فقهاء عصر الشعراني
سر الخصومة إذن بين الفقه والتصوف — كما يقول المستشرق آدم متز — هو التنافس على النجاح بين الجماهير، أو كما يقول الشعراني: «إن الجهل هو الذي يُحرِّك الخصومة.»
والجهل والصراع على الدنيا كانا طابع الفقهاء أو أكثرهم في عصر الشعراني؛ ولهذا واجه الشعراني أكبر المعارك التي عرفها التاريخ بين الفقهاء والمتصوفة.
جاء الشعراني والأزهر في عصر من عصور جموده وانحداره؛ فقد خبتْ تلك الشعلة المتقدة التي ظلت تضيء في الأزهر قرونًا متعاقبة، وانطفأت المصابيح التي كان الأزهر يفخر بها ويباهي، والتي كان السمع والبصر للعالم الإسلامي.
جاء الشعراني والأزهر يعيش داخل كتب الشروح والحواشي التي أُلِّفت في عصور الجمود الفكري والبلادة الذهنية، ويقتات على موائد هذا الماضي من غير أن يكون له تفكير أو رأي، أو ما يشبه التفكير والرأي.
كان العصر الذي يُظلُّ الأزهر هو عصر الشروح والحواشي التي لا تنتهي إلى غاية، ولا تهدف إلى فكرة محددة، فكان العلماء يتناولون المتن الذي وضع من قبلُ، فيضيفون له الشروح والتعليقات، ثم يأتي بعدهم من يتولى شروحهم بالشرح والتعليق وهكذا، حتى يخرج الكتاب عن موضوعه، بل كثيرًا ما تحولت الشروح والحواشي إلى موضوعات لا تمت إلى الأصل بسبب، بل لا تمت إلى العلم بنسب.
ولهذا ساد الأزهر ركود علمي لم يعرفه من قبل، وتحول الأزهر إلى مدرسة للفلسفة والجدل حول تفريعات وافتراضات فقهية أبعد ما تكون عن جوهر الفقه وروحه.
وبذلك قضى الفقهاء على الروح الإسلامي الذي قام في الأزهر لإعلاء كلمته، واكتفوا بالشرح والإعراب، ودراسة أوجه القراءات القرآنية، وحيل الفقهاء الشرعية.
وجاء الشعراني — وهو ليس منهم — يقرع أسماعهم بالقارعة الكبرى، ويهاجمهم في جمودهم المقدس، ويزلزل مآذن الأزهر فوق رءوسهم، ويؤلب الجماهير عليهم، ويدفعها إلى نقدهم، والخروج من سلطانهم، ناعيًا عليهم ابتعادهم عن الأخلاق الدينية، فضلًا عن العلم، وتخليهم عن فضائل النفس وطهارة القلب، مذكرًا إياهم بالآية القرآنية: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
ثم يقارن الشعراني بين طريقتهم في العلم وبين طريقة التصوف، وبين موقفهم من القرآن الكريم وموقف المتصوفة، فيقول: «فالمتصوفة علموا أن المراد من العلم وتلاوة القرآنِ الاتعاظ والزجر والتخويف، وأنهم يُسألون عن كل مسألة علموها ولم يعملوا بها.
ولذلك كان أهل الله غائبين عما يقصده غالب القراء بقراءتهم؛ لما هم فيه من الخشوع عند التلاوة، فلم يبق متسعٌ لسواه، فلم يشغلوا أنفسهم بالقراءات والاختلاف فيها؛ لأن فيها يضيع العمر، والاتعاظ يحصل برواية أبي عمرو مثلًا، ولم يقدر أحد من السلف أن يقرأ بجميع هذه الروايات.
فرقة تمد، وفرقة تفخم، وفرقة ترقق، وغير ذلك من وجوه الأداء الذي برع فيه رجال الأزهر.
بل كانوا علماء لله، وبالله عاملين صائمين قائمين زاهدين خائفين، فلم يكونوا مقتصرين على حفظ المسائل فقط، بل كانوا عاملين بها.
لم يصرفوا حياتهم في علم القراءات ووجوهها، وإنما اتجهوا بقلوبهم إلى ما في القرآن من مواعظ وتهديدات وتخويفات وآيات بينات.»
ولقد خصص الشعراني الفصول الطوال في كتبه للحَمْلة على الفقهاء الجامدين، بل خصص كتبًا كاملة لهذا الغرض، مركزًا حملته الكبرى على الجانب الأخلاقي الإيماني الذي فقد في الأزهر.
يقول المستشرق «فولرز» في «دائرة معارف الدين والأخلاق»: «إن الشعراني في كتابه «البحر المورود» كان جريئًا في مهاجمة الفقهاء، والتنديد بطمعهم وزهوهم، والتشهير بجشعهم وتهافتهم على الوظائف.»
ويقول نيكلسون: «إن الشعراني كان لسعة علمه بالدين يحارب الفقهاء بسلاحهم؛ ولذلك نجح في حملته التي تركت أكبر الآثار.»
وحملة الشعراني على الفقهاء من رجال الأزهر الذين لم يتخلقوا بالآداب الإسلامية، ولم يقوموا بواجبات العلم الديني، ولم يتفقهوا حقًّا روح الفقه الإسلامي تشغل جانبًا كبيرًا في جهاده في سبيل بناء الفكر الإسلامي من جديد.
وهي حملة نشأت عنها أحداث كبرى أثرت إلى أبعد مدى في حاضر الأزهر في أيامه وما تطور إليه بعد ذلك.
فقد انقسم الأزهر إلى فريقين: الفريق الأول يناصر الشعراني ويؤيده، ويدعو بدعوته، ويطالب الأزهر بتحقيق رسالته. أما الفريق الثاني فقد أعلنها خصومة مُرَّة حادة أحاطت بالشعراني ولاحقته حيًّا وميتًا.
بل لقد كانت حملته سببًا في تلك الشائعات الكاذبة التي أحاطت بالشعراني ولم تفارقه إلى يومنا.
بل أخطر من هذا كانت السبب المباشر لمؤامرة طالما أصابت رجال التصوف، وهي مؤامرة تشويه كتب الشعراني بالدس والتزييف فيها.
ولا عجب في هذا فقد زيفوا كتبًا على الشعراني في حياته، وزيفوا مقدمة لبعض كتبه بين سمعه وبصره مما سنعرض له بالتبيان والتفصيل.