لقد ذَكَرْنَا في مقدمة الديوان الرابع أن الشاعر لا يهمه الناس إِلا لأنَّهم باعث
من
بواعث الشعر، ولم أَعْنِ بذلك — كما زعم بعضهم — أن القصيدة الواحدة يبعث إليها إنسان
خاصٌّ، يكون موضوعًا لها ويستثير في الشاعر جميع الخواطر التي دفعت إليها. فإن الشاعر
ليس
بالراسم. ولو كان راسمًا لاستفاد أيضًا من أفراد كثيرين في عمل رَسْمٍ فنيٍّ خيالي
كبير.
ولقد رأى القارئ في بعض هذه الدواوين قصائد في شرح أخلاق السوء كالحسد أو البغض، فحسب
بعض الناس أنه المعنيُّ بها. ولعمري لو كان غير ذكي لقلت إنه يريد أن يَشْرُفَ بهذا الادعاء؛
ولكنه أجلُّ من هذه المرتبة. فلم يَبْقَ إلا أن يكون ذلك منه وسيلة لإظهار كيده وشافعًا
له، وكما أني لا أعني أحدًا بقصائد الهجاء، كذلك لا أعني أحدًا بقصائد النسيب. ولا
أنكر أن الأفراد من الناس هم الذين يستثيرون خواطر الشعر، ولكن هذا القول لا يستدعي أن
تكون كل قصيدة في فرْد مُعَيَّن. نعم، الأمر يستدعي ذلك عند المداحين والهجائين ومن جرى
مجراهم، ممن لم يضع لنفسه سننًا عامة في فنه، يجري في نهجها. أما القول في أفراد، فهذا
أول مذهب وأول عصر من مذاهب الشعر وعصوره. وأما المذهب الحديث فهو أن تكون الطبيعة
البشرية ماثلة أمام الشاعر، يأخذ منها لقصيدته ما يقتضيه الفن. ومثل ذلك أن قصيدة
«صرصور الشعر» في الجزء الخامس بعث إلى كتابتها صرصور من صراصير الحقيقة لا صراصير
الخيال ولا صراصير البشر. وقصيدة «سم الخسة» مأخوذة من مسودات كنت قد ألَّفْتُها في كتاب
اسمه «مجالَي الأخلاق»، لم يُنْشَر؛ وكثيرًا من قصائد الغزل في هذا الديوان خواطر كانت
تخطر
لي فأقيدها في رسائل سميتها: «رسائل الحب» لم تُنْشَرْ. ولذلك أرى من العبث والجهل بفروض
الشعر، قول قائل إني أعني أحدًا بما أقول في أي باب من أبواب الشعر.
ولي كلمة أريد ذِكْرَها في العقيدة، ومن يُذِيعُ بين الناس أني على غير هدًى! وأكثر
أمثال
هذا إما من الجهلاء الأغبياء وإما أهل الحقد والحسد. فليس التساؤلُ والامتعاضُ من مظاهر
الشر قلةً في الإيمان، بل إن ذلك غاية الإيمان. وإن الذي يتهرب من الله إلى نفسه، وينكر
آياته في والوجود، يجد الله في نفسه في خير نزعاتها. وإن في الله حاجة من حوائج النفس
البشرية، وكلما خفيت عنا أدلة وجود الله لعظم الشر والإِثم، كان ذلك الخفاء أدعى إلى
تطلُّبه ونشدانه والإيمان به على الوجه الصحيح.
فالإيمان بالله والخير ضرورة وحاجة، لعظم الشر والشقاء. إذ إن الزيغ وقلة الإيمان
لا
تعين على الشر والشقاء. بل تزيد الحياة اختلالًا؛ كما ذَكَرْتُ في قصيدة «صوت الله أو
نجوى
المؤمن» في الديوان الرابع. وقد أساء بعض الناس فَهْمَ قصيدة «ليتني كنت إلهًا» في الديوان
الثاني، ولا أعراف كيف فات مَنْ صَفَتْ نفسُه من سوء النية من القراء أنَّ نِسْبَتِي
سوء الفعل إلى
ذلك المتطلب مرتبة إله، خرافة من خرافات الوثنيين، والذي يريد أن يصلح نظام الحياة
والكون، هي غاية الإيمان لبيان أن المرء ينتقد ويتسخط الشر والإثم، حتى إذا حكم أتى
الشر الذي نقمه. ولو أني جعلت أفعاله في القصيدة حميدةً، لكان ذلك اعترافًا مني بأنه
مصيب في نقده وأنه رشيد عادل!
هذه قصيدة «الملك الثائر»، لقد حاوَلَ غبيٌّ أن يقرأها مرة، فقرأ منها أبياتًا، ورأى
عصيان الملك، فأخذ منه الغضبُ كُلَّ مأخذٍ، ولم يتم قراءة القصيدة، فلما قرأت له ما لاقاه
الملك الثائر من العقاب لعصاينه انشرح صدره وقال: «إنَّه جدير بهذا العقاب!»
وهذه الحادثة تَشْرَحُ السبب في سوء الفهم الذي يعتور بعض الناس في قراءة القصائد
التي
تشرح أمثال هذه الخواطر والعواطف النفسية التي لها علاقة بالحياة والخلق. فإنه لا يحاول
تفهُّم مغزى القصيدة الذي لا يُسْتَخْلَص من أبياتٍ مفردة من القصيدة، بل يستخلصه بأن
يفهم وحدة
القصيدة الفنية وما تقضيه المقابلة الفنية من اختلاف جوانب الرأي فيها واختلاف حالات
النفس التي ضمنتها القصيدة.
آية الحسن
يا قلبُ قصْرك لا تولَعْ بإِنسانِ
لقد كلفتَ بساجي الطرفِ وسنانِ
قد صار لي أَلْفُ عينٍ بعد رؤيتكم
من بعد ما كان لي كالناس عينانِ
مذ صار حسنُك في الإمكان منشأة
فكلُّ مُعْجِزِ أمْر رَهْن إِمكانِ
ومعجز الحسن في خلق خُصِصْتَ به
كمعجز الحبِّ في شِعري وتحناني
وصار لي ألف قلب أرتجيك بها
يا ليتني زدت في روحٍ وأشجانِ
كي لا يضيع جمالٌ منكَ أُبصرُهُ
ورقَّةُ اللفظِ في سحْرٍ وتبيانِ
بل ليتني الكون طرًّا ليس يبصرُكُمْ
سواي في الخلق من وحشٍ وإِنسانِ
هل نافعي أنني في الحبِّ منفرد
فليس في الخلقِ تحنانٌ كتحناني
بل ذاك ضائرُ قلبٍ لست راحمه
وكيف يرحمُ نضوًا قلبُ غفلانِ
ما كان مثلك في الأكوان منشأة
إِلا بخبرة أزمانٍ وأزمانِ
استخلصَتْكَ دهاريرٌ كما خَلُصَ الْـ
ـعطرُ الزكيُّ فيا عطرًا لأكوانِ
مجاهلُ الزمن الماضي وحاضرُه
لصنع حسنك في بدْعٍ وإِتقانِ
فجئتَ آيتَه الكبرى التي خشعَتْ
لها القلوب ولم تدحَض بكفرانِ
ليت الكواكبَ تعنو لي فأنظمها
لآلئًا لك تحكي عقْد أشجاني
إِخالها ما بدت إِلا لتبصرها
مرأة حسنِك لا يمنى بنكرانِ
والطيرُ ما نطقتْ إِلا لحسنكمُ
فأنت للكون طرًّا خيرُ عنوانِ
يا سالبَ الكونِ أشهى ما يراد له
مذا تركتَ لأحقابٍ وأزمانِ
عميتُ عن كلِّ حُسنٍ غير حسنكمُ
كأنني غير صاحي الطرفِ يقظانِ
أعشَيْتَ طرفي بشمسٍ منك طالعة
من بعد ما كان عيشي رهْنَ إِدجانِ
لا أكثرنَّ من الألحاظ أرسلها
إِنَّ البلاءَ لطرفِ العاشق الراني
وهل أخافُ وقد سقَّى الفؤادَ هوًى
العيش والموت في صرْفٍ وحدثانِ؟
أو القضاء وما يخشى الورى أبدًا
من قسمة الدهرِ في ربحٍ وخسرانِ
كلَّا لعمرك إِنَّ الحبَّ يرفعني
عن الحياة وعن عيشٍ لها فاني
إِنِّي أهابك من حسنٍ تجور به
حتى لأقلاك في أثناء أحيانِ
ماذا يضيرك من حبٍّ تزان به؟
فالحبُّ للحسن نشرٌ حول أفنانِ
هبْه المقادر من يأبى المقادرَ لا
يرى الحياةَ بعينِ الناعمِ الهاني
فاضحكْ فضحْكُكَ أنغامٌ مرتلة
أوتارها قلبُ صبٍّ منك ولهانِ
لم يَبْقَ في الكون من شدوٍ نسرُّ به
إِلا جمعت بحسنٍ منك مرنانِ
في كل نظرة عين ذكرةٌ لكمُ
وكل نبضة قلبٍ جدُّ حرَّانِ
حبِّيك لا شكَّ يعروه ولا جدل
كأنما هو من أرباب أديانِ
في منزل الله مكلوءٌ بهيبته
سرُّ الإِله وسرُّ الحبِّ سيِّانِ
ولن يضيعَ رجاءٌ في الحياة إِذَا
ما ظلَّ حبيَ مكلوءًا بإِيماني
أخلفْتَ وعدَ لحاظٍ أنت مرسلها
تقول لي اعشق فإِنِّي جدُّ فتانِ
لا تنكرنَّ مقالَ اللحظِ من خجلٍ
كم حجةٍ لك في تبيانِ وَسْنَانِ
الحبُّ أقوى من الأغلال تُحْكِمُها
عاد الحياة لقلب العاشق العاني
قد بعتُ راحة أيامي وصحتها
بنظرة بدَّلَتْ سرِّي وإِعلاني
احمل جناية حسْنٍ لست خالقه
كما تحمَّل مقدورًا له الجاني
ولا يكفِّر عن لحظٍ تصول به
إِلا ترفُّق عطْفٍ منك يرعاني
لو فرَّق الدهرُ حبِّي في مجاهله
لعادَ منه بمثل الخلدِ ملآنِ
ولو خَبُرْتَ بحبي العيش أجمعه
إذن لباءَ بسرٍّ منه ضحيانِ
ما مسَّ حُبِّيك أمرًا خسَّ معدنه
إِلا أضاءَ كماسٍ عند دهقانِ
ما أضْأَلَ العيش لولا ما يتاح بكم
من الهوى وطماح ليسى بالواني
خيرٌ لنفسك إِن لم تَدْرِ ما ضمنت
من فتنة الخلقِ في حسنٍ وإِحسانِ
إِذن لأفرطتَ من سكْرٍ ومن خبلٍ
ورحتَ تنعم في ظلمٍ وعدوانِ
وكيف ترحمني إِن لم تجد أربًا
في أن تكونَ حبيبًا جدَّ فَنًّانِ؟
يا هل تراني إِذا ما جاء يسعدني
طيفٌ لحسنك ألقاه ويلقاني
حتى ليوشك أن تكسي مراسمه
جسمًا فيا من رأى طيفًا بجثمانِ
أكاد أنشق أنفاسًا يردِّدُها
وأحتسي منه من كاسات نُدْمانِ
يا ليت أني أناجيه ويسمعني
على النوى ورجاءٍ ليس بالداني
حولي خيالات حسْن أنت صُورَتُها
طوبى فإِنك جيراني وأقراني
لا بل شقائيَ أوهام أُغَرُّ بها
مثل السراب إِذا أودى بظمآنِ
أنسى فناءَ جمالٍ أنت لابسه
حتى كأنْ لم يكن حالٌ له ثاني
يروع حسنُك في حبٍّ أعالجه
كروعة الحسن في نيران بركانِ
لو قسَّم الدهرُ بين الناس قاطبة
لذائذًا ليَ في قُرْبٍ ولقيانِ
وفرحة ليَ إِما لحتَ عن عرض
تجلو همومي وتأسو كلم أحزاني
غاض الشقاءُ وغاض النحس أجمعه
وعطَّل الدهُر من منعٍ وحرمانِ
لو صوَّر الخلدَ كانت منك صورته
شكلًا بشكلٍ وعنوانًا كعنوانِ
قد قلت للحبِّ في قلبٍ أَضَرَّ به
برح الهوى وطلاب المعوز الداني
لئن أضاعك وسْنانٌ بغرته
كم في الزواخر من درٍّ ومرجانِ
لم يُحْلَ بالغيد في بادي ترائبها
ولم يُحَدَّ بميزانٍ وأثمانِ
وأنت في لجةٍ للقلب منغمر
ما أمَّك الرائحُ الغادي بنُشْدانِ
ما أنت أول حبٍّ عزَّ مطلبه
ولا بأول قلبٍ غير جذلانِ
فأين أخبأ طرفي عن محاسنكم
وأين أخبأ قلبًا جدَّ ظمآنِ؟
وإِنَّما الحبُّ كالمقدارِ مدخله
رغم الأواخيِّ من عزمٍ وإيقانِ
لو كانت البيدُ تُنْجِي منك ما رَضِيَتْ
نفسي قيودك في أهلي وأوطاني
بل ليت أنَّيَ حُلمٌ في الكرى بهجٌ
يأتي إِليك بأزهارٍ وريحانِ
أقول للناصح المغرَى بتعزية
انظر أفي الكون ما يُغري بسلوانِ؟
والكونُ كالميت لا ماءٌ ولا شجر
ولا جمالٌ تراءى حول أفنانِ
وإِن لم يُبِلَّ ظميُّ الحبِّ غلَّته
ولا تصافى بصفو الحبِّ روحانِ
ولا أُتِيحَ لقلبٍ قلبُ ذي مقةٍ
ولا تدانى بنجوى الحبِّ صنوانِ
كأنما الكون لم يُخْلَقْ له سبب
أو أنه حُلْمُ بادي الهمِّ أسوانِ!
فاهبِطْ مع اليأس في قلبي فإِنَّ له
في القلبِ منزلَ صدقٍ غير بهتانِ
وما أَلِمْتُ ليأسٍ مثلما حزنتْ
نفسي على أملٍ كالآل حليانِ
استنفد الكذب آيات الكمال فما
أرضى لحبيَ منها أي تبيانِ
فليت لي لغةً ما شابها كذب
ترضي الملائكَ لم تُخْلَقْ لإنسان
وما لحبيَ في الأكوان من مثل
ولا رموزٍ ولا شَبَهٍ ولا داني
فكيف يشفع لي لفظٌ يُغَرُّ به
مِنَ الخليقِةِ شيطانٌ بشيطانِ؟
ولستُ ألحاك إِن لم تُلْفَ ذا عوزٍ
إِن الودادَ لقلب الناقص الفاني
كأنَّ حسنَك من إِبداع ما ضَمِنَتْ
منك الخوالجُ من صدقٍ وإِحسانِ
يا من به قد نسيتُ الشرَّ أجمعه
لا يُجْتَلَى الحسنُ والأرزاء في آنِ
ما خلتُ أنَّ مكانًا ضمَّ حسنكمُ
يحوي من الشرِّ ما يودي بثهلانِ
دنياك دنيا رخاءٍ لا شقاء بها
كأنما الشرُّ لم ينزل بإِنسانِ
أبَعْدَ معرفتي الأيام يا عجبًا
وأوجه الدهر من طلقٍ وطخيانِ
أبغي الحياة وأبغي منكمُ مقةً
إِنَّ الحياة حياةُ الناعم الهاني!
نزلتَ يا قلْبُ عن غالي نفائسها
لمَّا عرفتَ الليالي أيَّ عرفانِ
حتى فرحتُ بصبرٍ منك عن خُدَعٍ
من الحياةِ وعن إِلفٍ وخلصانِ
وقلتَ لي الآنَ لا شجوٌ ولا جزعٌ
على الحياة ولا إِعياءُ وجدانِ
فعدتَ لا صبْرَ تبديه ولا جلدًا
حتى كأَنك لم تسكن لسُلوانِ
يا دوحةَ الحبِّ لا شمسٌ ولا مطرٌ
من اللقاء ولا وافٍ ولا حاني
فكيف أيْنَعْتِ في قلبٍ أَضرَّ به
جدبُ الزمانِ وإِلْفٌ غير معوانِ؟
أتى الربيعُ فهبْ لي منك مكرمةً
يومًا نقضِّيه بين السرو والبانِ
ونسمع الطيرَ تبدي سرَّ أنفسنا
حيث الهوى ورواء الزهر سيَّانِ
ذخرٌ لمقبل أيامي إِذا بردَتْ
نارُ الحياةِ ونارُ الحبِّ في آنِ
لا تَنْسَ حبِّي إِذا ما الموتُ عاجلني
لعلَّ ذكرك دون القبرِ سلواني
وسائِلِ الليلَ عن روحي فإِنَّ لها
في الليل خطرةَ حيِّ الهمِّ أسوانِ
لا بل دَعِ الذكرَ لي إِني به قَمِنٌ
وانْعَمْ بحسنك في غدرٍ ونسيانِ
ولا تُعنِّي بذكرى منك خاطرةً
حسبي حبوري بقلبٍ منك جذلانِ
عذِّبْ فؤاديَ بالآلام قاطبةً
الحبُّ ذُخْرُ مُنًى يُشْرَى بأثمانِ
وارحمْ أو اقْسُ ولا تحرجْكَ معتبةٌ
ماذا تضيرك آلامي وأشجاني؟
وليس في الحبِّ خُسرانٌ ولا فشلٌ
وإن منيتَ ببعدٍ أو بهجرانِ
أَلم أَعِشْ غير عيش الناس قاطبة
وأقطع الدهرَ في فرحات نشوانِ؟