٥ شارع الصول!
عندما هبطت الطائرة ﺑ «أحمد» في مطار «نابولي» الصغير، كان سيناريو الساعات الماضية يدور في ذهنه … فقد وافق رقم «صفر» على خطته في مقابلة أرملة «جیاکومو»، وإرسال شيكٍ بمبلغٍ كبيرٍ من المال للأرملة الحزينة؛ فيه بعض التعويض عن فقد عائلِها!
كان عنوان منزل «جیاکومو» في «نابولي» هو «٥ ش الصول»، والصول نوعٌ من السمك اللذيذ نُسمِّيه في بلادنا سمك «موسى»، وأحيانًا «الغطياف» … وعرف «أحمد» سرَّ تسمية الشارع، عندما وجد سوقًا للسمك في بدايته … ولم يستغرق البحث بالتاكسي طويلًا، ووجد نفسه أمام منزلٍ رائع الجمال من الطِّراز القديم، يقف على قمَّة تلٍّ من تلال «نابولي»، ويُطِلُّ على خليج «نابولي»، الذي كانت أضواء السُّفُن والشوارع والسيَّارات تنعكس على صفحة مياهِه.
نظر «أحمد» إلى ساعته وهو يدقُّ جرس الباب؛ كانت الثامنة مساءً، وهو موعدٌ معقولٌ للزيارة … وفتحت الباب فتاةٌ رائعة الجمال، ولم يشكَّ «أحمد» لحظةً أنَّها «مادونا» ابنة «جياكومو» … وقد بدت عليها الدهشة، وهي ترى الملامح الشرقيَّة على وجه «أحمد»، الذي قال لها: لقد جئتُ للعزاء في المرحوم سنيور «جیاکومو»؛ فقد كنتُ صديقًا له!
بدت الدهشة على وجه الشابَّة الجميلة، وقالت: مرحبًا بك!
دخل «أحمد» إلى صالةٍ واسعةٍ مفروشةٍ بأناقةٍ، تميل إلى الأسلوب القديم … بالكراسي العالية، والدواليب الخشبيَّة الداكنة اللون.
قالت «مادونا»: ستأتي والدتي حالًا!
واختفت «مادونا»، وأخذ «أحمد» يتأمَّل المكان … وأحسَّ بضيقٍ؛ لأنَّ صاحب هذا المنزل كان مخلصًا لقضيَّة العدالة الإنسانيَّة، ولكنَّ أحد الخونة وَشَی به، فقتله، وترك زوجةً حزينةً وابنةً في عمر الزهور!
بعد لحظاتٍ، ظهرت الأرملة الحزينة … كانت تلبس الملابس السوداء، ورغم أنَّها كانت تقترب من سنِّ الخمسين؛ فقد كانت رائعة الجمال … كانت الصورة الأصليَّة لابنتها الجميلة.
وقف «أحمد»، ومدَّ يده إلى السيِّدة الحزينة، وقال: إنَّني آسفٌ جدًّا أن يكون تعارُفُنا في هذه الظروف القاسية!
قالت السيِّدة: شكرًا لك، ولكن … وقبل أن تُكمِل جملتها قال «أحمد»: إنَّني صديقٌ من مصر، وقد كنت — بشكلٍ أو بآخر — زميلًا للمرحوم السنيور «جياكومو».
قالت الأرملة: إنَّني أعرف مصر جيِّدًا؛ فقد وُلدت هناك، وكان أبي يملك محلًّا في «الزمالك».
أحمد: شيءٌ رائعٌ يا سيِّدتي … عسى أن تكون ذكرياتك عن مصر طيِّبةً!
قالت السيِّدة: إنَّها أجمل ذكرياتي؛ فقد تعلمت في معهد «ليونارد دافنشي» في القاهرة … هذه المدينة الجميلة ذات الألف مئذنة!
أحمد: إنَّ إعجابك بمدينتى يجعلني فخورًا!
السيِّدة: دون إعجابي … يجب أن تفخر بمدينةٍ من أقدم مدن العالم، وهي عاصمةٌ لدولةٍ كانت أوَّل دولةٍ في التاريخ، وأوَّل حضارةٍ من صُنع الإنسان!
أحمد: إنَّكِ على درجةٍ كبيرةٍ من الثقافة يا سيِّدتي!
السيِّدة: لقد أحببتُ مصر كثيرًا، وشجَّعت زوجي المرحوم «جياكومو» أن يخدُم القضيَّة العربيَّة.
أحسَّ «أحمد» أنَّ موضوع الحديث الذي حضر من أجله قد أصبح وشيكًا، فقال: بهذه المناسبة؛ لقد جئتُ للتحقيق في مصرع المرحوم السنيور «جياكومو».
نظرت السيِّدة إليه بدهشةٍ، وقالت: أنت؟!
ردَّ «أحمد»: إنَّني عضوٌ في مُنظَّمةٍ كان المرحوم السنيور «جیاکومو» يتعامل معها … ثمَّ أخرج من جيبه الشِّيك، وقال: وقد أرسل زعيم هذه المُنظَّمة هذا الشيك لك … إنَّنا نعلم بالطبع أنَّ لا شيء يُعوِّضك عن فقْد المرحوم، ولكن المُنظَّمة تدفع هذا المبلغ مكافأة نهاية الخدمة.
السيِّدة: شكرًا لك … وماذا أستطيع أن أُقدِّم من خدماتٍ؟
أحمد: إنَّني أُريد أن أسأل عن نشاط السنيور «جياكومو» في أيَّامه الأخيرة؛ مَن الذي كان يتَّصل به؟ … كيف تتمُّ الاتِّصالات؟ … سفرياته داخل وخارج «إيطاليا» … إنَّ أيَّة معلوماتٍ ستكون مفيدةً لي.
السيِّدة: إنَّني آسفةٌ؛ فليست عندي أيَّة معلوماتٍ … لقد كنتُ مريضةً خلال هذا الشهر، وقضيت في المستشفى أسبوعين، ولم أكن أعرف ما يدور … ولكن ابنتي «مادونا» كانت موجودةً.
واستأذنت من «أحمد» لتدعو «مادونا»، التي حضرت سريعًا … وقال «أحمد»: آسفٌ إذا كنت أُعطِّلك عن عملك أو مذاكرتك.»
مادونا: لقد انتهيتُ من دراستي الجامعيَّة.
أحمد: ماذا درستِ؟
مادونا: التاريخ السياسيَّ للإسلام.
أحمد: مُدهش! أنتِ تعرفين العربيَّة إذن؟
ردَّت «مادونا» — باللغة العربيَّة: طبعًا.
قال «أحمد»: هذا شيءٌ رائعٌ!
ساد الصمت لحظاتٍ، ثمَّ قال «أحمد»: أنتِ تعرفين ما حدث؟!
بدا الحزن على وجه الفتاة، وقالت: أعرف، بل كنت أتوقع ما حدث!
قال «أحمد» — في دهشةٍ: تتوقَّعين؟!
مادونا: نعم؛ ففي الأيام الأخيرة لم يکن أبي في حالةٍ طبيعيَّةٍ … كان مُتوتِّرًا، وقليل الكلام!
أحمد: هل تحدَّثتِ معه؟
مادونا: طبعًا، ولكنَّه كان كتومًا … ولكنِّي لاحظت أنه — بعد عددٍ من الأحاديث التليفونيَّة الأخيرة — يُريد أن يتحدَّث معي!
أحمد: هذا هامٌّ لي جدًّا؛ فقد حضرتُ للتحقيق في موضوعٍ ما حدث للسنيور «جياكومو».
وكما فعلت أمُّها قالت الفتاة: أنت؟!
أحمد: نعم؛ فأنا عضوٌ في المُنظَّمة التي كان يعمل بها السنيور «جیاکومو»، وقد کُلِّفت بمُهِمَّة البحث عن أسباب مصرعه … لقد كان من خِيرة رجالنا، وللأسف الشديد أنَّه لم يكن الضحيَّة الأولى؛ فقد سبق اغتيال رجُلَين آخرين من رجالنا!
مادونا: تمامًا؛ هذا ما حدث، وهذا ما دفعه لأن يكون مُتوتِّرًا قبل مصرعه … قال لي إنَّه يشكُّ في وجود شخصٍ خائنٍ في المُنظَّمة، يُبلغ إحدى العصابات بأخبار المُنظَّمة وتحرُّكات رجالها!