مرمًى وأسمى روحًا، كان أغزر اطلاعًا؛ فلا يُقَصِّر همته على درس شيء قليل من شعر أمة من الأمم. فإن الشاعر يحاول أن يعبر عن العقل البشري والنفس البشرية، وأن يكون خلاصة زمنه. وأن يكون شعره تاريخًا للنفوس، ومظهر ما بَلَغَتْهُ النفوس في عصره، وما عَجِبْتُ من شيء عجبي من القوم الذين يريدون أن يجعلوا حدًّا فاصلًا بين آداب الغرب وآداب العرب؛ زاعمين أن هناك خيالًا غربيًّا وخيالًا عربيًّا.
نعم، إن كل لغة لها خصائص وذوق. ولكن بالرغم من ذلك نجد الخيال الجليل والمعنى الرائع المصيب محمودًا حيث كان. إذ إنه ليس رهنًا بخصائص اللغات؛ وإنما مرجعه العقل البشري والنفس الإنسانية. إنما المغالطات المنطقية والتشبيهات المتوهَّمة رهينة بخصائص اللغات. وتختلف في كلٍّ حسب ذوق الجماهير فيها. وإذا قرأ الشاعر العربي آداب الأمم الأخرى أكْسَبَتْه قراءتها جدة في معانيه، وفتحت له أبواب التوليد. فإن الشاعر الكبير، كي يعبر عما في نفسه من العبقرية تمام التعبير حتى لا يبقى بعضها مكتومًا مجهولًا، لا بد أن يجدد ذهنه دائمًا بالاطلاع. وأن يحرِّك به نفسه، وأن ينوِّع من ذلك الاطلاع. فإن شَرَهَ الإحساس والتفكير هو ميزة العبقري. فإن مذاهب القول التي تستلزمها حياتنا تقتضي درس آداب العناصر الأخرى التي عمرت العالم، وأنشأت لها حضارة وعلومًا وفنونًا. فإن درسها يوسع عقولنا، ويجدد آمالنا وقوانا، ويهيئ وحْي ذكائنا ويعلي خيالنا، ولكن ينبغي أن لا نكون ناقلين، بل ينبغي أن نكون مفكرين باحثين فيها. ومن دلائل هلاك الأمم نَظَرُها دائمًا إلى حياة أجدادها واحتذاؤهم فيها احتذاء روح لا قوة فيه، ولا ذكاء ولا فطنة. ولقد بدأ الناس يتهمون ذوي الاطلاع بالنقل والأخذ والسرقة. وهذا الاتهام شيء لا غرابة فيه؛ فإن دخول الآراء الجديدة والمذاهب والأغراض والمسالك الشعرية الحديثة، واتخاذ الآداب شكلًا غير شكلها المعهود، يدعو إلى الظنة والاتهام.
ولكن مما زاد الطين بلة، أن بعض الأدباء لا يرعى حُرمة، ولا يردعه ضميره عن السرقة الفظيعة. وأمثال هذه الأفعال قد بثَّتْ في أذهان كثير من القراء أن كل شيء جليل معناه، غريب موضوعه، مسروق لا محالة. وروَّجَ هذا الرأي طلاب فوضى الآداب الذين يمرحون في ظلامها مَرَحَ الخفافيش في الظلام، وهؤلاء هم الغلمان المغرورون والجهلاء، وأهل الحسد والحقد والكذب، ومُغْلَقُو الأذهان، ممن يكره كل جديد ويتهمه، وشعراء المسلك القديم الذين ظهر عجزهم ونَقَصَ تعليمهم، وفسدت معانيهم، وجهال القراء الذين يزعمون أنهم من الخاصة. ولكني أعتقد أن الشاعر العبقري الكبير يُخْرِسُ هؤلاء — حتى ولو بعد موته — بكثرة ما يجيد، ويزيحهم من طريقه كما يزيح الخنفساء بنعله عن قارعة الطريق، وهو يعلم أن عداءهم له سُنَّة طبيعية لا مناصَ منها، كانت لها مظاهر في كل عصر من عصور الآداب في الأمم كلها. ولكن — بالرغم من ذلك — ينبغي للقراء أن يميزوا ما يقال. فإنه ليس السبيل لمعرفة السارق أن يتهم كل المطلعين من غير حق. فإن هذه الزحمة فرصة السارق. فيزاول مهنته في خفاء وأمان. فالاتهام الذي أساسه سوء الظن والجهل والحسد والسفالة وقلة التبصر والكسل. والذي ينأى بالمتهم عن البحث والتدقيق، يؤدي إلى الفوضى التي هي فرصة ينتهزها اللص. ولو فرضنا أن أحد المتَّهِمين (بالكسر) نَظَمَ قصيدة بديعة فاتُّهِم أنه سارقها، بأي شيء كان يحارب المتهم؟ أبادعاء الجهل وقلة الاطلاع؟ إنه قد يكون جاهلًا، ولكن الجهل لا يمنع من السرقة، كما أن الاطلاع لا يمنع من الأمانة.
وقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها «الشاعر المحتضر» اليائية التي نُشِرَتْ في عكاظ، واتضح لنا أنها مأخوذة من قصيدة أدوني للشاعر شلي الإنكليزي. كما لفتني أديب آخر إلى قصيدة المازني التي عنوانها «قبر الشعر»، وهي منقولة عن هيني الشاعر الألماني. ولفتني آخر إلى قصيدة المازني «فتًى في سياق الموت»، وهي للشاعر هود الإنكليزي. ولفتني أيضًا أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها «الراعي المعبود»، وهي منقولة عن الشاعر لويل الأمريكي. وقصيدة المازني التي عنوانها «الوردة الرسول»، وهي للشاعر ولر الإنكليزي، وأشياء أخرى ليس هذا مكان إظهارها. وقرأت له في مجلة البيان مقالة «تناسخ الأرواح» وهي من أولها إلى آخرها من مجلة السبكتاتور لأدسون الكاتب الإنكليزي. ومن مقالاته في ابن الرومي التي نُشِرَتْ في البيان، قِطَع طويلة عن العظماء، وهي مأخوذة من كتاب شكسبير والعظماء تأليف فكتور هيجو. ومن مقالات كارليل الأدبية، وقد ذاعت هذه الأشياء. ولو كُنْتُ أعرف أن المازني تعمَّد أَخْذَها، لقلت إنه خان أصحابه بهذه الأعمال، ولكني لا أصدق تعمُّد أَخْذِها. ولو أني رأيت عفريتًا لما عراني من الحيرة والدهشة قدْر ما عراني لرؤية هذه الأشياء! ولا أظن أني أبرأ من دهشتي طول عمري. وفي أقل من ذلك مبرر لمروجي الإشاعات والتهم. ولا أظن أن أحدًا يجهل مدحي المازني، وإيثاري إياه، وإهدائي الجزء الثاني من ديواني إليه، وصداقتي له، ولكن كل هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرْتُ، ومعاتبته في عمله؛ لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صَنَعَ في ماضيه. حتى يداوي ما فَعَلَ ويرد كل شيء إلى أصله، وليس الاطلاع قاصرًا على رجل دون رجل حتى يأمل المرء ظهور هذه الأشياء. ولسنا في قرية من قرى النمل حتى تخفى!
الصنع والكسب
نجي النجوم
سحر اللحاظ
قوة الفكر
الذكر
المجرم
ليلة الحسن
البطل المنتظر
خميلة الحب
علالة العيش
لص أم أديب
تزاوج النفوس
عيش الأدباء
إلى المجهول
الوُلوع بالمجهول من أمور الحياة والطبيعة والنفس والكون. والشغف باستطلاعه وكشفه هو الذي أخرج الإنسان من المعيشة في الكهوف، ومن حضارة العصر الحجري من عصور الحضارة، وأزال عنه خوفه من مظاهر الطبيعة؛ فأخذ يبحث تلك المظاهر … وهو الذي أدى إلى كشف القارات والبحار، وزاد علمه بالسماء، وعلَّمه ركوب الهواء في الطائرات، حتى طمع في الوصول إلى الأفلاك. وذلك الولوع بالمجهول هو الذي جعله يخترع مخترعات الحضارة التي زادت حياته بهاء ومتعة وراحة ولذة، وجعله يجد لذة حتى في ركوب الأخطار من أجل كشف مغاليق الكون والحياة والطبيعة، ويستشعر اللذة حتى فيما قد يصيبه من الألم أو الهلاك، في أثناء بحثه المجهول من أمور الحياة والكون.
والوُلوع بالمجهول هو الذي أدى إلى سيطرة الأمم القوية التي تمكَّنَتْ من كشف المخترعات التي زادتها قوة واستعلاء. وإذا بحثْتَ عما يميز أبناء الدول القوية التي تمتعت بالثروة والسطوة والعلم والحضارة، عن أبناء الأمم المتأخرة التي لا تزال تعيش في الكهوف أو الغابات، أو في المدن، أو الأحياء المتهدمة القديمة الفقيرة، المربوءة بالأسقام والأقذار، المغلوبة على أمرها، لرأيت أن صفة النفس التي مَيَّزَتْ أبناء الشعوب القوية السعيدة المسطيرة على الحياة والناس، هي الصفة التي تجعلهم يجدون لذَّتَهُمْ في كشف مغاليق المجهول من أمور الحياة، والأمة التي تريد أن تعلو وأن تأخذ مكانتها تحت الشمس، ينبغي أن تهيئ لأبنائها نوعًا من التربية والتعليم يبث في نفوسهم حُبَّ استطلاع المجهول وكشف مغاليقه. أما التعليم الذي لا يَبُثُّ هذه الصفة في النفوس، فهو تعليم لا يليق إلا بالذين يجدون لذتهم في حياة الخمول من المألوف الذي أصبح كالمخدرات. وكلما كان فقدان صفة حب استطلاع المجهول من النفوس أوضح وأظهر من أجل المؤثرات التاريخية المذلة المؤخرة، كان ذلك أدعى إلى إصلاح نظم التعليم، وإلى اتخاذ التربية التي تزيل هذه المؤثرات. والمراد بهذه القصيدة الدعوة إلى بث صفة حب استطلاع المجهول في نفوس النشء؛ لأن نفوس النشء تحب الاستطلاع الغريب والمجهول بطبيعتها. وترى لذاتها في ذلك قبل أن تُعَلِّمَها التقاليد والأوضاع الخمول والقنوع بالمألوف. ومن الخطأ أن يَظُنَّ أحد أن عاطفة الشغف بالمجهول لا تُنَمَّى بالتربية، وأنها قوة طبيعية في الأمم القوية فحسب … لا … بل إن أسلوب التربية والتعليم قد يُقَوِّي هذه العاطفة التي هي أساس الرقي العلمي والاجتماعي الصحيح، وهذا الأسلوب من التربية ألزم في الأمم الضعيفة لشدة احتياجها إليه.
الخطاب موجَّه إلى المجهول
إلى ماضٍ من العمر
إلى الريح
طيف الجنون
المموه
شِقْوة العيش
أمل ميت
التفاهم في الحب
ملك القلوب
الحق المكتوم
بلاغ الحب
الآمال الذاوية
شكوى
العلم وعزة النفس
نجم الحياة
ذل المشيب
خطوة عن عالم الحسن
الحسن الكاذب
•••
•••