يُحْكَى أن دوناتلي الإيطالي صنع دمية فأجاد صنعها، فلما رآها أستاذه قال له مازحًا:
ما
ينقصها غير أمرٍ واحد. ثم كتمه عنه حتى مَرِضَ دوناتلي من الأسف عليه، والفكر فيه، وحتى
أشْرَفَ على الهلاك. فدعا أستاذه وقال له: قد رأيتَ ما بي من الداء. وأني هامة اليوم
أو غدًا.
فأخبِرْني أي نقص رأيتَ في دميتي؟ قال: ما ينقصها غير الكلام! فقام المريض محمومًا حتى
أطل
على دميته وقال: تكلمي، تكلمي، فما ينقصك غير الكلام، ثم وقع ميتًا!
وكل ذي فن في فنه مثل دوناتلي في طموحه إلى مرتبة الكمال. وإنما يجيد حسب فَضْل المَلَكة
المهذبة التي يسترشدها من نفسه، لا لأنه يقصد إلى ما أُولِعَ به الناس، مما يستفز إعجابهم؛
فإن إعجاب الناس — وإن كان حبيبًا — يتطلب بإرضاء مَلَكته المهذبة لا بإرضائهم، ويأمل
أن
يقنعهم ما أقنعه من نفسه. وهذا سبيل أثره فيهم الذي يأمله في حياته أو بعد موته. وسواء
أَأَكْبَرَ الناسُ شِعْرَه أم أصغَروه، فإنه يعيش بحسرة على ما يعجز عنه، وبلهفة على
ما لم يَقُلْ،
وإنْ جَلَّ ما يقولُ.
ومن هنا ولج التحاسد إلى أفئدة الشعراء؛ فإن الشاعر يُعَالِجُ حسرة على كل فوزٍ لم
يَفُزْهُ،
وطائر أمل لم يقنصه. فإن نفس الشاعر طمَّاحة أبدًا. وخليق بمن يعرف أن فوق كل إجادة إجادة
أن لا يدع للحسد سبيلًا إلى قلبه، وأن يعد كل قصيدة جليلة فوزًا يزهى به عالم الحسن على
عالم القبح، ونصرًا أصابته الحياة على الموت، غير مفرق بين قائل وقائل في الإعجاب الذي
لا يتقاضاه الشاعر، بل يتقاضاه شعره.
ألا وإن أجلَّ شعر شكسبير هو ما كان يحلم به شكسبير، ويود لو قيَّدَه بقيود الكلام،
وليس
أجلُّ شعره ما يعجب به الناس ويعجب منه، فإن كل حسن في الفنون عنوان لحسن، وكل فوز وعد
بفوز. فإن الشاعر ليرى في نفسه القصائد التي يحلم بها كما يرى العاقر أبناءه الذين لم
يلدهم. أو كما كان ميشيل أنجلو يرى الدمى التي لم ينحتها كأنها محبوسة في الصخر الأصم
الذي لم يلمسه بَعْدُ. وقد ورد عن كثير من كبار ذوي الفنون ما يثبت هذا الظمأ الذي هو
خير
لشعر الشاعر شَرٌّ لنفْسِهِ.
ولو كانت الحياة شجرةً لكان الجمالُ زَهْرَها والشِّعْرُ طائرَها. ولولا الشعر افْتُقِدَ
جمال
الحياة، وكل حيٍّ شاعرٌ بمقدار ما يحس الجمال في الأشياء والأخلاق والأعمال التي ينشدها.
والعالَم عالَمان؛ عالَم الجمال وعالَم القبح، وكل منهما ممتزج بأخيه، منعدم فيه. والشاعر
رسول الجمال يسعى في تحقيق عالمه. وإنما الخير ضرب من الجمال، والشر ضرب من القبح.
والشاعر يعرف أن الشر محتوم ولكنه يعرف أن من الحتم أيضًا الطموح إلى ما وراء الشر
المحتوم من الخير المحتوم. ومن أجل ذلك كان كل شاعر كماليًّا سواء أعرف أم لم يعرف. وهو
إذا نبذ عقيدة اقتران الجمال والخير، إنما ينبذها شوقًا إليها، كما يهجر المحب عشيقته
مِنْ هَجْرِها إياه، وإنما الحياة أو الحق كالميزان، لا يعتدل أعلاه إلا إذا استوى جانباه.
ومن أجل ذلك صار الشاعر يعدل بطموحه وخياله وجمال شعره جانِبَ الذين لا يعرفون فروض الشعر
ومنزلته من الحياة، كما يعدل كل نقيض نقيضه. وهذا أساس الحياة. ألا ترى كيف عدل عيسى
—
عليه السلام — روح الأثرة في دولة الرومان؟ وكيف أنَّ رَفْض شوبنهور للحياة يَعْدِل تقديس
نيتشه
إياها، وتقديس كل ما تغري به؟ ومنزلة السعادة في الحياة كمنزلة الشعر من النثر. والذين
يسعون في نصرة الخير واستخلاص السعادة التي فيما دون المحال، يأخذون نثر الحوادث
فيجعلونه أوزانًا وأنغامًا.
ومن أجل ذلك يتغنى الشاعر بالبطولة ورجالها الذين يشايعونه في مداواة قُبْح الحياة،
ولو
لم يكن من المكافحة كي يستخلص من الحياة جمالها إلا التغني بما يلهي المكافحين، ويليح
لهم
بمثال الجمال المنشود أو تحذيرهم باليأس والسخر إذا استناموا إلى الأمثل، أو اتخذوا منه
مرقدًا لكفى.
ولا ريب أن شعر الشاعر ابن طَبْعه ومزاجه، وأن الشعر ضروب متغايرة. وذلك لا ينفي ما
ذكرنا. هذا شكسبير ما ترك جانبًا من جوانب النفس وهو من رحب النفس بحيث يسع الجرم
والمجرم، ولكنك لا تجد فيه تزيينًا للباطل إلا على لسان أهله وصفًا لهم. كما أنك لا تجد
فيه وعْظ من لا يرى إلا جانبه من الحق. وإنما نريد بذكر ما ذكرنا، أن الرغبة في الشعر
من
أجْلِ أنه شِعْر، لا من أجْلِ مقصد خلقي حقٌّ إذا عنى الراغب أن الشاعر ينبغي أن لا يتجاوز
أصول
فنه التي يهيئ بها لذَّات الفنون، كي يبلغ من النفس مبلغه من التأثير فيها بتلك اللذات،
وأما إذا قيل: إن الشعر لهْوُ ساعة؛ فهذا قول من اللغو!
الحياة والحق
هات اسقني الذُّكَرَ الخوالدَ هاتِ
إِنَّ النفْوسَ كثيرةُ اللفتاتِ
يا ساقيَ الذكرى، كئوسك أَضْرَمَتْ
مِنْ ذا الرحيقِ النارَ في لهواتي
أصحوت من خمرِ الحياةِ وإِنما
طيبُ الحياةِ يصاب في الغفلاتِ
والعقل أليقُ بالفتى من غفلةٍ
للسعد تحكي غفوةَ النشواتِ
لولا فروضُ العيشِ لم أعبأْ له
جيشًا من الآراءِ والعزماتِ
وتكاثُرُ الحاجاتِ ينبئ أنما
خلقُ النفوسِ لأعظم الغاياتِ
وهي المنى صوتٌ صداه صرخةٌ
لليأسِ ثم الموت كالسكتاتِ
واليأسُ ينبئ أن فوقَ جهودنا
خيرَ المنالِ وأعظمَ الرغباتِ
لولاه لاستوت المطالبُ كلُّها
حيثُ الحضيضُ ووهدةُ الوهداتِ
إِنَّ الفضيلةَ والرذيلة لذةٌ
خيرُ الجنى يُجْنَى لخيرِ جناةِ
لا تسعد المجدود منك برحمةٍ
أهلُ الجحيمِ أحقُّ بالرحماتِ!
وهي التجاربُ للعقول صياقِلٌ
صفحاتها للغيبِ كالمرآةِ
إِنَّ التجاربَ كالأزاهرِ جمَّةٌ
أوَمَا اغتفرْتَ الشوكَ للزهراتِ؟
يا قلبُ لا يغنيك ذعرك للأسى
فالخوفُ أول مهبطِ المهواةِ
والموت ظلُّ الله أبشرْ إِن دنا
في ظلِّه أمنٌ من الحسراتِ
ثبتَ الزمانُ ونحن نعدو عمرنا
ونخال أنَّ الدهرَ ذو نقلاتِ
كالراكب العجلان ينظر حوله
فيرى الشخوصَ سريعةَ العدوَاتِ
والعيشُ كالحرباءِ يخدع لونُهُ
والحِسُّ بعضُ حبائلِ الخدعاتِ
فالمرءُ يسري وهْو قيدُ مكانهِ
سكن الوجود لشدة الحركاتِ
والحقُّ مثلُ الشَّمسِ يهلك آله
والشَّمسُ أُمُّ الخير والآفاتِ
أُمُّ الهدى لكنَّ بعضَ ضيائها
رفع السراب وغرَّ في الفلوات
والحقُّ مثلُ الشَّمسِ يجعل ضوءه
بعض النفوسِ قرارةَ الحشرات
والمرءُ في دنياه خابطُ حَنْدِسٍ
آراؤه ضربٌ من الخطواتِ
كم حكمةٍ فيها الدواءُ لعاقلٍ
لو يدرك المعلول عزم أساةِ
والعزمُ شيءٌ لا يباع فيشترى
مَنْ للشقيِّ ببائعِ العزماتِ
والموت بحرٌ والنفوسُ لآلئٌ
والعيشُ فوق الموتِ كالموجاتِ
لسنا نُصِيبُ الحقَّ فيما نبتغي
لكنْ كظلِّ الحقِّ في الصفحاتِ
نبغي من الدنيا نظامَ محدَّدٍ
فى رحبها برءٌ من الغاياتِ
فنظامها ألِفَ النقيض نقيضه
ونقائضُ الأيامِ كالأخواتِ
والعيشُ غيمٌ والعقولُ جلاؤه
كالشمسِ تنقش جانبَ الْمزْناتِ
نظرُ الأنام إِلى الحقائق في الدنى
كتطلُّع الحمقاء في المرآةِ
كالطفلِ ينظر في الأضاةِ فينثني
متسائلًا عن روضةٍ وأضاةِ
والفكرُ دائرةٌ يظل يدورها
في دهره متقارب الدوراتِ
فلكلِّ دهرٍ دورةٌ معلومةٌ
ومطالبٌ موصوفةُ المسعاةِ
والفكرُ يعظم وهْو في دوراته
كالماءِ حول مواقعِ الحصباتِ
والحقُّ في الأضداد يلقي سره
ولقلَّما ندريه بين عداةِ
كالمرءِ يُنْكِرُ في الوجوه غريبَها
ويحنُّ نحو أحبةٍ ولدَاتِ
والحقُّ مختلفُ المقاطعِ والنُّهى
متباينُ الأسبابِ واللهجاتِ
والعيشُ مثلُ الشمسِ يُعْمِي ضوءه
عن أنجمٍ تزدانُ بالظُلماتِ
ولعلَّ في ظلم الحمامِ زواهرًا
تجلو الظنونَ وتكشف الغمَّاتِ
احزنْ ولذَّ وقلْ لكلِّ مقدَّرٍ
يا مرحبًا بالحزنِ والفرحاتِ!
وخُذِ الأنامَ على عوائد كيدهِ
واغنم صفاءَ العيشِ في الفلتاتِ!
أبو الهول
أنختَ فوق الدهرِ بالكلْكلِ
وكنتَ مثلَ الواعظ المرسلِ
عند فلاة قلَ قطَّانُها
هل باختيارٍ كنت في معزلِ؟
مضى الأُلَى شادوك في مجدهم
كأَنه منك لدى موئلِ
فهل مللْتَ العيْشَ من بعدهم
كأَنما جُلِّلْتَ بالمُثْقِلِ
ثقل من الدهر تحمَّلْتَهُ
لو حلَّ بالأطواد لم تحملِ
فهل يَدرُّ العيشُ من بعدهم
أم ما ضروعُ الدَّهرِ بالحفَّلِ؟
وأنت مثل الخان في لُبْثه
ونحن مثلُ الراكبِ المعُجَلِ
غدًا ترى عيناك من بعدنا
غير حلول الحيِّ والمنزلِ
كم أمَّةٍ من بعدها أمَّةٌ
قد رحلت عنك ولم ترحلِ
فأنت سفرُ الدَّهرِ خَطَّتْ به
يداه آيَ المُحْكَمِ المنزلِ
فاتْلُ لنا من آيهِ آيةً
لعلَّنا نجنبُ ما يبتلي
كم وعظَ الدَّهر فلم نزدجرْ
وكم سما الناسُ ولم نعتَلِ
قيَّدَنَا العجزُ ونرجو عُلًا
يسمو الذي في الطير لم يكبل
نعاف مستطرف ما يُرتجى
كأنَّنا في العيشِ لم نُجْبَلِ
فيا مثالَ الدهرِ يا رمزه
كم صنمٍ في القلبِ لم يبطلِ
كأَنَّ روحَ الدهرِ في جسمه
إِن تره من نحوه تمثلِ
تحسبُه من هيبةٍ عاقلًا
من حسب المرهوب لم يعقلِ
كأَنما في طي ألحاظه
ذكرى لعهدِ الزمنِ الأولِ
كأَنه في صمته حارس
يحرسُ بابَ القدر المقْفلِ
يا عجبًا أبصرتَ ما قدْ مضى
ونظرات منك لم تقتلِ
أبصرتَ أكلَ الدهرِ أبناءه
ألم تُرعْ من ذلك المأكلِ؟
بينكما نجوى على صمتهِ
وصمْته في فيك كالمِقوَلِ
عشَّشَ فيك الحادث المجتوي
وكنت عرش الرمية الضئبلِ
مرَّتْ بك الأيامُ مخشيَّة
كأنَّها مرَّتْ على هيكلِ
فابعثْ لنا من عزمها عدَّة
فلو سألت الدهرَ لم يبْخلِ
ولو نهيتَ الدهرَ لم يعتدِ
ولو زَجرتَ الدهرَ لم يُقْبِلِ
والدهر كم تسحرُ أحداثه
لبَّ غضيض اللبِّ والمفصلِ
أيُّ حكيم قد رأى ما رأتْ
عيناك في الدهر ولم يُذْهَلِ؟
يا ناظرًا ينظرُ هذا الورى
نظرةَ طرْفِ الناظر المعضلِ
انظر إِلى الأقدار في غيبها
واذكرْ مآلَ العيشِ في المقبل
أغابرُ الأيامِ في صرفها
كمضمرٍ في الغيبِ مستقبلِ
أمالكٌ عُوجِلَ عن مُلْكِهِ
كذي علاء بَعدُ لم ينزلِ
والناس حَلْيُ القاهر المعتلي
يألم نار الحاذق الصيقلِ
يصوغهم كلُّ غلُوبٍ على
سنَّةِ مُلك الرمحِ والمنصلِ
كم عبرة للناس أبصرتها
وعبْرة للهاطل المسبل
فهل دموعُ النحسِ تحيي الورى
مثل عقيب المطر المرسلِ؟
أراك لا ترثي لما نابهم
يا ليتني مثلك لم أحفل!
ومقلة تُخبر ألحاظها
أنَ عيونَ الدهرِ لم تُسملِ
والدهرُ وهْو الساهر المعتدي
يُغْضي وعينٌ لك لم تغفلِ
وربَّ لحظٍ منك قد رِشتَهُ
في قلبِ هذا الدهرِ كالموغل
فابحثْ خباياهُ وأحناءه
واكشف لنا عنْ ذلك الغيطلِ
كأنَّ روحَ الدهرِ تبغي به
وكْنًا لها أُحْكِمَ كالمعقلِ
تحسبُه لو جئته ناشدًا
معنَى حياةِ الناس لم يجهلِ
يا من سؤال العيش في صَمْتِهِ
اسألْ ومن لم يدره فاقتلِ
كم امتطى الأيام تجري به
كأَنَّه والخلد في منزلِ
كم عبَّ لُجَّ الدهرِ ثم انثنى
إِلا بقايا الماءِ في الجندلِ
كأنَّه منتظر موعدًا
حُيِّنَ كي ينطق بالمِقْوَلِ
لو فاهَ يومًا ذاكرًا سرَّه
لم يعجب الرائي ولم يَعْجَلِ
أو أنه المسحورُ في صمته
قد كان يمشي مشيةَ المشبلِ
فخاف صرف الدهر من فتكه
وعلمه بالحادث المقبلِ
فذاده بالسحر عن نطقه
حتى تناسى عيشه المنجلي
هرم خوفو
يا موجةً للدهر لم تهزمِ
تعلو عُلوَّ الجبل الأعظمِ
وما رأينا قبلها موجةً
تعلو فلا تحدر للمحطمِ
ما الناس والآثار من بعدهم
إِلا كموجٍ إِنْ علا يُهزمِ
موجٌ لبحرٍ ما له ساحل
غير الرَّدى في لحدِه المظلمِ
كم عند شط الموتِ شِلْو رَدى
يقذفه الدهرُ إِلى ضيغمِ
هل أنت شِلوٌ لزمانٍ قضى
رفاته الآثارُ لم تُردمِ
لم يَبْقَ من عمران من قد مضوا
إِلا بقايا الجِلْد والأَعْظُمِ
كأنما يدخرُ من مجدهم
ما يدخرُ النملُ من المطعمِ
كيف نرجِّي الدهر ذا عفةٍ
إِن ذاقَ طعمَ اللحم لم يقرمِ
لا يسمع الدهر سوى منصت
بالروح إن يُصغ له يبكمِ
همهمةٌ يطلقها عارمٌ
إِن يمضع المودى به يبغمِ
هل خاف هذا الدهر صرف الردى
فشادَ صرحًا منك لم يثلمِ؟
لا يجرؤ الموتُ على بيته
في هرمٍ كالجبلِ الأدهمِ
أم شادك العقل لكيما يرى
من فوقك الأقدار لم تهجمِ؟
بعيدةٌ لم تَبْدُ أشخاصُها
تهفو لنا في يومها الأَيوَمِ
كي يؤذن الناسَ بإِقبالها
من قبل أن تُفْجأ بالمقدمِ
إِنْ أرْزَمَ الرعدُ على شاهقٍ
ففوقك الأيامُ كالمِرزمِ
أو كَلَّلَتْ هامتَه ديمةٌ
وطْفاءُ مثل المِجْسدِ المسَهَّمِ
فوقك أرواح عُصور خلَتْ
كديمةٍ سوداء لم تحسمِ
هدت يدُ الدهرِ مَشِيدَ البنا
وهْو إِذا أمَّك كالأجذم
كم أنزلَ الدهرُ شآبيبَه
على جبينٍ منك لم يهرمِ
كالمزْنِ فوق الزهرِ يحيا به
زهرُ الربى من غيثه المرهمِ
كأنما الأيام ظئر به
تغذوه منها بسليلِ الدمِ
كأنما ينمو على مرِّها
فيرتدي تاجًا من الأنجمِ
قد شمخَ الترب به عزةً
كشامخٍ بالأنف لم يخطمِ
أم قلَّصَتْ وجه الثرى كبرة
فأنت من تجعيدها الأقدمِ
أم كفنيقٍ ما له راكب
يمنع ظهر المكرم المقرمِ
أم ثدْي مصر إِنها ناهد
عشيقة للقدر الأزلمِ
أم أنت ناب الأرض ذا شحذةٍ
خُلِّف في شدق فمِ الأهتمِ؟
أخرج صخر الأرض طيَّاته
حتى بدت كالهرم المفعمِ
أم كيف شادَ القوم أحجارَه
حتى بدت في عِظَمِ المخْرمِ؟
كأنما روحُ زمانٍ مضى
معششٍ فوقك كالقشْعمِ
يا معبدًا يُعبدُ فيه الحجى
إِلى الحجى في صنعه ينتمي
أجلُّ ما تُعْبد فيه النُّهى
سليلها في صُنعه المحكمِ
قد حلمتك الأرضُ في بطنها
كأنها المقلات لم تعقمِ
تمخضت عن عَلَمٍ أروع
مُفذَّة في الحمل لم تُتْئِمِ
ثم تردَّى بعلها بعده
كيف نرجِّي النسل من أيِّمِ
يا علمَ الدنيا الذي قد غدا
عجيبة الغائر والمتهمِ
علت بك الأرض كمن قد علا
برأسه الكبر فلمْ يهضمِ
رفعْتَ رأسًا منك مَا طَالَهُ
رأس البناءِ الشامخ الأقومِ
كأنما كلُّ البنا سُجَّد
من هيبة للملك الأعظمِ
يا ملكًا ما انحلَّ سلطانه
قد هدم الماضي ولم يُهدمِ
كم دولةٍ قد ضاع سلطانُها
ودولةُ الأهرام لِم تهرمِ
كم شابكت كفَّاك أيدي الردى
ثم انثنى عنك ولم تُكلمِ
يا غِيرَ الأيام في كرِّها
من أبيضٍ نأمنُ أو أسحمِ
تباعدي إِن شئتِ أو فاهجمي
على شبيه البطل المُعْلَمِ
هيهات لم يبدُ له مقتل
قد أخطأ الرامي فأشوى الرمِي
كم خالَ فيك الناسُ سرًّا طَوا
هُ الدهرُ لم يُكْشَفْ ولم يُعْلَمِ
خلُّوا الأُلَى شادوك قد أودعوا
فيك رموز المطلب الأكرمِ
ما أودعوا إِلا كنوزًا غدت
نهبة كفِّ الصائل المجرمِ
وكلُّ ما لم يبدُ كنه له
يُخال كنزَ الحقِّ والمغْنمِ
والمرءُ يبغي الحقَّ في خِدْرِهِ
وَلوْ بدا في أعين الأنجمِ
ورِمَّةٌ خبأها كاهنٌ
لفاتك الآراء والمخذمِ
رِمَّةُ ربٍّ رائعٍ عزمُهُ
قد أُخْرِجَتْ من بَعْد للمرجمِ
جلالُ روحٍ منه ذي همَّةٍ
مُجسَّم في صنعه المحكمِ
لا تحسبن الناسَ لم يُجْدِهِمْ
غير منالِ البُرْد والمطعمِ
فالنَفسُ تبغي أن يرى كنهها
مجسَّمًا في صُنعها الأعظمِ
لم يُصلح الناسَ لذي أمرهم
غيرُ شفيع السَّيْف والدرهمِ
أظلمهم مَنْ ساغ طعم الأذى
ليس الذي يظلم بالأظلمِ
كلُّ ضعيفٍ خيره علَّةٌ
من ذا الذي صَحَّ فلم يعرمِ؟
سؤر العيش
يمر بي زمني كالصِلِّ منفلتًا
من بعد ما كان كالأطيار وثَّابَا
أمسي كنِهيٍ أرى في قاعه دُررًا
تذكي اللواعِجَ أن قد غاب ما غابَا
حتى لقد صار لي عُشًّا ألوذ به
والقلبُ إِن ذيدَ عن أوكاره آبَا
كم طارت النفسُ في رأْدِ الصبا مَرَحًا
كالطير يبغي بنهي الشمسِ تشرابَا
مثل الندى وجناح الضوء يحفزه
يسمو بخارًا فإِنْ حطَّ الدجى آبَا
قد تهبطُ النفسُ مثل الطيرِ عاجلها
نسرُ الظلام فكان النسرُ غلاَّبَا
أحارسٌ كان هذا الموت من قدم
أغفى فأفلت صِلُّ العيش وانسابَا
وكان حيةَ حواء التي خدعَتْ
بلذة العيشِ أوَّابًا ولعَّابَا
ولذةُ العيش أثمارٌ مهدلة
تبقى رمادًا إِذا ذيقت وتَوْرابَا
إِن الصبا معبدٌ للعيش نعبده
على مضاضته بوركتَ محرابَا
ظلُّ الجنانِ رفلنا في غضارتها
حتى تقلَّص ظلُّ الخلدِ وانجابَا
والموتُ كالأسد العدَّاء تلقمه
لذائذُ العيشِ تخشى منه أنيابَا
لا بل هو الظئرُ والأرواح في يده
كالطفل في المهدِ لا تألوه إِطرابَا
والعيشُ كالنردِ ترمي غير محتكم
فيطلع العيشُ حرمانًا وإِنهابَا
أدلى ليَ الدهرُ خيطًا من حبائله
فعدتُ ما عاد هيَّابًا ووثَّابَا
كالحوت أفلتَ مكلوم اللهاة فإِن
أدليت خيطكَ ألفى فيه آرابَا
كم عشيَ القلبُ في ضوءِ الصبا فمضى
كخابط الليلِ أعمى بات جوَّابَا
والظلُّ والشمس لا يبغي افتراقهما
فما ابتغاؤك عيشًا لم يَذُقْ صابَا
فاجعل همومَك بيتًا غالَ قاطنه
عادِي الوباء فلا تطرق له بابَا
كزائف الذخرِ قلب ليس ينفق في
سوق الحياةِ وإِن أثرى وإِن طابَا
وما انتفاعي بخيرٍ كلُّه فشلٌ
يأسى الصفيُّ ويمضي الخبُّ خلَّابَا
والمرء يغفل عن أمر الحياةِ وما
جبنًا يطامن بل حزمًا وإِصحابَا
ضمائرُ الناسِ كالرعديدِ يزعجها
صوتُ السكونِ فتبغي فيه صخابَا
يندسُّ في غمرات العيشِ جارمهم
وقد يبيت لوَحْي النفسِ هيَّابَا
كذلك المرءُ يخشى أن يرى أبدا
مفكرًا خاب تسآلًا وتطلابَا
قارِضْ مُضيفك من بشرٍ ومن كرمٍ
إِنَّ الزمان إِذا ريَّبْتَه رابَا
والسخرُ مرآة إِبليس التي نُصِبَتْ
إِنْ تُبْصِرَ الحقَّ فيها عادَ كذَّابَا
طائر السعادة
لعمرك ما اللَّذات إِلا حمائم
تنوحُ على أفنانها وتطيرُ
نشدتك يا طير اللذاذةِ والهوى
أما لك في هذي الحياةِ وكورُ؟
وإِن الذي يرجو السعادةَ واثب
على ظلِّه لو أنَّ ذاك يجيرُ
وبعض مساعي المرءِ حمى وخيبة الْـ
ـمطامع برء للحجى ونشورُ
ومن لم يجد في نفسه ذخر عيشه
فليس له بين الأنامِ نصيرُ
وهل يستقيم السعدُ للمرءِ في الدنى
ومطلبُه بين الضلوع سعيرُ
وليس شقاءُ المرءِ فيما يصيبه
ولكنَّه طبع له وضميرُ
هو العيش كالحسناءِ تبغض محجمًا
جبانًا، ويحظى بالوصال جسورُ
ومهما يُتَحْ في العيش فالخوفُ خادمٌ
وكلُّ جريءٍ في الحياةِ أميرُ
ومن صان عن رقِّ المطالب عنقه
رأى أن خطبَ الدهرِ ليس يضيرُ
قلى العيش حبُّ العيش قد شطَّ رغده
كما يبغض المهجور وهْو أسيرُ
كمن يبغض الحسناءَ يقلَى دلالها
وفي الصدر منه لوعةٌ وزفيرُ
إِذا أخطأ المرءُ السعادَة خالها
سرابًا يغرُّ العينَ منه غديرُ
وليس عجيبًا أن يرى العيشَ مجهلًا
فإِن الحجى طرف لديه ضريرُ
وما السعدُ إِلا حكمة وتجاوزٌ
وإِنك ربٌّ في الأنام غفورُ
تكيد بصفو الصفحِ من يبتغي القذى
لوردك، إِن الشائبين كثيرُ
ومن لم يجدْ في عيشه فرض آمل
رأى أن سعدًا في الحياة عسيرُ
ومن ضمَّ قلبًا أخطأ السعدَ خاله
يتاح له بعد الممات حبورُ
أمانيُّ خلف الموت ظل حياته
يقيل بها والحادثات هجيرُ
بدا ليَ أنْ لا سعْد إِلا تصبُّر
تقرُّ به في النائباتِ صدورُ
وعزمٌ وإِيمان وطبعٌ وحكمة
ورأيٌ بآلاءِ الحياةِ خبيرُ
وإِنَّ أجلَّ الخلق ما هو مقبل
تُهيِّئهُ بعد الدهورِ دهورُ
وإِن الأذى سبرُ القلوبِ وصيرف الـ
ـنُّفوسِ وقيْنٌ للعقول وظيرُ
وراجي حياةٍ ليس للشرِّ بينها
مَثار تنال النفسَ منه حَرورُ
كمن يرتجي أسبابَ أمر يعافه
وذاك محالٌ في الدُّنى وغرورُ
وليس أعزُّ الرغبِ سعدًا فإِنه
يضنُّ بعيشٍ ليس فيه سرورُ
ولو أن خلدًا كان أمرًا مقدَّرًا
أهاب الفتى بالموت وهْو قريرُ
المثل الأعلى
يزعم الزاعمون أن أخس الْـ
ـخلق في النفس لازب لن يزولَا
كيف لا يخلد الخسيس من النفْـ
ـس إِذا ما اعتقدت أن لن يحولَا
مرحبا بالمحال فك عن النفـ
ـس من العجز والقنوع كبولَا
يشرق المرء بالزلال فهل كا
ن زلال من أجله مرذولَا
إِنما التذت الحياة لأنْ كا
ن ستير من أمرها مجهولَا
كل معنًى عَرَفْتَه كان مملو
لًا ومعنًى جَهِلْتَه مأمولَا
إِني ولعتُ بروقةِ الأحلامِ
أَأُلَام في طربي وفي استغرامي؟
دنيا يشطُّ بها المنامُ إِذا نأى
صدُّ الحبيبِ يشطُّ بعد لمامِ
ومن استنام إِلى الحقائق لم يَجِدْ
عزمًا سوى نابٍ لديه كهامِ
عجبًا نعافُ الخيرَ وهْو محبَّبٌ
حتى كأن الخيرَ في الإِحجامِ
جهل الورى فمضى الورى في الشرِّ إِنَّ
الخيرَ كلَّ الخيرِ في الأحلامِ!
ما في الوجود حقيقةٌ غير النهى
فاطمح بنفسك للذرى والهامِ
أتنال أوهامَ الحقائق قانعًا
وتعاف خيرَ حقائق الأوهامِ؟
والعيشُ إِن لم تبغه لعظيمة
فالعيش حلم طوارق الأعوامِ
لفررت عن دار المذلة والأذى
لو فرَّ بعضُ الناسِ في الأحلامِ
وبدا له بين الحقيقة والكرى
بابٌ لِولَّاجِ العوالمِ سامي
فيفرُّ منه إِلى الفضائل والنهى
وينال ما يغلو على المستامِ
إِن خلت أن الذام ضربةُ لازب
في النفس كيف تعاف ضرَّ الذامِ؟
والنفس إِمَّا شئتَ كانت عالَمًا
يسع الدُنى في طوله المترامي
فكأنما جزعَ الزمانَ جناحُها
فرأته من خلفٍ له وأمامِ
وكأَنما حد الفضاءِ يحدها
يا طيبه من منزل ومقامِ!
فإِذا سكنتَ إِلى مجالي عيشها
ذلَّلْتها بخزامةٍ وزمامِ
ورأيتَ عالَمها الوسيعَ كعالَمٍ
للنمل يصغر عن مدى الإِعظامِ
لو كنتَ تعرف قدْر مقبل علمها
أو جهلها لكشفت كل قتامِ
وعرفت ما العرفان لا يلوي به
أقصرْ فليس مرامُه بمرامِ
والمرءُ يضمر للبعيد مهابةً
فإِذا دنا ألفاه حظَّ طغامِ
ويرى المحبَّب بين ذين يرومه
بالنصر آونةً وبالإكرامِ
ولرُبَّ نفسٍ كالخشاشِ مطارها
زحف الصِلالِ تدب في الآجامِ
أنى يكون معبَّد لحياته
بين الأباةِ الصيد والأعلامِ
ولرُبَّ مصفودٍ بلذة عيشه
كالنحل يصفد في الجنى بحمامِ
ومِن النفوس ذوات أجنحةٍ ترى
كالطير ناهضة على الآطامِ
ولذاذة الآثام في ندم عليْـ
ـها قد أتيح لجدَّة الآثامِ
إِنَّ السكينةَ قد يملُّ نزيلها
حتى يلذ العيشَ في الآلامِ
بئستْ حياةٌ قد رضِيتَ براكدٍ
مِنْ أَمْرِها وقنعت بالإجمامِ
فالنفس للمثل الأجلِّ طموحها
كالنجم يهدي من وراء ظلامِ
طورًا كما رقص السرابُ وتارةً
يشفى به من غلَّةٍ وأُوَامِ
كالبدرِ في ليلِ العواصفِ ساطع
في أفْق مخشيِّ الزماجر طامي
يبغي به الملَّاحُ هَدْي سفينه
في زاخر باللجِّ كالآكامِ
كم صان من جأشِ الحزين وكشَّفتْ
لمحاته من سُدفة الإِظلامِ
من ذاد عنه النفس يخشى هلكها
كمعالج للِظمءِ خوف جمامِ
صنو الذي لم ترضه لمحاته
من يبتغي في النجم فضْل ضرامِ
لولا وقوع شعاعه في نهجها
ضلَّت عليه طليقة الأيامِ
والمرءُ إِن نبذَ الكمال وهديه
شقَّ العصا وأحلَّ كلَّ حرامِ
ورأى الأنامَ فريسةً مذخورة
لموفقٍ في شرِّه عزَّامِ
ولقد يعود قذًى يصيب به العمى
فينال من عزمٍ ومن إِقدامِ
كالنار يهلك حرُّها وضياؤها
يعشى وفيها من هدًى وقوامِ
يحكى أضاميم السقام ولوعه
فكأَنه سقمٌ من الأسقامِ
ولطالما خاض الفتى من أجله
كيما يكون زواخر الآثامِ
أقسى الأنامِ من استبدَّ به الحجى
فسها عن العبرات والآلامِ!
الفصول
طيري أَمَانيَّ النفوسِ وغَرِّدي
فلقد دعاك الروض خير دعائِهِ
هذي عيون للطبيعة قد رَنَتْ
في الزهر من أكمامه وخِبائِهِ
بسط الربيع على الحياة رِدَاءَه
يا ليتها أبدًا تُرَى بردَائِهِ
بل ليته بُرْدٌ نخيطُ على هوى
هذي النفوس لكي تُرى بروائِهِ
والشيء لولا أن يَرُوعَ بفقده
ما شاق عند قدومه بلقائِهِ
•••
لا كالشتاءِ تزايلت أوراقه
كتزايُل المهجور عن قرنائِهِ
تتناثر الأزهار عن أفنانِهِ
كتناثر اللَّذَّات من أهوائِهِ
وتخال إِذْ دَلَفَ الشتاء كأنما
ساق السَّنا بِدَبُورِه ورُخائِهِ
هَربُ الضياءِ من السحاب وريحه
هَرَب الكعَاب من الهوى وقضائِهِ
فرَّ الخريف من الشتاء وخلفه
عادٍ يريد لحاقه بجرائِهِ
مثل المريض يفرُّ من عادي الردى
هيهات ذا، والدَّهْر من أعدائِهِ
راع الشتاءُ بقُرِّه فكأَنما
أنفاس ثغر الموت قُرُّ هوائِهِ
والريح مثل فم الشتاءِ وصوتها
شكوى العجوز يخاف من أبنائِهِ
نقمَ العقوقُ فقام يشكو أمره
للناس ينشد آسيًا لبكائِهِ
والأرضُ تنظر في فروج أديمها
نظر الفقير إِلى ثقوب ردائِهِ
من بعد ما نفدت نفائس كنزه
سَرفًا وشحَّ العيش بعد سخائِهِ
وكأنما دجَنُ الشتاء مقطِّبًا
ذكرى العجوز لزهوه وفتائِهِ
وكأنما دوح الخمائل في الدجى
نشوى شياطينَ انتشَتْ بسقائِهِ
شربت من الإِظلام حتى أكثبتْ
تبغي النهوض كُمكْثِبٍ من دائه
في كل غضٍّ في الظلام نواظر
كنواظرٍ للغيب خلف كِفَائِهِ
وكأنما دوحُ الظلامِ ثواكلٌ
لبست حدادَ الثكل فعل نسائِهِ
تحنو عليك غصونُها فكأنما
تبغي سرار السمعِ من إِصغائِهِ
والدوحُ يهفو كالمؤرَّق في الكرى
يلوي على الأفنان فضْل كسائِهِ
تتردَّد الأرواح في أفنانه
كتنفُّس الرعديد في لأوائِهِ
وكأنَّ في إِطراقها وسكونها
فِكرُ المصيخ لروحه وندائِهِ
يا ليت بعض العمر تُقطَعُ بِيدُهُ
وَثبًا ويُمْهِل في سنيِّ رخائِهِ
كالسِّفْر تقرأ بعضه مُتريِّثًا
جذلًا وتطوي بعضه لهرائِهِ
أوْ ليت حادي الأرض يعكس سيرها
عن بعض دورتها بوقع حدائِهِ
أوْ ليت هذا الدهر عقربُ ساعةٍ
يَلْوِي به عن نحسه وشقائِهِ
آمال أمسِ كزهرة قد صَوَّحَتْ
عود الربيع مجدِّد لرجائِهِ
يا نفس لا تأسيْ لِعُمْرٍ قد مضى
بربيعه زمن أتى بشتائِهِ
تَتَشوَّفين إِلى قديم عهوده
نَظَرَ الغريق إِلى السُّهَى وسمائِهِ
بُشراكِ خلف الموت لو تردينه
نبت الربيع يروق في غلوائِهِ
كالطير بعد الصيف تترك عشها
نحو الجنوب ترود أرض ثوائِهِ
•••
عَطَفَ النسيم على الأزاهر هامسًا
أَنَّ الربيعَ سعى إِلى ندمائِهِ
إِنَ الربيع أخا الصبيحة مقبلٌ
إِقبال وجه الحبِّ في لألائِهِ
كالظئر بَشَّرت النئُوم بأن بَدَا
فجرٌ لِعيدٍ كان قيدَ رجائِهِ
والقلب مثل الطير في وضح الضُّحَى
يتلو على الإِصباح آيَ غنائِهِ
وكأنما أمُّ الخلائق دوْحةٌ
من قبل آدم فهي من قربائِهِ
تشدو كَشدْو الأمِّ ناح وليدها
تحنو عليه لصونه ووقائِهِ
والريح طيرٌ شادَ في أفنانها
وكرًا كأن الزهر من أبنائِهِ
وكأَنَّ أجنحة الملائك نسمها
نَسَمٌ يطبٌّ برفقه وصفائِهِ
وكأَنَّ ينبوه الحياة غديرها
خُلْدُ الصِّبا في جرعةٍ من مائِهِ
والقلبُ مثل النهر باشَرَ ماءَهُ
جسم الحبيب تراه في سَوْدائِهِ
أَهْوَاك يا روح الربيع فهيِّئي
جسمًا كجسم الغيد في لألائِهِ
ثم ارقصي بين الخمائل في الضُّحى
رقصَ المدلِّ بحسنه وبهائِهِ
فلعلَّ في قبلات ثغرك برء ما
أعيا الأنام بحكمه وقضائِهِ
أَرِدُ الخلود بقبلةٍ وبضمةٍ
تروي ظماءَ الخلد من لميائِهِ
والزهر يبعث بالطيور إِلى الضحى
تُفْضي إِلى الآفاق من أنبائِهِ
الأرض أمٌّ للخلائق كلهم
والشمس بَعْلٌ شاقها بفَتَائِهِ
فالناسُ والأطيارُ في وَضَح الضحى
والزهر في الأكمام من أَبنائِهِ
النارُ والأَمواهُ من آبائنا
والنار والأَمواه من آبائِهِ
يهنيك يا دوح الخميلة بعده
نسيانُ نيسانٍ وطيب هوائِهِ
تنسى الربيع كأنه آزفه
نغم البلابل في مثير حُدَائِهِ
لا تمنع المشتاةُ عوْدَ زهوره
وأريج نسمته وحَلْي كسائِهِ
يا ليت طيب العمر يُنسي ورْدُهُ
فأَبيتُ مثلك لا أحنُّ لمائِهِ
لكنَّ طِيب العمر ليس بعائدٍ
لأخِي صَدًى يُظْميه صَوْب بُكائِهِ
وترى كحالات النفوس تغيُّرًا
في روضه وسمائه ونِهائِهِ
فكأَنما للكون روح خُلْقُه
يبدو لنا في غيْمه وضيائِهِ
تتغير الأشياءُ فوق وجوهه
لتغير الأشجان في حَوْبَائِهِ
من لي بأجنحةِ الزمانِ أهيضها
كي لا يطير بصفوه ورخائِهِ
أَوْ ليته الغَرِد الحبيسُ أُقيمُه
كيما أُراح لشدوه وغنائِهِ
كي يذكر العهد الأنيق وأوجهًا
كانت تطلُّ على وذيلةِ مائِهِ
خلع الجمالُ قناعَه وسعى إِلى
عشاقه وعفاته وظمائِهِ
والمرءُ لولا صَيْفه وربيعه
ما ذاق حُلمَ السَّعْد في لأوائِهِ
والروضُ بابٌ للجنان وثغرة
منها ترى الفردوس خلف فنائِهِ
وكأنما صبغ الأزاهرَ صابغٌ
فتكاد تأخذ منه إِثرَ طلائِهِ
والضوءُ غُدرانٌ ترقرق تِبْرُها
وأراق منها الأفق فضل إِنائِهِ
واللونُ شِعْرٌ للطبيعة وقعُهُ
في العَيْن وقعُ اللحن في سودائِهِ
شهدَ الشتاءُ بأن أفْق سمائِهِ
أدنى إِلينا من قصيِّ فضائِهِ
والنفسُ تعظم في الربيعِ كأَنها
في زهره ونسِيمه وصفائِهِ
والضوءُ خمرٌ للنفوسِ ونشوةٌ
ودم الحياة يشام في أثنائِهِ
والأرضُ كالحسناءِ قُدَّ قميصُها
فبَدَتْ محاسنُ جسمها ووَضائِهِ
فكأَنما رفع الربيعُ حجابَها
فانجاب ستر الحسنِ عن حسنائِهِ
والضَّوْءُ كالحسناءِ بُزَّ رداؤها
فأماطَ عنها العُرْيُ ستر غطائِهِ
والقلبُ مثل الطير هِيض جناحُه
في نزْوِه وحنينه وغنائِهِ
والطيرُ أفواه الرياض فشدوها
أبدًا يزجِّي الدَهرَ وقْعُ حدائِهِ
وكأنما نغمُ الحفيفِ هواتفٌ
في القلب دَوَّتْ منه في أنحائِهِ
والضوءُ من خَلَلِ الغصون كأنه
طيرُ الفراشِ نراه من شجْرائِهِ
وكأنه والقلب يذكو شجوه
شرر الغرام يطير من حَوْبائِهِ
نثرت ذكاءُ على البسيطة عسْجدًا
فاذخرْ ليوم الدَّجْن كنز ثرائِهِ
ولكل شيء منطقٌ يشدو به
والنفسُ تعرف كنه سحر غنائِهِ
تتلو عليك الطيرُ طِيبَ ثماره
وَأَريجَ روضته ورقة مائِهِ
والحسنُ ظلٌّ للسعادة في الورى
إِنَّ السعادة لا تُرى بِفنائِهِ
ظلُّ الجنانِ على البسيطة واقعٌ
فاستقبل اللَّذات من آلائِهِ
يُنسي الحياة وبؤسها وشقاءها
حتى يخال الحُلم أصل شقائِهِ
فكأَنه كوْنٌ حلمت بحسنه
حتى نقلت إِلى ذرَى خضرائِهِ
هذي الطيور صوامت كنواطق
ذخر النسيم نشيدها لهوائِهِ
•••
وكأنما زهر الخميلة إِن بَدَا
حُلُمُ الهوى في طيبه ووضائِهِ
والطيرُ أرواحُ الزهورِ وصَيْفُها
عهد الشباب يروق في لألائِهِ
ضحِكَ الزمانُ فذاع من ضحكاته
صيف يعيد الحبَّ في غلوائِهِ
والقيظ يزفر بالهجير كأنما
يتنفس الولهان من بُرَحَائِهِ
فكأَنما مرحُ الحياة وحسنُها
لهب ترقرق في خفيِّ دمائِهِ
وكأَنما نغمُ الطيورِ أريجُها
يُسقاه زهر الروضِ في أَنْدائِهِ
فيحيله نشرًا يَضُوعُ ورونقًا
يشتار منه النحل أَرْيَ عطائِهِ
ودَّت ذوات الحسن أنَّ حُلِيَّها
كحُليِّه ورداءها كردائِهِ
مرح الكعاب الرُّودِ في خطراتها
كالنهر يرقصُ في ترقرق مائِهِ
والريح تعبث بالغصون كأنها
طِفلٌ يعيث على رءوس إِمائِهِ
وترى جذورَ الدَّوح مثل أصابع
بسط الشحيح يصون كنز ثرائِهِ
وكأنما نغمُ البلابل مَطْرَةٌ
فوق اللُّجين شجا مُرِنُّ إِنائِهِ
تندى على القلب الجديب فينثني
روْضًا يرفُّ بزهره وأضائِهِ
والزهرُ في وَضَحِ الصبيحة قد صحا
صحوَ المفيق من الكرى وقضائِهِ
وجلت ذكاءُ ندى الزهور كأنها
أمُّ الوليدِ تزيل فضل بكائِهِ
حتى إِذا اشتدَّ الهجير حسبته
نشوانَ أثمله اللظى بسقائِهِ
وإِذا الأصيل علا السماءَ حسبته
ذا لوعة حانت نوى قربائِهِ
وحمَى على قُبَلِ الظلامِ ثغوره
كمعشَّقٍ متسَتِّرٍ بردائِهِ
وتراه يرنو للنجوم كأنها
حُلُمٌ يُطِلُّ عليه في حوْبائِهِ
كالطفلِ يُبْصِرُ في الوذيلة وجهه
فيخال ذاك الوجه من قرنائِهِ
تحكي النجوم الزُّهْرُ في دوْراتها
رَقصَ المدلِّ بعيشه وروائِهِ
والنجم من خَلَل الغصون كأنه
ثمرٌ تَدَلَّى من عَلِيِّ سمائِهِ
درس السماء صفاءها وضياءها
حتى جرى بعروقه ودمائِهِ
والحي يحيا كالذي هو ناظر
كالأُفْقِ يُرْسَمُ في متون نِهائِهِ
والزهرُ يحلم بالفرادس طرفه
حلم الغريب بأهله وفنائِهِ
حَسِبَ الطيور تحاملت عن قلبه
وبدت تبوح بشجوه ورجائِهِ
والقلب مرآة الزمان فصيفُه
في صيفه وشتاؤُه كشتائِهِ
والكونُ مرآةُ الفؤادِ فقبحُه
وجمالُه في نحسهِ ورخائِهِ
والضوء مثل دم الربيعِ فلا تَعفْ
جُرَعًا تنيلُ الخلْد من ضَذائِهِ
هذي الطيور لسانه وغناؤها
مستأنف من شدوه وغنائِهِ
والزهر في حرِّ الهواجر نائم
سحَرَتْه باللحظات عين ذُكائِهِ
والأرض تحلم بالجِنَان فصيفها
حُلُمٌ يزيح القلب من ضرَّائِهِ
بسطَ الجمالُ على الفضاءِ جناحَه
فالصيف من لألائه ورُوائِهِ
فكأَنه مَلَكٌ يُحلِّقُ فوقها
فتصيب من آلائه وعطائِهِ
يا ليت أنَّ المرءَ في أرجائها
متَفرِّقٌ في أرضه وسمائِهِ
حتى يصيرَ من الجمال بمنزل
في مائه ونسيمهِ وضيائِهِ
وتظل تسمو النفسُ في آفاقه
كالطيرِ حَلَّق في أديمِ فضائِهِ
خواطر الأرق
يا ليلُ أين أليفُ الهمِّ والذكرِ
مسهَّد القلبِ عون لي على السهرِ؟
وصاحب الهمِّ يبغي صنوه أبدًا
كساهرِ الليلِ يقضي الليلَ بالسمرِ
فقل لأحلامك اللاتي نراح لها
قَوْلي لمن هو روح الضوءِ والبصرِ
خاض الزمانُ مياهَ الحبِّ فاعتكرَتْ
كخائض النهر أبدى كدرة العكرِ
مراسم لك دون القلب يدرسها
كالرِّيح تمحو ظلالَ الزهر في النهَرِ
وعنكبوت من النسيان ناسجة
خيطًا على القلب يخفي أنفَسَ الذخرِ
جلت عن القلب ذكرى منك طارقة
كمن يزيح القذى عن شرعه الغدرِ
فابعث بذكراك في قلبٍ نبتُّ به
كالجذر مستوثقًا في منبت الشجرِ
فإِنَّ زهرة حسنٍ أنت لابسها
تسقي دمي مثل ريِّ الماءِ للزهرِ
والذكرُ كالطرف إِما نابه أرق
يا عازبَ النومِ أسدل حاجب الذكَرِ!
خواطرٌ كطيورِ الروضِ سانحة
تستدرج القلبَ أخذ الطير بالنظرِ
إِنْ غرَّبَتْ فإِلى ذكراك عائدة
عَود الطيور إِلى الأوكار في الشجرِ
قد قُلت للحبِّ لا تعتب على سكني
لنبوةٍ منه في أيامك الأُخَرِ
كم لي وكم لك من يوم لنَا بَهِجٍ
بطلعةٍ منه تحكي طلعةَ القمرِ
إِن يَقْسُ قلبك فالأقدار قاسية
وأسعد الناس من يأتمُّ بالقدرِ
أو يَجْفُ قلبك فالأثمار يانعةٌ
ودون ذلك يُبْسٌ من نوى الثمرِ
أو كان قولك مرَّ الطعم لا عجبًا
فإِن ثغرك كأس العابس الأَشِرِ
فارجم بقلبك قلبًا أنت مالكه
فإِن قلبَك مثلُ الماس في الحجرِ
ولست أول من أصمى فلا حرج
للناس رجم كرجم القرد بالمدرِ
لم يترك الناسُ من قلبي له رمقًا
حتى أقول تحرَّجْ من دمٍ هدِرِ
يرمونني بقلوبٍ في مودتهم
أقسى من الصخر فعل الراجم المكرِ
كأنها بعض أحجار الجحيم رَمَتْ
بها شياطينُ تبدي صورةَ البشرِ
والحبُّ كالبحر لا يَخْشَى به غرقًا
من غاص فيه على الأصداف والدررِ
وخالطٌ في الهوى لم يَدْرِ لذَّته
كخالط الكأس أخطا لذة السُّكرِ!
عالم الحسن
ذراني أُبيحُ الحسنَ قودَ عناني
فهذي عيونٌ للمنون تراني
وأكبر ما أقلى من الموت أنني
إِذا متُّ لم أبصر وجوه حسانِ!
ففي كلِّ معنًى فتنةٌ ولذاذة
وفي كل وجهٍ للجمالِ مَعاني
فمَنْ لي بخلد أبصرُ الغيدَ كلها
سواء أقاصٍ في الدنى وأداني
وأبصر حسنًا أطفأ القبرُ نورَه
وأبصر ما لم يبصر المَلَوانِ
وترنو عيونٌ سوف يملك سحرها
عنان قلوبٍ نحوهن رواني
وتبدو وجوه في الغيوب مهودها
وأسمع ما لم تسمع الأذنانِ
كأني بتربي يعرف الغيد إِن سعت
عليه فتدوي الأرضُ بالخفقانِ
فيا عاشقيها إِنَّ في القبرِ عاشقًا
وأي قلوبٍ في التراب حواني
وقلبيَ عودٌ أَحْكَمَ الحسنُ لحنَه
فحسب الهوى من نغمةٍ ومثاني
تقاطَر ماء في المناقع من علٍ
تقاطُر حسن الكون دون جناني
أحسُّ إِذا ما أَبْصَرَ الطرفُ حُسْنَهُ
كأن بسمعي أنَّةً لحناني
كأن وجوهَ الكونِ نغمةُ منشدٍ
يرتِّل آمالي بغير لسانِ
فيا مَنْ ضياء الشمس بين عروقه
دماء تضيء الوجه بالجريانِ
ويا مَنْ رحيق الخلدِ من خمر ثغره
يداوي به من غائل الحدثانِ
فلو نالَ منه خائف الموتِ جرعةً
إِذن لأصابَ الخلدَ كلُّ جبانِ
جمعت صفات الحسنِ والخلد كلَّهَا
فلم يَبْقَ منها في الحسان معاني!
سواء حسان بعد لم يَبْدُ حسنها
وأخرى حداها الموت بالوخدان
فما عشقَ العشَّاقُ من عهد آدمٍ
سوى لمعات منك غير دواني!
رميت جميلًا والوليد بفتنةٍ
وها إِنَّ سهمًا من هواك رماني
دعاني دعاءُ العيشِ والموت دونه
فلبَّيْتُ فيك الشوق حين دعاني
دعاني دعاءُ الليلِ رقَّ نسيمُه
وربَّ صموتٍ ناطِقٌ ببيانِ
دعاني دعاء البحر يشجو خرِيرُه
ويحكي عبابَ الدهرِ بالنهضانِ
دعاني دعاءُ الذكر والذكرُ هاتفٌ
ويا رُبَّ ذكر هاتف بأماني
دعاني دعاءُ العود في البحر ليلةً
رعى البحر فيها بدرها ورعاني
دعاني دعاءُ الزهر والطيرُ روحها
تشوق فؤادَ الصبِّ للطيرانِ
دعاني دعاءُ الفجرِ والفجرُ شائقٌ
كأنَّ انفجارَ الفجر خلْق كيانِ
فلا تدعوَنْ قلبي إِلى الحبِّ دعوةً
لكيما تثيب الحبَّ بالشنآنِ
دعوتك بالحسنِ الذي أنت ربُّه
لكي لا تخال القلب نهزة جاني
ولا تنقمنْ أني نقمت خديعة
من الناسِ غالت مهجتي وجناني
ولا يكُ فوضى قلبك الغضِّ أنَّهُ
فؤاد على رعْي الأمانة حاني
فإِن كان لي في بعض خلقي ومنطقي
شفيع إِلى لقياك ليس بواني
فحسبك فاصدع حاجب الود بيننا
بإِمرة معبودِ الجمالِ مداني
وإِلا فناكِرْني على الحبِّ يسترحْ
فؤادٌ حبيسٌ في حِبَالِكَ عاني
سِوَاكَ يهزُّ القلبَ كالظئرِ طفلها
وأنت تجنُّ القلبَ بالخفقانِ