التصوف بريء من وحدة الوجود
وحدة الوجود وفكرة الاتحاد والحلول فكرة إلحادية قديمة، عريقة في العبادات الهندية والديانات البوذية، وخلاصتها التي تقربها إلى العقول أن أصحابها انقسموا إلى فريقين: فريق يرى الله — سبحانه وتعالى عما يصفون — روحًا، ويرى العالم جسمًا لذلك الروح، وأن الإنسان إذا سما وتطهر ارتفع فالتصق بالروح — التي هي الله — ففني فيها، فذاق السعادة الكبرى، وظفر بالخلود الدائم.
والفريق الثاني يرى أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله، فكل شيء في زعمهم هو الله، والله هو كل شيء، يتجلى تجليًا حقيقيًّا في كل شيء في الكون بذاته، فلا موجود إلا الوجود الواحد، ومع ذلك يتعدد بتعدد الصور تعددًا حقيقيًّا واقعيًّا في نفس الأمر، ولكن ذلك التعدد لا يوجب تعددًا في ذات الوجود، كما أن تعدد أفراد الإنسان لا يوجب تعددًا في حقيقة الإنسان، أو تعدد صور الإنسان الواحد في المرايا المجاورة لا تحتم تعدده.
تلك هي فكرتهم في وحدة الوجود، وهي سفسطة لا يقبلها منطق ولا عقل ولا شرع، سفسطة تذهب بالشرائع كافة، والأديان جميعها، وتنال من الجلال والكمال الواجب لله — سبحانه وتعالى — وتبطل الجزاء والعقاب والجنة والنار، والحياة الأخروية، كما تبطل الحدود بين الخالق والمخلوق، فتجعل الخلق والخالق شيئًا واحدًا.
وهذا الإفك الأكبر، وهذا اللغو الإلحادي الفاجر هو الذي قذف به خصومُ التصوفِ المتصوفةَ، وهم من هم إيمانًا وكمالًا وأدبًا وخلقًا، ووحدانية وتقديسًا لفاطر السموات والأرض.
قذف خصومُ التصوفِ المتصوفةَ بهذا الإفك، متخذين من حبِّهم لربهم تكئة ومقعدًا لهذا الاتهام، وركض بهذا الإفك في محراب التصوف رجال الاستشراق الذين لبسوا ثوب العلم بالإسلام في ثوب الدفاع عنه.
ثم تفلسف المستشرقون وتفلسف المتعالمون من الجهلاء بالتصوف والإسلام، فقالوا: إن للتصوف علاقات وثيقة ببوذا ووثنية الهند، وإن وحدة الوجود وفكرة الحلول عند المتصوفة أقباس من الصوفية البوذية، ولمحات من فلسفة المدرسة الإشراقية.
ونسوا أو تناسوا «أن التصوف الإسلامي قام على كتاب الله وسنة رسوله وهديه، وأن الصوفي المسلم يقرأ في كتاب ربه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فيقرأ خلاصة العلم الذي يتعلمه طلاب اللاهوت في سائر الملل والنحل، ويطوي تحت هذا البلاغ المبين كل فلسفة تتشدق ببحث الذات والصفات والخلق والخالق.»
يقول الشعراني في اليواقيت: «ولعمري إن عباد الأوثان لم يتجرءوا أن يجعلوا آلهتهم عين الله، بل قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.» فكيف يظن بأولياء الله تعالى أن يدعوا الاتحاد بالحق سبحانه؟ هذا محال في حقهم رضي الله عنهم.
ويقول الإمام محيي الدين بن عربي في عقيدته الوسطى: «اعلم أن الله سبحانه واحد بإجماع، وقيام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد بشيء.»
ويقول في باب الأسرار من الفتوحات: «لا يجوز للعارف أن يقول: أنا الله، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا للعارف من هذا حاشاه.»
ويقول أيضًا في لوائح الأنوار: «من كمال العرفان شهود عبد ورب، وكل عارف نفى شهود العبد في وقت ما فليس بعارف، وإنما هو في ذلك الوقت صاحب حال، وصاحب الحال سكران لا تحقيق عنده.»
ويقول في الفتوحات: «لا حلول ولا اتحاد، فإن القول بالحلول مرض لا يزول، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول، ومن دينه معلول.»
ويقول في باب الأسرار: «أنت أنت، وهو هو، فإياك أن تقول كما قال العاشق: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، فهل قدر هذا أن يرد العين واحدة، لا والله، والجهل لا يتعقل حقًّا.»
وقال أيضًا: «إياك أن تقول: أنا هو، وتغالط؛ فإنك لو كنت هو لأحطت به كما أحاط تعالى بنفسه.»
ثم يقول: «لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته، والملك عن ملكيته ويتحد بخالقه تعالى؛ لصح انقلاب الحقائق، وخرج الإله عن كونه إلهًا، وصار الحق خلقًا، والخلق حقًّا، وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجبًا، فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبدًا.»
ويقول الجنيد شيخ الطريقة في الرد على الفجرة الفسقة أصحاب وحدة الوجود: «إن هذا كلام من يقول بالإباحة. والسرقة والزنا عندنا أهون حالًا ممن يقول بهذه المقالة.»
وسئل العارف الرباني الإمام سهل بن عبد الله التستري عن ذات الله — عز وجل — فقال: «ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة، ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهرًا في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعقول لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.»
ويقول أيضًا مخاطبًا الغرور البشري والوجود الإنساني: «يا مسكين، كان الله ولم تكن، ويكون الله ولا تكون، فلما كونك اليوم صرت تقول: أنا وأنا، كن الآن كما كنت قبل تكوينك، واعرف فاقة نفسك وحقارتها، ونزلها منزلتها من الذلة والاحتقار.»
ويقول الشعراني في المنن: «وبعضهم رأى أن كل شيء في الوجود هو الله، وأن عين هذا الوجود الحادث هو عين الله، من الجماد والنبات والعقارب والحيات، والجان والإنسان، والملك والشيطان، ويجعلون الخالق هو عين المخلوق من خسيس ونفيس، ومرجوم وملعون حتى إبليس. وهذا كلام لا يرضاه أهل الجنون، ولا من كان في حبه مجنون. والذي أقوله: إن إبليس لو ظهر ونسب إليه هذا المعتقد لتبرأ منه واستحى من الله تعالى، وإن كان هو الذي يلقي إلى نفوسهم ذلك.
وقد حكيت لسيدي علي الخواص بعض صفات هؤلاء الذين يقولون هذا القول فقال: هؤلاء زنادقة، وهم أنجس الطوائف؛ لأنهم لا يرون حسابًا ولا عقابًا، ولا جنة ولا نارًا، ولا حلالًا ولا حرامًا ولا آخرة، ولا لهم دين يرجعون إليه ولا معتقد يجتمعون عليه، وهم أخس من أن يُذكروا؛ لأنهم خالفوا المعقولات والمنقولات والمعاني وسائر الأديان التي جاءت بها الرسل عن الله تعالى، ولا يعلم أحدًا من طوائف الكفار اعتقد اعتقاد هؤلاء، فإن طائفة من النصارى قالت المسيح ابن الله، وكفرهم القوم الآخرون، وطائفة من اليهود قالت العزير ابن الله، وكفرهم القوم الآخرون، فلم يجعلوا الوجود عين الله تعالى.»