الشعراني وعلماء الكلام والتوحيد
إن الحقائق لم تدع في قلوب العارفين للتأويل بابًا.
جاء في كتاب أعلام الموقعين: «وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المسلمين وأكمل الأمة إيمانًا، ولكن — بحمد الله — لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلًا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يبدوا لشيء فيها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم.»
ذلك هو نهج صحابة رسول الله — صلوات الله وسلامه عليه — الذين تأدبوا بأدب رسول الله، الذي أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه.
لا يعرفون جدلًا ولا حوارًا في أسماء الله — جل جلاله — وصفاته، ولا يقرون بحثًا فلسفيًّا في القضاء والقدر، ولا يرضون عن نزاع يقوم حول نسبة الأفعال إلى الله، أو نسبتها إلى عباده؛ فإن كل هذه المسائل من علم الله الذي لا تدركه العقول، وعلم الله الذي اختُصَّ به، لا مجال للعقل البشري فيه، ولا ينبغي التطلع إلى أسراره وخوافيه، فإذا حاول العقل البشري أن يتخطى حدوده ضل وفسق عن أمر ربه، وألقى بنفسه إلى تيهٍ لا هدى فيه ولا نور ولا دليل مبين.
وهذا هو ما حدث لكل الفرق الإسلامية التي حاولت أن تجادل في علم الله، وأن تتطاول إلى القدس المغيب، لتدرك أسرار القضاء والقدر، أو لتهتدي إلى حقائق الذات والصفات، وأفعال العباد ومقام العبد منها، وأثر الله — جل جلاله — فيها.
ضلت هذه الفرق ولم تهتد؛ لأنها حاولت أن تنال الأعلى بالأدنى، وأن تلمس السر الإلهي بمداركها البشرية.
وضل مع هذه الفرق المنطقيون ورجال الكلام وعلماء التوحيد؛ لأنهم افترضوا للإيمان وابتكروا للمعرفة صورًا وألوانًا لا يقوم الإيمان إلا بها، ولا تكمل المعرفة إلا بحدودها، وهي صور وألوان ابتدعوها وافترضوها، لا يُقرُّها القرآن، ولا تعرفها السُّنَّة، بل ولم يعرفها صحابة رسول الله، ولم تَجُل بعقولهم، وإنما تسرَّبت إلى الفكر الإسلامي من الفلسفة اليونانية الوثنية الملحدة.
يقول الصلاح الصفدي في شرح لامية العجم: «إن المأمون لما هادَن صاحب جزيرة قبرص كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان — وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد — فجمع الملك خواصَّه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك، فكلهم أشار بعدم تجهيزها إليه إلا بِطْريقٌ واحدٌ، فإنه قال: جهِّزها إليهم؛ فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها.»
وقال النظام: «إن الله — عز وجل — لا يقدر على شيء من الشر، وإن إبليس يقدر على الخير والشر.»
ويقول أبو الفرج مُعقِّبًا على تلك السفسطة الجدلية الفارغة: «أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة.»
وكان أبو الوفا بن عقيل يقول: «أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض؛ فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيت.»
لقد دفع رجال الكلام وعلماء المنطق والمتأثرون بهم من المعتزلة وغيرهم بالأمة الإسلامية إلى شكوك ومجادلات وضروب من البحث العقيم باعدت بينهم وبين الإيمان، وباعدت بينهم وبين روح الإسلام، وباعدت بينهم وبين العبادة لله والعمل الصالح للحياة.
ووقف المتصوفة وحدهم على الجادة الكبرى، والطريقة المثلى، يؤمنون بالقدر كما جاء به القرآن، وكما علمهم الرسول، ويؤمنون بأسماء الله — جل جلاله — وصفاته المقدسة، كما أسماها، وكما وصفها القرآن، وكما نطقت بها السنة، من غير تأويل ولا تعليل ولا تعطيل ولا تمثيل؛ لأن الإيمان يجب أن يكون بما أنزل الله من الألفاظ والمعاني، لا بما أوله العقل، وابتدعه التصور، وتخيله المنطق.
ويقول الإمام الغزالي: «إن من أشد الناس غلوًّا وإسرافًا طائفة من المتكلمين كفَّروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتهم، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتهم التي حرروها فهو كافر.
ويقول الحلاج: «من لا يعرف شعرة من بدنه كيف تنبت سوداء أم بيضاء، كيف يعرف مكون الأشياء؟ ومن لا يعرف المجمل والمفصل، ولا يعرف الآخر والأول، والتصاريف والعلل، والحقائق والحيل، لا تصح له معرفة مَن لم يزل.»
ويقول الشعراني: «ومما منَّ الله به عليَّ حفظي عن الخوض في معاني آيات الصفات وأخبارها مِن مُنذُ وَعَيتُ على نفسي، وقلَّ مَن سلم مِن مثل ذلك. وهذا من أكبر الذنوب التي يقع فيها العلماء ولا يشعرون.
ترى أحدهم يخوض في الكلام على الذات، وينسى ما كلف به من الزهد والورع، وجهاد النهار، وقيام الليل، والخوف من الله تعالى ونحو ذلك، حتى كان الإسلام لديهم محض كلام من غير عمل.»
وكان يقول: «جميع المعبرين والمُؤَوِّلين والمتكلمين في علم التوحيد لم يبلغوا عشر معشار معرفة إدراك كنه حرف واحد من حروف الهجاء.»
ويقول الشعراني: «ومما منَّ الله به عليَّ إيماني بأن أفعال العباد خلق الله تعالى في حال إضافتها إلى العباد معًا في آنٍ واحد، وهو من أصعب الأمور؛ لأنه إيمان بطريقتين متناقضتين، فأشهد بعين بصيرتي في مثل قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، أن الرمي لله تعالى في حال كونه للعبد لا على التعاقب. ويحتاج صاحب هذا المشهد إلى عينين ينظر بهما إلى النسبتين حتى يخرج عن الحيرة؛ فإن صاحب العين الواحدة لا يقدر على الخروج من الحيرة في هذه المسألة أبدًا.
وقد حبب إليَّ أن أوضح لك هذه المسألة بما لا تجده في كتاب من كتب المتكلمين، فأقول وبالله التوفيق: «اعلم يا أخي أن العقل يقصر عن فهم مسألة خلق الأفعال من غير إشكال، ولا يخرجك عن الإشكال فيها إلا التسليم المطلق بما قال الحق، أو أن تترقى في المواد الكونية وأنت صاعد، حتى تنظر إلى الحق تعالى بقلبك وهو يخلق المخلوق الأول الذي لم يتقدمه مادة، فإنك تجد الحق تعالى فاعلًا وحده لا شريك له، ثم تنزل في الفروع إلى أسفل مع مشاهدة سريان القدرة الإلهية في كل من أضيف إليه فعل من الخلق، فتجده لا يقدر على فعل إلا بإمداد القدرة الإلهية له.
ومن هنا انفتح باب الإشكال لعدم تخليص الفعل حينئذٍ في الشهود البصري لله وحده، أو للخلق وحدهم، ووقع الخطأ، فمن أضاف الأفعال كلها إلى الله تعالى حسنها وقبيحها، قال له لسان الغيرة الإلهية: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، فإن نسبة الأفعال إلى الخلق نسبة إضافة وإسناد، لا نسبة خلق وإيجاد، ومن أضاف الأمور الحسنة كلها إلى الله تعالى، وأضاف القبيحة كلها إلى الأكوان، قال له لسان الجود الإلهي أيضًا: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ لا تكذيبًا له، بل ثناءً جميلًا، كما نضيف نحن ما قبح من الأفعال مما لا يوافق الأغراض ولا يلائم الطبع إلينا، مع علمنا بأن الكل من عند الله، ولكن لما تعلق به لسان الذم فدينا ما ينسب إلى الحق من ذلك بنفوسنا أدبًا مع الله تعالى، كما أننا نضيف ما كان من خير وحسن إلى الله تعالى، ونرفع نفوسنا من الطريق حتى يكون الحق تعالى هو المحمود وحده أدبًا معه تعالى.
فالذي يجب اعتقاده أن الله تعالى خالق أفعال العباد، وأنها مكتسبة لهم، وأن حجة الله تعالى قائمة عليهم، وأنه لا يُسألُ عما يفعل، ولا يطلب الوصول إلى الغاية في ذلك، فلسنا مكلفين بها مع صعوبة مراقيها».»
أجَل لسنا مكلفين بالخوض في كل ما يتعلق بذات الله وقضاء الله وقدره؛ فإن هذه المسائل هي سر الحياة الأكبر، وسر الحياة لا يعلمه إلا الله، فليس لنا من الأمر إلا التسليم والإيمان بما أمر الله، وبما ورد في كتاب الله.
عن أبي هريرة قال: «خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه ثم قال: أبهذا أُمرتم؟ أم بهذا أُرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا.»
«وسأل رجل علي بن أبي طالب عن القدر فقال: طريق دقيق لا تمشِ فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق لا تخض فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: سر خفي لله لا تفشيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، فقال: إن الله تعالى خلقك كما يشاء أو كما شئت؟ فقال: كما شاء، قال: إن الله تعالى يبعثك يوم القيامة كما شئت أو كما شاء؟ قال: كما شاء، قال: ألك مشيئة مع الله، أو فوق مشيئة الله، أو دون مشيئة الله؟ أما إن قلت مع مشيئته ادَّعيت الشركة معه، وإن قلت دون مشيئته استغنيت عن مشيئته، وإن قلت فوق مشيئته كانت مشيئتك غالبة على مشيئته.»
وبذلك أحال علي — رضوان الله عليه — سائله إلى مجالي القدرة الإلهية ومشاهدها، فكانت تلك الإحالة أبلغ الأجوبة وأعظمها لمن ينشد الإيمان واليقين.
وبدون تلك الإحالة لا يُفهم القدر، وبدون تلك الإحالة يتحول القضاء والقدر إلى جدل لفظي لا ينبت الإيمان ولا يعرف اليقين، وإنما يدفع إلى الشكوك الأوهام، وإلى ما هو أبعد من الشكوك والأوهام.