الأفق الأعلى
الشعراني هو آخر نجم بزغ في الأفق الأعلى؛ الأفق الأعلى للتفكير الإسلامي والنهج الصوفي.
ولقد درج التصوف مع الإسلام منذ يومه الأول أفقًا خاصًّا للقلوب المتصدعة من خشية الله، المتفجرة الينابيع بحبه ونجواه، وسماءً مجلوة للعقول السابحة في عجائب الكون، المفكرة في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من آيات للموقنين، العقول التي أودع فيها المهيمن نور الحكمة، ورزقها جلاء البصيرة، وفتوحات العبادة والطاعة، واتقوا الله ويعلمكم الله.
والقلب المتصدع العابد، والعقل المفكر المؤمن، والنفس المطمئنة الذاكرة المحبة يؤلفون معًا النفحة العلوية، المُعلِّمة المُلْهِمة، التي ترتفع بالإنسان وترتفع حتى يكون من المُلهمين الربانيين المندرجين تحت أفق قوله تعالى: عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا.
إن شئت فسم تلك المثاليات بالتصوف أو بالأفق الأعلى، وإن أحببت فليكن عنوانها نورانية العبودية أو الروحانية الإسلامية.
فالتصوف هو جماع تلك المثاليات، وهو الذي يرسم الأفق الأعلى لمن يتسامى، الأفق الأعلى المشرق بالروحانية الإسلامية، الأفق الأعلى الذي تتجلى فيه العبودية الكاملة بأنوارها وإلهاماتها.
وسبيل التصوف إلى تلك الآفاق هو الاستعداد الفطري الممثل في الحب الإلهي، ثم الذكر الدائم، والخلق الكامل، والتطوع المتواصل لما فوق الفرائض والنوافل.
وفي الحديث القدسي: «فلا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولإن استعاذني لأعيذنَّه.»
تلك هي مرتبة النوافل، وما أدراك ما هي؟ ولكن فوقها مرتبة التطوع الدائم؛ وهي جعل الحياة كلها ذكرًا وعبادة وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا.
وأفق تلك المرتبة؛ مرتبة العبودية الكاملة، الأثر المشهور: «عبدي أطعني تكن ربانيًّا؛ تقول للشيء: كن فيكون.»
وهذا الأفق جبار المرتقى لا يذلل لكل طالب، فلا يطيقه ولا يصبر عليه إلا صفوة من عباد الرحمن الذين اجتباهم واصطفاهم، وجعلهم أئمة وهُداة وورثة لأنوار النبوة المحمدية وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
وليس ما نقول ضربًا من الأشواق الوجدانية والسبحات الخيالية؛ «فقد روى أنس — رضي الله عنه — قال: بينما رسول الله ﷺ يمشي إذ استقبله رجل شاب من الأنصار، فقال له النبي — صلوات الله عليه: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنًا بالله حقًّا، قال: انظُرْ ما تقول؛ فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وإلى أهل النار كيف يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزمْ. عبدٌ نوَّر الله الإيمان في قلبه.»
وفي رواية أخرى عن محمد بن الحسن: «لكأني أنظر إلى ربي — عز وجل — فوق عرشه يقضي بين خلقه.»
ذلك عبد نوَّر الله الإيمان في قلبه. وما أجمل وأحلى هذا التعبير النبوي! فعاش في الأفق الأعلى، فتجلت عليه روح الإسلام، فحلَّق بأجنحة قلبه النورانية حتى رأى الملكوت الأسنى، فشاهد النار والجنة والعرش، ثم ارتقى فرأى الله — جل جلاله — وهو يقضي بين خلقه، رأى وشاهد تلك الآيات بعين الموقنين، عين الإيمان القلبي، وهو يخطر بقدميه على السيَّار الأرضي.
وقصة الخضر؛ العبد الذي ارتقى فاهتدى، فآتاه الله من لدنه علمًا باطنيًّا ربانيًّا معجزًا لا يسامقه علم، ولا تدانيه معرفة.
ذلك هو التصوف الذي كان له أكبر الأثر في توجيهات العالم الإسلامي الفكرية والتعبدية، بل أكبر الأثر في فتوحاته وانتصاراته العالمية، وفي رسم أهدافه ومثله العليا الاجتماعية والخلقية والروحية.
ذلك هو التصوف الذي استحال إلى شخصيات وبطولات ملهمة عبقرية تتفاعل مع الجماهير وتقودها فتهديها وترشدها، واستحالت تلك البطولات إلى قوة روحية زاحفة مشرقة بالنور، فياضة بالإيمان، تطير بألوية الإسلام، وتزكي شعلته، وتحفظ مثاليته، وتفتح له الآفاق في شتى الميادين العقلية والعلمية.
وهذا هو التفسير الصادق لهذا الحشد الخالد من الشخصيات العجيبة والبطولات الفذة التي حفل بها تاريخ التصوف، آيات معجزات لا تسمو عبقريات الدنيا إليهم، ومثاليات تخجل حياتنا حين نتحدث عنهم، وقوة روحية غلابة ملهمة لم يعرفها تاريخ الإيمان العالمي لسواهم.
ولا بد لنا حينما نتحدث عنهم من أن نعقد الصلات بينهم وبين الروح الصوفي الذي يعد مصدر هذه الطاقة، ومشعل نورها، وصانع أجنحتها.
ومقياس عظمة كل عبقرية من تلك العبقريات اللدنية هو استعدادها للترقي في المعارج العلوية، وطاقتها على تحمل العبودية الكاملة، والحب الإلهي الفاتح لباب الفيض الرباني.
والباب الموصل لتلك المعارج هو الاقتداء الكامل، والاحتذاء الصادق الصارم بالمثل الأعلى للإنسان الكامل، بالنبوة المحمدية — صلوات الله وسلامه على صاحبها.
تلك النبوة التي تلقت الفيض كله كاملًا، واستوعبته، وأطاقت تلقيه وصبرت عليه، وعاشت له وبه، فكانت رمزه الأعلى، وكانت أُفقَه الأسمى، وكانت معينه الزاخر الفياض الذي تكفي قطرة منه لصوغ عبقري ملهم من هؤلاء العباقرة الملهمين.
العباقرة الملهمين الذين عاشوا تحت أفق خاتم الأنبياء وسيد المرسلين — عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم — كلٌّ بقدر ما فيه من استعداد للتلقي، واستعداد للاستيعاب، واستعداد للصبر والتحمل، واستعداد للفيض والإشراق.
وهذا هو السر في فهم المتصوفة وإجلالهم للنبوة المحمدية، فهمًا وإجلالًا لا أغالي إذا قلت إنه يفوق مثيله في قلب كل محمدي.
لقد آمنوا بأن محمدًا رسولَ اللهِ هو المفتاحُ الرباني للأبواب الإلهية؛ حيث تهطل الفيوضات والفتوحات، وأن السر كل السر في المفتاح والباب، فكلُّ من حاد عن الطريق السوي؛ طريق الهدى المحمدي، فَقَدَ المفتاح وتوارى عنه الباب، فحُرم من الفتح والعطاء، وضلَّ سواء السبيل.
تلك هي المدرسة التي أنجبت عباقرة التصوف، مدرسة الاحتذاء والاقتداء بالسنن المحمدي، مدرسة العبودية الكاملة. ولقد كانت تلك المدرسة — ولا تزال — قلب الإسلام وروحه وأفقه الأعلى.
وتلك المدرسة المحمدية؛ مدرسة التفكر في آيات الله، والتعبد المتواصل في محاريب الحياة، وكل ما في الحياة محاريب ومساجد للمؤمنين الموقنين، مدرسة الحب الإلهي بما فيها من إشراق وإلهام وفيوضات، هي التي أنجبت أبا المواهب الزعيم العملاق عبد الوهاب الشعراني.
والشعراني عجيبة ضخمة من عجائب تلك المدرسة، أو إن شئت فعجيبة من عجائب التصوف، وصنيعة من صنائع الإيمان، ولطيفة من لطائف التقوى، وقبس من أقباس النور المفاض على الأرواح المتطهرة العابدة.
فدعك من البحث عن مدرسته العلمية، ودعك من البحث عن مناهجه ودراساته، فقد كوَّنته إلهامات القلب وسبحات الروح، وأبرزته الطاعة والخلوة والمحبة والحضرة، ورعته وحبته وزكَّته عناية الله ورضاه.
وليس معنى هذا أن الشعراني لم يكن عالمًا فحلًا، ودارسًا مبرزًا على معاصريه في علومهم ومعارفهم، وإنما نريد أن نقول إن تلك العملاقية العلمية التي ارتفعت به منارًا، فَنَتْ في نوره علوم معاصريه، وتضاءلت حياله معارف مصاوليه ومجادليه، كان سرها أنها من الأفق الأعلى، من النبع الرباني الذي لا تفنى إلهاماته، ولا تنضب إمداداته.
وحسب الشعراني أن رجال الاستشراق عكفوا على كتبه يستنطقونها، ويتلمسون أسرارها، ويقبلونها على أوجه شكوكهم الملحة، ويعرضونها على موازينهم القاسية، وخرجوا بعد الشوط الطويل يحنون الهاماتِ أمام العملاق الضخم الشامخ، ويطلقون القول معترفين في وضوح وصراحة بأن الشعراني أعجوبة من أعاجيب العباقرة المتصوفين، أعجوبة لا يكاد تاريخ الإسلام يعرف لها مثيلًا.
يقول المستشرق «فولرز»: «إن الشعراني كان من الناحية العلمية والنظرية صوفيًّا من الطراز الأول، وكان في الوقت نفسه كاتبًا بارزًا أصيلًا في ميدان الفقه وأصوله، وكان مصلحًا يكاد الإسلام لا يعرف له نظيرًا، وإن كتبه التي تجاوزت السبعين عدًّا، من بينها أربعة وعشرون كتابًا تعتبر ابتكارًا محضًا أصيلًا لم يسبق إليه أبدًا، ولم يعالج فكرتها أحد قبله.»
ويقول العلامة «ماكدونالد»: «إن الشعراني كان رجلًا دراكًا نفاذًا مخلصًا واسع العقل.» ويقول في موضع آخر: «إنه كان يجمع بين أعظم المميزات، وإنه كان مشرعًا ذا أصالة ونفاذ، وكان عقله من العقول النادرة في الفقه بعد القرون الثلاثة الأولى في الإسلام، وإنه رجل أخلاق تهزه أنفة عالية.»
ويقول المستشرق «نيكلسون» عنه: «إنه أعظم صوفي عرَفه العالم الإسلامي كله، وإنه منذ فتح المغول العالم الإسلامي ركدت الحركة الفكرية في الإسلام، واقتصر علماؤه على الجمع والتقليد، فلا نجد بوادر انطلاق، أو إنتاج خصب منتج، أو أي أثر لتفكير أصيل وضيء، باستثناء شخصيتين شاذتين؛ هما: ابن خلدون المؤرخ، والشعراني الصوفي. وكان الشعراني بالذات مفكرًا مبدعًا أصيلًا أثَّر تأثيرًا واسع المدى في العالم الإسلامي، يشهد به إلى يومنا إلحاح القُرَّاء إلحاحًا متواصلًا في طلب مؤلفاته.»
تلك هي شهادات العلماء العالميين الذين وزنوا الشعراني بموازينهم العلمية الدنيوية، لا بميزان النورانية الصوفية، ومع هذا فقد ارتفعت به موازينهم إلى القمة المنفردة شموخًا وخلودًا.
ولنعد إلى الأفق الأعلى؛ أفق التصوف الوعر العسير المرتقى، لقد صعد الشعراني في معارجه، وتنسَّم الذروة في محرابه، وتزعَّم وساد في آفاقه.
والصعود في تلك المعارج، وتنسُّم الذروة والزعامة والسيادة الصوفية قد أتيحت من قبل الشعراني لغير قليل في هذا الأفق.
ولكن الشعراني كان آخر نجم في ذلك الأفق؛ آخر نجم بحسب الترتيب الزمني؛ ولهذا انفرد وحده بخوض أعنف معارك التصوف في أحلك الأزمنة وأقساها وأشدها.
وحسبه أنه حارب كل معاصريه حتى المتصوفة، المتصوفة اسمًا لا معنًى، فلقد فقد التصوف في عصره حلاه وعلاه.
حارب وحده، وانتصر وحده، وارتقى الذروة وحيدًا، وأقام للتصوف دولة عاشت طوال حياته عزيزة غلابة.
حارب وانتصر في أشد العصور الإسلامية رهبة وظلامًا وجمودًا وجهلًا، فأطلق آية النور المبصرة التي تمحو الظلمات، وأعاد للفكر الإسلامي قوته وهداه، وأعاد إلى القلوب القلقة إيمانها وتقواها.
كانت الأمة الإسلامية قبيل عهده تعيش في ظلمات يعلو بعضها بعضًا، ظلمات خارجية تمثلت في أمواج بربرية من جنود المغول والتتر قادمة من المشرق تجتث الشعوب الإسلامية من أساسها، وتدمر حضارتها، وتطفئ شعلتها، وأمواج صليبية قادمة من المغرب فوَّارة بالغضب والتعصب، مشرعة السيف بالحقد والبغضاء.
وفي الداخل كانت الظلمات أشد وأقسى، كان الركود الروحي هو العلة الكبرى؛ فإن التسوية التي قام بها الغزالي بين المتصوفة والفقهاء كانت قد أهدرت من جانب الأشاعرة، الذين سلوا سيف الإجماع المصطنع ضد المفكرين تارة، وضد المتصوفة تارة أخرى.
حتى إن تاريخ الفكر الإسلامي بعد الغزالي منذ القرن السادس الهجري هو تاريخ النزاع المشبوب بين المتصوفة والأشاعرة من جهة، وبين المتصوفة ورجال الحديث من جهة أخرى، وأعقب هذا الصراع العنيف هبوط فكري عام في قواهم جميعًا، كما تنتج المعارك الحربية الضعف والانهيار في القوات المتحاربة، وتحمل العالم الإسلامي بأسره وزر تلك المعارك الجدلية الهوجاء جهلًا وجمودًا، وبلادة ذهنية، وخمودًا روحيًّا قاتلًا.
وجاء ابن تيمية في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد في قعقعة وزوبعة، يملأ الدنيا صياحًا ضد كل مفكر سواه، ويخص بحملته الكبرى ومعركته العظمى التصوف والمتصوفة.
نادى ابن تيمية بالمعنى الحرفي للقرآن، ولم يقبل في الآيات المجسمة تأويلًا، وفسَّق كل المذاهب الإسلامية في علم الكلام، وحرَّم الاجتهاد على الناس جميعًا وأباحه لنفسه، فحدد صفات الله تعالى حسب رأيه، وحرَّم زيارة الأولياء وقراءة القرآن لهم، وتغالى فنادى بأن من يزور قبر الرسول — صلوات الله وسلامه عليه — تقربًا أو طلبًا للشفاعة فهو ضال مبتدع.
وعاش ابن تيمية حليف السجون، ومات سجينًا، ولكنه كان قد أطلق صيحة ملتهبة متوقدة الجمر، وتناول أتباعه كلماته فضخَّموها وألبسوها أردية فضفاضة زادت نار الحرب وقودًا وضرامًا، حتى امتلأت شوارع القاهرة بالصراع والدماء بين أتباعه والمتصوفة، كما يقول الجبرتي.
وكان السبب الأكبر في هذا الجدل والحوار، وفي تلك الخصومات المجنونة الرعناء، هو أن النهضة الإسلامية العلمية كانت قد خمدت جذوتها، وخبا ضوؤها، وأخذت البدع والخرافات والأساطير تنطلق في أفق العالم الإسلامي.
لقد ذبل المشعل الذي ظل يتقد عشرة قرون، والذي أنارت أشعته الفكرية أرجاء الوجود، ذبل بل فني مخنوقًا في الظلمات.
ويكفي لتصوير ظلمات هذا العصر أن التصوف، وهو قلب الإسلام النابض، أصبح في تلك الصورة المهلهلة التي رسمها الشعراني بقلمه: «كان التصوف حالًا فصار كارًا، وكان احتسابًا فصار اكتسابًا، وكان استنارًا فصار اشتهارًا، وكان اتباعًا للسلف فصار اتباعًا للعلف، وكان عمارة للصدور فصار عمارة للغرور، وكان تعفُّفًا فصار تملُّقًا، وكان تجريدًا فصار ثريدًا.»
يكفي لتصوير هذا العصر المظلم أن الشعراني يحدثنا عن رجل يُسمى الشيخ شعبان المجذوب كان يجلس على كراسي المساجد أيام الجمع وغيرها، ويقرأ ما يزعم أنه قرآن كريم، وقد سمعه الشعراني يقول على طريقة قراءة القرآن: «وما أنتم في تصديق هود بصادقين، ولقد أرسل الله لنا بالمؤتفكات يضربوننا، ويأخذون أموالنا، وما لنا من ناصرين.»
في تلك الظلمات، وفي هذا الجو الزاخر بالجهالات، بزغ نجم الشعراني متلألئًا مشرقًا كأنه ظاهرة كونية جاءت في موعدها المحدد، ووقتها المرسوم.
جاء كموجة صوفية أطلقها البحر الأعظم لتجتث كل شيء من جذوره، ثم تنحصر فتملأ الدنيا خصبًا ونماء وبركة ونورًا.
وهبه الله ومنَّ عليه فكان كما صاغته عناية الله ورحمته، وكان أينما شرع قلمه تحف به الهبات والمنن؛ فيأتي كَلِمُه زخَّارًا باليقين والهدى.
جاء مكافحًا مصلحًا، وزعيمًا قائدًا، ومرشدًا هاديًا، فتمثلت فيه خصائص تلك الصفات، فكان كما لُقِّب: أبا المواهب.
حرر التصوف من الأساطير والبدع، وجلاه محمديًّا قرآنيًّا، كما أراده الله لعباده، قوة روحية محلقة في الأفق الأعلى.
وحرَّر الفقه من جموده وتزمته، فكان الأصولي الألمعي الذي مزَج الفقه بحرارة الإيمان، فأنقذه من الجفوة والجفاف، وحبَّبه إلى الجماهير يوم جعله لا مجرد أحكامٍ شرعية فحسب، بل حقائق روحية مشرقة.
وحرَّر علم الكلام — التوحيد — من نزوات المُجَسِّدين، وأهواء المُجادلين، وأعاده إلى نوره ورونقه الإيماني الذي عرَفه واهتدى به الصدر الأول والتابعون.
وأنقذ الأمة الإسلامية من الجدل والحوار والجري وراء الأوهام والخيالات، وردها إلى النبع الصافي والعمل الخالص لوجه الله.
ولم يُنسه جهاده الديني زعامته الشعبية، فكان المصلح الاجتماعي المدافع عن الفقير والمسكين والضعيف، القائم في وجه الولاة والحكام يرفع كلمة الحق، وينتزع حقوق الضعفاء من الأقوياء.
ووقفت الدنيا في عهده ترقب كلمة مِن فيه، أو إشارة من يده، فهو الملجأ والملاذ للمظلوم ينشد حقًّا، وللظالم يطلب رحمة، وهو المرشد الهادي إلى حقائق الإيمان، ولطائف العقائد، ومشكلات الفكر والحياة، وهو الزعيم الحبيب الذي إذا غضب اضطربت لغضبه قلوب الملايين.
وهو — بعد هذا وذاك — مؤرخُ التصوف والمتصوفة، وخليفة الغزالي الأوحد على الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والتعبدية في الإسلام، والمدافع الأكبر عن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، فيلسوف التصوف العبقري، ومحيي عالم الزوايا التي يعمرها القرآن، والتي يُسمع فيها ذكر الله آناء الليل وأطراف النهار.
وقد رُوِي عن النبي — صلوات الله عليه وسلامه عليه — عن ربه — عز وجل — في الحديث القدسي: «إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري، وأُذكر بذكرهم.»
تلك علامة المتصوفة، وآية الشعراني، وفي الخالدين مَن يُذكر بذكر الله، ومن يُذكر الله بذكره …