رسالة التصوف
تكلمنا عن حياة الشعراني وما اتصل بها من أحداث تاريخية، ونحاول الآن أن ندرس ما تركه للفكر الإسلامي من علوم ومعارف، وما تركه للروحانية الإسلامية من جولات صوفية ومعارف لدنية، وما كان لهذا وذاك من أثر في توجيهات الحياة الإسلامية العقلية والعلمية.
والشعراني لسان صدق من ألسنة التصوف التي أبدعت آياته الكبرى، ومنارة من مناراته العظمى التي قامت على مفترق الطرق الروحية والعقلية، ترشد السائرين إلى الله، وتهدي الحائرين المتعبين إلى شواطئ السلام واليقين.
وله بعد ذلك في التصوف رسالة ما أحسب أن أحدًا — باستثناء الغزالي — حمل أعلامها، أو جاهد في سبيلها مثلما حمل الشعراني وجاهد.
وتلك الرسالة هي تنقية التصوف من الدخيل والدخلاء، وتجليته نهجًا إيمانيًّا تعبديًّا خالصًا لله، هدفه الطاعة الكاملة، والعبودية الصادقة، والمحبة الروحية بأنوارها وآدابها السامية، لا يعرف الجدل ولا الحوار، ولا يقر الشطح والسبح الفلسفي.
وربط المعارف الصوفية اللدنية بالعلوم الإسلامية الظاهرية، والخروج بالأمة الإسلامية من الجدليات والخلافات، إلى روح الدين وجوهره، إلى اليقين الثابت، والعمل الصالح، والوحدة القلبية والفكرية، وإقامة أسس الحياة على الرحمة والمحبة لا على الشقاق والجدل البغيض.
والشعراني ككل المتصوفة مفتاح شخصيته في تصوفه وروحانيته، فالشخوص الصوفية قد يتراءون أشباحًا باهتة الظلال للعين المادية، وقد يتراءون في عدسات الباحثين المنطقيين في أردية السذاجة والبساطة حينًا، وفي أردية الغموض والإبهام أحيانًا.
ومرد هذا ارتفاعهم الروحي الهائل عما ألف الناس واعتادوا من ألوان وأخلاق، وعما ألف الناس واعتادوا من معارف نظرية وعقلية؛ ولهذا تُخطئهم العين المجردة كما تخطئهم العدسات المادية.
إننا في حاجة إلى عدسات روحية خاصة حينما نتعرض لتلك الأرواح كما نحتاج إلى مكبرات خاصة حينما نتطلع إلى نجوم السماء.
فقوة المتصوف العظمى إنما تكمن في روحه، فكلما اقتربنا من دائرته الروحية تجلت لنا آياته، وتجلت لنا شخصيته، وتجلت لنا عملاقيته الروحية والعلمية؛ لأنهم شخوص كونتهم العقيدة، وصاغتهم الروحانية؛ ولهذا نقترب من فهمهم ونقترب منهم كلما اقتربنا من التصوف ومن فهم التصوف.
وإذن فلا بد لدارس شخصية الشعراني من أن يتحدث عن التصوف؛ فالحديث عن الروح الصوفي هو المدخل لدراسة كل متصوف إسلامي.
ودارس التصوف الإسلامي يرى نفسه بادئ بدء وسط أمواج صخابة، وبحار زاخرات، بل وسط دوامة مفرغة الحلقات لا يجد لعبابها شاطئ، ولا من نوئها عاصم.
فقد امتلأ موكب التصوف بالدخلاء من كل نحلة ولون، كما دست على المعارف الصوفية عقائد تكاد تتمثل فيها عقائد الكوكب الأرضي كافة.
وطريق البحث بعد ذلك ليس معبدًا، بل ليس آمنًا؛ فالباحث يجد أمامه مزاجًا عجبًا من الأخبار المتشابكة المتضاربة التي امتزج فيها الحصى بالجواهر، وامتزجا أحيانًا حتى يحتاج الدارس إلى معمل فكري للصهر والتمييز.
وما يجده الباحث من حر الجواهر إنما يجده متناثرًا لا يُكوِّن وحدة فكرية، ولا يقيم مبحثًا علميًّا متناسقًا، فهو بحاجة إلى صبرٍ مددُه من عند الله؛ حتى يستطيع أن يُؤلِّف بين هذه الأجزاء، ويرد كل جوهر إلى عقده، حتى يستقيم البحث، وحتى يتجلى جمال اللؤلؤ المكنون.
وكثيرًا ما يجد الباحث نفسه أمام ألوان فلسفية مادية، وألوان من التأملات الجامحة، وألوان من الشطحات المضللة أدخلت على التصوف وهي ليست من روحه، ولا من عقيدته، وأعسر من هذا وأشد قسوة أن هذه الألوان قد دسَّها المغرضون والمزيفون في كتب الأئمة والقادة من رجال التصوف، ومشى هذا التزييف على التاريخ حتى أصبح جزءًا منه.
وكتب المناقب التي عنيت بالتصوف ورجاله كثيرة ومتنوعة، ولكن كثرتها لا تهدي السبيل، ولا تنير الطريق؛ إذ إنها طوائف من الأخبار تسودها المبالغة حينًا، والاضطراب أحيانًا، ويجري فيها الدس والتزييف تارة، والإيهام والغموض تارة أخرى.
وتأتي بعد ذلك دراسات المستشرقين الذين ساهموا بقصد أو بغير قصد في تشويه التصوف وتغيير وجهه؛ لأنهم اتجهوا بدراساتهم إلى ألوان من التصوف لا تعتبر من صميمه، ولا تعبر عن شخصيته، اتجهوا إلى السبحات الفلسفية والشطحات القلبية، وهو لون دخيل على التصوف لحق به في إحدى مراحله المتأخرة، حينما انتقل من القلوب إلى العقول، ومن التعبد إلى التأمل، حينما انصرف بعض المنتسبين إلى التصوف إلى نظريات في الوجود، ونظريات في المعرفة لا يعترف بها الإسلام، ولا ترضى عنها الألحان الصوفية المؤمنة.
ثم جاءت في أعقابهم كتب المؤرخين المعاصرين من رجالنا، فإذا بهم يجرون في أعقاب أساتذتهم من رجال الاستشراق، وإذا بهم يقعون — كما وقع أساتذتهم — في أحابيل خصوم التصوف القدامى الذين دسُّوا عليه وزيفوا ألحانه، وإذا بهم أيضًا يعنون بالشكليات، ويغرمون بالشاذ من الآراء، ويُولعون بإبراز الكلمات المهزوزة، كما أولع الأوروبيون بها من قبل، الكلمات المهزوزة التي استنبطوا منها تارة فكرة الحلول والاتحاد، وتارة نظرية وحدة الوجود، وإذا بهم يتحدثون أيضًا كما تحدث شيوخهم عن الصلات بين التصوف الإسلامي والوثنية الهندية، والتصوف المحمدي والروحانية المسيحية.
ودارت أقلامهم في هذا المجال، وتشعبت بهم السبل حتى أسلمتهم إلى نظريات وصور قد تنتسب إلى كل نحلة عرفها العقل الإنساني ما عدا النهج الرباني الإسلامي.
وأغفلوا تمامًا جوهر الإسلام وروحه، وهما أبعد ما يكونان عن هذه الألوان والصور، ولم ينظروا إلى منابته المحمدية، وعقيدته القرآنية، وأخلاقه المثالية، وتعبداته السامية، وتراثه في المعرفة، وهو أصدق صور الإيمان المحمدي، وأعلى ذرى الهدى القرآني.
فهي إذن محاولة جريئة وشاقة تلك التي نحاولها؛ إذ نحاول تنقية التصوف مما دُسَّ عليه وأُلحق به، وتمزيق الحجب التي توارت خلفها أنواره، واختفى في طياتها بريقه وسناؤه، حتى نجلوه ربانيًّا إسلاميًّا خالصًا كما عرفه الأولون الذين عاشوا في محاريبه ومعابده وأنواره ومعارجه.
ولقد شهد التاريخ محاولات سابقة في سبيل هذه الرسالة العليا؛ فلقد قام حجة الإسلام الغزالي في القرن الخامس الهجري بحركته الإصلاحية الكبرى في سبيل تجديد التصوف، وتنقيته من الألوان الفلسفية التي دسَّها عليه خصوم الإسلام من أصحاب المذاهب الباطنية، ومن الدجل الشعبي الذي أدخله عليه جهلة العوام وبعض طوائف المتحررين من الأخلاق، كما قام بهذه الرسالة العظمى بقوة ونجاح القطب الشعراني في القرن العاشر الهجري.
ونحن اليوم في حاجة ملحة إلى تصفية جديدة، وتنقية جديدة، وحركة تجديدية أخرى، نحن في حاجة إلى جهود متوافرة لدراسة التصوف وتنقيته من الشوائب، ومما زور التاريخ، ومما أدخل الرواة، ومما دُس عليه، ونُسب إليه، وحفَّ بروحه، وتعلَّق بأرديته، حتى نردَّه إلى فطرته الأولى، فنرده إلى القلوب إيمانًا، وإلى الأخلاق طهارة، وإلى المثالية عنوانًا ورمزًا، بل إلى الإنسانية بأسرها سلامًا وسعادة وأمنًا.
وإني لكبير الأمل في أن تكون الدراسات التي نُقدمها هنا، بداية موفقة لتلك الحركة المباركة، أو على الأقل منظارًا يرشد إلى طريقها، ويهدي إلى سبلها.