الجن والأرواح والعوالم غير المنظورة
يقول غاندي: «إن العقل شيء عظيم حقًّا، ولكنه يصبح غولًا كريهًا إذا ادَّعى لنفسه أنه قادر على كل شيء، محيط بكل شيء، وإن نسبة هذه القدرة إليه نمط رديء من الوثنية، فالعقل عند هؤلاء العقليين وثن يعبد، كما يعبد الوثني حجرًا أو نصبًا، ويعتقد فيه أنه إله.»
وهذا خطأ الحضارة الغربية الأكبر؛ فقد آمنت بالعقل، وجحدت ما سواه، وعاشت تحت ظلال وثنية عقلية هي أخطر ألوان الوثنيات، وأشدها إذلالًا وإهدارًا للقيم الإنسانية العليا.
والعقل الذي عبدته الحضارة الغربية شيء عظيم حقًّا في عالم الحس والمشاهدة؛ لأنهما مجالا العقل وموضع تجاربه وآياته. أما ما وراء ذلك فلا شأن للعقل وما ينبغي له.
ولهذا كانت الحضارة الغربية شيء هائل عظيم رهيب في الماديات، وفي كل ما يخضع للحس والمشاهدة، ويقوم على البحث والتجربة، بينما تأخرت وتعثرت تعثرًا مضحكًا في المعنويات والأخلاقيات والعبادات، وفي كافة ما يتصل بعوالم الروح والإلهام والوحي والإيمان؛ لأنها عوالم فوق الحس والمشاهدة.
والإنسان لو اقتصرت حياته على الحس والمشاهدة فحسب، لما كان أكثر من حيوان كبير؛ لأن الحس والمشاهدة هما مرتبة الحيوان الذي لا يُصدِّق إلا ما شاهده بعينه، ولا يعرف إلا ما وقع عليه حسه.
أما الإنسان الذي أسجد الله له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، فقد وهب مع النفخة الإلهية خصائص روحية عليا هي سره الأكبر، وهي حياته المثلى، وبتلك الخصائص يدرك الإنسان أشياء فوق الحس والمشاهدة، وبتلك الخصائص ترتفع معارفه فوق معارف الحس والمشاهدة ارتفاعًا يُؤهِّله لتذوق المعارف الإلهية، وتسمو به إلى جلاء أسرار مكون الأكوان، والاطلاع على عجائب ما أبدعت القوة الإلهية من عوالم منظورة وغير منظورة.
والعلم المادي الذي تعبده أوروبا ومن يعيش في ظل حضارتها في أمريكا وآسيا قد ابتدأ نفسه يتنكر للعقل الذي ابتكره وابتدعه، قد ابتدأ يعترف بأن الكون مليء بأسرار وعلوم ليس في طاقة العقل أن يدركها؛ لأنها فوقه، فلا سبيل إليها إلا بوحي من الله، أو بإلهام من عالم الروح.
وقف العلامة «أنشتاين» عند درج صغير في أسفل مكتبه وقال: «إن نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي.»
ويقول العبقري «نيوتن»: «لسنا إلا كأطفال في جزيرة على شاطئ بحر العلم، نلتقط ما يقذفه البحر من القواقع على حين أن الجواهر النفيسة في قعر البحر.»
ويقول النابغة الفرنسي «بيو»: «إننا لا نشاهد إلا ما يظهر لنا من العلم في الخارج، وقد حجب عنا ما هو أعجب وأغرب، لعمرك قل لي مَن ذا استطاع أن يفهم سر طيران الذباب، وسر ألاعيب الفراش؟ نعلم شيئًا عن تركيبها الجسماني وقابليته، ولكنا عاجزون عن رؤية الحكمة التي أمرت بها ونظمتها. إني أمام مشهد الوجود أعتبر نفسي جاهلًا.»
ويقول «كامبل فلا مريون»: «ما هو الوسيط الذي يتوسط للقوى العقلية في إنتاج نتيجة مادية؟ كيف يوصل العصب البصري صور الأشياء إلى العقل؟ كيف يدرك هذا العقل؟ أين مستقره؟ ما هي الطبيعة؟ ما هي طبيعة العمل المخي؟ لن يستطيع أكبر رأس أن يجيب على أحقر أسئلتي.»
تلك أقوال جبابرة العقول في الحضارة الغربية تبرهن أن نهاية العقل البشري هي العجز عن إدراك أسرار الكون، وأن أكبر الجهل أن ننكر ما في الكون من آيات الله وعجائب الخلق بدعوى أنها أشياء فوق العقل والتصور.
لا بد للإنسان أن يرتد صاغرًا ذليلًا إلى عالم الإيمان والروح، أن يرتد مؤمنًا بقوة فوق عقله، وبعوالم فوق ما يدرك بالحس، وما يعرف بالمشاهدة فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ.
اضطررنا إلى هذه المقدمة لنبرهن على أن كل ما يتعلق بالعوالم غير المنظورة؛ كالجن والملائكة والأرواح يجب أن تخضع عقولنا حيالها إلى ما جاء به الوحي؛ لأننا بالعقل وحده نضل في فهم الروحانيات والغيبيات.
ولنبرهن أيضًا على أن الذين هاجموا المتصوفة في أحاديثهم عن صلاتهم بالجن، وصلاتهم بأرواح الموتى من الصالحين، قد انحرفوا عن الحق؛ لأن الأديان السماوية في جانب المتصوفة لا في جانب هؤلاء الوثنيين العقليين.
والشعراني في طليعة المتصوفة الذين تحدثوا عن صلاتهم بالجن، وعن صلاتهم بأرواح الموتى من الصالحين، بل لعله أكثر المتصوفة حديثًا عن عالم الجن وعالم الروح.
ولهذا كان نصيبه من حملة العقليين أكبر من غيره من رجال التصوف الروحانيين.
لقد رموا الشعراني بالكذب والدجل، وبالشعوذة، وبالشعبية العامية، وبالتخريف والتخيل الساذج، وما إلى ذلك من نعوت وألقاب يجيدها الذين ألَّهُوا العقل وأنكروا ما فوق الحس والمشاهدة.
يقول المستشرق العقلي «شاخت» في حديثه عن الشعراني: «إننا مع اعترافنا بخصوبة إنتاجه، نرى ضرورة الاعتدال وعدم الإسراف عند تقدير عقليته؛ لأننا نراه يؤمن إيمانًا عميقًا بالقوى الخفية، وما أكثر مزاعمه بصدد ما وقع له مع الأرواح والملائكة والجن والكرامات والخوارق؛ فإن كتبه حافلة بهذه المزاعم.»
ويقول المستشرق «ماكدونالد» في الفصل الذي عقده عن اتصال الأولياء بالجن في الإسلام: «إن هذه الظاهرة إذا كانت مألوفة في العالم الإسلامي؛ فإنها لا تبدو أوضح مما نراها عليه عند الشعراني الذي كان على اتصال دائم بعالمها الخفي غير المنظور.»
ويجري الدكتور زكي مبارك مع المستشرقين في الفصل الذي كتبه عن الشعراني في كتابه «التصوف الإسلامي»، فيرمي الشعراني بالكذب الساذج، ويصف عقليته بالعامية؛ لأنه تحدث عن الجن وعن اتصاله بهم.
ويعقد الدكتور توفيق الطويل فصلًا في كتابه عن الشعراني تحت عنوان «التفسير السيكولوجي لكذب الشعراني» جاء فيه: «إن ما يرويه الشعراني عن نفسه من اتصال بالأرواح وتعامل مع الجن قد يغري بالشك ويدفع إلى تكذيبه، كما كان الحال في موقف الدكتور زكي مبارك منه، ولكن تفهم الشعراني في ضوء المنطق العقلي وحده يبدو لنا ضلالًا مبينًا؛ لأن الرجل كان طوال حياته يعيش في جو ديني مشبع بالتصوف استمد منه غذاء عقله، وأشبع به جوع قلبه، ومن هنا كان لا بد من النظر إلى نزعات نفسه وتيارات فكره في ضوء هذا الجو النفسي.
وقد انتهت به حياته إلى إيمان عميق مفرط هيمن على منطق العقل في تفكيره، وتأدى الإسراف الممعن في هذا إلى ما يسميه علماء النفس بالمدركات الخاطئة والأوهام المجسمة، فتصور وجود أشباح مجسمة لم يكن لها وجود إلا في وهمه، وبهذا انقلبت الحقائق في نظره، أو اختلق الكثير منها اختلاقًا، فبدت الأشياء التي لا تتضح في عينه أشباحًا للجن أو الأرواح، أو كانت هذه من خَلْق تصوُّره؛ لأنها تساير نزعات قلبه ووساوس نفسه، وتلتئم مع الجو المعنوي الخفي الذي يستغرقه. ومن السهل على من يكون كذلك أن يتمثل الجن في خاطره، فتبدو صورها في ناظره، أو تتحول صور الأشياء أشباحًا للجن والعفاريت.
وأرسل إليه بعض الجن من المشتغلين بالعلم أسئلة في قرطاس يحمله أحدهم في فمه، وقد تشكل في صورة كلب أصفر اللون، وفي مقدمة الأسئلة «ما قول علماء الإنس في هذه الأسئلة المرقومة؛ لأنها أشكلت علينا وسألنا عنها مشايخنا من الجان فقالوا: إن هذا التحقيق لا يكون إلا عند علماء الإنس.» وقد أجاب عنها الشعراني في كتابه القيم «كشف الحجاب والران عن وجه أسئلة الجان».
هذه هي خلاصة حوادث الشعراني مع الجن، فلنعرضها على وجهة النظر الإسلامية لنرى هل تطابق أم تخالف.
والإسلام صريح في وجود الجن، وفي أنهم أمم أمثالنا منهم الصالح ومنهم الشقي، وأن طائفة من الجن استمعت إلى القرآن الكريم وآمنت به.
بقي بعد ذلك محور الصراع، وهو صلاتهم بالإنسان، وهل هي جائزة أم مستحيلة؟ وهل صاحبها كاذب أم صادق؟
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة — رضي الله عنه — قال: «وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، فقال: إني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخلَّيتُ عنه فأصبحتُ فقال النبي ﷺ: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالًا، فرحمتُه، فخليتُ سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفتُ أنه سيعود بقول النبي ﷺ، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، قال: دعني؛ فإني محتاج وعليَّ عيال، لا أعود، فرحمتُه، فخلَّيتُ سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالًا فرحمتُه فخليتُ سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، وهذا آخر ثلاث مراتٍ، إنك تزعم أنك لا تعود، فقال: دعني؛ فإني أُعلِّمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حتى تختم الآية؛ فإنه لن يزال عليك من الله تعالى حافظ ولا يقربك شيطان حتى تُصبح، فخلَّيتُ سبيله، فأصبحتُ فقال لي رسول الله ﷺ: ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت: يا رسول الله، زعم أنه يُعلِّمني كلمات ينفعني الله تعالى بها فخلَّيتُ سبيله، فقال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وقال: لن يزال عليك حافظ من الله تعالى حتى تصبح، ولن يقربك شيطان، فقال النبي ﷺ: أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم مَن تُخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ذا شيطان.»
والحديث صريح صراحة لا لبس فيها ولا إبهام في أن الجني حادَث أبا هريرة وجادله وناقشه، وعلمه أيضًا آيات من القرآن تحفظ الإنسان من الجن.
والحديث صريح أيضًا صراحة لا لبس فيها ولا غموض بأن أبا هريرة قبض على الجني ليرفعه إلى رسول الله ﷺ، حتى إن الرسول ليسأل أبا هريرة قائلًا: ماذا فعل أسيرك البارحة؟
وروى أحمد والترمذي من حديث عائشة، أن رسول الله ﷺ قال لعائشة: أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلًا من عذرة أسرته الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهرًا طويلًا، ثم ردته إلى الإنس، فكان يُحدث الناس بما رأى فيهم من العجائب، فقال الناس: حديث خرافة.
وفي السير أن الشيطان صاح في عسكر الصحابة يوم أحد: ألا إن محمدًا قد مات، فترك جماعة من الصحابة القتال، فضحك عليهم.
بل إن الفقهاء قد وضعوا لصلات الجن بالإنسان قواعد فقهية وصلت إلى حد أن تناول الفقهاء أحكام الزواج المختلط بين الإنسان والجان.
جاء في حاشية ابن عابدين بكتاب النكاح «أن الحسن البصري أجاز التزوج بجنية دون العكس.»
وجاء في كتاب «أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب» أن الدجال أحد أبويه جني.
وفي القرآن الكريم بيان وإيضاح لوحي الشياطين للإنس، ووحي الإنس للشياطين شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
وفي القرآن الكريم بيان وإيضاح لأعمال الوسوسة والصرع والمس التي تترتب على صلة الجن بالإنس.
وجاء في القرآن الكريم في قصة سليمان وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ.
وهي آيات كريمة دلَّت لا على الصلة بين الإنس والجن فقط، بل على أن الجن قامت بأعمال مادية للإنسان، فصنعت له المحاريب والتماثيل والجفان والقدور الراسيات.
الجن وتحضير الأرواح
وقد سئل الإمام محمد عبده عن تحضير الأرواح فقال: «لقد حَضَرتُ في أوروبا مؤتمرًا يجمع أكابر هذا الفن، فحضرت أرواح كثيرين — وبعضهم ممن أعرفه قبل وفاته — ورأيت ذلك مطابقًا لما علمته عن هؤلاء الناس، فسألتُهم — وكلهم اتجهوا إليَّ ليسمعوا سؤالي — فقلت لهم: إن رأيي في هذا أنه عمل من أعمال الجن، وناقشتهم مناقشة جدية في هذا الموضوع إلى أن تحدَّيتُهم بإحضار روح المصطفى — عليه الصلاة والسلام — لأسأله عن الأحاديث الصحيحة الواردة عنه، ولأتبين بلاغته وفصاحته في منطقه إذا تكلَّم في ذلك الوقت، وكثير من المستشرقين الحاضرين يمكنهم الحكم على ذلك — وليقيني بأن النبي محفوظ من أن يتمثل الشيطان بصورته، ويؤدي ما يؤديه؛ علمتُ أني سأفوز عليهم — فلم يلبثوا أن عجزوا جميعًا معتذرين بأن هذه روح عالية لا يمكن إحضارها. ومن ذلك يتبيَّنُ جليًّا أن هذا عمل من أعمال الجن.»
وبهذا تتحد الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية مع منطق الواقع والمشاهد؛ فهل بعد هذا بيان لمن ينشد الحق؟
وهل خرج الشعراني في صلاته بالجن عن نطاق القرآن والأحاديث والواقع المشاهد؟
وهل عقلية الشعراني ساذجة متوهمة كما يقول الدكتور الطويل؟ وكاذبة خادعة كما يقول المستشرقون والدكتور مبارك؟ أم أن عقولهم هي الأجدر بهذا الوصف؟ وإن كانوا أطلقوه في باطل، ونطلقه نحن هنا في حق صراح.