ثورة الأزهر على الشعراني
نظر الفقهاء إلى الشعراني نظرتهم إلى زنديق مارق؛ فقد تجرأ على قداستهم، واستطال على مكانتهم، وتهكم بعلومهم ومعارفهم.
وأخطر من هذا أنه انتزع زعامة الجماهير من أيديهم، وظفر وحده دونهم بالكلمة النافذة والمكانة العالية لدى الأمراء والملوك في مصر وإستانبول معًا.
وإذن فالحرب بينهم وبينه من جانبهم، معركة على الحياة، بل معركة على البقاء، ومعارك البقاء لا تعرف اللين ولا الهوادة، بل هي الحرب الشاملة بكل ما فيها من قسوة، وبكل ما تملك من أسلحة كريمة وغير كريمة.
والفقهاء دائمًا في حروبهم مع المتصوفة ومع غير المتصوفة ممن يدخلون في دائرة المنافسة، يستعملون سلاحًا رهيبًا امتُحن على التاريخ فأثبت كفاءته، وأثبت أنه السلاح الحاسم القتَّال.
وهذا السلاح، هو سلاح التكفير والمروق من الدين. والدين لديهم مرن مرونة عجيبة، مرونة تسمح بأن يقدموا الدليل على كفر من أبغضوا، ويقدمون نفس الدليل على إيمان من أحبوا، والسر كل السر في التأويل اللولبي المطاط، والتلاعب البارع بالألفاظ والمقدسات.
وأعجزهم مع الشعراني حتى هذا الدليل المطواع؛ فالشعراني — كما قدمنا — كان صوفيًّا على الجادة الوسطى، والنهج المحدد كالصراط، لا يسبح السبح الفلسفي، ولا يرسل الكلم المجنح، ولا يعرف اللفظ الذي يحمل الوجهين، ولا يطلق قلمه في مقامات الفناء، واستغراقات المحبة، وسبحات الوجد.
وإذن فيلجئوا إلى الدس في كتبه، وليعمدوا إلى الافتراء ونسبة ما لم يقل إليه.
ومهدوا لمعركتهم بالتحالف مع أدعياء التصوف من جهلة الأميين المارقين؛ لأنهم وإن كانوا خطرًا على الدين والأخلاق، فلا خطر منهم على العلماء والفقهاء.
وثارت الفتنة الكبرى، وأُعلنت الحرب في الأزهر على الشعراني؛ فزيفوا مقدمة كتابه «كشف الغمة» وضمنوها كفريات سخيفة لا تصدر من عاقل أو مؤمن.
ودسوا في كتابه «البحر المورود» — وهو الكتاب الذي هاجمهم فيه — تعاليم تخالف ظاهر الكتاب والسنة، بل دسوا عليه وجوهًا من العبث لا تتفق مع وقاره وصلاحه، وضروبًا من الأعمال الماجنة الساذجة لا تليق بعلمه ومكانته، وأرسلوا هذه الكتب المزيفة إلى الحجاز وتركيا لمكانة الشعراني فيهما، بعد أن أذاعوها في مصر والأزهر.
ثم لجئوا إلى السلاح الآخر الذي يتقنه الفقهاء، والذي برعوا فيه مع التاريخ، وهو تحريض الولاة والحكام على المتصوفة، فحرضوا سلطان مصر وخليفة تركيا على الشعراني بدعوى خطورته على الأمن والنظام والدولة والسلطان والخليفة.
واعلم يا أخي أن أول ابتلاء وقع لي في مصر من نحو هذا النوع، أنني لما حججت سنة سبع وأربعين وتسعمائة، زوَّر عليَّ جماعة مسألة فيها خرق لإجماع الأئمة الأربعة، وهي أنني أفتيت بعض الناس بتقديم الصلاة عن وقتها إذا كان وراء العبد حاجة، قالوا: وشاع ذلك في الحج، وأرسل بعض الأعداء مكاتبات بذلك إلى مصر، فلما وصلت إلى مصر حصل في مصر رجٌّ عظيم، حتى وصل ذلك إلى إقليم الغربية والشرقية والصعيد وأكابر الدولة بمصر، فحصل لأصحابي غاية الضرر، فما رجعت إلى مصر إلا وأجد غالب الناس ينظر إليَّ شذرًا، فقلت: ما بال الناس؟ فأخبروني بالمكاتبات التي جاءتهم من مكة.»
ثم يقول الشعراني: «ثم إني لما صنفت كتاب «البحر المورود» في المواثيق والعهود، وتسارع الناس إلى كتابته، غار من ذلك الحسدة، فاحتالوا على بعض أصحابي واستعاروا منه نسخة، وكتبوا لهم منها بعض كراريس ودسُّوا فيها عقائد زائفة، ومسائل خارقة لإجماع المسلمين، وحكايات سخريات عن حجي وابن الراوندي، وسبكوا ذلك في غضون الكتاب في مواضع كثيرة، ثم أخذوا تلك الكراريس وأرسلوها سوق الكتبيين في يوم السوق — وهو مجمع طلبة العلم — فنظروا في تلك الكراريس، ورأوا اسمي عليها، فاشتراها من لا يخشى الله، ثم داروا بها على علماء الجامع الأزهر، فوقع بذلك فتنة كبيرة، ومكث الناس يلوثون بي في المساجد والأسواق وبيوت الأمراء نحو سنة.»
ثم يقول الشعراني: «إن عليًّا باشا الوزير نقم على بعض المباشرين وعزم على قتله ونفيه، فطلع بعض العلماء يشفع فيه، فلم يقبل، فأتوا إليَّ فطلعت للباشا فأكرمني وقبل شفاعتي، وقال لي: لا تكلف خاطرك قط إلى طلوع القلعة، وأرسل لنا ورقة فقط، فبلغ ذلك الحسدة، فاجتمعوا وزيفوا عليَّ مسائل في العلم كاذبة، وأضافوا إليه أمورًا مُنفِّرة لعلي باشا، ثم رفعوها إليه، فلما قرأها قال: أما المسائل المتعلقة بالشريعة فذلك راجع إلى العلماء، وأما غير ذلك فلا أقبله فيه أبدًا، وإنما رجعت في أمره إلى قلبي. فأرسلوا إليه قصة ثانية وثالثة فمزَّقها، وشاع في مصر أن الباشا يحب فلانًا، فقال الحسدة: قد صار أهل مصر مع الشعراني وكذلك الوزير، فاكتبوا فيه قصة ترسل لباب السلطان.»
فكتبوا فيه قصة خلاصتها أن شخصًا في مصر ادعى الاجتهاد المطلق، وكثرت أتباعه، ويُخاف على المملكة منه، والمسئول من صدقات مولانا السلطان نفيه من مصر.
ورشوا بعض الوزراء ليحملها إلى باب السلطان، فحملها إليه، وقيَّض الله لي الشيخ عبد اللطيف أمين الدين، فنفى عني كل هذا وقال: إن القصة كلها زور على الرجل الصالح.
محاولة قتل الشعراني
فشلت مؤامرة الفقهاء لدى الوالي ولدى الخليفة، كما فشلت حملة الإفك والدس والتشهير داخل الأزهر وخارجه؛ فقد انتصر للشعراني في الأزهر طائفة من أئمة العلم وأولي المكانة في الدين، في طليعتهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وشيوخ المذاهب الأربعة في الأزهر: الفتوح الحنبلي، وناصر الدين اللقاني، وشهاب الدين أحمد، وشهاب الدين الرملي.
كما استطاع الشعراني أن يُظهر للجماهير براءته مما دُسَّ عليه ونُسب إليه بتقديمه لأصول كتبه، فازدادت مكانته لديهم، وازدادوا له حبًّا.
فماذا بقي لخصومه بعد هذا؟ لقد لجئوا إلى السلاح الثالث والأخير؛ سلاح الغيلة والقتل، فرصدوا له في الطرقات مَن يفتك به، ودسوا له السم كما دسوا بعد ذلك لتلميذه الأكبر «المناوي»، وذهب المناوي شهيد تدبيرهم، ونجَّى الله الشعراني مما دبروا وقدروا.
وأخيرًا تحطمت أسلحة خصومه جميعها، ولم يتحطم الحقد في قلوبهم، فأتوا أمرًا إدًّا عجبًا يدل على المرارة القاتلة التي يحملونها للشعراني؛ لقد أشاعوا نبأ موته كذبًا ليذهبوا غيظ قلوبهم.
وذهب خصوم الشعراني، وبقي الشعراني حيًّا خالدًا في كتبه وآثاره التي ترشد الناس إلى دينهم، وتعلمهم مكارم الأخلاق، وترفع بهم إلى محاريب التقوى والإيمان.