هل تتعارض المعارف الصوفية مع القرآن والسنة؟
روى أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي «أن الإمام علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — سُئل: هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه.»
وكلمة الإمام علي — كرم الله وجهه — مفتاح من مفاتيح التصوف، أو مفتاح من المفاتيح التي تؤدي بنا إلى فهم حقيقة الروح الصوفي.
لأن عماد التصوف وقوامه في المعرفة هو الفهم في الدين، والبصر بالتأويل، فهمًا يعطيه الله لمن ارتضى من عباده، واستنباطًا يهدي إليه الله من أحب واصطفى.
وهذا الفهم وذلك الاستنباط من مِنَح الله لعباده، فلسنا إذن في حاجة إلى أن نقول إن شرطهما هو موافقتهما للكتاب والسنة؛ فتلك بديهة من بديهات العقول.
فكما أن العبادات في التصوف قوامها تطوع لما بعد الفرائض والنوافل، كذلك علم الباطن هو معانٍ واستنباطات وفهم في القرآن فوق ما يعطيه العلم الظاهر.
فليس هناك مثلًا فهمًا باطنيًّا يزيد أو ينقص من الفرائض، ولا فهمًا باطنيًّا يعطل شيئًا من الشرائع، وإنما هو فهم في المعنويات، وفهم في الكمالات التعبدية والتحليات الأخلاقية.
يقول الشعراني في الطبقات الكبرى: «ثم اعلم أخي أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم وآداب وأسرار وحقائق تعجز الألسن عنها، نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا من علة العلل وحظوظ النفس، كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو، فمن جعل علم التصوف علمًا مستقلًّا؛ فقد صدق، ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق، كما أن من جعل علم المعاني والبيان علمًا مستقلًّا صدق، ومن جعله من جملة علم النحو فقد صدق.»
ثم يقول: «ولكنه لا يشرف على ذوق أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة، إلا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ الغاية، ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة، على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات وآداب ومكروهات.»
وتلك الكلمة للشعراني من الآيات التي توضح موقف التصوف من الشريعة الإسلامية، ومن الآيات المبينات للنهج الصوفي الصادق.
فليس من رسالة التصوف البحث في فرائض الأحكام الشرعية، ولا البحث في الصفات الربانية، ولا الجدال والحوار في المعارف الفلسفية والمذاهب العقلية.
وإنما التصوف تطوع دائم للعبادة. وهذا التطوع التعبدي جعل أربابه يستنبطون ألوانًا من الأدب يُجمِّلون بها أنفسهم وهم قِيامٌ بهذه العبودية، وألوانًا من الواجبات في الذكر والخلوة والسلوك، وألحانًا من المعرفة ترقرقت لهم من مراقبتهم لأنفاسهم، وتفتيشهم لقلوبهم، وتجلت لهم في مواجيد الأنس والمحبة، كما أنهم فرضوا على أنفسهم زهدًا خاصًّا جعل لهم حساسية مشرقة، وذوقًا ملهمًا في طرائق العبودية؛ لأنهم ينشدون الكمال في تلك العبودية؛ ولأنهم آمنوا بأنها هدف الحياة وغاياتها العليا، أو كما يقول الحسن البصري: «إن في زماننا رجال ينظرون إلى مسائل كأنها شعرة، ولقد أدركنا رجالًا كانوا يعتبرونها من الكبائر.» وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: «إظهار المحبرة من الرياء.» وهو معنى في التواضع لا يعرفه إلا الأصفياء، ويقول رسول الله — صلوات الله وسلامه عليه: «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس.» رواه الترمذي.
ذلك محور التصوف الصادق، وتلك دائرته، وكما حفظ علماء الظاهر حدود الشريعة وأحكامها، كذلك يحفظ المتصوفة للشريعة آدابها وروحها، وكما أبيح للفقهاء الاجتهاد في استنباط الأدلة واستخراج الحدود والفروع، والحكم بالتحليل والتحريم على ما لم يرد فيه نص، وترك أمره للاجتهاد والاستنباط؛ فكذلك للعارفين أن يستنبطوا مما ألهموا وعرفوا وذاقوا أحكامًا في الأمور التي لم ينص عليها، ولهم أيضًا أن يستنبطوا آدابًا وأذواقًا ونهجًا للمريدين والعابدين.
فللتصوف علومه واجتهاداته التي ينفرد بها، ولتلك العلوم أثرها ومكانتها ومقامها بداخل حدود التشريع الإسلامي الظاهري.
ويقول الشعراني: «فمن دقق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة، وكيف تخرج والشريعة وصلتهم إلى الله — عز وجل — في كل لحظة.»
ثم يقول: «ولكن أصل استغراب من لا إلمام له بأهل الله أن علم التصوف من عين الشريعة، كونه لم يتبحر في علم الشريعة؛ ولذلك قال الجنيد: «علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، دالٌّ على من توهم خروجه عنها في ذلك الزمان أو غيره. وقد أجمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله — عز وجل — إلا من تبحر في علوم الشريعة، وعلم منطوقها ومفهومها، وخاصها وعامها، وناسخها ومنسوخها، وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعاراتها وغير ذلك، فكل صوفي فقيه ولا عكس. وبالجملة فما أنكر أحوال الصوفية إلا من جهل حالهم».»
صدق الشعراني؛ فإنه لا ينكر التصوف إلا من جهله علمًا وذوقًا، ولا ينكر طريق التصوف إلا عويلم ليست له ضلاعة في العلم، ولا مكانة في المعرفة. أما العلماء حقًّا من رجال الفقه والاجتهاد والفُتيا، فقد سلموا للتصوف علمًا وذوقًا، سلموا له لا بصدقه فحسب، بل سلموا بالتفوق والزعامة، سلموا له بأنه أفق لا تصعد إليه أجنحتهم؛ لأن لأجنحته تفوُّقًا غلابًا سرُّه في تعبدها، كما أن سر علومه في إلهامها.
يقول القشيري في رسالته مدللًا على مكانة التصوف والمتصوفة: «لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ، وتواضعوا له، وتبركوا به، ولولا مزية وخصوصية للقوم لكان الأمر بالعكس.»
ويسوق الشعراني الأدلة على كلمة القشيري فيقول: «لقد أذعن الإمام الشافعي لشيبان الراعي، حين طلب منه الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن ينسى صلاة لا يدري أي صلاة هي، فقال شيبان: هذا رجل غفل عن الله — عز وجل — فجزاؤه أن يُؤدَّب.»
وكان أحمد بن حنبل يرسل إلى أبي حمزة البغدادي دقائق المسائل ويقول: «أفتني في هذا يا صوفي؟ وكان يقول لابنه ناصحًا وموجهًا: «عليك بملازمة المتصوفة؛ فإنهم بلغوا مقامًا في الإخلاص لم نبلغه.»
ويقول محيي الدين، شيخ المتصوفة الأكبر، في الفتوحات: «إن طريق الوصول إلى علم القوم الإيمان والتقوى» وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، والرزق نوعان: روحاني وجسماني، وقال تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ أي يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائل من العلوم الإلهية.»
ثم يقول: «فعليك يا أخي بالتصديق والتسليم لهذه الطائفة، ولا تتوهم فيما يفسرون به الكتاب والسنة أن ذلك إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن لظاهر الآية والحديث مفهومًا بحسب الناس وتفاوتهم بالفهم، فمن المعلوم ما جلب له الآية أو الحديث، ودلت عليه في عرف اللسان، وثم أفهام أخرى باطنية تفهم عند الآية أو الحديث لمن فتح الله عليه.»
ثم يقول: «ولا يصدنك عن تلقي هذه المعاني الغريبة من هذه الطائفة الشريفة قول ذي جدل ومعارضة: إن هذا إحالة لكلام الله تعالى وكلام رسوله؛ فإنه ليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية الشريفة والحديث إلا هذا الذي قلناه، وهم لم يقولوا ذلك، بل يقرون الظواهر على ظواهرها، مرادًا بها موضوعاتها، ويفهمون عن الله تعالى في نفوسهم ما يُفهمهم بفضله، ويفتحه على قلوبهم برحمته ومنته، ومعنى الفتح في كلام هؤلاء القوم حيث أطلقوا كشف حجاب النفس أو القلب أو الروح لما جاء به رسول الله من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة؛ إذ الولي قط لا يأتي بشرع جديد، وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب والسنة، الذي لم يكن يُعرَف لأحد من قبله؛ ولذلك يستغربه كل الاستغراب مَن لا إيمان له بأهل الطريق، ويقول: هذا قول لم يقله أحد، على وجه الذم لهذا القول.»
فالمتصوفة إذن يقولون في صراحة وجلاء: إنهم لا يحيلون الظاهر عن ظاهره، بل يقرون الظواهر على ظواهرها، ولا يقولون إن ما ألهموه أو استنبطوه من الآية أو الحديث هو معنى الآية أو الحديث، ولا معنى لهما إلا هو، وإنما يقولون هذا ما نرى، أو هذا فتح الله به علينا، ولك أن ترضاه ولك أن ترفضه، ولك أن تؤمن به ولك أن تدعه.
ويقول حجة الإسلام وحجة التصوف الإمام الغزالي: «واعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل، والمدعى فيه كثير، ونحن نعرفك علامتين له؛ العلامة الأولى: أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع، موقوفة على توفيقاته إيرادًا وإصدارًا، وإقدامًا وإحجامًا؛ إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها، ولا يصل فيه إلا مَن واظب على جملة من النوافل، فكيف يصل إليه من أهمل الفرائض؟ فإن قلت: فهل تنتهي رتبة السالك إلى حدٍّ ينحط عنه بعض وظائف العبادات، ولا يضره بعض المحظورات، كما نقل عن بعض المشايخ من التساهل في هذه الأمور؟ فاعلم أن هذا عين الغرور، وإن المحققين قالوا: لو رأيت إنسانًا يطير في الهواء، ويمشي على الماء وهو يتعاطى أمرًا يخالف الشرع، فاعلم أنه شيطان، وهو الحق.»
ثم يقول: «إني علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وأخلاقهم أزكى الأخلاق؛ فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة.
وماذا يقول القائلون في طريقةٍ طهارتُها وأولُ شروطها تطهير القلب عما سوى الله، ومفتاحها استغراق القلب بالكلية في ذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟»
أجل، ماذا يقول القائلون في طريقة أول شروطها تطهير القلب عما سوى الله، ومفتاحها استغراق القلب استغراقًا كاملًا في ذكر الله، وآخرها الفناء في الله حبًّا وعبادة؟ لقد أضفى التصوف على الوجود صورة جميلة مشرقة، وألبس الإنسان صورة نورانية طاهرة، وجعل للحياة هدفًا وغاية قدسية عالية، وأي الغايات أقدس وأعلى من التسبيح والنجوى، وفناء النفس في محاريب الأنس والتقوى.
يقول سهل التستري: «أصول طريقنا سبعة: التمسك بالكتاب، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، ولزوم التوبة، وأداء الحقوق.»
ويقول أبو الحسن الشاذلي: «إذا تعارض كشفك مع الكتاب والسنة؛ فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة.» مع أنهم أجمعوا على أنه لا ينبغي العمل بالكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة، ويقول أبو سعيد الخراز: «كل باطن خلافه الظاهر فهو باطل.»
هذا هو العلم الباطني في التصوف، وتلك شرائطه وحدوده، فبأي آية من آياته يكذب المدهنون؟ وبأي صورة من صوره يجحد المنكرون؟
ويقول الشعراني متعجبًا من خصوم التصوف وأعدائه: «ما بلغنا قط عن أحد من القوم نهى أحدًا عن الصلاة والزكاة والحج والصوم أبدًا، ولا تعرض لمعارضة شيء من الشرائع، وكيف يترك الولي ما كان سببًا لوصوله إلى حضرة ربه؟ إنما يحث الناس على الإكثار من أسباب الوصول، فما بقي وجه الإنكار إلا على مواجيدهم وأفهامهم، وتلك أمور لا تعارض شيئًا من صريح السنة، والأمر في ذلك سهل، فمن شاء فليصدقهم ويقتدي بهم كمقلدي المذاهب، ومن شاء فليسكت ولا ينكر؛ لأنهم مجتهدون في الطريق، والمجتهد لا يقدح إنكاره على مجتهد آخر.»
ذلك فصل الخطاب في حقيقة العلم اللدني، وتلك رسالته لدى المتصوفة، إنهم قوم مجتهدون كأئمة المذاهب الفقهية، فإن أئمة المذاهب قد اجتهدوا في أحكام الفروع واختلفوا، ولم يقدح اختلافهم في عقيدتهم، ولم يقدح اختلافهم في اجتهادهم.
فكذلك المتصوفة قوم اجتهدوا في أمراض القلب وأدويتها، وآداب العبودية وواجباتها، وخفايا النفس وإلهاماتها، ورقائق المحبة وأسرارها.
قوم أخذوا عقيدتهم بقوة وعزم، فتطوعوا لله تطوع أولي القوة والعزم، وأخلصوا التوجه إلى الله إخلاصًا جعلهم يتحرون الكمال، فهم أهله ورجاله، واجتهدوا في فلسفة الكمال، فكونوا من اجتهادهم نهجًا لهم وسبلًا، وطريقًا له قواعده كما له شرائطه.
وإن كان الرجل «الجنتلمان» بلغة العصر هو الرجل الممتاز بخلق وعادات سامية خاصة، واضحة الأثر في حركاته ومعاملاته وصلاته، بل هو الرجل الذي فرض على نفسه آدابًا وقواعد في السلوك خاصة به يتميز بها ويُعرف.
فكذلك الصوفي هو «الجنتلمان» في العبودية الربانية، الممتاز بخلق وعادات سامية خاصة، واضحة الأثر في حركاته ومعاملاته وصلاته، بل هو العابد الذي فرض على نفسه في العبودية آدابًا ونهجًا يتميز به ويُعرف.
فإن كنا رضينا من رجال الدنيا آدابهم التي فرضوها على أنفسهم، ورضينا من رجال الفقه اجتهادهم في الأحكام الفرعية، واجتهادهم فيما لم ينص عليه، حتى إنهم حللوا وحرموا وقالوا هذا واجب وهذا مكروه، وهذا فرض وذاك سنة، ولم يقدح اختلافهم في أحكامهم، ولم يقدح اجتهاد فقيه على اجتهاد مخالفه.
فكيف إذن نعترض على قوم اجتهدوا في العزائم، واجتهدوا في التطوع، واجتهدوا في التعبد، واجتهدوا في نشدان الكمال، وهم فوق ذلك لم يلزموا غيرهم بما افترضوا على أنفسهم، بل صرحوا بأنهم أولي عزم، وليس الناس كلهم سواء، وما ينبغي أن يكونوا.
إن الفقهاء قد أرجعوا اجتهادهم إلى فهمهم في كتاب الله وسنة رسوله، واستنبطوا أحكامهم منهما، وكذلك المتصوفة يرجعون باجتهادهم واستنباطهم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إليهما، فهم والفقهاء إذن في صف اجتهادي واحد، إلا أنهم أكمل؛ لأن السبل لم تتفرق بهم عن الغاية كما تفرقت برجال الفقه، بل كان سبيلهم واضحًا محددًا محررًا؛ لأنهم ألقوا بعزائمهم في نشدان الكمال في محاريب العبودية والطاعة، واتجهوا إلى الله سبحانه بقلوبهم وأرواحهم وأحاسيسهم وعقولهم، فلم تتفرق بهم سبل، ولم تجمح بهم نزوة.
ومن عجب أن بعض الفقهاء يرمون التصوف بالجموح والتطرف، وابتكار ألوان في المعرفة مغرفة في الخيال، مغرقة في الشذوذ، مع أن الشذوذ والتطرف إن كان في ثمة طائفة من الطائفتين فهو في الفقهاء، الذين شغلوا أنفسهم وشغلوا العالم الإسلامي معهم عن نور كتابهم المقدس بجدليات وتفرعات لا هدف لها إلا الجدل وحب الغلبة.
قد افترضوا مسائل لا تقع، بل لا يُتصوَّر وقوعها! بل يستحيل في العقل وجودها، وعاشوا في محاريبها مجادلين مختلفين.
جاء في شرح مسلم: ومما زاد الفقه صعوبة ما اتسع فيه أهل المذاهب من التفريعات والفروع، حتى إنهم فرضوا ما يستحيل وقوعه عادة فقالوا: «لو وطأ الخنثى نفسه فولد، هل يرث ولده بالأبوة أو الأمومة أو بهما؟ ولو توالد له ولد من بطنه وآخر من ظهره، لم يتوارثا؛ لأنهما لم يجتمعا في بطن ولا ظهر.»
ويقول السنوسي معلقًا على هذا الجموح الفقهي: «ولو اشتغل الإنسان بما يخصه من واجب، وتعلم أمراض القلب وأدويتها، وإتقان عقائده، والتفقه على معنى القرآن والحديث، لكان أزكى لعلمه وأضوأ لقلبه.»
وإن كان القلم قد جرى بنا إلى نقد الفقهاء، فإنما ساقنا إلى ذلك المقارنة التي اقتضاها السياق، ولنبرهن على أن الجموح إن وجد في بعض أدعياء التصوف الذين جعلوا التعبد فلسفة، فقد وجد مثله في بعض من انتسب إلى الفقه، وإن كان الصادقون من الفريقين هم صفوة الأمة الإسلامية.
ونعود فنقول: إن الكشف الباطني في التصوف قائم على الكتاب والسنة، مقيد بهما، وإن هدفه وغايته إبقاء الجذوة التعبدية الإيمانية مشرقة وضاءة في القلوب الإسلامية، وبذلك تحددت رسالة التصوف، ووضحت أهدافه.
وإذن فليس الكشف الباطني والعلم اللدني شطحًا ولا إبهامًا ولا طلاسمًا ولا كلمات مهزوزة مجنحة، ولا فلسفات جامحة، كما زور المزورون في تاريخ التصوف، أو كما جمجم الأدعياء الدخلاء الذين مشوا في موكب التصوف وارتدوا بأرديته وهم ليس منه.
إن عماد الدين اللدني وضابطه وحاكمه لدى المتصوفة هو كتاب الله وهدي رسوله، فكل من انحرف بقوله أو بعمله فقد برئ منه التصوف، بل هو أصلًا ليس من أهله.
ومن شاء أن يعرف الصوفي الصادق من غيره؛ فليحاكمه إلى هذا المبدأ الذي هتف به سادته الكمل وأئمته القادة، وحينئذ يتميز الخبيث من الطيب، ويبين الزائف من الصادق.
هذا هو الميزان الذي عناه الشعراني بقوله: «إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب.» أو كما يقول محيي الدين: «من رمى من يده ميزان الشرع لحظة واحدة هلك.»
ولقد كان شيخ الإسلام العز بن عبد السلام إذا سمع حديث أبي الحسن الشاذلي صاح: «هلموا إلى هذا الكلام القريب العهد من الله.»
وذهب أبو العباس بن سريج، إمام الفقهاء، إلى حلقة الجنيد ليناقشه ويجادله، فاستمع إليه صامتًا ثم خرج إلى أصحابه قائلًا: «لا أدري ما يقول، ولكن لكلامه صولة ليست بصولة مبطل.»
أجل إن للتصوف صولة هي صولة الحق، وإن على الكلم الصوفي لطلاوة هي طلاوة الألحان القريبة العهد من الله؛ لأنها من إلهامه، ومن ينابيع رضاه.