التصوف المفترى عليه
فإذا انتهينا من توضيح العلم الباطني الصوفي، وأنه فهم يُعطى لذوي البصائر في كتاب الله وسنة رسوله، وأنه مقيد بالكتاب والسنة لا ينحرف ولا يميل عنهما، وأن رسالة المتصوفة أنهم فوق تعبدهم مجتهدون في أمراض القلب وأدويتها، وآداب العبودية وواجباتها، وخفايا النفس وإلهاماتها، ورقائق المحبة وأسرارها، وأن اجتهادهم في هذه المثاليات كاجتهاد الفقهاء في الفروع والسنن والواجبات التي لم يرد فيها نص صريح قاطع، وكما حفظ أئمة الفقه حدود الشريعة الإسلامية بإقامة أحكامها ووضع دستورها، كذلك حفظ المتصوفة للشريعة آدابها وروحانيتها، وطهارتها الخلقية، وكمالاتها النفسية.
إذ انتهينا من هذه الخطوة التمهيدية في سبيل تجلية التصوف وتنقيته مما دُسَّ عليه، وأدخل على محرابه، كان لا بد لنا قبل الحديث عن كبرى المسائل التي ألصقت به ونسبت إليه رغم طهارته، وبراءته منها، أن نتحدث قليلًا عن الافتراء والدس، بل عن المؤامرات التي دُبِّرت لتشويه التاريخ الإسلامي كافة، والعقائد التعبدية منه خاصة، وتاريخ الإسلام كعقيدة وفكرة، وتاريخ الإسلام كنظام عالمي، كل هذا لم يكتب إلى يومنا كتابة عادلة منصفة، كتابة تجلوه بخصائصه وفضائله الكبرى.
لقد شوَّه المؤرخون، بل شوه المتآمرون التاريخ الإسلامي عن عمد، بما دسوا عليه وبما نسبوا إلى كبار شخصياته من عقائد وكلمات وأفعال، كبار شخصياته سواء منهم أئمة الفكر، أو رجال الفقه، أو قادة الحرب، أو رجال التصوف، بل إن الخلفاء الراشدين أنفسهم لم يسلم تاريخهم من التزييف والدس، بل لقد دُس في تفسير القرآن ودُس في أحاديث الرسول ما يبرأ منه القرآن وما يبرأ منه الرسول، ولولا أن الله — جلت قدرته وتعالت حكمته — حفظ كتابه الكريم؛ لما تورع المفترون عن الدس والتزييف.
إن العالم الإسلامي اليوم — وهو على أبواب وثبة من وثباته التاريخية — يجب أن يتنبه لهذا، يجب أن يتوافر العلماء والكُتَّاب والباحثون على التاريخ الإسلامي ليعرضوه عرضًا جديدًا كريمًا، وليكتبوه من جديد على ضوء العلم والمعرفة والروح الإسلامي النقي الملهم.
يقول الإمام ابن الجوزي في المنتظم: «ولما جاء النبي — صلوات الله وسلامه عليه — وقهر الأملاك وقمع الإلحاد، اجتمع جماعة من الثنوية والملحدين ومَن دان بدين الفلاسفة المتقدمين فأعملوا رأيهم، وقالوا: ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا وخرقوا على أممهم، وأعظم الكلِّ بليةً علينا محمدٌ ﷺ؛ فإنه نبغ بين العرب العظام وخدعهم بناموسه، فنصَرُوه وبذلوا أموالهم وأنفسهم وأخذوا ممالكنا. وقد طالت مدتهم، والآن فقد تشاغل أتباعه، ومنهم مقبل على كسب المال، ومنهم على تشييد البنيان، ومنهم على الملاهي، وقد ضعفت أبصارهم، ونحن نطمع في إبطال دينهم، إلا أننا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم، فليس إلا الدس في آرائهم والانتماء إلى فرقهم؛ لنستعين بهم على إبطال دينهم.»
ذلك ما يقوله الإمام ابن الجوزي كاشفًا به عن لون من ألوان التزييف المتعمد في التاريخ الإسلامي، وكاشفًا به عن لون عجيب من ألوان الهدم والتضليل في صفوف المسلمين.
فإن هؤلاء المتآمرين من الملاحدة وأصحاب المذاهب الفلسفية المنقرضة قد جعلوا مؤامرتهم الكبرى ذات شعبتين؛ الأولى: مهمتها الدس والافتراء بتزييف الآراء، وصوغ العقائد الباطلة ونسبتها إلى رجال الفكر والعقائد؛ للبلبلة والإفساد.
والشعبة الثانية: تندس بين صفوف الفرق والمذاهب الإسلامية لتوقع بينها، وتضخم من خلافاتها، ولتزيِّف عليها مبادئها وعقائدها.
ولون آخر أعجب من هذا تكفَّل به رجال مسلمون، أغرموا بأن يلبسوا آراءهم القوة والمكانة، فنسبوها إلى الأئمة والقادة، يقول ابن الفراء في طبقاته، نقلًا عن أبي بكر المرزوي ومسدد وحرب: إنهم قد رووا الكثير من المسائل ونسبوها إلى أحمد بن حنبل. وبعد أن يفيض في ذكر هذه المسائل يقول: «رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء: جعفر الصادق وأحمد بن حنبل؛ أما جعفر فقد نُسبت إليه أقوال كثيرة دُونت في فقه الشيعة الإمامية على أنها له وهو بريء منها، وأما أحمد فقد نسب إليه بعض الحنابلة آراء في العقائد لم يقل بها، وإن هذا بلا شك يثير الريب في نسبة الفقه الحنبلي إلى أحمد.»
وابن الفراء عالم وفقيه ومؤرخ حجة، ومع هذا فهو يتشكك إلى درجة الريب في نسبة الفقه الحنبلي إلى أحمد بن حنبل.
وإنه لشيء عجيب ومذهل حقًّا أن يُزيَّف على الأمة الإسلامية مذهبًا من مذاهبها الكبرى، وأن يقوم بهذا التزييف أصدقاء الإمام نفسه وأتباعه.
ولو ذهبنا نتقصى ألوان التزييف في التاريخ الإسلامي لما وسعتنا هذه العجالة التي خصصناها للتصوف والمتصوفة.
التصوف والمتصوفة اللذان كان نصيبهما من الدس والافتراء أعظم وأخطر من سواهما؛ لأن المزيفين أدركوا أن التصوف هو روح الإسلام، وأن المتصوفة هم قوته الروحية الضخمة، وشعلته الوضاءة المشرقة، فأرادوا أن يطفئوا هذا النور، وأن يلغوا في هذا البيان المبين.
يقول السهروردي في عوارف المعارف: «ثم إن إيثاري لهدي هؤلاء القوم، ومحبتي لهم علمًا بشرف حالهم وصحة طريقتهم المبنية على الكتاب والسنة، حدا بي أن أؤلف أبوابًا في الحقائق والآداب، مُعرِبة عن وجه الصواب فيما اعتقدوه، شعر بشهادة صريح العلم لهم فيما اعتمدوه؛ حيث كثر المتشبهون، واختلفت أحوالهم، وتستر بزيهم المتسترون، وفسدت أعمالهم، وسبق إلى قلب من لا يعرف أصول علمهم سوء الظن، وكاد لا يسلم من وقيعة فيهم وطعن.»
ويقول محيي الدين في الفتوحات: «مما يفتح باب قلة الاعتقاد في أولياء الله وقوع زلة ممن تزيا بزيهم، وانتسب إلى مثل طريقهم، والوقوف مع ذلك من أكبر القواطع عن الله — عز وجل — قال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
أجل، أكبر القواطع عن الله — عز وجل — أن يلتبس أمر الزائف من الصحيح في التصوف على الناس، فيَرمي المُتعجل التصوف قاطبة بالإفك والبهتان.
لقد دس على التصوف المزيفون من رجال التاريخ، ودس على التصوف أهل إلحاد وخصوم الإسلام، وشوه التصوف رجال مغرضون تزيوا بزيه وانتسبوا إليه، فشوهوا وجهه بأفعالهم، وشوهوا سيرته بأقوالهم وهو منهم براء، وهو لهم خصم واضح الحجة.»
يقول الشعراني: «والإنكار على هذه الطائفة لم يزل في كل عصر بسبب الدس والافتراء، ولعلو ذوق مقامهم على غالب العقول، ولكنهم لكمالهم لا يتغيرون كما لا يتغير الجبل من نفخة ناموسة.»
ويقول الشيخ أبو الحسن الشاذلي: «لقد ابتلى الله هذه الطائفة الشريفة بالخلق، خصوصًا أهل الجدل والافتراء.»
ولقد خصص الشعراني بحثًا طويلًا جليلًا في مقدمة اليواقيت والجواهر تناول فيه الافتراء على المتصوفة، كما تناول فيه الخصومات التي قامت حولهم وأحاطت بهم.
يقول الشعراني في هذه الدراسة: «إنه ما من نبي أو ولي إلا وابتلي بالخصومات كما ابتلي بالحسدة والدساسين.»
ثم يضرب المثل بالأنبياء والرسل — صلوات الله عليهم — الذين ابتلوا بالخصومات والافتراءات، ونسبت إليهم صفات هم منها الطهرة الأبرياء.
ثم كبار الصحابة — رضوان الله عليهم — «كسعد بن أبي وقاص»، الذي اتهمه أهل الكوفة بأنه لا يحسن الوضوء ولا الصلاة، وعبد الله بن الزبير اتُّهم بالرياء في صومه وعباداته.
ثم التابعون والأئمة؛ حيث ضُرب أحمد بن حنبل حتى تمزق جسده وتلف، ونسبوا إليه الكفر تارة، والجهل تارة أخرى، وأبو حنيفة الذي جعله خصومه من المرجئة حينًا، ومن المبتدعين أحيانًا، والذي اضطهده الخلفاء وعذبوه وجلدوه بالسياط ورموه بالكبائر، واستخفى مالك خمسًا وعشرين سنة لا يخرج لجمعة أو جماعة؛ خوفًا من خصومه الذين ملئوا الدنيا حوله صياحًا واتهامًا، وعانى الشافعي ما عانى في مصر والعراق مما أفسح له التاريخ مكانًا وبيانًا.
ثم يقول: «وما من صوفي إلا وأحاطت به عصبة السوء والإفك تجريحًا وتشهيرًا ودسًّا وافتراءً، فقد نفوا البسطامي سبع مرات من بلده بتهمة الكفر والزندقة، وأحلوا دم ذي النون المصري، وشهدوا على الجنيد بالكفر والإلحاد، ودسوا على الغزالي في الإحياء عدة مسائل تنبَّه لها القاضي عياض، وأرشد إليها وأمر بإحراقها، ودسوا على محيي الدين في الفتوحات ليوقعوا فيها من أراد الله إضلاله من جهلة المتصوفة، فإن الشيخ محيي الدين من أكابر الأولياء والراسخين، فربما قال لهم إبليس: إن ما في كتبه ليس مدسوسًا عليه «وإنما ذلك كان اعتقاده، ويكفيكم في الدين اتِّباع هذا الرجل الجليل، فعظَّمه في أعينهم حتى لا يتوقفوا في اعتقاد ما يجدونه في كتبه من المدسوس».»
ثم يقول: «ولقد تنبه لما في كتب محيي من الدس والافتراء الفيروزبادي وصاحب نفح الطيب، ثم يقول أيضًا: إنه عندما أخذ في تأليف مختصر للفتوحات رأى فيها أشياء كثيرة لا تتفق مع ما عليه أهل السنة والجماعة، فحذفها وتوقف فيها، ولم يزل كذلك حتى قدم عليه الشيخ شمس الدين محمد، فذاكره في ذلك، فأخرج له نسخة من الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط الشيخ محيي الدين نفسه «بقونية»، فلم ير فيها شيئًا مما توقف عليه وحذفه.»
ثم يقول: «فعلمت أن النسخ التي في مصر الآن كلها كتبت من النسخة التي دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السنة والجماعة، كما وقع ذلك أيضًا في كتاب الفصوص وغيره من كتب محيي الدين.»
ولا عجب فيما يرويه لنا الشعراني، فكتب التفسير تموج بالإسرائيليات الكاذبة التي تنسب إلى ابن عباس مثلًا وهو منها البريء المطهر.
وكتب الأحاديث تزخر بأمواج من الأحاديث الموضوعة، والتي نسبها المزيفون إلى أفضل خلق الله وأصدقهم!
بل إن الحديث عن التزييف في الأدب العربي لا يزال قريب العهد بآذاننا، حتى إن إمامًا من أئمة الأدب المعاصرين قد تشكك في الشعر الجاهلي كافة.
يقول الشعراني: سمعت سيدي عليًّا الخواص يقول: «ولو أن كمال الدعاة إلى الله تعالى كان موقوفًا على إطباق الخلق على تصديقهم، لكان رسل الله — صلوات الله وسلامه عليهم — أولى بذلك، وقد خاصمهم الناس، فريقًا يقتلون، وفريقًا يأسرون.»
والشعراني نفسه الذي خصص جهده الأكبر لتنقية التصوف من الدس والدخيل، قد دُس عليه حيًّا وميتًا، وافتُريَ عليه حيًّا وميتًا!
يقول الشعراني: «ومما منَّ الله به عليَّ انشراح صدري لاتباع السنة المحمدية فعلًا واعتقادًا، وانقباض خاطري ضد ذلك من حين كنت صغيرًا، حتى إني — بحمد الله — أتوقف في بعض الأوقات عن العمل ببعض ما استحسنه بعض العلماء؛ حتى يظهر وجه موافقته للكتاب والسنة.»
ثم يقول: «فكذب والله وافترى من أشاع عني من الحسدة أنني أشطح في أفعالي وأقوالي وعقائدي عن ظاهر الكتاب والسنة، مع أن أحدًا من هؤلاء الحسدة لم يجتمع بي قط، ولا يثبت عنده ذلك ببينة عادلة، إنما بعض الحسدة زين له الشيطان ذلك لما عجز أن يجد مطعنًا في أفعالي الظاهرة، فافترى عليَّ ببعض الكلمات ودار بها.»
ولم يكتفوا مع الشعراني بهذا، بل زيفوا مقدمة لكتابه «كشف الغمة» ونشروها مع الكتاب في حياته، واستعاروا نسخة من كتابه «البحر المورود» ودسُّوا فيها كفريات عابثة، وأرسلوها إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، وأثاروا فتنة في الأزهر عليه، ولبث التزييف قائمًا ثلاث سنوات حتى تمكن الشعراني من إثبات كذب خصومه وتضليلهم.
أما ما زيف على الشعراني بعد وفاته فشيء ضخم عجيب سيأتي بيانه في موضعه من هذا الكتاب.
هذا التزييف وذاك الدس كانا الدعامة الكبرى للهجوم على التصوف والمتصوفة، وهذا الدس وذلك التزييف هما سر ما نسب إلى التصوف ظلمًا وزورًا من عقائد تمثلت فيها أساطير الملل والنحل كافة.
وفي طليعة هذا الموكب الزائف الشائن، نرى فكرة وحدة الوجود الوثنية وما يتبعها من اتحاد وحلول وفناء الجزء في الكل كما يدعون.
وكل هذا وذاك يبرأ منه التصوف، ويبرأ منه المتصوفة، بل هم أشد الناس إنكارًا له وحربًا عليه؛ لأنهم أقوى الناس إيمانًا، وأبصر الناس بهدي كتابهم، وسنة رسولهم.
إنهم العابدون المحبون الذين جعلوا الكون محرابًا لله، فعاشوا طوال لحظاتهم في صلاة، عاشوا طوال حياتهم بأدب المصلي الذي لا تغفل جارحة من جوارحه عن المناجاة، بأدب المصلي المتطهر المعلق القلب بربه، المقبل بوجهه على خالقه، فكل صغيرة مهما دقت في ميزانهم كبيرة، بل كل رخصة لديهم ضعفًا؛ لأنهم أولو عزم، وأصحاب العزمات هم المتطوعون أبدًا للكمال، وكمالهم في إيمانهم كما هو في آدابهم، كما هو في إعلاء كلمة دينهم ورسالة نبيهم.