الشعراني وفقهاء الأزهر
الفقه والتصوف صورتان من صور النشاط العلمي في التفكير الإسلامي، ووجهان من أوجه التشريع والأخلاق في المجال الروحي للرسالة المحمدية، ومع هذا فالخصومة بينهما تقليدية تاريخية منذ عرف الناس التصوف والفقه.
ولقد كان الفقيه في صدر الإسلام هو النموذج الكامل للرجل الكامل في الإسلام، كان الفقيه هو العابد الزاهد المجاهد، المجاهر بكلمة الحق، القائم على الجادة يرشد الناس بعلمه وعمله، ويأخذهم بأيديهم إلى ما يرضي الله، وإلى ما شرع الله، وإلى ما فيه خير الأمة الإسلامية، والمجموعة البشرية كافة، وبذلك كان الفقيه والصوفي شيئًا واحدًا، وكان التصوف والفقه اسمين لعلم مشترك.
كان الفقيه هكذا يوم كان الفقه هو روح الإسلام وجوهر الرسالة المحمدية، يوم كان الفقه تشريعًا وخلقًا، وعلمًا وعملًا، يوم كان الفقه لا يعرف الحيل الشرعية ولا التفريعات الافتراضية الشاذة، ولا ألاعيب الألفاظ التي تقتنص الرخص، وتستهدف الغلبة في ميادين الجدل والحوار.
ثم أخذ الفقه الذي نعرفه اليوم يتكون شيئًا فشيئًا، بل أخذ يبتعد شيئًا فشيئًا عن أخلاقياته ومثالياته وصفائه الأول، وأخذت ملامحه تتبدل وتتغير وتتلون بألوان الثقافات التي تسربت إليه، وتقنَّعت به، وتسترت وراء تشريعاته.
فغدا الفقه علمًا أكثر منه عملًا، وأصبح كتابًا للعقول أكثر منه مادة وتوجيهًا للقلوب، بل أصبح وسيلة للحياة، وسلمًا لمناصبها وزخرفها.
وبذلك خلع الفقيه أردية العُبَّاد ليرتدي أزياء رجال القانون، وترك محاريب التقوى ليحتلَّ مناصب الدنيا، وأعرض عن الأخلاقيات والمثاليات ليسبح مع السابحين، وليَثِبَ مع الواثبين إلى لُمعِ الجاهِ ومتاع الحياة، وما تزخر به الدنيا من مفاتن ومباهج.
ومن هنا انفصل الفقه عن التصوف، أو انفصل المتصوفة عن الفقهاء، واختلفا طريقًا ونهجًا، وغاية وهدفًا.
يقول ابن خلدون في مقدمته متحدثًا عن نشأة التصوف وعن سمات أصحابه: «وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، طريقة الحق والهداية، وأصلها العُكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف، ولما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختُصَّ المقبلون على الله باسم الصوفية.»
اختص المتصوفة — بشهادة الكاتب الكبير ابن خلدون — بالأخلاق الإسلامية التي كان عليها الصحابة — رضوان الله عليهم — وبالإقبال على الله، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يتنافس فيه الناس، بل فيما يتقاتل عليه القطيع العام من البشرية.
واختص المتصوفة أيضًا بأنهم ربطوا بين العلم والعمل؛ فالفقيه عندهم هو العالم العابد، هو الذي ينبع إيمانه من قلبه لا من عقله، هو الذي يطابق عمله علمه؛ لأن العقيدة هي العمل، ولأن التعبد شرط العلم الديني.
كما امتاز المتصوفة بابتعادهم عن الجدليات اللفظية، والتفريعات الافتراضية التي تباعد بين المسلم وجوهر دينه، والتي تشغل العقل الإسلامي عن واجبه الأول، وهدفه الأسمى، واعتبروها سفسطة دخيلة على الإسلام، بعيدة عن روحه الفطرية السليمة، أولى منها ثم أولى الاشتغال بما يطهر القلب، ويزكي الجوارح، ويلهم الروح طاعة الله والعمل على رضاه.
وعلى ضوء هذه العقيدة آمن المتصوفة بأن رجال الفقه المتأخرين أو أكثرهم انحرفوا عن مناهجه الإسلامية، ولم يقوموا بجوانبه التعبدية والأخلاقية، فغدوا رجال قانون وتشريع لا رجال عقيدة ودين.
عن عمران القصير قال: سألت الحسن البصري عن شيء فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: وهل رأيت فقيهًا بعينك، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه — عز وجل.
وكان الغزالي وهو الفقيه الأصولي الكبير يقول: «صارت كلمة الفقه إلى تفريقات الطلاق، وصور الإيمان والعتق المفروضة ووجوه السلم، وغير ذلك مما لا يحصل به إنذار ولا تخويف، مما كان التجرد له والإكثار منه وحفظ المقالات المتعلقة به يقسي القلب وينزع الخشية منه، صارت إلى هذا بعد أن كانت عنوانًا على معرفة دقائق النفس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة مع امتلاء القلب بخوف الله ورجائه.»
وكان أبو العباس يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه من علم، ولم يشاركونا فيما نحن فيه من عبادة وأخلاق.
ورجال الفقه من ناحيتهم نظروا فرءوا أن التصوف كلمة عامة غير محددة بالحدود التي تتحد بها العلوم، وأن المحراب الصوفي قد امتلأ بطوائف شتى من بينها الدخيل والأصيل.
كما شاهدوا بأعين فزعة جزعة المتصوفة وهم يُكوِّنون لأنفسهم علومًا ومعارف من إلهامات الروح ومعارج القلوب، وأنهم قد ابتدعوا فنونًا في المحبة الإلهية وما تحتوي عليه هذه المحبة من وجد وشوق، وجذب وفناء، وسر وأسرار، ومبتكرين أيضًا ألوانًا أخلاقية في الذكر والخلوة والمناجاة، ومثاليات تطوف حول عبادات أوجبوها على أنفسهم فوق الفرائض والنوافل، مقيمين من ذلك كله دستورًا ضخمًا يدور حول أمراض القلب وأدويتها، وخفايا النفوس ووساوسها، ومجالات الروح وإلهاماتها.
وكل هذا بدا في نظر الفقهاء — أو في نظر أكثرهم — ابتداعًا في الدين، وانحرافًا عن الحياة المُثلى، وتمردًا على ما اصطلحت عليه العقول في بناء الحياة الدنيا، وأخطر من هذا المظهر الدنيوي بينهما؛ فقد آمن رجال الفقه بأنهم وحدهم سادة الجماهير، وأنهم وحدهم سدنة الدين، وحراس نبعه المقدس، وليس لغيرهم أن يرتدي ثوب الدين وقداسة هذا الثوب، وليس لغيرهم أن يقول في الدين برأي، أو يلقي في مشكلاته بدليل أو حجة.
ومع إيمان الفقهاء بهذا فقد انتزع المتصوفة الجماهير من قبضة الفقهاء وتزعموها دونهم، واحتفظوا بهذه الزعامة على التاريخ رغم ما بُذل في سبيل هدمها وزلزلتها.
وكان هذا وحده كفيلًا بأن يُذْكي نار الخصومة، وأن يلهب الحقد في قلوب الفقهاء فيعلنوها حربًا قاسية على التصوف والمتصوفة، حربًا استُغلت فيها كافة الأسلحة من التكفير؛ كما حدث في محنة التصوف الكبرى التي تُعرف في التاريخ «بمحنة غلام الخليل»، حيث قدِّم للموت أبو علي الدقاق وأبو الحسين النوري وغيرهما من أئمة التصوف باسم الكفر والزندقة.
إلى الدس الرخيص لدى الأمراء والملوك بدعوى حماية العرش، وتدبير المؤامرات؛ كما حدث في مأساة الحلاج ونكبة السهروردي.
إلى القتل الغيلة في جنح الظلام؛ كما حدث للمناوي، تلميذ الشعراني الأكبر وصاحب «الكواكب الدرية في طبقات الصوفية».
ورغم تلك الخصومة الحادة التي حمَلها جمهرة الفقهاء للتصوف والمتصوفة، كان أئمة الفقه جميعًا من المتصوفة خلقًا وعملًا وحبًّا بلا استثناء، مما يحملنا على الاعتقاد بأن أساس الخصومة دنيويًّا لا دينيًّا.
كان أبو حنيفة فقيهًا صوفيًّا، وكان الشافعي يرسل دقائق المسائل الفقهية إلى أبي حمزة الصوفي ويقول: علِّمنا يا صوفي، وكان يقول: استفدت من الصوفية طول صحبتي لهم سنين قولهم: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: إن لم تشغل نفسك بالخير شغلتك بالشر.
وكان أحمد بن حنبل يتنسك تنسكًا صوفيًّا، ويأمر ابنه بملازمة الصوفية؛ ليصفو له دينه، وقد سئل: مَنْ الناس؟ فقال: العلماء، ومَنْ الملوك؟ فقال: الصوفية، ومَنْ السفلة؟ فقال: الذين يعيشون بدينهم.
وكذلك كان مالك والليث بن سعد وسفيان الثوري، حتى إن المتصوفة قد أرَّخوا لهؤلاء جميعًا في طبقاتهم باعتبارهم من أئمة التصوف ورجاله الأول.
وكذلك كان كبار المتصوفة فقهاء علماء أرَّخ لهم الفقهاء في طبقاتهم، على اعتبارهم من السادة الفقهاء رجال التشريع؛ كالجنيد، والحسن البصري، ومحيي الدين بن عربي، والغزالي، والشعراني.
فالحقيقة التي تعلو على خصومات التاريخ أن التصوف والفقه توءمان متلاصقان، لا يعيش أحدهما بغير الآخر، ووجهان لفكرة واحدة هي الإسلام، الذي لا تكمل معانيه تشريعًا وخلقًا وروحًا وجسدًا إلا باتحادهما، حتى ليقول أحمد بن حنبل: من تصوف ولم يتفقه فقد تفسق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق.
ويقول الأستاذ آدم متز في كتابه «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري»: «رغم خصومة المتصوفة والفقهاء نجد بين العلماء؛ كالشافعية مثلًا، كثيرًا من الصوفية، وهذه حقيقة واقعة. ولقد كانت علوم الصوفية الدينية أهم العلوم وأكثرها نجاحًا؛ فقد كانت هي الحركة العلمية التي ضمت أعظم القوى الدينية في ذلك العهد.»
ثم يقول: «والحركة الصوفية في القرنين الثالث والرابع أوجدت في الإسلام ثلاثة مبادئ أثرت فيه تأثيرًا كبيرًا؛ وهي: ثقة وطيدة كاملة بالله تعالى، والاعتقاد بالأولياء، وإجلال النبي محمد ﷺ. ولا تزال هذه المبادئ الثلاثة أهم العوامل وأقواها تأثيرًا في الحياة الإسلامية، ولعل هذا التفوق الذي ظفرت به المبادئ الصوفية هو سر خصومة العلماء للمتصوفة.»
ويقول الشعراني في المنن: «واعلم يا أخي أن غالب الإنكار الذي يقع بين الفقهاء والمتصوفة إنما هو من القاصر من كل منهما، وإلا فالكامل من الفقهاء يسلم للعارفين، والعارفون يسلمون للفقهاء؛ لأن الشريعة جاءت على مرتبتين، تخفيف وتشديد، ولكل من المرتبتين رجال في حال مباشرتهم للأعمال، فمن قوي منهم خوطب بالتشديد، ومن ضعف خوطب بالتخفيف والأخذ بالرخص؛ فكما أن موسى — عليه السلام — كان على هدى من الله، فكذلك الخضر — عليه السلام — ولهذا سلم موسى للخضر آخر الأمر لمَّا علم أن للشريعة مرتبتين: مرتبة خاصة بعامة الناس، ومرتبة خاصة بالعارفين، ولا اختلاف في الجوهر بينهما.»