الطريق الرباني والمعارف الإلهية
الكشف الباطني والفيض الرباني هما عنوان التصوف الإسلامي، وهما المحور الذي تدور حوله المعارف الصوفية، كما تدور حوله الخصومات بينهم وبين رجال الفكر من أصحاب المذاهب النظرية والعقلية، وبينهم وبين رجال العلم الظاهري من الفقهاء الذين قدسوا القواعد التي ابتكروها للمعرفة، وتنادوا بأنها دون سواها الحكمة وفصل الخطاب.
وأنا أجرؤ فأقول: إنه لا الكشف الباطني ولا الفيض الرباني هدفًا من أهداف المتصوفة الإسلاميين، ولا غرضًا من أغراض العباد الربانيين.
إنما هدفهم الأول عبادة الله عبادة خالصة له دون سواه، عبادة تقربهم منه وتدنيهم من رضاه، وقد تفننوا في هذه العبادة وجعلوها شرعة ومنهاجًا، وكوَّنوا من فلسفتها آدابًا وأخلاقًا، وسبحوا في بحارها سبحًا طويلًا، فكانت قوتهم، وكانت حياتهم، ومن تلك العبادة كان ذوقهم وكان لحنهم.
والمتصوفة حقًّا هم العاملون لا المتكلمون، هم الذين تطوعوا لله فوق الفرائض والنوافل، وترقوا في هذا التطوع حتى تكونت لديهم حساسية إيمانية، أو طاقة تعبدية، تكاد تدخل في نطاق المعجزة، حتى إنهم ليراقبوا الله مع أنفاسهم، فكل نفس يخرج من صدورهم فهو لذكر الله، أو استغفار، أو تضرع، أو نجوى.
وتلك العبادة الدائمة الخالصة أدنتهم من الله وقربتهم، فأحبهم وأحبوه، وأنس بهم وأنسوا به، ورضي عنهم ورضوا عنه، فغمرتهم أنوار المحبة، وفاضت حياتهم بالنور والسعادة والأنس والقرب، فتكونت لهم فلسفة في المحبة جعلوها شرعة ونهجًا، وأنشودة ولحنًا، ومن تلك المحبة كان ذوقهم وكان لونهم، ومنها تفرعت مقاماتهم وأحوالهم، وعليها كان تحليقهم وكانت معارجهم.
ثم أفاض الله عليهم المعارف اللدنية جزاءً وفاقًا، ومنحهم الكشف الباطني هبة وعطاء، ورزقهم فوق هذا رزقًا أضمروه، فكان السر الذي ضنوا به حينًا، ورمزوا إليه أحيانًا، وسر هذا السر يلتمس عند الأثر المشهور: «عبدي، أطعني تكن ربانيًّا تقل للشيء: كن فيكون.»
ذلك فصل الخطاب في التصوف؛ فالكشف الباطني والعلم اللدني والخوارق والكرامات لم تكن هدفًا ولا غرضًا ولا أملًا لدى المتصوفة، وإنما كانت هبة ومنحة وعطاء ربانيًّا.
والكشف الباطني والعلم الرباني، رغم ما دار حوله من جدل وحوار، ورغم ما أثير بسببه من ملاحاة وخصومات، ورد به القرآن الكريم، ووردت به الأحاديث الصحيحة.
قال تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ، إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا، عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.
وقصة موسى والخضر معروفة ومعروضة في القرآن الكريم عرضًا مبينًا تجلَّت فيه مكانة العلم اللدني والمعرفة الباطنية التي أوتيها الخضر من لدن ربه.
ووردت هذه القصة في كتب الأحاديث الصحاح بصورة مجلوة ناطقة بأن العلم لله وحده، ثم هو للإنسان عارية، يمنحه الله لمن يشاء — نبيًّا كان أو وليًّا.
عن أبي بن كعب، عن النبي — صلوات الله وسلامه عليه — قال: قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إلى الله، فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب، وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتًا في مكتل، فإذا فقدته فهو ثَمَّ. فانطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، وحملا حوتًا في مكتل حتى كانا عند الصخرة وضعا رأسيهما فناما، فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وكان لموسى وفتاه عجبًا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبحا قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا؛ لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا — ولم يجد موسى مسًّا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به — فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت! قال موسى: ذلك ما كنا نبغي. فارتدا على آثارهما قصصًا، فلما انتهيا إلى الصخرة إذا برجل مسجًّى بثوب — أو قال مسجى بثوبه — فسلم موسى، فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدًا؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا يا موسى؛ إني على علم من علم الله علَّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علَّمكه الله لا أعلمه.
الخضر على علم من علم الله علَّمه إياه لا يعلمه موسى، وموسى على علمٍ علَّمه له الله لا يعلمه الخضر؛ فالعلم إذن علم الله، يهبُ منه ما يشاء لمن يشاء، والعلم صفة من صفات الله يفيض منه على عباده بنِسَبٍ حكمتها عند فاطر السموات والأرضين، وسرها عند من أوحى إلى النحل، وأنطق النمل، وألهم الطير تسبيحه، يقول تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا.
ويقول الغزالي في الرسالة اللدنية مفصلًا بين العلمين الباطني والظاهري، ومدللًا على شرف العلم اللدني وسيادته: «وبيان هذا يوجد في قصة آدم — عليه السلام — والملائكة، فإنهم تعلموا طول عمرهم، وحصلوا بفنون الطرق كثيرًا من العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات، وأعرف الموجودات، وآدم — عليه السلام — ما كان عالمًا؛ لأنه ما تعلم وما رأى مُعلمًا، فتفاخرت الملائكة عليه فقالوا: نحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ونعلم حقائق الأشياء، فرجع آدم — عليه السلام — إلى باب خالقه، وأخرج قلبه عن جملة المكونات، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلَّمه جميع الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين؟ فصغر حالهم عند آدم، وقلَّ علمهم، وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز! قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، فقال تعالى: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فأنبأهم آدم — عليه السلام — عدة مكنونات العلم ومستندات الأمر، فتقرر الأمر عند العقلاء أن العلم الغيبي اللدني أكمل من العلوم المكتسبة.»
وإذن فالعلم اللدني مقرر في أصول الشريعة الإسلامية، مبين اللحن في القرآن والسنة المحمدية، ولكن ومن عجب أن المتصوفة قد هوجموا هجومًا عنيفًا قاسيًا بسببه من العقليين والفقهاء، وخاصة فقهاء الحنابلة، الذين كان إمامهم الجليل أحمد بن حنبل من رءوس التصوف وأعلامه بأخلاقه وتعبداته ولون حياته، وهو القائل: «ليس العلم بكثرة التلقين والرواية، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من أحبه وأطاعه.»
وأعجب من هذا العجب أنهم يهاجمون هذا العلم الصوفي في موقف النقد للمتصوفة، ثم يقررونه في مواقف أخرى إذا راق لهم الأمر، فابن تيمية — وهو رأس تلك الطائفة الناقدة المُجرِّحة — يشرح في رسالته معنى الوحي ثم يُعقب قائلًا: «والإلهام بالمعنى السالف للمؤمنين جميعًا بيقين.» ثم يتحدث عن الفيض الرباني فيقول: «وهو لمن أطاع الله واتقاه.» ويستشهد على ذلك بالآيات والأحاديث مهللًا ومكبرًا لحديث أبي هريرة، الذي رواه البخاري عن رسول الله — صلوات الله وسلامه عليه: «… ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها.» ثم يقول: وهذا الحديث غاية الغايات في الإلهام والفيض.
ويقول ابن القيم — تلميذ ابن تيمية الأكبر — في كتابه «الوابل الصيب»: «الذكر شجرة، وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها، فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد.»
وإذن فحتى خصوم المتصوفة قد سلموا بالكشف والفيض والإلهام، والمذاهب الروحية العالمية جميعها تؤمن بأن الصفاء الروحي والزهد والإعراض عن مفاتن الدنيا ومباهجها طريق للمعرفة، وطريق أيضًا للخوارق والهيمنة على عناصر الطبيعة.
يقول الأستاذ العقاد في كتابه عن غاندي، شارحًا لصلاة غاندي وأثرها في تكوينه، ومقامها من زعامته: «وصلاة غاندي هي أعظم شيء في بنيان عقيدته، فنحن لهذا نقترب من فهمه كلما اقتربنا من فهم صلاته؛ لأن الصلاة عنده لا تنبت عن طلب أو استغاثة أو ابتهال، ولكنها تنبعث إلى حس فوق الحس، وفوق التفكير، وفوق الطلب والابتهال، وهي عنده أعلى مراتب الوعي الذي يتاح للكائن الموجود؛ لأن الروح الإلهي — في اعتقاده — سارٍ في جميع الموجودات، ولا يزال الإنسان محصورًا في أوهاق الجسد أو في أوهاق المادة على العموم، ما دام معتمدًا على الحواس، أو على العواطف، أو على التفكير في إدراك ما حوله، ولكنه يرتقي إلى مرتبة من الوعي أعلى من مراتب التفكير عندما يدرك الروح خالصًا مُنزَّهًا من هذه الأوهاق.»
ثم يقول نقلًا عن غاندي: «إن من يختبر سحر الصلاة قد يستغني عن الطعام أيامًا ولا يستغني عن الصلاة لحظة واحدة؛ لأن الصلاة هي من صميم قلب الحياة الإنسانية».
وإذن فسيطرة الإنسان على جسده، وقمعه لشهواته، وتحليه بالفضائل، والتجاؤه إلى الله يتيح له فوق الإلهام وفوق المعرفة قوة خارقة يسيطر بها على الطبيعة، ويرتقي إلى حالة تقهر المادة وتصنع الخوارق.
يقول الإمام الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» مدللًا على صحة الإلهام وأثره في الأرواح: «لو لم ير الإنسان المغناطيس وجذبه للحديد وقيل له ذلك لاستنكره وقال: لا يتصور عقلًا جذب الحديد إلا بخيط يشد عليه ويجذب به، فإنه المشاهد في الجذب، حتى إذا شاهده تعجب منه، وعلم أن علمه قاصر عن عجائب القدرة.»
ثم يقول: «وفي خزائن القدرة عجائب وغرائب ينكرها من يظن أن لا وجود إلا لما يشاهده.»
وجاء في كتاب «الفلسفة القرآنية» للعقاد تعليقًا على كلمة الغزالي: «وما يقال عن جذب المغناطيس يقال عن جذب الكواكب أو تجاذبها على هذه الأبعاد الشاسعة في السماء، فإن انتقال التأثير من الجاذب إلى المجذوب حقيقة لا ريب فيها، ولكنها لا تفسر إلا بالفروض والتخمينات، وتقدير الوسائل التي لا يثبتها العيان ولا يقع بها البرهان.
والعجيب أن أدعياء العلم والعقل يشاهدون هذا وأمثاله، ويسمعون تعليله الذي يختلف فرضًا بعد فرض، وتخمينًا بعد تخمين، فيسكتون ويسلمون أنه معقول ومفهوم، ولكنهم يستكثرون تأثير الروح في الأرواح، وتأثير العقل في العقول؛ لأنهم يريدون أن يلمسوا بأيديهم كيف تؤثر، وكيف تتأثر، ولا يقبلون هنا ما يقبلونه في عالم الحس والعيان.»
ثم يقول: «وأقرب الكائنات إلى الله هو الكائن الذي يعي ذاته، ويعي موجده — أي الإنسان — ويستمد منه قبسًا من القدرة الإلهية.»
أجل لا حيلة لنا في هؤلاء الناس الذين يؤمنون بعجائب الظواهر الطبيعية التي تبنى على الفروض والتخمينات، ولا يريدون أن يؤمنوا بمثيلاتها في عالم الروح، بل يريدون متعنتين أن يلمسوا بأيديهم قدرة الله الخارقة، ويريدون أن يلمسوا بأيديهم كيف يلهم الله من أحب من عباده، وكيف يعلمهم من لدنه علمًا. لا حيلة لنا في هؤلاء وأمثالهم من المتفلسفين على جهالة، إلا أن نقول لهم كلمة شكسبير على لسان هملت: «إن السماء والأرض — يا هو راشيو — تحويان من الأسرار ما لا تحلم به فلسفتك.»