بين يدي الطبعة الثانية
منذ خمسة عشر عامًا وهذا القلم ينطلق على أجنحة من هدى الله وتوفيقه، ليُحلِّق في سموات التصوف وآفاقه، يقتبس من كل نجم أبهى أشعته، ومن كل زَهر أطهر عبيره، ومن كل لحن أسمى أنغامه، ويمزج الطهر بالخير، والنور بالعطر، والشعاع باللحن، والجمال بالإيمان، ثم يتجلى رضاء الله فتتحول كل هذه المبهجات إلى كلمات مؤمنات مشرقات تضج بالحياة، وتنبض بالقوة، وتقدم زادًا روحيًّا للقلوب المتفتحة، ونغمًا علويًّا للأرواح العابدة، ومنهاجًا وضاء هاديًا لخير أمة أخرجت للناس.
منذ خمسة عشر عامًا كان مولد هذه الدراسات الصوفية التي تتابعت أجزاؤها، وتماسكت حلقاتها، واتحدت لبناتها في سبيل السمو والشموخ بالصرح الصوفي الذي تترقبه القلوب العابدة، وتأمل أن يكون حصنًا من حصون الإيمان، ونقطة ارتكاز قوية للوثبة الإسلامية الكبرى.
وشاءت عناية الله — ونحن أرقاء هذه العناية — أن يستقبل العالم الإسلامي هذه الدراسات استقباله لأضواء الفجر، وقطرات الغيث، فنفدت طبعاتها سراعًا، ولا يزال الحب يطالب بها، ويلح عليها، ويَسَّرَ الله — جل جلاله — فأُعيدت طبعات كتابي «الغزالي» و«محيي الدين»، وها هي ذي الطبعة الثانية من «التصوف الإسلامي والإمام الشعراني» مُحرَّرة مُنقَّحة، مضافًا إليها زيادات وتعقيبات لم تتيسر لنا في الطبعة الأولى، نقدمها لعشاق التصوف والروحانية الإسلامية، شاكرين فخورين. وما توفيقنا إلا بالله رب العالمين.
وهذا الكتاب هو واسطة العقد من هذه الدراسات؛ فقد تميز بمناهج كاملة للتصوف وأهدافه ورسالاته، وما يحمل بين أجنحته من خير وهدى ورحمة للموقنين.
كما عني عناية كبرى بتنقية التصوف من كل ما نُسب إليه ودُسَّ عليه من مذاهب فلسفية، ودجليات شعبية، مما امتلأت به حقائب التاريخ، وفاضت به صحف المغرضين ولحونهم.
إنه لصورة كاملة للثروة الصوفية الضخمة، صورة صادقة لأقوى روحانية عالمية مشت بين الناس بالسلام والجمال، والخير والحب، واليقين المشرق المبين.
ولقد جاءت هذه الطبعة الجديدة في ميقاتها الذي أراده الله، جاءت لتكون ردًّا حاسمًا على هؤلاء الذين أمسكوا بمزمار إبليس، وراحوا يريقون السحر الخادع المضلل هنا وهناك، لينالوا من التصوف والمتصوفة، وليتسللوا إلى منائر الإيمان محطمين مدمرين.
هؤلاء الذين ملئوا أفواههم بكلمات كأنها رءوس الشياطين غلظة وبشاعة، محاولين أن ينقضوا الصرح من أساسه، ويحطموا المحراب على الساجدين العابدين.
لقد أمسكوا وحدهم برحمة الله، ويبيعون الجنة لأنصارهم، واللظى والكفر والمروق لغير الساجدين على عتبات مَن يسجدون لهم، كل شيء بدعة، وكل شيء ضلالة، وكل تسبيحة جحود، وكل تكبيرة مروق إلا تكبيراتهم هم؛ حيث يحلو لهم التكبير والتهليل.
ولن نقف طويلًا مع خصوم التصوف التاريخيين. لقد صاحوا حتى شقت حناجرهم عبر القرون، ثم ذهبوا قبضة من رماد، وصيحة من شيطان، ذهبوا إلى الفناء، وبقي التصوف بمنابره ومنائره، ومواجيده ولحونه، يرشد الناس إلى ربهم، ويأخذ بأيديهم إلى الحياة الصاعدة الطاهرة.
ولست أدري كيف تكون الحياة لو خلت من ذلك الإيمان الصوفي القوي الحار الذي يملأ سموات الوجود بألحان الحب، وموسيقى السلام، ووثبات الأرواح، وأشواق القلوب.
إن المتصوفة لعمالقة بين أقزام، عمالقة في جهادهم لأنفسهم، عمالقة في أسلوب حياتهم، وألوان تعبداتهم، ومثالياتهم المُجنِّحة المتعالية.
وحسب النهج الصوفي أن الله — جل جلاله — خلَّده في قرآنه خلودًا لا يدنو منه الفناء: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
تلك هي حجتنا، وهذه آيتنا.
وبعدُ … تُرى هل ذهبنا بعيدًا ونحن نقدِّم كتابنا؟ إن الدفاع عن التصوف لهدف من أكبر أهدافنا، وعلى هذا الضوء تكون تلك الكلمات مقدمة طبيعية بين يدي «التصوف الإسلامي والإمام الشعراني».
وتبارك رب العزة القائل: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
٢٠ / ١٢ / ١٩٥٥