بين الشعراني وأدعياء التصوف
خضعت مصر لحكم المماليك حقبة طويلة كانت فيها على غير فطرتها ونهجها التاريخي، فمصر منذ فجر التاريخ أمة مفكرة مؤمنة عابدة، فهي أول أمة اهتدت إلى التوحيد وعبدت الله — جل جلاله — على نوره، وهي أول أمة شيدت للعبادة وللروحانية أضخم وأجل ما عرفت الإنسانية من معابد وهياكل مقدسة.
وإلى مصر لجأت وعاشت وازدهرت اليهودية والمسيحية والإسلامية، وفي مصر عاش موسى وعيسى ويوسف وغيرهم من الأنبياء الذين قص الله سبحانه قصصهم في القرآن، وغيرهم ممن لم يقصص.
فالتاريخ الروحي لمصر تاريخ حافل، بل هو التاريخ الغالب، بل هو سرها التاريخي الذي أمدها دائمًا بالحيوية والقوة، وإذا فقدت مصر هذا السر يومًا فقد فقدت روحها، أو بالتالي فقدت حياتها العزيزة الكريمة.
ثم هبط أرض مصر العنصر القوقازي، هبط أفراده أذلاء أرقاء، وما هي إلا دورة من دورات التاريخ حتى أصبح المماليك سادة مصر وحكامها، وأصبح عرش مصر نهبًا لكل واثب بسيف، وصائل برمح، وضارب بسهم.
وأسس المماليك في مصر قوة حربية من أعظم القوى التي عرفها العالم الإسلامي، بل من أعظم القوى في تاريخ العسكرية العالمية.
ولكن المشاعل العلمية والمصابيح الإيمانية التي كانت تضيء لمصر، وتضيء من مصر للعالم، أخذ نورها يخبو في عهد المماليك، بل أخذ نورها يفنى ويتبدد وتخنقه الظلمات، فما كان من المماليك يومًا من الأيام رجال فكر أو علم، وما كان لهم طاقة على العلم والفكر، وما كانت تصوراتهم عن الدين إلا تصورات جاهلة حمقاء، انحصرت في دائرة واحدة هي دائرة التعصب الحاد الأحمق للإسلام دون فهم له، أو استنارة بآدابه ونهجه.
وامتد حكم المماليك وطالت أيامه، فأخذت القبضة الفولاذية تضعف، وأخذ التناحر على الحكم بينهم يشتد ويعنف، وغدت مصر مرتعًا لأقسى أنواع النهب والسلب، وأشد أنواع الظلم والاستبداد، فلم يعد هناك حصانة لمال أو عرض أو حياة، بل كل شيء للأقوى، ولا شيء أبدًا للضعيف العاجز.
وانعزلت مصر عن العالم، وأقيم بينها وبين الحضارات العالمية سدود وقيود، وبعدت مصر عن ينابيع الهدى الإيماني الإسلامي، فقامت دولة الخرافة والأسطورة، وساد العصر الذي يسمى بحق عصر الدراويش، أو دولة الأولياء الكاذبين، وهو العصر الذي لا تزال بقاياه تُشاهَد في بعض مواكب رجال الطرق الصوفية التي تَذرَع ريف مصر بطبولها الساذجة، وأعلامها الممزقة، وأهدافها الأسطورية البدائية.
العصر الذي لا تزال بقاياه تُشاهَد في تلك المهازل التي تحفُّ بأضرحة الأولياء في القاهرة وعواصم المدن، المهازل التي يسمى أصحابها بالدراويش والمجاذيب، وضاربي الرمل، وكاشفي الغيب، وصانعي المعجزات!
ومن عجب أن الدين الإسلامي — وهو الذي ابتعث البدو الأميين من صحاريهم ليكونوا هداة عالميين في ساحات العلم والحضارة، وما إلى العلم والحضارة، وقوادًا فاتحين في ميادين الحرب والجهاد، وما إلى الحرب والجهاد — قد تحول في مصر في أواخر عهد المماليك، أو حوَّله أصحابه إلى مجموعة ضخمة هائلة من البدع والخرافات والأساطير الذليلة، إلى مجموعة ضخمة هائلة من الغموض والإبهام، والتحلل من الأخلاق، والتمرد على الآداب، والشعوذة السمجة الوقحة.
وتستر الدجالون والمشعوذون والمُتحلِّلون وراء التصوف يتخذونه شعارًا ودثارًا وحماية لهم، وباسم هذا التصوف الزائف ارتكبت أشنع الجرائم ضد الدين، ونهبت الأموال، وهتكت الأعراض، وهدمت الفرائض، وأهدرت الآداب.
وبعد أن كانت علة التصوف في عصور الارتفاع العلمي هي السبحات الفلسفية التي دست عليه، وتسربت إلى مجراه من الفلسفات العالمية المحيطة به، أصبحت علة التصوف هي تلك العامية المتحللة من الأخلاق، المتهالكة على الشهوات، المُهدرة لكل المقدسات.
ثم يعقب على ذلك قائلًا: «اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان وفلان.»
ويعقب الشعراني على ترجمته قائلًا: «ولم أسمع أحدًا ينكر عليه شيئًا من حاله، بل يعدون رؤيته عيدًا عندهم.»
وجاء الشعراني كما يجيء المطر للأرض المجدبة التي يريد الله أن يبعثها ويحييها لينفع بها عباده.
جاء الشعراني في اللحظة الحاسمة التي يهبها الله — جل جلاله — لخلقه لتكون فاصلًا بين عهدين، وفيصلًا بين فكرتين، وبداية لصفحة جديدة، وحياة جديدة.
جاء الشعراني فرأى أمة تسبح في الظلمات، ورأى دولة الدراويش، دولة الإقطاع الروحي تمرح في الشهوات، وشاهد مدعي الولاية الكاذبين، ومتزعمي الطرق الصوفية المضللين، وليس فيهم أو بينهم مصباح واحد يرسل شعاعًا من نوره ليهدي الحيارى إلى الله.
فأوقف قلمه ولسانه وعقله وحياته على الجهاد الأكبر لتطهير المحراب الصوفي من الدجل والشعوذة، وتحويل التيار الأعظم المندفع إلى الهاوية إلى الجادة المستقيمة الواضحة.
ولم تكن الرسالة هينة، ولم تكن الغاية مأمونة السبل؛ فالطريق شاق مهلك تقوم فيه الأشواك، وتعمره الأهوال، وتغمره الزلازل والمتاعب.
والشعراني لم يكن في مناعة من حياته، بل كانت تنوشه أقلام الفقهاء وألسنتهم؛ فقد جاء مزلزلًا لمكانتهم، مُحطِّمًا لصولتهم، وتخدشه أنياب رجال الكلام وأظفارهم، فهو معهم في معركة لم يهدأ أوارها بعدُ، ويرمقه رجال الحكم والولاة بعين الحذر والغضب، فهو دائمًا ينازعهم الأمر، منتصرًا للضعفاء ومن في حكم الضعفاء من أصحاب الحاجات وما أكثرهم.
والصيحات تأخذه من كل جانب، ولمحترفي التصوف دولة، ولزعمائهم صولة ومكانة شعبية لا تُسامَى ولا تُضارع.
ولكن الشعراني رغم سياسته التي سنعرض لها بعد، ورغم ليونة قلمه في جداله مع الفقهاء، وحواره مع رجال التوحيد والكلام، لم تزلزله الأهوال التي تحف به، بل تقدم إلى المعركة الكبرى عنيفًا قاسيًا على غير عادته؛ لأنه يعلم علم اليقين أنه ينازل فئة هي أخطر على الإسلام ومقدساته من كل خصم وعدو، تقدم ليحطم الهيكل المدنس على عباده، وليقوض الصرح الظالم على اللائذين به، والملتجئين إليه.
ثم ليبني على الأنقاض صرح الإيمان الصادق، وهيكل التصوف الذي هو قمة الإيمان، وخلاصة الدين، ونوره الوضاء المبين.
وفي سبيل هذه الغاية المقدسة ألف الشعراني كتابه العظيم «المنن»، لا ليتحدث عن نفسه، ولا ليُباهي بأخلاقه وأعماله ومقاماته، كما ظن بعض المستشرقين والسائرين تحت ألويتهم من كُتَّابنا المحدثين، ولكن ليضع أمام أدعياء التصوف، وليضع أمام الأمة الإسلامية التي خُدعت في هؤلاء الأدعياء المُثل العُليا للأخلاق المحمدية، والمثل العليا للآداب الربانية، فقد كان رسول الله — صلوات الله وسلامه عليه — خلقه القرآن، كما تقول السيدة عائشة — رضوان الله عليها — وكل متصوف صادق هو على سنن نبيه العظيم، وعلى هدي رسوله الكريم لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
و«المنن» من الناحية الموضعية أعظم كتاب أخلاقي في تاريخ العربية، بل لعله أعظم كتاب للمثاليات الإيمانية الصوفية في تاريخ التعبد الإسلامي.
فلقد رسم الشعراني في كتابه الفذ الخطوط العليا العريضة للآداب الإسلامية من وجدانية ونفسية وعملية، كما رسم الخطوط العريضة الواضحة لما يقابلها من سيئات منحدرة هابطة إلى أسفل، وما يحف بها من شهوات، وما يلوذ بها من أحقاد النفس، ووساوس القلب، وما يعترك في الطبع الإنساني من غلٍّ وحسد وشهوات.
فالمنن إذن من الناحية الفنية فيصلًا مبينًا بين التصوف الصادق الذي يرتكز على الخلق المحمدي، وبين أدعياء التصوف الهابطين بأخلاقهم وأعمالهم إلى ما ينكره الإسلام، ويبرأ منه الإيمان، ولا يرضى عنه الخلق الكريم.
ولا يضير الشعراني أنه عمد في بعض فصول هذا الكتاب إلى ما يشبه الأسلوب العامي، أو الوعظ القصصي؛ فلقد هدف الشعراني منذ خط السطر الأول في هذا الكتاب إلى مخاطبة الجماهير العامة في عصره، وهي الجماهير التي ضلَّلها أدعياء التصوف، وعبث بها الإقطاعيون الروحانيون.
والجماهير العامة في كل الأمم، وفي عصر الشعراني خاصة، لا يصلح لها سوى هذا الأسلوب السهل الرقراق، وسوى هذا اللون من الإرشاد والتوجيه المبين الواضح القريب من القلوب والأرواح.
بل لعل هذا اللون من البيان الذي يشبه الدردشة الكلامية هو الأسلوب الحكيم الذي لا أسلوب سواه يصلح للغاية التي هدف إليها الشعراني، ورسم خطوطها، وحدد أهدافها.
يقول الشعراني في مقدمة هذا الكتاب: «فهذه جملة من النعم والأخلاق التي تفضل الحق تعالى بها عليَّ أوائل دخولي في محبة طريق القوم — رضي الله تعالى عنهم أجمعين — كان الباعث لي على تأليفها ورَقْمها في هذه الطروس أمورًا؛ أحدها: ليقتدي بي إخواني فيها، وكنت آمرهم بالتخلق بها فلا يسمعون، فقال لي يومًا جماعة منهم: هذه الأخلاق التي تأمرنا بها لا نجد أحدًا تخلَّق بها من أهل عصرنا حتى تقتدي به فيها، فاستخرت الله تعالى وأظهرت لهم تخلُّقي بها، فاتبعوني عليها وما بقي لكم حجة في ترك التخلق بها، فلولا ذلك لربما كان الكتمان لها أولى.»
علم الشعراني أن الأخلاق العالية لا بد أن يكون لها رمز تتمثل فيه؛ لتشاهدها الأعين حية متحركة قائمة بين الناس، وعلم أن أصحابه وأهل عصره لا يمكن أن يتحملوا تلك الثورة الإيمانية التي يبشر بها، ويحمل أعلامها، فرمز لهذه الأخلاق بنفسه. هذه الأخلاق التي قال معاصروه عنها إنهم لم يروا أحدًا متخلقًا بها.
وليس معنى هذا أن الشعراني كان بعيدًا عن هذه الأخلاق، أو كان مُدَّعيًا في نسبتها إلى نفسه، ولكننا قصدنا أنه صاغها على نفسه؛ ليكون وقعها في معاصريه أكمل وأتم.
وفي سبيل هذه الغاية العليا أيضًا ألف الشعراني كتابه الفريد البديع «لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية».
والعهود المحمدية التي عناها الشعراني هي خلاصة الدين الرباني، أو صفوة الأخلاق المحمدية، وكل أخلاقه — صلوات الله وسلامه عليه — صفوة.
ولقد وضع الشعراني هذا الكتاب ليظهر الفرق الشاسع بين أخلاق رسول الله ﷺ وهو المثل الأعلى لكل مسلم، وهو الإمام الأكبر لكل صوفي، وبين أخلاق الشيوخ المُتصدِّرين لقيادة مواكب التصوف الزائف حتى يحصص الحق، وينبلج الصبح المنير، ويتبين كل من ينشد الهدى، هل هؤلاء الشيوخ المتصدرون لقيادة التصوف أدعياء جهلة أم مؤمنون بررة؟
يقول الشعراني في مقدمة هذا الكتاب: «هذا كتاب نفيس لم يسبقني أحد إلى وضع مثاله، ولا أظن أحدًا نسج على منواله، ضمنته جميع العهود التي بلغتني عن رسول الله من فعل المأمورات وترك المنهيات.
وكان الباعث لي على تأليفه ما رأيته من كثرة تفتيش الإخوان على ما نقص من دنياهم، ولم أرَ أحدًا منهم يفتش على ما نقص من أمور دينه إلا قليلًا، فأخذتني الغيرة الإيمانية عليهم وعلى دينهم، فوضعت لهم هذا الكتاب المُنبِّه لكل إنسان على ما نقص من أمور دينه، فمن أراد من الإخوان أن يعرف ما ذهب من دينه؛ فلينظر في أي عهد ذكرته له في هذا الكتاب، ويتأمل نفسه، يعرف يقينًا ما أخلَّ به من أحكام دينه؛ فيأخذ في التدارك أو الندم والاستغفار.
ثم اعلم يا أخي أن طريق العمل بالكتاب والسنة قد توعرت في هذا الزمان، وعزَّ سالكها، لأمور عرضت في الطريق يطول شرحها، حتى صار الإنسان يرى الأخلاق المحمدية فلا يقدر على الوصول إلى التخلُّق بشيء منها؛ فلذلك كنت أقول في غالب عهود الكتاب. وهذا العهد يحتاج من يعمل به إلى شيخ يسلك به الطريق، ويزيل من طريقه الموانع.»
وفي سبيل الغاية التي رسمها الشعراني، وهي الثورة على أدعياء التصوف، ورسم المثل العليا للتصوف الصادق القائم على الكتاب والسنة، ألَّف كتابه الصوفي الرائع «الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية»، خصصه لتوضيح المناهج الصوفية النقية، والصلات التي تربط الشيخ بالمريد والمريد بالشيخ، والآداب الواجبة على كل منهما، كما شرح فيه معاني الإلهام الصوفي، ودقائق ورقائق الطريق الرباني، وما فيه من أنوار، وما تتطلبه تلك الأنوار من آداب وأخلاق؛ لأن النور ثمرة الخلق، والإلهام ثمرة العبادة الصادقة والطاعة المؤمنة.
يقول الشعراني في مقدمة هذا الكتاب: «وقد سألني بعض الفقراء «الصوفية» من الإخوان — نفع الله بهم — أن أُملي جملة من آداب العبودية، آداب الفقراء عمومًا وخصوصًا، وما يدخل على كل طائفة من الدسائس في مقاصدهم؛ لأن الشيطان لهم بالمرصاد، ولا ينجو منه إلا القليل من عباد الله.»
ولم نذكر هذه الكتب الثلاثة على سبيل الحصر، وإنما ذكرناها على سبيل الرمز والمثال، فالحقيقة أن كل كتب الشعراني التي أربت على المائة لم تخلُ من هذا التوجيه، ولم تخلُ من هذا اللون من التوضيح والإرشاد.
هذا هو جانب البناء في صراع الشعراني مع أدعياء التصوف. أما الجانب الآخر فهو الصراع العنيف المر، والمعركة القاسية التي خاض الشعراني غمارها في وجه العاصفة، ويا لها من عاصفة!
فقد روت لنا كتب المناقب أن مصر حفلت في عصر الشعراني بطوائف من الدراويش يخطئهم العدد، واكتظت الشوارع والطرق بمواكبهم، والبيوت بولائمهم، والزوايا والمساجد باجتماعاتهم، وانتشر الشيوخ والأتباع في الريف والحضر، وتغلغلوا في المدن والقرى، وامتد سلطانهم إلى كافة طوائف الشعب، وأضحى المتصوفة فوق القانون، وفوق العرف، وفوق الدين، واقتسموا بينهم مناطق مصر، فاستولى كل ولي على مساحة من الأرض يتصرف في أهلها، ويستغل مواردها.
ويروي لنا الشعراني من أخلاق هذه الطائفة القوية السائدة عجبًا أي عجب، لا نكاد نتصوره في عهدنا مع أنه كان اللون الغالب السائد في عصر الشعراني في دولة المجاذيب والدراويش.
كان الجهل الفاضح، والتحلل الشائن من الدين، بل التمرد على الدين هو طابع الشيخ والمريد في هذا العصر.
يروي لنا الشعراني في معرض الحديث عن جهالة مشايخ الأحمدية والبرهامية في عصره، أنه سأل واحدًا منهم عن قواعد الإيمان فقال: لا أدري، فسأله عن فرائض الوضوء، فقال: لا أدري! فسأله عن شروط الصلاة، فقال: لا أدري!
ويروي لنا المناوي في طبقاته الكبرى أن زعامة التصوف قد آلت بعد الفتح العثماني إلى رجلين يمثلان المعسكرين: معسكر التصوف العلمي الرباني، ومعسكر الأدعياء الجهلة، هما: الشعراني، ومحمد كريم الخلوتي.
ثم يقص علينا المناوي قصة اللقاء بين الرجلين الزعيمين.
هذا موقف الشيوخ والزعماء. أما موقف المريدين والأتباع فيكفي أن نقول: إن أحدهم احتاج إلى المال في تزويج ابنة له، فمضى إلى أحد التجار ملتمسًا قرضًا في نظير رهينة من شعر أخذه من رأس شيخه، فقال له التاجر ساخرًا متهكمًا: لو أعطيتني إردبًّا من شعر شيخك ما أخذته بدانق.
ولم يحزن المريد لحرمانه من المال، بل كان حزنه الأكبر لسخرية الناس من شعر شيخه المقدس الذي لا يقدر بمال!
رأى الشعراني ذلك البلاء المحيط بالأمة الإسلامية في مصر، فسدد قلمه وأرسل لسانه في ثورة ملتهبة وحملة صادقة تجتث أصول هذا البلاء، وتحطم صرح هذا البهتان.
وأخذ الشعراني ينقض دعاوى تلك الطوائف متعقبًا لخطاها، مترصدًا لحركاتها، مدللًا بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على مروقهم من الدين، وبراءتهم من الإيمان.
وأفتى الشعراني فيما أفتى بأن الأحمدية والرفاعية والبسطامية والأدهمية والمسلمية والدسوقية في عهده خارجون على شريعة الله؛ لأن أفعالهم يكذبها طريق شيوخهم السابقين، كما يكذبها الكتاب والسنة، وهما أصل الإسلام وبرهانه المبين.
وتعقب الشعراني شيوخ عهده شيخًا فشيخًا، مظهرًا جهلهم بل كفرهم وسوء أدبهم، وأنهم أضل من الأنعام، وأن طريق التصوف — وهو الطهارة الكاملة والزهد الشامل — قد أصبح على أيديهم طريقًا إلى الشحاذة والتسول، وهان حتى في أعين الطغام كما يقول.
ثم وضع الشعراني رسالته «ردع الفقراء عن دعوى الولاية الكبرى»، فكانت السهم الأكبر، هاجم بها مدعي الولاية زورًا وبهتانًا، ومحترفي التصوف كذبًا ونفاقًا، قائلًا: إنهم يقنعون بلبس الزي، فإن سألت شيخًا منهم عن قواعد الإيمان قال: لا أدري، أو فرائض الوضوء قال: لا أدري، ولا يعترف الإسلام بإسلام مَن يجهل قواعد دينه، فضلًا عن أن يكون شيخًا أو مرشدًا.
وألف الشعراني كتبه الكبرى: تنبيه المغترين، والمنن الكبرى، والعهود المحمدية، والأنوار القدسية، وقواعد الصوفية؛ ليجلو الأخلاق الصوفية المثالية التي عرفها التصوف الصادق، وليظهر الفرق البعيد بينه وبين مواكب المتصوفين المرتزقة الزائفين، الذين لعنوا أينما ثقفوا، وباءوا بغضب من الله وبراءة من الرسول.