تعليمات متناقضة!
تركها «أحمد» تبكي؛ فقد كان يعرف أنَّ الدموع تُخفِّف عن النفس بعض أساها، وبعض أحزانها … وخرجت «مادونا»، وغابت دقائق، ثمَّ عادت أحسنَ حالًا!
نظر «أحمد» إلى ساعته؛ كانت قد تجاوزت التاسعة، فقام وهو يقول: سأنصرف الآن.
مادونا: هذا غير معقولٍ؛ إنَّك ستتناول معنا طعام العشاء.
أحمد: شكرًا لكما، ولكنِّي لم أُعِدَّ مكانًا للمَبِيت بعد.
مادونا: نستطيع أن نحجز لك غرفةً في أحد الفنادق بواسطة التليفون.
أحمد: ولكنِّي لا أريد أن أُتعِبكما.
مادونا: ليس هناك تعبٌ على الإطلاق! ثمَّ إنَّك لم تستمع إلى الأشرطة المُسجَّلة التي تركها أبي.
أحمد: كنت أظنُّ أنَّ في إمكاني أن آخذها معي؛ لأستمع إليها وحدي … إنَّني لا أريد أن أُجدِّدَ أشجانك!
مادونا: معذرةً لأنَّني بكيت!
أحمد: أبدًا … لقد كان أبوك رجلًا عظيمًا!
مادونا: شكرًا لك … متى تُحب أن تتناول طعام العشاء؟
أحمد: في الوقت الذي يُناسبكما، وليست لي مواعيد مُعيَّنةٌ؛ فحياة المُغامِر تجعله كالحيوان المُجترِّ … يأكل عندما يجد!
مادونا: ولكنَّك صغير السنِّ!
أحمد: إنَّ عمري ٣٠٠ سنة!
ابتسمت «مادونا» لأوَّل مرَّةٍ، وقالت: كيف؟!
أحمد: لقد خضتُ عشرات المعارك، وتعرَّضت للموت مئات المرات، وأُحِسُّ أنَّني عشت كثيرًا!
مادونا: سأطلب إعداد العشاء الآن، ثمَّ نستمع إلى الأشرطة بعد ذلك؛ فإنَّ أمِّي تنام مُبكِّرةً.
أحمد: شكرًا لك!
قامت «مادونا»، فأحضرت من أحد الأدراج سلسلةً من المفاتيح، ثمَّ خرجت، وغابت قليلًا، وعادت وفي يدِها صندوقٌ صغيرٌ من الخشب؛ فتحته أمام «أحمد»، وأخرجت منه مجموعةً من أشرطة التسجيل.
كان جهاز التسجيل موضوعًا بجوار التليفون، فانتقل «أحمد» إلى جواره، ووضعت «مادونا» الشريط الأوَّل قائلةً: إنَّ أبي وضع على كلِّ شريطٍ تاريخ تسجيله، وهذا هو الشريط الأوَّل حسب التواريخ.
وسمع «أحمد» صوت جرس التليفون يرتفع من جهاز التسجيل، ثمَّ سمع «تکَّة» خفيفةً … وسمع صوتًا يقول: ألو.
قالت «مادونا»: هذا صوت أبي!
ردَّ صوت رجلٍ — من الطرَف الآخر: سنيور جیاکومو؟
جیاکومو: نعم.
قال «الرجل»: كيف حالك؟
جیاکومو: «إنَّني على ما يُرام.»
الرجل: هل وصلتك التعليمات؟
جیاکومو: نعم، وفهمت أنَّ الخُطَّة قد عُدِّلَت.
الرجل: إنَّها تعليمات الرجل الكبير.
جیاکومو: أعرف ذلك.
الرجل: ستُقابل الرجل القادم من الشمال في «ستراسبورج»؟
جیاکومو: نعم.
الرجل: وسيكون ذلك في فندق «سان لوران».
جیاکومو: لا أدري لماذا قرَّرت اختیار «ستراسبورج»! ولماذا فندق «سان لوران»؟! … إنَّهم موجودون هناك بكثرةٍ!
الرجل: هذه تعليمات الرجل الكبير.
جیاکومو: سأُنفِّذها.
الرجل: قبل أن تتحرَّك، دعني أعرف كلَّ شيءٍ.
جیاکومو: سأُخطِرك.
انتهت المكالمة الأولى … وتذكَّر «أحمد» ملفَّ العمليَّات الذي قرأه قبل حضوره إلى «إيطاليا»، وعرف منه أنَّ المقرَّ الرئيسيَّ لعصابة «الخنجر الأسود» هي مدينة «ستراسبورج». وبعد لحظاتٍ، ارتفع صوت رنين التليفون من جهاز التسجيل مرَّةً أخرى، ثمَّ صوت نفس الرجل يتحدَّث إلى «جياكومو» … نفس البداية … ثمَّ قال: لقد تمَّ تعديل موعد ومكان العمليَّة.
جیاکومو: إنَّني أُلاحظ اضطرابًا في العمليَّات هذه الأيَّام!
الرجل: لأنَّ أعداءنا هذه المرَّة من عُتاة المجرمين واللصوص؛ إنَّهم فرعٌ من «المافيا»، ولكنَّهم أقوى بكثيرٍ، وأكثر دهاءً!
وفي هذه اللحظة دقَّ جرس التليفون … ورفعت «مادونا» السماعة، وأخذت تُنادي: هاللو … هاللو!
ثمَّ أبدت دهشتها؛ لأنَّ المُتحدِّث على الطرَف الآخر لم يردَّ … وأسرع «أحمد» يُغلق جهاز التسجيل، ووضعت «مادونا» السمَّاعة … ونظرت إلى «أحمد»، فوجدته وقد التمع بريق عينيه، وقال: «مادونا» … يجب أن تُغادِرا هذا المنزل فورًا!
مادونا: ماذا حدث؟!
أحمد: هناك شخصٌ يُحاول التأكُّد أنَّك موجودةٌ، وأظنُّ أنَّ شيئًا ما سيحدث هذه الليلة!
ثمَّ قام «أحمد»، وفتح نافذة الغرفة، وأخذ ينظر إلى الخارج، ثمَّ قال: إنَّه مكانٌ مثاليٌّ لمن يُريد مُهاجمتكم؛ فالمنزل في طرَف الشارع، وهو منعزلٌ عن بقيَّة البيوت، ويقع على صخرةٍ مرتفعةٍ!
ظلَّت «مادونا» صامتةً، ثمَّ دخل الخادم يُعلن عن الطعام، ومشت «مادونا» أمام «أحمد» إلى قاعة الطعام … وكانت تجلس في طرف المائدة، وأعادت الترحيب ﺑ «أحمد» … وبدأ الطعام، وكان واضحًا أنَّ «أحمد» كان مشغولًا عن الطعام بشيءٍ آخر … كان يُفكِّر في المكالمة التليفونيَّة التي لم يردَّ فيها أحدٌ، وهي حيلةٌ معروفةٌ في أوساط المجرمين؛ لمعرفة وجود الساكن في مسكنه من عدم وجوده!
وانتهت السيِّدة من تناول طعامها القليل، واستأذنت للذهاب إلى النوم، وبقي «أحمد» و«مادونا» معًا، وكان الخادم يقف في نهاية القاعة في انتظار أيَّة تعليماتٍ … ونظر «أحمد» إلى ساعته؛ كانت قد تجاوزت التاسعة والنصف، وسمع من الخارج صوت ريحٍ قويَّةٍ … وبعد لحظاتٍ بدأ المطر يهطلُ.
وقال «أحمد» ﻟ «مادونا» — بالعربيَّة: هل عندكم أسلحةٌ في المنزل؟
ردَّت «مادونا»: نعم؛ إنَّ أبي كان يحتفظ بمجموعةٍ من الأسلحة، منها مُسدَّساتٌ، ومنها بنادق، ومدافع رشَّاشة أيضًا.
قال «أحمد»: إنَّني أريد هذه الأسلحة فورًا؛ فإنَّني أخشى إن خرجتُما الآن أن تتعرَّضا للاعتداء في هذا الجوِّ المُمطِر!
مادونا: إنَّني لن أُغادر هذا المنزل مُطلقًا مهما حدث!
أحمد: أرجو أن نتمكَّن من الدِّفاع عن أنفسنا … إنَّني أتوقَّع أن يحدث شيءٌ!
مادونا: كان أبي يتوقَّع ذلك أيضًا!